شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - حديث 631-638


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رقم هذا الدرس (208) ضمن شرح بلوغ المرام، وبالمناسبة الشرح موجود يعني، مصوراً بعضه، وكله موجود على أشرطة كاسيت وموجود على موقع الإسلام اليوم والصوتيات لمن شاء أن يطلع على ما سبق منه.

وهذه ليلة الخميس الثاني عشر من جمادى الآخرة من سنة: (1428هـ) ولا زلنا في كتاب الزكاة.

عندنا الحديث رقم: (609) الآن، وهو حديث عَنْ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ولي يتيماً له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة )، رواه الترمذي والدارقطني وإسناده ضعيف.

تخريج الحديث

هذا الحديث رواه الترمذي كما ذكر المصنف في جامعه، والدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، ورواه البيهقي أيضاً في كتاب البيوع، يعني: الاتجار بمال اليتيم.

وسبب ضعف الحديث، المصنف أشار إلى أن سنده ضعيف، فالحديث أولاً: من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد سبق القول في هذه السلسلة مراراً، ولكن المصنف -رحمه الله- لا يضعف الحديث بـعمرو بن شعيب، وإنما يُضعفه بـالمثنى بن الصباح، وهو ضعيف مضطرب الحديث، والله أعلم.

شواهد الحديث

الحديث الذي بعده هو بمعنى حديث الباب ورقمه: (610) قال: وله شاهد مرسل عند الشافعي، فـالشافعي روى هذا الشاهد المرسل في كتاب الزكاة، ورواه أيضاً البيهقي وعبد الرزاق في المصنف، وهذا المرسل هو ضعيف أيضاً، أولاً: ضعيف؛ لأنه مرسل، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، والمرسل هو: ما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث نتأكد بأن في سنده انقطاعاً، ولكن أيضاً هذا المرسل فيه عنعنة ابن جريج وهو صدوق مدلس، فالحديث إذاً فيه ضعف أيضاً.

مسألة: حكم الزكاة في مال اليتيم والمجنون

الحديثان فيهما مسألة مهمة، وعندنا اليوم مجموعة جميلة وطيبة جداً من المسائل الأساسية والضرورية في كتاب الزكاة، إن شاء الله يعيننا الله تعالى على إنجازها.

المسألة المعروضة هنا هي مسألة مال اليتيم والمجنون .. ونحوهما: هل فيه زكاة أم ليس فيه زكاة؟

وسبب الخلاف في هذه المسألة: هو ضعف الأدلة أولاً في الباب، والسبب الثاني في وجود الخلاف: هو اختلافهم في الزكاة: هل هي عبادة محضة كالصلاة، فلا تجب على الصغير -الصبي- ولا على المجنون؛ لأنه غير مكلف أم هي متعلقة بالمال، فتجب عليه إذا وجد عنده مال، سواء كان مكلفاً أو غير مكلف؟

القول الأول: أن الزكاة واجبة في مال الصبي الصغير دون البلوغ، وفي مال المجنون، وهذا قول الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو المنقول عن الكثير من الصحابة رضي الله عنهم، كـعائشة، وجابر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر وغيرهم.

ودليل هؤلاء في إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون:

أولاً: حديث الباب، حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد يجبرون ضعفه بأن يقولوا: إن هذا الحديث جاء من طرق، وعند بعض أهل الحديث أن الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه فإنه ينجبر ضعفه، خصوصاً إذا لم يكن الضعف شديداً، وهذا مذهب حسن، وطريقة صحيحة : أن الحديث إذا تعددت طرقه وليس في شيء منها متروك ولا وضاع ولا هالك، وإنما ضعفه ضعف منجبر، قد يكون من جهة حصول الخطأ عند الراوي، فإذا تعددت الطرق علمنا أن الراوي لم يخطئ في هذا الحديث، فيصحح الحديث بمجموع طرقه، وبذلك استدلوا.

أيضاً: استدلوا من حيث النظر بأن الزكاة حق متعلق بالمال، فتجب في مال بلغ نصاباً، من عروض أو أثمان أو غيرها، سواء كان لصبي أو مجنون أو عاقل أو غيره مادام من المسلمين.

القول الثاني: أن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون، وهذا قول لـسعيد بن جبير والحسن البصري وبعض السلف.

قالوا: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مطلقاً، أياً كان هذا المال، كثرة وقلة ونوع المال، عروض تجارة أو خارجاً من الأرض أو أثماناً، لا تجب فيه الزكاة، لماذا؟

قالوا: لأن الزكاة عبادة، مثل الصلاة فلا تجب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة، وهؤلاء غير مكلفين.

وهذان القولان مشهوران ودليلهما ظاهر.

وهناك قول ثالث، وهو قول أبي حنيفة , قال: إن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون إلا فيما يتعلق بالزروع والثمار فتجب، فإن كان مال الصبي زروعاً وثماراً وجبت فيه الزكاة، أما لو كان أثماناً .. أو نحو ذلك فلا زكاة فيه، ولا أعلم لهم دليلاً على هذا التفريق كما ذكره ابن رشد .. وغيره، إلا أنهم ربما أخذوا الدليل من قوله سبحانه وتعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، في الزروع والثمار.

وكذلك أن الزروع والثمار لا يشترط لها الحول مثل بقية الأموال، فكأن هذا سبب عندهم في الاستثناء، وربما استدلوا بعدم الوجوب بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق )، فهذا دليل لهم ولـسعيد بن جبير ومن وافقه على عدم إيجاب الزكاة مطلقاً.

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [ لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ]، فهذا أثر احتجوا به عن ابن مسعود : أن الزكاة في مال الصبي والمجنون لا تجب، وهذا الأثر رواه أبو حنيفة واحتج به الأحناف.

والواقع أن هذا الأثر عن ابن مسعود ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وأيضاً هو عن مجاهد فهو مرسل منقطع .

إذاً: أثر ابن مسعود في عدم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون ضعيف ومنقطع، ولا يثبت -والله أعلم- عن أحد من الصحابة أنه قال: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، بل المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون .

وهناك قول ينسب أيضاً لـابن مسعود رضي الله عنه: أنه يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، لكن لا تُخرج إلا إذا بلغ، فإن شاء أخرجها وإن شاء لم يخرجها.

وهذا أيضاً فيه بعد؛ لترتب زكوات كثيرة جداً، فقد يُشق عليه إخراجها.

فالصواب: هو ما ذهب إليه الجمهور الأئمة الثلاثة أحمد ومالك والشافعي : أن مال الصبي والمجنون فيه زكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالمال، ولعموم النصوص الواردة في الأمر بإخراج الزكاة.

حكم المضاربة بمال الصبي والمجنون

أيضاً هناك مسألة أخرى في الحديث: وهي المضاربة بمال الصبي والمجنون, يعني: حديث عمرو بن شعيب يقول: ( من ولي يتيماً له مال فليتجر له ) يعني: يُتاجر له بالمال.

فيجوز المضاربة بمال الصبي والمجنون عند الأئمة الأربعة، أن يضارب بالمال لهذه الأحاديث ولغيرها، لكن قالوا: يختار في المضاربة التجارات التي هي أقرب إلى الضمان وأبعد عن المخاطرة، فلا يُضارب -مثلاً- بالاحتمالات أو بالأشياء الصعبة، أو حتى -مثلاً- بالحيوانات والمواشي؛ لأنها تموت وتهلك، وإنما قد يُضارب في العقار؛ لأن الغالب عليه الحفظ والسلامة ولو طال به الوقت، أو ما يغلب على ظنه أنه يسلم، ولا يُغامر بهذه الأموال كما يُغامر ربما بماله الخاص أحياناً؛ لأن القاعدة عند الاقتصاديين: (أنه دائماً ارتفاع الربح مرتبط بارتفاع المخاطرة) يعني: هذه الصفقة فيها ربح: (50%) لكن احتمال المخاطرة كبير أيضاً، أو يكون الربح قليلاً والمخاطرة قليلة أيضاً يعني: (5 %) شبه مضمون، فارتفاع المخاطرة هنا لا يُقبل في مال الصبي والمجنون.

إذاً: هذا فيما يتعلق بالمضاربة.

وقد نقل عن الحسن البصري أنه كان لا يرى المضاربة في مال الصبي والمجنون، أو يقول: أكره المضاربة في مال الصبي والمجنون.

وكأنه خشي على هذا المال أن يتعرض للتلف.

حكم مضاربة الولي بمال الصبي والمجنون إذا كان تاجراً

طيب هنا سؤال:

إذا كان ولي اليتيم تاجراً، فهل له أن يأخذ مال الصبي والمجنون ويُضارب به بنفسه أو يعطيه أحداً يُضارب به؟

لأنه إذا أعطاه أحداً يُضارب به، هنا ما في اتهام له، سوف يُعطي هذا المضارب نصيبه مثل ما يُعطى غيره، وهو فقط أعطاه إياه أمانة.

أما إذا ضارب هو فهنا يكون محل اتهام؛ لأنه ربما ضارب لمصلحته؛ ولذلك كثير من الفقهاء يرون ألا يضارب هو في مال الصبي والمجنون، والذي أميل إليه أن الأمر لا يكون فيه حسم، وإنما يختلف من حال إلى أخرى.

فإذا كان الولي تاجراً وثرياً وصاحب أموال وصاحب عقار وهو مأمون أيضاً، ومضاربته هو بمال الصبي والمجنون من باب البر لهما؛ لأنه لا يقبل هو أصلاً أن يُدخل أموال الناس عنده في المضاربة إلا بمبالغ طائلة، وقد لا يقبل ذلك أصلاً؛ لأنه ليس بحاجة إلى أموال الناس، فيكفيه ماله أن يُضارب به، إنما قال: هذا اليتيم -لأنه يتيم في حجري ولحدبي عليه وحرصي عليه- أجعل ماله أسوة بمالي فأُضارب بماله مثلما أُضارب بمالي من باب الإحسان إلى اليتيم، وهذا كثير في هذا الزمان، فهذا لا بأس به بل يُشكر عليه؛ لأنه جعل مال اليتيم أسوة بماله.

أما إذا كان هذا الإنسان ما عنده مال، لكن يقول: أريد أن آخذ مال اليتيم هذا وأُضارب لعلني أنا أستفيد وهو يستفيد، فهنا يُمنع، بل قد يُغرَّم لو خسر؛ لأنه قد لا يكون أهلاً للمضاربة ولا خبرة عنده، وقد يؤدي بهذا المال إلى التهلكة.

فوائد الحديث

من فوائد حديث عمرو بن شعيب والحديث الآخر المرسل:

أن الولي هو الذي يُخرج الزكاة من مال اليتيم والمجنون كما هو ظاهر.

ومنه: أن مال الصبي واليتيم والمجنون يُزكى وهو مذهب الجمهور.

ومنه: جواز المضاربة في مال الصبي والمجنون حتى ينمو ولا تأكله الزكاة.

ومنه: أن الجنين لا يجب في ماله زكاة. كيف عرفناها من الحديث؟

لأنه لا يصدق عليه أنه صبي ولا مجنون، يعني: الجنين لم يولد بعد، نعم هو مخلوق، لكن هل نصفه بأنه صبي؟ ولم يكن صبياً بعد، لا ندري: أذكر هو أم أنثى؟ حي أم ميت؟ فهو ليس موجوداً، وبالتالي لا يُضارب بماله بل يُوقف ماله، إلا في حالة ما إذا كان ماله مشاعاً ضمن غيره.

هذا الحديث رواه الترمذي كما ذكر المصنف في جامعه، والدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، ورواه البيهقي أيضاً في كتاب البيوع، يعني: الاتجار بمال اليتيم.

وسبب ضعف الحديث، المصنف أشار إلى أن سنده ضعيف، فالحديث أولاً: من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد سبق القول في هذه السلسلة مراراً، ولكن المصنف -رحمه الله- لا يضعف الحديث بـعمرو بن شعيب، وإنما يُضعفه بـالمثنى بن الصباح، وهو ضعيف مضطرب الحديث، والله أعلم.

الحديث الذي بعده هو بمعنى حديث الباب ورقمه: (610) قال: وله شاهد مرسل عند الشافعي، فـالشافعي روى هذا الشاهد المرسل في كتاب الزكاة، ورواه أيضاً البيهقي وعبد الرزاق في المصنف، وهذا المرسل هو ضعيف أيضاً، أولاً: ضعيف؛ لأنه مرسل، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، والمرسل هو: ما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث نتأكد بأن في سنده انقطاعاً، ولكن أيضاً هذا المرسل فيه عنعنة ابن جريج وهو صدوق مدلس، فالحديث إذاً فيه ضعف أيضاً.

الحديثان فيهما مسألة مهمة، وعندنا اليوم مجموعة جميلة وطيبة جداً من المسائل الأساسية والضرورية في كتاب الزكاة، إن شاء الله يعيننا الله تعالى على إنجازها.

المسألة المعروضة هنا هي مسألة مال اليتيم والمجنون .. ونحوهما: هل فيه زكاة أم ليس فيه زكاة؟

وسبب الخلاف في هذه المسألة: هو ضعف الأدلة أولاً في الباب، والسبب الثاني في وجود الخلاف: هو اختلافهم في الزكاة: هل هي عبادة محضة كالصلاة، فلا تجب على الصغير -الصبي- ولا على المجنون؛ لأنه غير مكلف أم هي متعلقة بالمال، فتجب عليه إذا وجد عنده مال، سواء كان مكلفاً أو غير مكلف؟

القول الأول: أن الزكاة واجبة في مال الصبي الصغير دون البلوغ، وفي مال المجنون، وهذا قول الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو المنقول عن الكثير من الصحابة رضي الله عنهم، كـعائشة، وجابر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر وغيرهم.

ودليل هؤلاء في إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون:

أولاً: حديث الباب، حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد يجبرون ضعفه بأن يقولوا: إن هذا الحديث جاء من طرق، وعند بعض أهل الحديث أن الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه فإنه ينجبر ضعفه، خصوصاً إذا لم يكن الضعف شديداً، وهذا مذهب حسن، وطريقة صحيحة : أن الحديث إذا تعددت طرقه وليس في شيء منها متروك ولا وضاع ولا هالك، وإنما ضعفه ضعف منجبر، قد يكون من جهة حصول الخطأ عند الراوي، فإذا تعددت الطرق علمنا أن الراوي لم يخطئ في هذا الحديث، فيصحح الحديث بمجموع طرقه، وبذلك استدلوا.

أيضاً: استدلوا من حيث النظر بأن الزكاة حق متعلق بالمال، فتجب في مال بلغ نصاباً، من عروض أو أثمان أو غيرها، سواء كان لصبي أو مجنون أو عاقل أو غيره مادام من المسلمين.

القول الثاني: أن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون، وهذا قول لـسعيد بن جبير والحسن البصري وبعض السلف.

قالوا: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مطلقاً، أياً كان هذا المال، كثرة وقلة ونوع المال، عروض تجارة أو خارجاً من الأرض أو أثماناً، لا تجب فيه الزكاة، لماذا؟

قالوا: لأن الزكاة عبادة، مثل الصلاة فلا تجب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة، وهؤلاء غير مكلفين.

وهذان القولان مشهوران ودليلهما ظاهر.

وهناك قول ثالث، وهو قول أبي حنيفة , قال: إن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون إلا فيما يتعلق بالزروع والثمار فتجب، فإن كان مال الصبي زروعاً وثماراً وجبت فيه الزكاة، أما لو كان أثماناً .. أو نحو ذلك فلا زكاة فيه، ولا أعلم لهم دليلاً على هذا التفريق كما ذكره ابن رشد .. وغيره، إلا أنهم ربما أخذوا الدليل من قوله سبحانه وتعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، في الزروع والثمار.

وكذلك أن الزروع والثمار لا يشترط لها الحول مثل بقية الأموال، فكأن هذا سبب عندهم في الاستثناء، وربما استدلوا بعدم الوجوب بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق )، فهذا دليل لهم ولـسعيد بن جبير ومن وافقه على عدم إيجاب الزكاة مطلقاً.

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [ لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ]، فهذا أثر احتجوا به عن ابن مسعود : أن الزكاة في مال الصبي والمجنون لا تجب، وهذا الأثر رواه أبو حنيفة واحتج به الأحناف.

والواقع أن هذا الأثر عن ابن مسعود ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وأيضاً هو عن مجاهد فهو مرسل منقطع .

إذاً: أثر ابن مسعود في عدم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون ضعيف ومنقطع، ولا يثبت -والله أعلم- عن أحد من الصحابة أنه قال: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، بل المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون .

وهناك قول ينسب أيضاً لـابن مسعود رضي الله عنه: أنه يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، لكن لا تُخرج إلا إذا بلغ، فإن شاء أخرجها وإن شاء لم يخرجها.

وهذا أيضاً فيه بعد؛ لترتب زكوات كثيرة جداً، فقد يُشق عليه إخراجها.

فالصواب: هو ما ذهب إليه الجمهور الأئمة الثلاثة أحمد ومالك والشافعي : أن مال الصبي والمجنون فيه زكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالمال، ولعموم النصوص الواردة في الأمر بإخراج الزكاة.

أيضاً هناك مسألة أخرى في الحديث: وهي المضاربة بمال الصبي والمجنون, يعني: حديث عمرو بن شعيب يقول: ( من ولي يتيماً له مال فليتجر له ) يعني: يُتاجر له بالمال.

فيجوز المضاربة بمال الصبي والمجنون عند الأئمة الأربعة، أن يضارب بالمال لهذه الأحاديث ولغيرها، لكن قالوا: يختار في المضاربة التجارات التي هي أقرب إلى الضمان وأبعد عن المخاطرة، فلا يُضارب -مثلاً- بالاحتمالات أو بالأشياء الصعبة، أو حتى -مثلاً- بالحيوانات والمواشي؛ لأنها تموت وتهلك، وإنما قد يُضارب في العقار؛ لأن الغالب عليه الحفظ والسلامة ولو طال به الوقت، أو ما يغلب على ظنه أنه يسلم، ولا يُغامر بهذه الأموال كما يُغامر ربما بماله الخاص أحياناً؛ لأن القاعدة عند الاقتصاديين: (أنه دائماً ارتفاع الربح مرتبط بارتفاع المخاطرة) يعني: هذه الصفقة فيها ربح: (50%) لكن احتمال المخاطرة كبير أيضاً، أو يكون الربح قليلاً والمخاطرة قليلة أيضاً يعني: (5 %) شبه مضمون، فارتفاع المخاطرة هنا لا يُقبل في مال الصبي والمجنون.

إذاً: هذا فيما يتعلق بالمضاربة.

وقد نقل عن الحسن البصري أنه كان لا يرى المضاربة في مال الصبي والمجنون، أو يقول: أكره المضاربة في مال الصبي والمجنون.

وكأنه خشي على هذا المال أن يتعرض للتلف.

طيب هنا سؤال:

إذا كان ولي اليتيم تاجراً، فهل له أن يأخذ مال الصبي والمجنون ويُضارب به بنفسه أو يعطيه أحداً يُضارب به؟

لأنه إذا أعطاه أحداً يُضارب به، هنا ما في اتهام له، سوف يُعطي هذا المضارب نصيبه مثل ما يُعطى غيره، وهو فقط أعطاه إياه أمانة.

أما إذا ضارب هو فهنا يكون محل اتهام؛ لأنه ربما ضارب لمصلحته؛ ولذلك كثير من الفقهاء يرون ألا يضارب هو في مال الصبي والمجنون، والذي أميل إليه أن الأمر لا يكون فيه حسم، وإنما يختلف من حال إلى أخرى.

فإذا كان الولي تاجراً وثرياً وصاحب أموال وصاحب عقار وهو مأمون أيضاً، ومضاربته هو بمال الصبي والمجنون من باب البر لهما؛ لأنه لا يقبل هو أصلاً أن يُدخل أموال الناس عنده في المضاربة إلا بمبالغ طائلة، وقد لا يقبل ذلك أصلاً؛ لأنه ليس بحاجة إلى أموال الناس، فيكفيه ماله أن يُضارب به، إنما قال: هذا اليتيم -لأنه يتيم في حجري ولحدبي عليه وحرصي عليه- أجعل ماله أسوة بمالي فأُضارب بماله مثلما أُضارب بمالي من باب الإحسان إلى اليتيم، وهذا كثير في هذا الزمان، فهذا لا بأس به بل يُشكر عليه؛ لأنه جعل مال اليتيم أسوة بماله.

أما إذا كان هذا الإنسان ما عنده مال، لكن يقول: أريد أن آخذ مال اليتيم هذا وأُضارب لعلني أنا أستفيد وهو يستفيد، فهنا يُمنع، بل قد يُغرَّم لو خسر؛ لأنه قد لا يكون أهلاً للمضاربة ولا خبرة عنده، وقد يؤدي بهذا المال إلى التهلكة.

من فوائد حديث عمرو بن شعيب والحديث الآخر المرسل:

أن الولي هو الذي يُخرج الزكاة من مال اليتيم والمجنون كما هو ظاهر.

ومنه: أن مال الصبي واليتيم والمجنون يُزكى وهو مذهب الجمهور.

ومنه: جواز المضاربة في مال الصبي والمجنون حتى ينمو ولا تأكله الزكاة.

ومنه: أن الجنين لا يجب في ماله زكاة. كيف عرفناها من الحديث؟

لأنه لا يصدق عليه أنه صبي ولا مجنون، يعني: الجنين لم يولد بعد، نعم هو مخلوق، لكن هل نصفه بأنه صبي؟ ولم يكن صبياً بعد، لا ندري: أذكر هو أم أنثى؟ حي أم ميت؟ فهو ليس موجوداً، وبالتالي لا يُضارب بماله بل يُوقف ماله، إلا في حالة ما إذا كان ماله مشاعاً ضمن غيره.

الحديث الذي بعده رقمه: (611).

حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه, قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلّ عليهم ). ‏

تخريج الحديث

أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث:

الحديث متفق عليه كما ذكر المصنف.

فقد رواه البخاري في كتاب الزكاة، ورواه أيضاً في كتاب الدعوات، ومواضع أخرى، من كتاب المغازي أيضاً.

ورواه مسلم في صحيحه في الزكاة أيضاً، وهو عند أبي داود، وابن ماجه، وأبي عوانة في كتاب الزكاة، ورواه أحمد، وابن حبان، وابن أبي شيبة .. وغيرهم.

ترجمة راوي الحديث

راوي الحديث هو: عبد الله بن أبي أوفى، وكنيته أبو إبراهيم، وهو صحابي، وأبوه صحابي أيضاً، وهو ممن شهد بيعة الرضوان، فله فضيلة ومزية ومقام، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وحظي بهذا الثناء، فإنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم صلّ على آل أبي أوفى )، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وبورك فيه، وقد توفي رضي الله عنه سنة ست وثمانين هجرية.

معاني ألفاظ الحديث

ثانياً: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

قوله: (إذا أتاه قوم) المقصود: إما عائلة أو رب أسرة أو قبيلة من القبائل، كما إذا كانت الزكاة إبلاً أو غير ذلك، وجاءوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (بصدقتهم) الصدقة هي الزكاة.

وقوله : (اللهم صلّ عليهم) الصلاة: هي الدعاء، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157].

أقوال العلماء في حكم الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام

ما يتعلق بالحديث ففيه مسألة: وهي حكم الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

أما الصلاة على الأنبياء فهي مشروعة: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم صل على محمد ).

فالصلاة عليه مشروعة وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين عليهم جميعاً أطيب الصلاة وأزكى السلام، لكن الصلاة على غيرهم من الناس ما حكمها؟

هذه فيها أقوال أشهرها قولان:

إما أن ذلك يمنع استقلالاً ويجوز تبعاً، وكثيراً ما يقول الفقهاء: إنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، يعني: شيء يجوز أنك تفعله تبعاً لغيره، لكن لا تستقل به، ومثال ذلك: هنا في مسألة الصلاة، كونك تقول -مثلاً-: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وعلى أصحابه وعلى أزواجه وعلى أتباعه وعلينا وعلى جميع المؤمنين والمسلمين.

ليس في ذلك من حرج؛ لأن هذا تبع للصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا يجوز تبعاً، لكن يُمنع استقلالاً، يعني: لا تجعله مستقلاً، فتقول: اللهم صل على فلان من الناس، أو اللهم صل على الشخص الفلاني أو العالم الفلاني .. أو ما أشبه ذلك، فيُمنع الاستقلال به، والمنع هنا قد يكون -كما ذكر النووي - إما منع تحريم أو كراهة أو خلاف الأولى، وهذا القول بالمنع هو مذهب الشافعية -يعني: فقهاء الشافعية- والمالكية: أنهم يجيزونه تبعاً ويمنعونه استقلالاً.

القول الثاني: أن ذلك جائز بلا كراهة، وهو مذهب الحنابلة، مذهب الإمام أحمد، واستدلوا بأدلة كثيرة جداً، منها: قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، فذكر سبحانه صلاته، وقوله: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عليهم، وقد كان يفعلها صلى الله عليه وسلم ويتأولها، كما في حديث ابن أبي أوفى هنا: ( أنه إذا أتاه قوم بصدقة قال : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ )؛ لأنه سبحانه قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، فإذا أخذ الصدقة صلى عليهم كحديث الباب.

وكذلك من الأدلة على جواز ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم ابن مسعود الصلاة وغيرها: ( التحيات لله )، ثم يقول بعد ذلك: ( اللهم صل على محمد ) ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) هذا فيه السلام، والصلاة في قوله بعد ذلك: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع أن الآل قد يقصد بها الأتباع -كما ذكرنا ذلك بالأمس- فيطلق الآل على القرابة، ويُطلق الآل على الأتباع، ويقول بعض أهل العلم:

آل النبي همُ أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعربِ

لو لم يكن آله إلا قرابته صلّى المصلي على الطاغي أبي لهبِ

فقصد الشاعر هنا الإشارة: إلى أن المقصود بالآل هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، وهكذا: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، يعني: آل فرعون أتباعه على دينه وملته.

والأقرب: أن الصلاة جائزة، ولكن لا ينبغي أن تُتخذ شعاراً كما هو الحال بالنسبة للأنبياء، فلا يُذكر فلان إلا ويقال: صلى الله عليه وسلم، فهذا مما درج المسلمون ودرج عرفهم على أنه خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، كما أن -مثلاً- كلمة (عز وجل) لا تقال شعاراً إلا لله تبارك وتعالى، فنقول: ربنا عز وجل، مع أنه لو قالها قائل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لكانت صدقاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم عزيز: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وهو جليل أيضاً وعظيم القدر، ولكن جرى العرف على أن تكون (عز وجل) خاصة بالله سبحانه وتعالى، فيقال: (الله عز وجل .. ربنا عز وجل) وأن يكون الصلاة والسلام خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيقال: صلى الله عليه وآله وسلم .

فكون بعض الناس يخصون -مثلاً- علي بن أبي طالب نقول: رضي الله عنه، مثله في ذلك مثل أبي بكر الصديق أو عمر أو عثمان .. أو غيره من الصحابة، لجلالة قدره ومقامه وعظمته وفضله، فيُترضى عنه، ولو قال قائل: علي بن أبي طالب عليه السلام لا بأس، أو صلى الله عليه وسلم لا بأس، أبو بكر صلى الله عليه وسلم .. عمر .. عثمان، لكن لا يتخذ هذا شعاراً، لا يُذكر أحد منهم إلا ذكره بالصلاة والسلام، خاصة أن من الناس من قد ينتقي أو يُميز أو يُفضل أحداً على أحد، أو يتخذ هذا لمصالح دنيوية، مثلما ذكر بعض الأئمة والعلماء بالصلاة والسلام على ملوكهم أو على أمرائهم أو ما أشبه ذلك، أو على متبوعيهم أيضاً، فينبغي ألا تتخذ هذه شعاراً، ولو قالها فإنه لا يداوم عليها.