اللقاء الشهري [53]رقم (1، 2)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا في هذه الليلة ليلة السابع عشر من شهر ذي القعدة عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف نلتقي بإخواننا كجاري العادة في اللقاءات الشهرية التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها وينفع كل من بلغته من الناس.

وبما أن شهر ذي الحجة قد قرب والمسملون يتهيئون إلى الحج إلى بيت الله الحرام رأيت من المناسب أن يكون لقاؤنا هذه الليلة حول هذين الموضوعين:

الموضوع الأول: عشر ذي الحجة.

هذه العشر قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) وبناءً على هذا الحديث الشريف: ينبغي لنا أن نجتهد في الأعمال الصالحة في هذه الأيام العشر من الصيام والذكر وقراءة القرآن، وكثرة الصلاة والصدقة والإحسان إلى الخلق، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، فإن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل الصالح في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عمم تعميماً مؤكداً بمن فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر).

وينبغي لطلاب العلم أن يبثوا الوعي بين الناس في فضائل هذه الأيام العشر؛ لأن الناس عنها غافلون، وبفضلها جاهلون، فيحتاجون إلى التذكير وإلى المعرفة والعلم، وآكد أيامها في الصيام يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).

وأما ما يفعله بعض الناس من تخصيص السابع والثامن والتاسع بالصوم ظناً منهم أن لذلك مزية، فهذا غلط، لكن من كان من عادته أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وصام السابع والثامن والتاسع عن الأيام التي كان يعتادها فلا بأس، أما أن يقول: إنه من السنة صوم السابع والثامن والتاسع، فهذا لا أصل له، فبالنسبة للعشر إما يوم عرفة فقط وإما العشر كلها، أما من كان من عادته أن يصوم ثلاثة أيام من الشهر وجعل السابع والثامن والتاسع هي الأيام فلا حرج عليه.

ومما يتعلق بهذا الأضحية، الأضحية التي شرعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله وفعله، فقد أمر بها وقام بها عليه الصلاة والسلام، وكان من عنايته بها أنه يخرج بأضحيته إلى مصلى العيد ليشهرها ويعلنها، فيذبحها هناك ويأخذ منها ما يريد أن يأكل ويتصدق بالباقي، فالأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، وليس المراد منها أن يتصدق الإنسان بلحمها على الفقراء، لكن هذا من بعض ما يقصد بها.

والمقصود الأعظم بها -أي بالأضحية- التقرب إلى الله تعالى بالذبح، وبهذا نعرف أن ما يصدر من بعض الناس من الدعوة إلى جلب الدراهم ليضحى بها في بلاد بعيدة أن ذلك صادر عن جهل؛ لأنه ظن أن المقصود بالأضحية ما يؤكل من لحمها، ولكن الله في القرآن يقول: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

ولهذا أقول لإخواني: إذا كنتم تريدون تطبيق السنة بالأضحية فعليكم أن تضحوا في بلادكم، لا تخرجوا بها إلى بلاد أخرى؛ إظهاراً للشعيرة، وتبياناً لها بين الأهل والأولاد، ولتباشروا أنتم ذبحها في بيوتكم إذا أمكن، فتذكروا اسم الله عليها، وتأكلوا منها؛ حتى توافقوا هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا [الحج:36] فبدأ بالأكل وهذا يدل على أنه ليس المقصود الصدقة بها ولكن المقصود التعبد لله تعالى بنحرها تعظيماً له جل وعلا، وهذا يفوت بلا شك إذا أعطيت دراهم يضحى بها في بلاد بعيدة.

ثم إنك إذا أعطيت هذه الدراهم لا تدري أيضحى بشيء مجزئ أو غير مجزئ، ولا تدري -أيضاً- هل يذبحها من يوثق بمعرفته في الذبح وبدينه، ولا ندري أيمكن أن تذبح في أيام الأضحية أم لا؛ لأن الأضاحي التي تبذل قد تكون كثيرة جداً، لا يستوعبها الناس في ثلاثة أيام أو أربعة، وربما لا يصل الخبر إلا بعد، والمقصود: أن إعطاء الدراهم ليضحى بها في بلاد ولو كانت أفقر البلاد لا يحصل به المقصود الشرعي من الأضحية.

أما إخواننا في البلاد الأخرى من الفقراء فالباب واسع -ولله الحمد- يرسل إليهم دراهم، يرسل إليهم أطعمة، يرسل إليهم ألبسة، يرسل إليهم فرش، وغير ذلك من أنواع المنافع، أما أضحية .. شعيرة .. نسيكة قرنها الله تعالى بالصلاة فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] وقال: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] وأمرنا أن نأكل منها وأن نذكر اسم الله عليها، فلا ينبغي أبداً أن تذبح خارج البلد، والذي أحث عليه أن تذبح في نفس البيت إذا أمكن ولم يتيسر أن تذبح في مصلى العيد.

الله الله -أيها الإخوة- لا تعصف بكم العاطفة حتى تغفلوا عن مقاصد الشريعة.

ومما نريد أن نبحث فيه في هذا اللقاء: مسألة الحج.

الكثير من المسلمين يعلمون أن الحج أحد أركان الإسلام التي لا يتم إلا بها ولكن بشروط أهمها: القدرة والاستطاعة، لقول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] فمن كان فقيراً فلا حج عليه، ومن كان مديناً فلا حج عليه، ومن كان عاجزاً ببدنه فلا حج عليه لكن يقيم من يحج عنه، وبهذا نعرف قلة فقه الذين يكون عليهم الدين فيذهبون ويحجون، أو ربما يستدينون ليحجوا، فهذا خطأ، احمد الله على العافية، إذا كان الله قد أوسع عليك ولم يوجب عليك الحج إلا بعد أن تقضي دينك فاحمد الله على ذلك، أنت مطالب بالدين ولست مطالب بالحج ما دام عليك دين، أرأيتم الفقير هل نلزمه بالزكاة؟ لا. من ليس عنده مال أو عليه دين لا نلزمه بالحج، وإذا لقي الله عز وجل يلقى الله تعالى وهو غير ناقص الإسلام، لماذا؟ لأن الله لم يوجبه عليه، إنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً.

يقول بعض الناس: أنا أستأذن من الدائن وأحج. نقول: ماذا ينفعك الاستئذان؟ هل إذا استأذنت يسقط عنك شيء من الدين؟ الجواب: لا يسقط، إذاً ما هي الفائدة؟ أنت إذا كان عليك عشرة آلاف دين وحججت بألفين اجعل الألفين في قضاء دينك، كم يبقى عليك؟ ثمانية، احمد الله على العافية.

لو أذن لك الدائن وقال: لا بأس حج، فحججت هل تكون العشرة ثمانية؟ لا. إذاً لا فائدة، لكن الذي عليه دين ويعرف أنه كلما حل منه شيء فإذا هو واجد لوفائه فهذا إذا توفر عنده مال للحج فليحج، وأضرب لذلك مثلاً للذين في ذمتهم دين لصندوق التنمية العقاري، يقول: أنه إذا حل علي القسط فأنا واجد، لكن الآن عندي مال أستطيع أن أحج به، وإذا حل القسط أديت ما علي. نقول: نعم، حج، لأن هذا الدين لا يمنع من وجوب الحج، لكن إنساناً ليس عنده شيء ولا يثق بنفسه أن يوفي إذا حل الدين فلا يحج حتى لو أذن له صاحب البيت.

أهمية معرفة أحكام الحج

والذي يجب على الإنسان إذا أراد الحج أن يفقه أحكام الحج قبل أن يحج؛ لأن من شرط العبادة: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يمكن المتابعة إلا بمعرفة كيف كان الرسول يحج، إذاً تعلم أحكام الحج قبل أن تحج، وبهذه المناسبة أحث إخواننا أئمة المساجد أن يقرءوا على الناس أحكام الحج ويفهموهم بقدر الاستطاعة، والكتب -والحمد لله- موجودة، وهناك كتب في الحج خاصة، من ذلك على سبيل المثال: كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز " التحقيق والإيضاح " وكتابنا " المنهج لمريد العمرة والحج " أو " مناسك الحج والعمرة " ومناسك أخرى للعلماء الموثوقين، تقرأ على الناس، ويفسر لهم المشكل.

ولهذا أقول: ينبغي لمن كان معهم حملة حملوا فيها كثيراً من الناس أن يكون معهم طالب علم يبين للناس، إذا جلسوا للفطور أو جلسوا للغداء أو جلسوا للعشاء يقرأ عليهم ويعلمهم، ما أكثر الذين يأتون بعد سنة أو سنتين يقصون علينا ما فعلوا في حجهم وإذا بهم قد تركوا ركناً من أركان الحج، وهذا شيء عظيم، يأتيك إنسان ويقول: والله أنا في اليوم الفلاني طفت طواف الإفاضة -وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج- يقول: طفت طواف الإفاضة واحتجت إلى أن أنقض الوضوء وذهبت ونقضت الوضوء ثم رجعت وأكملت الطواف، ما بدأت من جديد. هذا لا يصح طوافه، نقول: يلزمك الآن أن تذهب إلى مكة وتحرم بعمرة من الميقات وتطوف وتقصر للعمرة ثم تطوف طواف الإفاضة، وربما يكون هذا المسكين قد تزوج ونكاحه غير صحيح عند كثير من العلماء؛ لأنه لم يحل التحلل الثاني، فالمسألة خطيرة، ولهذا أكرر وأقول: ألا يحج أحد حتى يعرف أحكام الحج.

من أحكام الحج

وأحكام الحج تخفى على كثير من الناس حتى على بعض طلبة العلم؛ لأن الحج ليس كالصلاة يتكرر كل يوم ويعرف، أو الصيام الذي يتكرر كل سنة ويعرف، لكنه في العمر مرة واحدة؛ لذلك يتأكد على الإنسان أن يتعلم أحكام الحج قبل أن يحج. فلنبدأ الآن بشرح أحكام الحج وكأننا سافرنا من بلادنا إلى مكة:

ينبغي للإنسان عند السفر أن يتأهب للسفر، وذلك بأن يوفر معه النفقة -الدراهم- والطعام والشراب والفرش في أيام الشتاء، لأنه ربما يحتاجه هو في أمر لم يكن طرأ على باله، وربما يحتاجه أحد من رفقته فيحسن إليه بالصدقة، أو الهدية، أو القرض، فينبغي لمن أوسع الله عليه أن يتأهب بأكثر مما يتصور أنه يحتاجه حتى ينفع غيره.

ثم ليحافظ على الصلوات بواجباتها وشروطها، يتطهر بالماء إذا أمكن فإن لم يمكن فبالتيمم، ويؤديها في وقتها، ويصليها قصراً من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة، اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي ركعتين منذ خرج من المدينة حتى رجع إليها) وقال لما سئل: (كم أقام في مكة؟ قال: عشرة) يعني: عشرة أيام.

أما الجمع فالجمع إن كان سائراً -يعني: يمشي- فالأفضل أن يجمع إما جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر له، وإن كان نازلاً فالأفضل ألا يجمع وإن جمع فلا بأس؛ لأنه مسافر، لكن إذا كان في مكة أو غيرها من البلاد مقيماً فإنه يلزمه أن يصلي مع الجماعة، فإن فاتته صلى ركعتين.

فإذا وصل إلى الميقات اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد على رأسه ولحيته، ثم لبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً، والأفضل أن يكونا أبيضين نظيفين، ثم يلبي، والمرأة ليس لها لباس مخصوص في الإحرام، تلبس ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثياباً يعتبر زينة؛ لأن الناس سوف يشاهدونها، بل تلبس ثياباً بذلة، تلبس العباءة، وتلبس الثياب التي لا تلفت النظر.

ثم يقول -ونحن الآن نريد أن نجعل نسكنا تمتعاً- يقول: لبيك عمرة، ولا يحتاج أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج؛ لأنه قد نوى بقلبه أنه سيحج: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شرك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويرفع الرجل بها صوته، وليعلم أنه لا يسمعه شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة بهذه التلبية، ومضمون التلبية: إجابة الله عز وجل؛ لأن لبيك بمعنى: أجبتك، قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] يعني: أعلمهم به يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27] أي: على أرجلهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] أي: ويأتونك ركباناً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] أي: على كل ناقة ضامر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] الله أكبر! الآن لا يوجد ناقة (ضامر) وإنما طيارة أو سيارة، لكن كلها سواء.

وليستمر في تلبيته إلى أن يشرع في طواف العمرة فيدخل المسجد الحرام ويقدم رجله اليمنى عند الدخول ويقول كما يقول إذا دخل غيره من المساجد، وليقصد الحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر فإن لم يتيسر أشار إليه، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك, واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويجعل البيت عن يساره، ويقول في طوافه ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، وفيما بين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

في هذا الطواف يضطبع الرجل بردائه في كل الأشواط السبعة، ويرمل في الأشواط الثلاثة فقط، ويمشي في الباقي.

والرمل: هو إسراع المشي، وهذا إذا تيسر أما إذا لم يتيسر الرمل لكون الزحام شديداً فالأمر واسع -ولله الحمد- فإذا أتم سبعة أشواط صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر، وإن لم يتيسر ففي أي مكان من المسجد، يقرأ في الأولى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وفي الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويخفف هاتين الركعتين، وينصرف بعد السلام مباشرة بدون دعاء، فيتجه إلى الصفا ، فإذا قرب من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به. فيرقى على الصفا ويتجه إلى القبلة، ويرفع يديه داعياً وذاكراً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد هذا الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة؛ يمشي مشياً معتاداً حتى إذا وصل إلى العمود الأخضر سعى -يعني: ركض ركضاً شديداً- فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسعى حتى إن إزاره ليدور به من شدة السعي.

وإذا كان المسعى زحاماً فالأمر واسع -والحمد لله- يمشي حسب القدرة، وإذا كان معه نساء يخاف عليهن لو سعى فيمشي؛ لأن المرأة لا تسعى.

ثم إذا تجاوز العلم الأخضر الثاني مشى على عادته حتى يصل إلى المروة، إذا دنا من المروة فلا يقول شيئاً، العامة إذا دنوا من المروة قالوا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] وهذا غلط، لا يقول شيئاً، بل يبقى في ذكره الذي كان يذكر الله به حتى يصعد على المروة ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه داعياً وذاكراً بما فعل على الصفا ، ويسعى سبعة أشواط.

كيف يسعى سبعة أشواط؟

الأشواط هنا -في السعي- ليست كأشواط الطواف، أشواط الطواف من الحجر إلى الحجر، وأشواط السعي من الصفا إلى المروة هذا واحد، ومن المروة إلى الصفا هذا ثاني.

يكمل سبعة أشواط وحينئذٍ نعرف أنه يبتدئ بـالصفا وينتهي بـالمروة ، فإذا رأيت أنك ختمت السعي بـالصفا فاعلم أنك مخطئ، إما أنك زدت أو نقصت.

إذا أتم السعي بقي عليه الآن الحلق أو التقصير، فأيهما أفضل؟ الأفضل هنا التقصير لوجهين:

الوجه الأول: أنه الذي أمر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه حين قدم في اليوم الرابع وأمرهم أن يقصروا، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل ويقصر.

الوجه الثاني: أنه لو حلق وقد بقي مدة يسيرة للحج لم يبق للحج شعر، فنقول: وفر الشعر للحج واقتصر على التقصير، فإن قال قائل: هل التقصير يعم جميع الرأس أو جوانب الرأس؟ الجواب: إنه يعم جميع الرأس، المهم أنه يبقى الرأس وقد تبين وظهر أنه مقصر لا أنه غير مقصر، وبذلك يحل التحلل كله.

بذلك -أي: بالطواف والسعي والتقصير- يحل الحل كله، حتى لو كان أهله معه جاز له أن يباشر أهله، انتهت العمرة، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من مكانه الذي هو نازل فيه، إن كان نازلاً في مكة فمن مكة ، أو في منى فمن منى ، أو في أي مكان من مكانه، يحرم بالحج فيغتسل كما سبق في العمرة ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام ويقول: لبيك حجاً ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هذا يكون ضحى اليوم الثامن، ويذهب إلى منى فينزل بها، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها مقصورة، أي: الظهر والعصر والعشاء تكون على ركعتين، فإذا طلعت الشمس في اليوم التاسع سار إلى عرفة ، فينـزل بـنمرة إن تيسر وإن لم يتيسر ذهب رأساً إلى عرفة ونزل في مكانه، فإذا زالت الشمس صلى الظهر.

وينبغي لإمام الحجيج أن يخطب فيهم خطبة قبل أذان الظهر، يقرر فيها أصول الإسلام وحقوق الإسلام، ويبين أحكام النسك، ثم يؤذن لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم قصراً.

لكن لو صادفت الحجة يوم الجمعة يصلي الجمعة أو لا؟ لا يصلي الجمعة، السفر ما فيه جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادف يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة ولم يصل الجمعة، صلى الظهر والعصر.

ثم إذا فرغ من صلاة الظهر والعصر يتفرغ للدعاء والذكر، ويكثر الابتهال إلى الله عز وجل في آخر النهار، فإن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل الموقف، فإذا غربت الشمس سار من عرفة إلى مزدلفة ملبياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ويؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة فينـزل بها، ويصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ويبيت في مزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر أذن وصلى الركعتين الراتبة ثم صلى الفجر، ثم جلس يدعو الله سبحانه وتعالى بما أحب إلى أن يسفر جداً.

وليعلم أن عرفة كلها موقف وأن مزدلفة كلها موقف، ولكن ليتحرى أشد التحري في حدود عرفة ؛ لأن بعض الناس يقصُر عن عرفة وينزل قبل أن يصل إلى حدودها، ويبقى في مكانه حتى تغيب الشمس ثم ينصرف إلى مزدلفة ، وهذا لا حج له، بل رجع بدون حج؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحج عرفة ).

كذلك مزدلفة كلها موقف، لا يلزم أن تذهب إلى المشعر الحرام، بل أي مكان وقفت فيه أجزأك.

ثم تنصرف من مزدلفة إذا أسفر جداً إلى منى ، وبعد الانصراف من مزدلفة إلى منى ستفعل ما يأتي:

أولاً: رمي جمرة العقبة قبل كل شيء؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رمى جمرة العقبة على بعيره قبل أن يحط رحله، فإذا تيسر لك فابدأ أول شيء برمي جمرة العقبة، بسبع حصيات تكبر مع كل حصاة، الله أكبر الله أكبر حتى تكمل سبع حصيات. ومن أين تأخذ الحصى؟

بل من أي مكان، ليس من مزدلفة، من أي مكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخذ الحصى من منى، لكن بعض السلف استحب أن يلقط الحصى من مزدلفة ليكون متأهباً حتى يبدأ بالرمي من حين أن يصل، أما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يلقطها من مزدلفة لقطها من منى ، حتى قال ابن حزم رحمه الله: إنه أمر ابن عباس أن يلقط له الحصى وهو واقف على الجمرة، المهم أن الحصى من أي مكان أخذتها فلا بأس.

ترمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات، ولا تقف للدعاء وامش؟ إلى المنحر وانحر الهدي، ثم احلق رأسك، ثم قد حللت التحلل الأول، فتلبس الثياب، وتتطيب، ثم تنـزل إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي، تطوف بثيابك لأنك حللت التحلل الأول، فتطوف وتسعى، وبهذا تكون قد حللت التحلل كله؛ حتى لو كانت زوجتك معك وقد حلت مثلك جاز لكما المباشرة؛ لأنها حلت التحلل الثاني.

فيوم النحر فيه خمسة أشياء ترتبها على هذا الترتيب: الجمرة، النحر، الحلق، الطواف، السعي. فلو قدمت بعضها على بعض فلا حرج، انظر التوسعة من الله عز وجل، لو أنك ذهبت من مزدلفة إلى البيت وطفت وسعيت ورجعت ورميت فلا بأس، لو رميت ثم نزلت إلى البيت وطفت وسعيت ثم خرجت ونحرت وحلقت، فلا بأس، لو نزلت إلى مكة للطواف والسعي فوجدت المطاف مزحماً والسعي أخف فبدأت بالسعي قبل الطواف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يوم العيد يسأل عن الرمي والنحر والحلق والطواف والسعي ما سئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج) اللهم لك الحمد، نعمة وتيسير من الله عز وجل.

لو ألزم الناس أن يرموا جميعاً وينحروا جميعاً ويطوفوا جميعاً ويسعوا جميعاً لكان في ذلك مشقة، لكن هذا ينحر، وهذا يرمي، وهذا يطوف وهذا يسعى، والحمد لله من نعم الله على العباد أن يسر عليهم.

ثم بعد ذلك -أي: بعد الطواف والسعي- يرجع إلى منى، ويبيت ليلة الحادي عشر في منى، ويبقى هناك، فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر رمى الجمرات الثلاث: الأولى والوسطى والعقبة، كل واحدة بسبع، يرمي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم العقبة، لكن إذا رمى الأولى بسبع حصيات تقدم حتى لا يصيبه الحصى أو الزحام، واتجه إلى القبلة ورفع يديه يدعو دعاءً طويلاً، ثم رمى الوسطى وفعل كما فعل في الأولى، يتقدم حتى لا يصيبه الزحام والحصى ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه ويدعو دعاءً طويلاً، ثم العقبة ولا يقف للدعاء؛ لأن الإنسان قد يكون فيه شوق إلى رحله، فليذهب إلى رحله، ولأن جمرة العقبة هي ختام العبادة والدعاء يكون قبل ختام العبادة لا بعده، ولهذا الصلاة لو سألنا سائل: هل الأفضل أن أرفع يدي بعد الصلاة وأدعو، أو أن أدعو بما أريد الدعاء به بعد الصلاة قبل أن أسلم؟ لقلنا: ادع قبل أن تسلم.

يفعل هذا الفعل -رمي الجمرات- في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إن تأخر، وإن تعجل وخرج قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر فقد انتهى حجه، قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] وهي أيام التشريق: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فرخص الله في التعجيل ورخص الله في التأخير، والحمد لله على نعمه.

والذي يجب على الإنسان إذا أراد الحج أن يفقه أحكام الحج قبل أن يحج؛ لأن من شرط العبادة: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يمكن المتابعة إلا بمعرفة كيف كان الرسول يحج، إذاً تعلم أحكام الحج قبل أن تحج، وبهذه المناسبة أحث إخواننا أئمة المساجد أن يقرءوا على الناس أحكام الحج ويفهموهم بقدر الاستطاعة، والكتب -والحمد لله- موجودة، وهناك كتب في الحج خاصة، من ذلك على سبيل المثال: كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز " التحقيق والإيضاح " وكتابنا " المنهج لمريد العمرة والحج " أو " مناسك الحج والعمرة " ومناسك أخرى للعلماء الموثوقين، تقرأ على الناس، ويفسر لهم المشكل.

ولهذا أقول: ينبغي لمن كان معهم حملة حملوا فيها كثيراً من الناس أن يكون معهم طالب علم يبين للناس، إذا جلسوا للفطور أو جلسوا للغداء أو جلسوا للعشاء يقرأ عليهم ويعلمهم، ما أكثر الذين يأتون بعد سنة أو سنتين يقصون علينا ما فعلوا في حجهم وإذا بهم قد تركوا ركناً من أركان الحج، وهذا شيء عظيم، يأتيك إنسان ويقول: والله أنا في اليوم الفلاني طفت طواف الإفاضة -وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج- يقول: طفت طواف الإفاضة واحتجت إلى أن أنقض الوضوء وذهبت ونقضت الوضوء ثم رجعت وأكملت الطواف، ما بدأت من جديد. هذا لا يصح طوافه، نقول: يلزمك الآن أن تذهب إلى مكة وتحرم بعمرة من الميقات وتطوف وتقصر للعمرة ثم تطوف طواف الإفاضة، وربما يكون هذا المسكين قد تزوج ونكاحه غير صحيح عند كثير من العلماء؛ لأنه لم يحل التحلل الثاني، فالمسألة خطيرة، ولهذا أكرر وأقول: ألا يحج أحد حتى يعرف أحكام الحج.

وأحكام الحج تخفى على كثير من الناس حتى على بعض طلبة العلم؛ لأن الحج ليس كالصلاة يتكرر كل يوم ويعرف، أو الصيام الذي يتكرر كل سنة ويعرف، لكنه في العمر مرة واحدة؛ لذلك يتأكد على الإنسان أن يتعلم أحكام الحج قبل أن يحج. فلنبدأ الآن بشرح أحكام الحج وكأننا سافرنا من بلادنا إلى مكة:

ينبغي للإنسان عند السفر أن يتأهب للسفر، وذلك بأن يوفر معه النفقة -الدراهم- والطعام والشراب والفرش في أيام الشتاء، لأنه ربما يحتاجه هو في أمر لم يكن طرأ على باله، وربما يحتاجه أحد من رفقته فيحسن إليه بالصدقة، أو الهدية، أو القرض، فينبغي لمن أوسع الله عليه أن يتأهب بأكثر مما يتصور أنه يحتاجه حتى ينفع غيره.

ثم ليحافظ على الصلوات بواجباتها وشروطها، يتطهر بالماء إذا أمكن فإن لم يمكن فبالتيمم، ويؤديها في وقتها، ويصليها قصراً من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة، اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي ركعتين منذ خرج من المدينة حتى رجع إليها) وقال لما سئل: (كم أقام في مكة؟ قال: عشرة) يعني: عشرة أيام.

أما الجمع فالجمع إن كان سائراً -يعني: يمشي- فالأفضل أن يجمع إما جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر له، وإن كان نازلاً فالأفضل ألا يجمع وإن جمع فلا بأس؛ لأنه مسافر، لكن إذا كان في مكة أو غيرها من البلاد مقيماً فإنه يلزمه أن يصلي مع الجماعة، فإن فاتته صلى ركعتين.

فإذا وصل إلى الميقات اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد على رأسه ولحيته، ثم لبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً، والأفضل أن يكونا أبيضين نظيفين، ثم يلبي، والمرأة ليس لها لباس مخصوص في الإحرام، تلبس ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثياباً يعتبر زينة؛ لأن الناس سوف يشاهدونها، بل تلبس ثياباً بذلة، تلبس العباءة، وتلبس الثياب التي لا تلفت النظر.

ثم يقول -ونحن الآن نريد أن نجعل نسكنا تمتعاً- يقول: لبيك عمرة، ولا يحتاج أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج؛ لأنه قد نوى بقلبه أنه سيحج: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شرك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويرفع الرجل بها صوته، وليعلم أنه لا يسمعه شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة بهذه التلبية، ومضمون التلبية: إجابة الله عز وجل؛ لأن لبيك بمعنى: أجبتك، قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] يعني: أعلمهم به يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27] أي: على أرجلهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] أي: ويأتونك ركباناً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] أي: على كل ناقة ضامر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] الله أكبر! الآن لا يوجد ناقة (ضامر) وإنما طيارة أو سيارة، لكن كلها سواء.

وليستمر في تلبيته إلى أن يشرع في طواف العمرة فيدخل المسجد الحرام ويقدم رجله اليمنى عند الدخول ويقول كما يقول إذا دخل غيره من المساجد، وليقصد الحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر فإن لم يتيسر أشار إليه، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك, واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويجعل البيت عن يساره، ويقول في طوافه ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، وفيما بين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

في هذا الطواف يضطبع الرجل بردائه في كل الأشواط السبعة، ويرمل في الأشواط الثلاثة فقط، ويمشي في الباقي.

والرمل: هو إسراع المشي، وهذا إذا تيسر أما إذا لم يتيسر الرمل لكون الزحام شديداً فالأمر واسع -ولله الحمد- فإذا أتم سبعة أشواط صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر، وإن لم يتيسر ففي أي مكان من المسجد، يقرأ في الأولى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وفي الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويخفف هاتين الركعتين، وينصرف بعد السلام مباشرة بدون دعاء، فيتجه إلى الصفا ، فإذا قرب من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به. فيرقى على الصفا ويتجه إلى القبلة، ويرفع يديه داعياً وذاكراً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد هذا الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة؛ يمشي مشياً معتاداً حتى إذا وصل إلى العمود الأخضر سعى -يعني: ركض ركضاً شديداً- فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسعى حتى إن إزاره ليدور به من شدة السعي.

وإذا كان المسعى زحاماً فالأمر واسع -والحمد لله- يمشي حسب القدرة، وإذا كان معه نساء يخاف عليهن لو سعى فيمشي؛ لأن المرأة لا تسعى.

ثم إذا تجاوز العلم الأخضر الثاني مشى على عادته حتى يصل إلى المروة، إذا دنا من المروة فلا يقول شيئاً، العامة إذا دنوا من المروة قالوا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] وهذا غلط، لا يقول شيئاً، بل يبقى في ذكره الذي كان يذكر الله به حتى يصعد على المروة ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه داعياً وذاكراً بما فعل على الصفا ، ويسعى سبعة أشواط.

كيف يسعى سبعة أشواط؟

الأشواط هنا -في السعي- ليست كأشواط الطواف، أشواط الطواف من الحجر إلى الحجر، وأشواط السعي من الصفا إلى المروة هذا واحد، ومن المروة إلى الصفا هذا ثاني.

يكمل سبعة أشواط وحينئذٍ نعرف أنه يبتدئ بـالصفا وينتهي بـالمروة ، فإذا رأيت أنك ختمت السعي بـالصفا فاعلم أنك مخطئ، إما أنك زدت أو نقصت.

إذا أتم السعي بقي عليه الآن الحلق أو التقصير، فأيهما أفضل؟ الأفضل هنا التقصير لوجهين:

الوجه الأول: أنه الذي أمر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه حين قدم في اليوم الرابع وأمرهم أن يقصروا، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل ويقصر.

الوجه الثاني: أنه لو حلق وقد بقي مدة يسيرة للحج لم يبق للحج شعر، فنقول: وفر الشعر للحج واقتصر على التقصير، فإن قال قائل: هل التقصير يعم جميع الرأس أو جوانب الرأس؟ الجواب: إنه يعم جميع الرأس، المهم أنه يبقى الرأس وقد تبين وظهر أنه مقصر لا أنه غير مقصر، وبذلك يحل التحلل كله.

بذلك -أي: بالطواف والسعي والتقصير- يحل الحل كله، حتى لو كان أهله معه جاز له أن يباشر أهله، انتهت العمرة، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من مكانه الذي هو نازل فيه، إن كان نازلاً في مكة فمن مكة ، أو في منى فمن منى ، أو في أي مكان من مكانه، يحرم بالحج فيغتسل كما سبق في العمرة ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام ويقول: لبيك حجاً ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هذا يكون ضحى اليوم الثامن، ويذهب إلى منى فينزل بها، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها مقصورة، أي: الظهر والعصر والعشاء تكون على ركعتين، فإذا طلعت الشمس في اليوم التاسع سار إلى عرفة ، فينـزل بـنمرة إن تيسر وإن لم يتيسر ذهب رأساً إلى عرفة ونزل في مكانه، فإذا زالت الشمس صلى الظهر.

وينبغي لإمام الحجيج أن يخطب فيهم خطبة قبل أذان الظهر، يقرر فيها أصول الإسلام وحقوق الإسلام، ويبين أحكام النسك، ثم يؤذن لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم قصراً.

لكن لو صادفت الحجة يوم الجمعة يصلي الجمعة أو لا؟ لا يصلي الجمعة، السفر ما فيه جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادف يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة ولم يصل الجمعة، صلى الظهر والعصر.

ثم إذا فرغ من صلاة الظهر والعصر يتفرغ للدعاء والذكر، ويكثر الابتهال إلى الله عز وجل في آخر النهار، فإن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل الموقف، فإذا غربت الشمس سار من عرفة إلى مزدلفة ملبياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ويؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة فينـزل بها، ويصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ويبيت في مزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر أذن وصلى الركعتين الراتبة ثم صلى الفجر، ثم جلس يدعو الله سبحانه وتعالى بما أحب إلى أن يسفر جداً.

وليعلم أن عرفة كلها موقف وأن مزدلفة كلها موقف، ولكن ليتحرى أشد التحري في حدود عرفة ؛ لأن بعض الناس يقصُر عن عرفة وينزل قبل أن يصل إلى حدودها، ويبقى في مكانه حتى تغيب الشمس ثم ينصرف إلى مزدلفة ، وهذا لا حج له، بل رجع بدون حج؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحج عرفة ).

كذلك مزدلفة كلها موقف، لا يلزم أن تذهب إلى المشعر الحرام، بل أي مكان وقفت فيه أجزأك.

ثم تنصرف من مزدلفة إذا أسفر جداً إلى منى ، وبعد الانصراف من مزدلفة إلى منى ستفعل ما يأتي:

أولاً: رمي جمرة العقبة قبل كل شيء؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رمى جمرة العقبة على بعيره قبل أن يحط رحله، فإذا تيسر لك فابدأ أول شيء برمي جمرة العقبة، بسبع حصيات تكبر مع كل حصاة، الله أكبر الله أكبر حتى تكمل سبع حصيات. ومن أين تأخذ الحصى؟

بل من أي مكان، ليس من مزدلفة، من أي مكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخذ الحصى من منى، لكن بعض السلف استحب أن يلقط الحصى من مزدلفة ليكون متأهباً حتى يبدأ بالرمي من حين أن يصل، أما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يلقطها من مزدلفة لقطها من منى ، حتى قال ابن حزم رحمه الله: إنه أمر ابن عباس أن يلقط له الحصى وهو واقف على الجمرة، المهم أن الحصى من أي مكان أخذتها فلا بأس.

ترمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات، ولا تقف للدعاء وامش؟ إلى المنحر وانحر الهدي، ثم احلق رأسك، ثم قد حللت التحلل الأول، فتلبس الثياب، وتتطيب، ثم تنـزل إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي، تطوف بثيابك لأنك حللت التحلل الأول، فتطوف وتسعى، وبهذا تكون قد حللت التحلل كله؛ حتى لو كانت زوجتك معك وقد حلت مثلك جاز لكما المباشرة؛ لأنها حلت التحلل الثاني.

فيوم النحر فيه خمسة أشياء ترتبها على هذا الترتيب: الجمرة، النحر، الحلق، الطواف، السعي. فلو قدمت بعضها على بعض فلا حرج، انظر التوسعة من الله عز وجل، لو أنك ذهبت من مزدلفة إلى البيت وطفت وسعيت ورجعت ورميت فلا بأس، لو رميت ثم نزلت إلى البيت وطفت وسعيت ثم خرجت ونحرت وحلقت، فلا بأس، لو نزلت إلى مكة للطواف والسعي فوجدت المطاف مزحماً والسعي أخف فبدأت بالسعي قبل الطواف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يوم العيد يسأل عن الرمي والنحر والحلق والطواف والسعي ما سئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج) اللهم لك الحمد، نعمة وتيسير من الله عز وجل.

لو ألزم الناس أن يرموا جميعاً وينحروا جميعاً ويطوفوا جميعاً ويسعوا جميعاً لكان في ذلك مشقة، لكن هذا ينحر، وهذا يرمي، وهذا يطوف وهذا يسعى، والحمد لله من نعم الله على العباد أن يسر عليهم.

ثم بعد ذلك -أي: بعد الطواف والسعي- يرجع إلى منى، ويبيت ليلة الحادي عشر في منى، ويبقى هناك، فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر رمى الجمرات الثلاث: الأولى والوسطى والعقبة، كل واحدة بسبع، يرمي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم العقبة، لكن إذا رمى الأولى بسبع حصيات تقدم حتى لا يصيبه الحصى أو الزحام، واتجه إلى القبلة ورفع يديه يدعو دعاءً طويلاً، ثم رمى الوسطى وفعل كما فعل في الأولى، يتقدم حتى لا يصيبه الزحام والحصى ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه ويدعو دعاءً طويلاً، ثم العقبة ولا يقف للدعاء؛ لأن الإنسان قد يكون فيه شوق إلى رحله، فليذهب إلى رحله، ولأن جمرة العقبة هي ختام العبادة والدعاء يكون قبل ختام العبادة لا بعده، ولهذا الصلاة لو سألنا سائل: هل الأفضل أن أرفع يدي بعد الصلاة وأدعو، أو أن أدعو بما أريد الدعاء به بعد الصلاة قبل أن أسلم؟ لقلنا: ادع قبل أن تسلم.

يفعل هذا الفعل -رمي الجمرات- في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إن تأخر، وإن تعجل وخرج قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر فقد انتهى حجه، قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] وهي أيام التشريق: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فرخص الله في التعجيل ورخص الله في التأخير، والحمد لله على نعمه.