خطب ومحاضرات
كيف نتحرر من الأوهام
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على عبدك وحبيبك وخليلك وخيرتك من خلقك نبينا محمد، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
أما بعـد:
هذه الليلة هيل ليلة الإثنين، الرابع من ربيع الثاني من عام (1411هـ) وقم الدرس (24) من الدروس العلمية العامة، عنوان هذه المحاضرة: كيف نتحرر من الأوهام؟
(كيف نتحرر من الأوهام؟)
رسالة
وتقول: بأنها تشعر بذلك وهي في صلاتها: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99] تقول: إنها خائفة! تتذكر هذه الآيات وهي نائمة فتهب من فراشها مذعورةً فزعة، وتضطرب أعصابها، وتحس في قلبها خفقاناً شديداً لا يهدأ إلا حين تقوم فتتوضأ وتصلي وتدعو الله عز وجل.
وتقول الأخت الكريمة: إن ما يزيد من خوفها وقلقها وتعجبها؛ عندما ترى النساء مشغولاتٍ بالتفصيل والخياطة والتجميل وغير مباليات، بل يصرح بعضهن بأنهن يشعرن بالأمان، ليس النساء العاديات، بل وكثيراً من المتدينات والصالحات اللاتي تعقد عليهن الخناصر.
وتتساءل عن معنى خوفها هذا! هل هو خوفٌ زائد لضعف الإيمان، وضعف التوكل على الله عز وجل؛ أم ما معناه؟ ثم تذكر في آخر رسالتها: أنها بعد سماعها لمحاضرة (
لم أكن أدري أن هذه الرسالة من ضمن هذه الأسئلة! حين أعلنت عن العنوان وهو (كيف نتحرر من الأوهام؟!) ولا شك أن هذه الرسالة داخلة في موضوع محاضرة هذه الليلة، وسوف نتحدث أو نتعرض لجانب من هذا الموضوع.
الإنسان والأوهام
كثيراً ما يشكو الناس من الأمراض؛ سواء أكانت هذه الأمراض أمراضاً بدنية أم كانت أمراضاً قلبية، أي: من ضعف الإيمان، وضعف اليقين، وضعف التوكل، ومن الشهوة، ومن الشبهة…إلخ.
وأعتقد أن هذه الأمراض التي يشتكي الناس منها نصفها أمراضٌ حقيقية أو أقل من ذلك، والنصف من ذلك -بل يزيد- هي عبارة عن أمراض وهمية، فالوهم ذاته مرض أكبر وأعظم من الأمراض التي نشتكي منها.
الموت بالأوهام
فقال له الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟
قال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا، لأهلك خمسة آلاف رجل قد أمرت بإهلاكهم، وفعلاً انتشر الطاعون في تلك القرية، ولكن مات خمسون ألفاً بدلاً من خمسة آلاف، ثم رجع الوباء فمر بالرجل، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من قرية كذا وكذا، قال: إنك كذبتني! أخبرتني أنك سوف تقتل خمسة آلاف، والواقع أنك قتلت خمسين ألفاً، فقال له الوباء: كلا! أنا قتلت خمسة آلاف، أما الباقون فقد قتلهم الوهم، أي: من شدة الخوف من هذا المرض، توهموا أنهم أصيبوا بجرثومته، فما زالت بهم الأوهام حتى جعلتهم على فرشهم، وأودت بهم إلى مراقدهم وإلى قبورهم.
حين أعلنت هذا العنوان لم أكن أدري أن معي ورقة فيها سؤال مطول من إحدى الأخوات رائدات هذه الحلقة، تقول فيها ما خلاصته: أنها تحس بخوفٍ شديد بعد الأحداث التي حصلت في الكويت، وما تلاها من تطورات.
وتقول: بأنها تشعر بذلك وهي في صلاتها: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99] تقول: إنها خائفة! تتذكر هذه الآيات وهي نائمة فتهب من فراشها مذعورةً فزعة، وتضطرب أعصابها، وتحس في قلبها خفقاناً شديداً لا يهدأ إلا حين تقوم فتتوضأ وتصلي وتدعو الله عز وجل.
وتقول الأخت الكريمة: إن ما يزيد من خوفها وقلقها وتعجبها؛ عندما ترى النساء مشغولاتٍ بالتفصيل والخياطة والتجميل وغير مباليات، بل يصرح بعضهن بأنهن يشعرن بالأمان، ليس النساء العاديات، بل وكثيراً من المتدينات والصالحات اللاتي تعقد عليهن الخناصر.
وتتساءل عن معنى خوفها هذا! هل هو خوفٌ زائد لضعف الإيمان، وضعف التوكل على الله عز وجل؛ أم ما معناه؟ ثم تذكر في آخر رسالتها: أنها بعد سماعها لمحاضرة (
لم أكن أدري أن هذه الرسالة من ضمن هذه الأسئلة! حين أعلنت عن العنوان وهو (كيف نتحرر من الأوهام؟!) ولا شك أن هذه الرسالة داخلة في موضوع محاضرة هذه الليلة، وسوف نتحدث أو نتعرض لجانب من هذا الموضوع.
لا شك أن الإنسان تصيبه كثير من الأوهام، وهذا الوهم الذي تتحدث عنه الأخت هو وهم الخوف الزائد التي أحست به، والأوهام كثيرة؛ بل إنني تأملت حالي وحياتي وحال الناس؛ فوجدت أن غالب أمرنا يدور على أوهامٍ في أوهام، وأننا نقتات الأوهام بكرة وعشياً في كثير من الأمور، بل لا أبالغ إذا قلت أن تأثير الأوهام في حياتنا أكبر بكثير من تأثير الحقائق، ولذلك لا تطمعوا أن أستقصي هذه الأوهام وآتي عليها في مثل هذه المحاضرة؛ فإنها أكبر بكثير من ذلك؛ لكنني سوف أتحدث عن أهم هذه الأوهام.
كثيراً ما يشكو الناس من الأمراض؛ سواء أكانت هذه الأمراض أمراضاً بدنية أم كانت أمراضاً قلبية، أي: من ضعف الإيمان، وضعف اليقين، وضعف التوكل، ومن الشهوة، ومن الشبهة…إلخ.
وأعتقد أن هذه الأمراض التي يشتكي الناس منها نصفها أمراضٌ حقيقية أو أقل من ذلك، والنصف من ذلك -بل يزيد- هي عبارة عن أمراض وهمية، فالوهم ذاته مرض أكبر وأعظم من الأمراض التي نشتكي منها.
ويقال في القصة أو في الأسطورة: إن الوباء -أي المرض أو الطاعون- مر برجل!
فقال له الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟
قال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا، لأهلك خمسة آلاف رجل قد أمرت بإهلاكهم، وفعلاً انتشر الطاعون في تلك القرية، ولكن مات خمسون ألفاً بدلاً من خمسة آلاف، ثم رجع الوباء فمر بالرجل، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من قرية كذا وكذا، قال: إنك كذبتني! أخبرتني أنك سوف تقتل خمسة آلاف، والواقع أنك قتلت خمسين ألفاً، فقال له الوباء: كلا! أنا قتلت خمسة آلاف، أما الباقون فقد قتلهم الوهم، أي: من شدة الخوف من هذا المرض، توهموا أنهم أصيبوا بجرثومته، فما زالت بهم الأوهام حتى جعلتهم على فرشهم، وأودت بهم إلى مراقدهم وإلى قبورهم.
أيها الأحبة:
باختصار شديد: الوهم ينشأ من وضعنا للأشياء في غير موضعها، حين نصغِّر الكبير ونكبِّر الصغير؛ فحينئذٍ يتولد لدينا الوهم، وأضرب لكم بعض الأمثلة المادية القريبة: الشمس -مثلاً- جرمٌ هائل، ولما تقرأ كلام العلماء في جرم الشمس وحجمها وثقلها تتعجب أشد العجب!
وتقول: سبحان الله العظيم!
وتبارك الله أحسن الخالقين!
لكن حين تأتي إلى إنسان شابٍ صغير أو طفلٍ ثم تريه الشمس وهي في رابعة النهار وفي كبد السماء، وتشير إليها؛ ثم تشير في مقابل ذلك إلى شيءٍ آخر قريب من عينيك وليكن -مثلاً- برجاً ضخماً، فتقول له: أيهما أكبر؟!
بكل تأكيد هذا الصغير سوف يقول لك: إن البرج أكبر؛ مع أن هذه حقيقة مضحكة في نظر الناس؛ لأنه لا مقارنة بينهما، لكن لأن هذا الصبي الصغير لا يعرف حجم الشمس ولا يعرف أنها بعيدة عنه جداً، تصور أنه البرج -أكبر منها لأنه أقرب من الشمس- فهذا وهم في نفس الصغير! فكيف نشأ؟!
نشأ لأنه وضع الأشياء في غير موضعها، فكبرَّ الصغير -وهو البرج- وتصور أنه كبير، وصغَّر الكبير -وهو الشمس- فتصور أن الشمس صغيرة لصغر عقله، وقد نضحك نحن من هذا المثال؛ لكننا نمارس هذا المثال على نطاق أوسع، وفي مجالات أخرى.
مثال آخر -وهو مثال مادي-: لو أتيت بورقة صغيرة ووضعتها قريباً من عينيك؛ لوجدت أنها تحجب عنك الدنيا كلها! الدنيا بسعتها وعرضها احتجبت وراء قصاصة من الورق بحجم راحة اليد!
وذلك لأنك قربتها من عينيك فكبرت وغطت، أما الدنيا فكانت وراء ذلك، فهذا أيضاً وهم يحجب عن الإنسان رؤية الأشياء على حقيقتها.
وهكذا الأشياء المعنوية؛ خذ -مثلاً- قضية الموت؛ فالموت يحجبه عن كثير من الناس الوهم، لأن الموت يتصور الإنسان أنه بعيد، فينظر إليه نظرة صغيرة ولا يعطيه ما يستحق من التفكير، ولا ما يستحق من الاستعداد؛ وتكبر في عينه أشياء قريبة جداً، ولو تصور الموت؛ لتغير الميزان عنده.
حقيقة الدنيا
هل مر بك نعيمٌ قط؟
فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيغمس بالنعيم غمسة، فيقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟
هل مر بك بؤسٌ قط -أو شدة قط-؟
فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت شراً قط، وما مر بي بؤسٌ قط
}.سبب الوهم
الموت ... الموت
مثلاً: أنت في هذه الدنيا عندك موازين: مصالح، وأشياء تحبها، وأمور تبغضها، أناس تصادقهم، ناس تعاديهم، أشياء تفعلها، أشياء تتركها، وعندك أشياء كثيرة في هذه الدنيا، ولو سألناك على أي أساس هذه الأشياء؟!
لماذا تحب فلان وتبغض فلان؟
لماذا تفعل هذه الأشياء وتترك هذه الأشياء الأخرى؟
قد تجد أنها لمصالح دنيوية.
وأيضاً الدنيا قريبة عندنا؛ فحجبت عنا الآخرة؛ فالدنيا بالنسبة لنا -مثلما ذكرت- كالبرج الضخم عند الطفل، فالدنيا لأنها قريبة منا ونحن نعيش فيها؛ حجبت عنا الآخرة؛ فأصبحنا مشغولين مشغوفين بالدنيا ومصالحها وحقائقها، ومشغولين بها عن الدار الآخرة وما فيها، مع أنه لا مقارنة بين الدنيا والآخرة وكما قال عز وجل: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بأنعم رجلٍ من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيغمس بالنعيم غمسة، فيقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤسٌ قط -أو شدة قط-؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت شراً قط، وما مر بي بؤسٌ قط
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39] إذاً ما سبب هذه القضية، وهذا الوهم الكبير الذي يحصل؟ سببه الغفلة والإغراق في الأشياء المادية التي يراها الإنسان، بمعنى أن الإنسان أعطاه الله عز وجل حواس، مثل: السمع والبصر واليد وغيرها، وأعطاه عقل فالإنسان يستخدم الحواس فيرى ويسمع فتؤثر فيه؛ لكنه لا يستخدم العقل، مع أن كثيراً من الأشياء التي مطلوب من الإنسان أن يفكر فيها؛ لا تدرك بالحواس، فمثلاً الجنة والنار لا تدرك بالحواس، وعذاب القبر لا يدرك أيضاً بالحواس، وقد تدرك آثار بعض ذلك؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يحرك عقله، ويستخدم ما وهبه الله عز وجل ويتفكر؛ ولذلك أثنى الله عز وجل على الذي يتفكرون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قام كما في صحيح البخاري وغيره، ففي إحدى الليالي: قام صلى الله عليه وسلم من نومه في آخر الليل، فتوضأ من شن قربة كانت معلقة، ثم نظر إلى السماء ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:190-192].
ولذلك عند الموت -مثلاً- يصحو الإنسان على الحقائق ليجد أنه في هذه الدنيا كان يركض مغمض العينين ولا يدري ما أمامه، ولا يدري أن أمامه عن قريب حفرة سوف يقع فيها، فإذا وقع في هذه الحفرة صحا، وهي الموت، يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ *وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:16-22].
مثلاً: أنت في هذه الدنيا عندك موازين: مصالح، وأشياء تحبها، وأمور تبغضها، أناس تصادقهم، ناس تعاديهم، أشياء تفعلها، أشياء تتركها، وعندك أشياء كثيرة في هذه الدنيا، ولو سألناك على أي أساس هذه الأشياء؟!
لماذا تحب فلان وتبغض فلان؟
لماذا تفعل هذه الأشياء وتترك هذه الأشياء الأخرى؟
قد تجد أنها لمصالح دنيوية.
لو أتيناك وأنت على فراش الموت، وسألناك: هل أمورك السابقة ما زالت كما هي؟
هل الناس الذين كنت تحبهم لا زلت تحبهم؟
لقلت: لا والله! الآن أبغضهم وأتخلى عنهم! لماذا؟
لأنهم لم ينفعوك، وهل الدنيا التي كنت تحبها وتركض وراءها لازلت كذلك تحيها؟
لقلت: لا والله! مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] أي تخلى عنك.
إذاً: عند الموت تتغير الحقائق كثيراً في ذهن الإنسان، لكن بعد فوات الأوان!
إفاقة المحتضر
وذُكر رجل، بالغيبة عند معروف -وهو أحد الزهاد المعروفين- فقال معروف للمتحدث: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
من آثار الجهل بحقيقة الموت
ومن الآثار السيئة لذلك: أن الإنسان أصبح يحسن القبيح، ويزين في عينه الحسن، كما قال الشاعر:
زُين في عينك القبيح كما زُين في عين غيرك الحسن |
يقضي على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
وقال الله تعالى -وقوله أبلغ وأصدق-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:14-16] وقال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8].
تصور الموت وقت المعصية
كلا، ولو فعلها هل كان يتلذذ بها؟
كلا، لم يكن ليتلذذ بها، بل كان الموت ينغص عليه كل لذة، كيف لا! ونحن نجد أن الموت ينغص على الإنسان اللذات المباحة، فضلاً عن اللذات المحرمة، فضح الموت الدنيا، فلم يبق فيها لذي عقلٍ فضلاً ولا مكانة!!
الموت قد يصبح وهماً
وكيف يمكن أن أبلغ أهله؟
وكيف يمكن أن أتخلص من الموقف؟
وما أشبه ذلك.. فيقول: يهيمن عليه خوف الموت إلى حد أنه أصبح - وهذا نوعٌ من الوسوسة - الخوف من الموت وهماً كبيراً يغطي على عين الإنسان.
من فوائد معرفة حقيقة الموت
تمخضت المنون له بيومٍ أتى ولكل حاملة تمام |
يعني: كأنه قال: إن المنون -وهو الموت- مخاض، يعني: ولادة أخرى للإنسان؛ ولذلك يقول بعض الحكماء: إن الإنسان في الدنيا مثل الفرخ في البيضة، فكما أن اكتمال نمو الفرخ وبلوغه -كماله المقدر له- يكون بانكسار هذه البيضة وخروجه منها، فكذلك الإنسان خروجه من هذه الدنيا -خاصةً الإنسان المؤمن- هو نوعٌ من الكمال له:-
أولاً: لخروجه على الإيمان -هذا إذا خرج مؤمناً -وتجاوزه الخطر، وتجاوز القنطرة.
ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت كانت فاطمة رضي الله عنها تقول: {واكرب أبتاه، وترى النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه الكرب ويتغشاه، ويتفصد جبينه عن العرق، فتقول: واكرب أبتاه، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} أي: آخر ما عليه، واليوم يقضي محمد صلى الله عليه وسلم آخر ما عليه، فهذه الكربات هي آخر عهده بكل الآلام.. وبكل الأحزان.. وبكل ما يكرهه الإنسان.. بعدها يفضي إلى نعيم دائم لا تَحوَّل عنه ولا زوال، فهذا كمال للإنسان.
كما أن الإنسان المؤمن عند انتقاله إلى الدار الآخرة هو كمال أيضاً؛ لأنه ينتقل إلى رضوان الله تعالى وجنته ونعيمه، وهذا لا شك ما لا يحصله الإنسان، ولا يدركه في هذه الدنيا.
كما أنه كمال من وجه ثالث؛ فإن الإنسان في هذه الدار هي دار التي الأحزان والأكدار:
جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار |
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار |
وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار |
فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفرٌ من الأسفار |
فالدنيا جبلت على كدر، ففيها الموت وفيها الآلام وفيها الأحزان وفيها المخاوف، وفيها الهموم، وفيها وفيها... لكن! إذا انتهى الإنسان وأفضى إلى الدار الآخرة ترك ذلك كله وراء ظهره.
والإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب صيد الخاطر له كلمة جميلة، وضع لها المحقق عنواناً: إفاقة المحتضر، والمحتضر هو الذي نـزل به الموت، يقول رحمه الله: أظرف الأشياء وأعجب الأشياء! إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يُحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك للتدارك، أي: لو من أن يتدارك ما مضى، ويصدق توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها من الغم والأسف، يقول: ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية؛ لحصل كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثل تلك الساعة -التي سوف يلقاها عند موته- وعمل بمقتضى ذلك، فإن لم يتهيأ له تصوير ذلك على حقيقته؛ تحايل على أن يتصوره على قدر إمكانه، كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إن مت اليوم ففلان يغلسني، وفلان يحملني، فهو يتصور الأمر كأنه قريب، ولم يجعل هاجس الموت آخر ما يخطر في باله.
وذُكر رجل، بالغيبة عند معروف -وهو أحد الزهاد المعروفين- فقال معروف للمتحدث: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5157 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |