شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع


الحلقة مفرغة

المسألة الأولى: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صلاة التطوع].

التطوع مأخوذ من الطاعة، وذلك لأن المصنف سوف يتحدث عن بعض الأعمال التي هي من الطاعات لكنها طاعات مستحبة أو مسنونة غير واجبة.

فالمقصود بالتطوع إذاً هو ما يعمله الإنسان من العبادات تقرباً من غير الفريضة، وهذا في الأصل يشمل نوافل الصلاة أو غيرها، لكن المقصود هنا نوافل الصلاة.

وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] فهذا يشمل التطوع في الحج، وكما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79] فهذا يشمل المتطوع في الصدقة والزكاة، وكذلك التطوع في الصلاة، جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( من صلى لله ثنتي عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة )، فدل على أن المقصود بالتطوع: الأعمال المسنونة غير المفروضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة ما بين فريضة وتطوع، منها الصلوات المفروضات.

كم عدد ركعات الصلاة المفروضة؟ كم عددها؟ سبع عشرة ركعة، والباقي ثلاث وعشرون ركعة هي تطوع.

والعلماء إذا أطلقوا لفظ التطوع فهم يقصدون به كل الصلوات المشروعة من غير إلزام ولا إيجاب، ولكن بعض الفقهاء -كالشافعية- يقصدون بالتطوع معنىً خاصاً، وهو ما لم يرد فيه نقل بذاته، ما لم يرد فيه نص بذاته من السنن والمستحبات في الصلوات فهو عندهم تطوع، أما ما ورد فيه نقل خاص أو نص خاص -كالسنن الرواتب مثلاً أو الكسوف أو الخسوف- فقد يسمونها سنناً أو مستحبات، ولكنهم لا يسمونها تطوعاً.

مشروعية السنن الرواتب ومعناها وميزتها

قال رحمه الله: [وهي على خمسة أضرب: أحدها: السنن الرواتب] وهذه هي المسألة الثانية، والرواتب جمع راتبة، ومعنى ذلك أنها مرتبة، فهي آكد من غيرها وأكثر استحباباً من سواها.

وهذه السنن الرواتب تتعلق بالصلوات المفروضات، فهي قبلها أو بعدها، قبلها فتكون كالمقدمة والتمهيد لها، أو بعدها فتكون كالخاتمة لها، وفيها تهيؤ لصلاة الفريضة أو تكفير عما قد يكون في صلاة الفريضة من الخلل أو العيب أو النقص.

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنن الرواتب بقوله وفعله وحث عليها، وجاء من ذكر النصوص في فضلها ما لم يرد في سواها، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أن السنن الرواتب أفضل من جميع التطوعات الأخرى من قيام الليل أو من غيره، وذلك لما جاء فيها من الفضيلة والأجر والمحافظة عليها.

وقد أسلفت قبلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة ما بين فرض ونفل، من ذلك السنن الرواتب التي هي ثنتي عشرة ركعة.

عدد السنن الرواتب

المسألة الثالثة: [وهي التي قال ابن عمر رضي الله عنه: ( عشر ركعات حفظتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ركعتين قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر. قال: وحدثتني حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين )] الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو من رواية عبد الله بن عمر لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، وهذه الركعات التي حفظها منها ركعتان قبل الظهر في بيته، ومنها ركعتان قبل الفجر -أو قال: قبل الغداة- في بيته، ومنها ركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان بعد الظهر، فهذه عشر ركعات ثبتت في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويحافظ عليها.

كما جاءت هذه الركعات من قوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال كما في الحديث المتفق عليه: ( من حافظ على ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة )، وجاء ذلك من حديث ميمونة رضي الله عنها وعائشة وغيرهما.

وهذه الركعات الثنتا عشرة فيها أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. فهذه اثنتا عشرة ركعة هي السنن الرواتب.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى مشروعية هذه الركعات الثنتي عشرة، كما جاء في حديث عائشة وميمونة وغيرهما، وحديث ابن عمر يدخل فيها ضمناً، لأنه حفظ عشراً من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يمنع أن يكون لم يطلع على ما زاد على ذلك، واطلعت أمهات المؤمنين كـعائشة وميمونة على أكثر من هذا؛ لمعرفتهما بخصوصية أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعله في بيته. هذا مذهب جمهور أهل العلم.

وخالف في ذلك الإمام مالك رحمه الله فكان لا يرى مزية أو خصوصية لهذه السنن الرواتب اللهم إلا الوتر وإلا ركعتي الفجر، ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ أن هذه السنن الرواتب صلوات مستحبات فاضلات جاء فيها من الأحاديث والأقوال والفضائل ما لم يرد في غيرها، فأما الفعل فحديث ابن عمر أنه حفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: من فعله والله أعلم، وأما القول فكما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وكلاهما صحيح. فتستحب المحافظة على هذه الركعات، وألا يخل الإنسان بها.

بل بلغ من محافظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها أنه كانت إذا فاتته قضاها كما يقضي الصلاة المفروضة، فقد فاتته راتبة الظهر البعدية بسبب انشغاله بوفد عبد القيس استقبالهم ودعوتهم، فقضاها بعد العصر مع أنه وقت نهي، كما جاء في الصحيحين في حديث أم سلمة رضي الله عنها وغيرها، وكذلك فاتته راتبة الفجر فقضاها بعد طلوع الشمس.

آكد الرواتب راتبة الفجر

المسألة الرابعة: قال: [وهما آكدها] يعني: راتبة الفجر، ركعتا الفجر قبل الصلاة هما آكد السنن الرواتب، وهذا معروف عند أهل العلم، وجاء فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ( لم يكن يدع ركعتي الفجر في حضر ولا في سفر)، كما في الحديث المتفق عليه، وقالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه الشيخان: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر تعاهداً منه على ركعتي الفجر)، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ( صلوها ولو طردتكم الخيل )، يعني: كنتم في حال حرب وقتال ومسايفة، ولم يكن على شيء أشد تعاهداً منه على هاتين الركعتين، فكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد ركعتي الفجر ويصليها بكل حال ويأمر بها، ولهذا فهي آكد السنن الرواتب على الإطلاق.

استحباب تخفيف ركعتي الفجر

قال: [ويستحب تخفيفهما] أما استحباب تخفيفهما فلفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان يصلي قبل الفجر ركعتين خفيفتين، حتى كانت عائشة رضي الله عنها تقول -كما في الصحيح-: ( لا أدري أقرأ فيهما بأم الكتاب أم لا )، والمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أو ما قرأ بالفاتحة؟ قرأ أو ما قرأ؟ قرأ، يقيناً قرأ، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وإنما مقصودها رضي الله عنها أنه كان يبالغ في تخفيفهما حتى إنها تتعجب كيف استطاع أن يقرأ الفاتحة، هل أمكنه الوقت أن يقرأها أم لا، تتعجب من سرعته صلى الله عليه وسلم في صلاة راتبة الفجر، والمعروف -كما هو ثابت في الصحيح- أنه صلى الله عليه وسلم: ( كان يقرأ في الركعة الأولى بسورة الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثانية بسورة الفاتحة وقل هو الله أحد)، إذاً هو يقرأ الفاتحة ويقرأ السورة، الأولى: قل يا أيها الكافرون، والثانية: قل هو الله أحد، وهاتان السورتان تسميان سورتا الإخلاص؛ لما فيهما من تجريد التوحيد لله تعالى، وإثبات الوحدانية له والأسماء والصفات، ونفي ذلك عما سواه كما في سورة الإخلاص، وسورة الكافرون التي فيها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى والكفر بآلهة المشركين.

فالمقصود أنه يقرأ الفاتحة ومعها سورة، لكنه كان يخففها، وما ذلك إلا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الليل ويطيل القيام، فإذا برق الفجر وبزغ صلى هاتين الركعتين الخفيفتين، اللتين تكونان كالتمهيد لصلاة الفجر التي كان صلى الله عليه وسلم يطيلها ويحسنها ويتأنق فيها، فهذه هي الحكمة في تخفيف هاتين الركعتين.

أفضلية أداء ركعتي الفجر في البيت

السادسة: قال: [وفعلهما في البيت أفضل] وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: ( وركعتين قبل الفجر في بيته )، وهكذا نقل من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فكانت هاتان الركعتان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، أما الصحابة فقد كان منهم كثيرون يصلونها في المسجد من باب المبادرة إلى الصلاة والإسراع إليها وإدراك الصف الأول أو ما خلف الإمام، والاستجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى ).

والمقصود أن فعل هاتين الركعتين في البيت أفضل من فعلها في المسجد، بل إن فعل جميع التطوعات في البيت أفضل منها في المسجد، إلا ما دل الدليل على مشروعيته في المسجد وهي أنواع.

ما يشرع فعله في المسجد: الأصل أن كل التطوعات تفعل في المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، والباب الذي عندنا اليوم اسمه (باب صلاة التطوع)، إذاً: هو من غير المكتوبة، فالأفضل في هذا الباب أن يفعل في المسجد، كذا؟ لا، الأفضل أن يفعل في البيت.

يستثنى من ذلك مسائل مما يشرع فعله في المسجد: أولاً: صلاة الكسوف، أو نقول بشكل عام: ما تشرع له الجماعة، كالكسوف والخسوف والعيدين وغيرهما والجنازة.

الثاني: صلاة القدوم من السفر عند من يقول باستحبابها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) كما في حديث كعب بن مالك المتفق عليه.

الثالث: صلاة ركعتين بعد ارتفاع الشمس لمن قعد في المسجد يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس، فيستحب له أن يصلي بعد ذلك ركعتين خفيفتين قبل أن يخرج من المسجد.

الرابع: الركعتان بعد الطواف، ركعتا الطواف، فإن السنة فعلهما في المسجد خلف المقام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفعل.

الخامس: تحية المسجد؛ لأنها إنما تشرع لدخول المسجد لا غير.

السادس: الصلاة في مسجد قباء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من أتاه ماشياً وصلى فيه .. أنه صلى الله عليه وسلم (كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويصلي فيه ركعتين)، وجاء في ذلك فضيلة كبيرة.

فهذه الصلوات وما شابهها تفعل في المساجد، أما ما سواها فالأصل أنها تفعل في البيوت، ومن ذلك فعل ركعتي السنة قبل الفجر في البيت كما سبق.

استحباب أداء ركعتي المغرب في البيت

السابعة: قال: [وكذلك ركعتا المغرب] أي: الركعتان بعد صلاة المغرب، فالسنة أنها تفعل في البيت، وقد جاء في حديث عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني عبد الأشهل: ( هذه صلاة البيوت )، وقال: ( صلوها في بيوتكم )، وكان صلى الله عليه وسلم يصليها في بيته، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجزئ إلا في البيت، كما قال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، و[ نقله عبد الله بن الإمام أحمد لوالده فاستحسنه وقال: ما أحسن هذا ]، كان ابن أبي ليلى يرى أن ركعتي المغرب لا تجزئ إلا في البيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تصلى في البيوت، فهي آكد ما يكون في البيت، أن يصليها الإنسان في بيته.

وصلاة هذه السنن في البيت فيها فوائد عديدة، منها: طرد الشياطين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ).

ومنها: نزول الملائكة.

ومنها: بعد البيوت عن مشابهة القبور، لقوله عليه السلام في حديث ابن عمر : ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ).

ومنها: البعد عن الرياء، وأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وحضور القلب.

ومنها: تعويد الأهل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، فإن الله تعالى جاعل من صلاة المرء في بيته خيراً ).

قال رحمه الله: [وهي على خمسة أضرب: أحدها: السنن الرواتب] وهذه هي المسألة الثانية، والرواتب جمع راتبة، ومعنى ذلك أنها مرتبة، فهي آكد من غيرها وأكثر استحباباً من سواها.

وهذه السنن الرواتب تتعلق بالصلوات المفروضات، فهي قبلها أو بعدها، قبلها فتكون كالمقدمة والتمهيد لها، أو بعدها فتكون كالخاتمة لها، وفيها تهيؤ لصلاة الفريضة أو تكفير عما قد يكون في صلاة الفريضة من الخلل أو العيب أو النقص.

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنن الرواتب بقوله وفعله وحث عليها، وجاء من ذكر النصوص في فضلها ما لم يرد في سواها، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أن السنن الرواتب أفضل من جميع التطوعات الأخرى من قيام الليل أو من غيره، وذلك لما جاء فيها من الفضيلة والأجر والمحافظة عليها.

وقد أسلفت قبلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة ما بين فرض ونفل، من ذلك السنن الرواتب التي هي ثنتي عشرة ركعة.

المسألة الثالثة: [وهي التي قال ابن عمر رضي الله عنه: ( عشر ركعات حفظتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ركعتين قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر. قال: وحدثتني حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين )] الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو من رواية عبد الله بن عمر لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، وهذه الركعات التي حفظها منها ركعتان قبل الظهر في بيته، ومنها ركعتان قبل الفجر -أو قال: قبل الغداة- في بيته، ومنها ركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان بعد الظهر، فهذه عشر ركعات ثبتت في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويحافظ عليها.

كما جاءت هذه الركعات من قوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال كما في الحديث المتفق عليه: ( من حافظ على ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة )، وجاء ذلك من حديث ميمونة رضي الله عنها وعائشة وغيرهما.

وهذه الركعات الثنتا عشرة فيها أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. فهذه اثنتا عشرة ركعة هي السنن الرواتب.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى مشروعية هذه الركعات الثنتي عشرة، كما جاء في حديث عائشة وميمونة وغيرهما، وحديث ابن عمر يدخل فيها ضمناً، لأنه حفظ عشراً من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يمنع أن يكون لم يطلع على ما زاد على ذلك، واطلعت أمهات المؤمنين كـعائشة وميمونة على أكثر من هذا؛ لمعرفتهما بخصوصية أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعله في بيته. هذا مذهب جمهور أهل العلم.

وخالف في ذلك الإمام مالك رحمه الله فكان لا يرى مزية أو خصوصية لهذه السنن الرواتب اللهم إلا الوتر وإلا ركعتي الفجر، ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ أن هذه السنن الرواتب صلوات مستحبات فاضلات جاء فيها من الأحاديث والأقوال والفضائل ما لم يرد في غيرها، فأما الفعل فحديث ابن عمر أنه حفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: من فعله والله أعلم، وأما القول فكما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وكلاهما صحيح. فتستحب المحافظة على هذه الركعات، وألا يخل الإنسان بها.

بل بلغ من محافظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها أنه كانت إذا فاتته قضاها كما يقضي الصلاة المفروضة، فقد فاتته راتبة الظهر البعدية بسبب انشغاله بوفد عبد القيس استقبالهم ودعوتهم، فقضاها بعد العصر مع أنه وقت نهي، كما جاء في الصحيحين في حديث أم سلمة رضي الله عنها وغيرها، وكذلك فاتته راتبة الفجر فقضاها بعد طلوع الشمس.

المسألة الرابعة: قال: [وهما آكدها] يعني: راتبة الفجر، ركعتا الفجر قبل الصلاة هما آكد السنن الرواتب، وهذا معروف عند أهل العلم، وجاء فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ( لم يكن يدع ركعتي الفجر في حضر ولا في سفر)، كما في الحديث المتفق عليه، وقالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه الشيخان: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر تعاهداً منه على ركعتي الفجر)، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ( صلوها ولو طردتكم الخيل )، يعني: كنتم في حال حرب وقتال ومسايفة، ولم يكن على شيء أشد تعاهداً منه على هاتين الركعتين، فكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد ركعتي الفجر ويصليها بكل حال ويأمر بها، ولهذا فهي آكد السنن الرواتب على الإطلاق.

قال: [ويستحب تخفيفهما] أما استحباب تخفيفهما فلفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان يصلي قبل الفجر ركعتين خفيفتين، حتى كانت عائشة رضي الله عنها تقول -كما في الصحيح-: ( لا أدري أقرأ فيهما بأم الكتاب أم لا )، والمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أو ما قرأ بالفاتحة؟ قرأ أو ما قرأ؟ قرأ، يقيناً قرأ، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وإنما مقصودها رضي الله عنها أنه كان يبالغ في تخفيفهما حتى إنها تتعجب كيف استطاع أن يقرأ الفاتحة، هل أمكنه الوقت أن يقرأها أم لا، تتعجب من سرعته صلى الله عليه وسلم في صلاة راتبة الفجر، والمعروف -كما هو ثابت في الصحيح- أنه صلى الله عليه وسلم: ( كان يقرأ في الركعة الأولى بسورة الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثانية بسورة الفاتحة وقل هو الله أحد)، إذاً هو يقرأ الفاتحة ويقرأ السورة، الأولى: قل يا أيها الكافرون، والثانية: قل هو الله أحد، وهاتان السورتان تسميان سورتا الإخلاص؛ لما فيهما من تجريد التوحيد لله تعالى، وإثبات الوحدانية له والأسماء والصفات، ونفي ذلك عما سواه كما في سورة الإخلاص، وسورة الكافرون التي فيها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى والكفر بآلهة المشركين.

فالمقصود أنه يقرأ الفاتحة ومعها سورة، لكنه كان يخففها، وما ذلك إلا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الليل ويطيل القيام، فإذا برق الفجر وبزغ صلى هاتين الركعتين الخفيفتين، اللتين تكونان كالتمهيد لصلاة الفجر التي كان صلى الله عليه وسلم يطيلها ويحسنها ويتأنق فيها، فهذه هي الحكمة في تخفيف هاتين الركعتين.

السادسة: قال: [وفعلهما في البيت أفضل] وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: ( وركعتين قبل الفجر في بيته )، وهكذا نقل من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فكانت هاتان الركعتان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، أما الصحابة فقد كان منهم كثيرون يصلونها في المسجد من باب المبادرة إلى الصلاة والإسراع إليها وإدراك الصف الأول أو ما خلف الإمام، والاستجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى ).

والمقصود أن فعل هاتين الركعتين في البيت أفضل من فعلها في المسجد، بل إن فعل جميع التطوعات في البيت أفضل منها في المسجد، إلا ما دل الدليل على مشروعيته في المسجد وهي أنواع.

ما يشرع فعله في المسجد: الأصل أن كل التطوعات تفعل في المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، والباب الذي عندنا اليوم اسمه (باب صلاة التطوع)، إذاً: هو من غير المكتوبة، فالأفضل في هذا الباب أن يفعل في المسجد، كذا؟ لا، الأفضل أن يفعل في البيت.

يستثنى من ذلك مسائل مما يشرع فعله في المسجد: أولاً: صلاة الكسوف، أو نقول بشكل عام: ما تشرع له الجماعة، كالكسوف والخسوف والعيدين وغيرهما والجنازة.

الثاني: صلاة القدوم من السفر عند من يقول باستحبابها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) كما في حديث كعب بن مالك المتفق عليه.

الثالث: صلاة ركعتين بعد ارتفاع الشمس لمن قعد في المسجد يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس، فيستحب له أن يصلي بعد ذلك ركعتين خفيفتين قبل أن يخرج من المسجد.

الرابع: الركعتان بعد الطواف، ركعتا الطواف، فإن السنة فعلهما في المسجد خلف المقام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفعل.

الخامس: تحية المسجد؛ لأنها إنما تشرع لدخول المسجد لا غير.

السادس: الصلاة في مسجد قباء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من أتاه ماشياً وصلى فيه .. أنه صلى الله عليه وسلم (كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويصلي فيه ركعتين)، وجاء في ذلك فضيلة كبيرة.

فهذه الصلوات وما شابهها تفعل في المساجد، أما ما سواها فالأصل أنها تفعل في البيوت، ومن ذلك فعل ركعتي السنة قبل الفجر في البيت كما سبق.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3985 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3924 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3852 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3844 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3670 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3623 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3611 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3549 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3513 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3442 استماع