شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - حديث 622-623


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم وعلى جميع المسلمين والمؤمنين، رقم هذا الدرس (205)، والتاريخ هو التاسع من جمادى الآخرة من سنة (1428هـ)، ضمن سلسلة شرح بلوغ المرام، وقد تحدثنا أمس عن الزكاة، مقدمات حولها، تعريف الزكاة، أدلة وجوبها، معناها، الحكم من الزكاة لمؤديها ولآخذها وللمجتمع، العقوبات على تارك الزكاة، شروط وجوب الزكاة، وذكرنا خمسة شروط منها، واليوم نبدأ بالحديث الأول والثاني من أحاديث الباب.

الحديث الأول في الكتاب ورقمه (599)، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فذكر في الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنك تأتي قومًا أهل كتابٍ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ). والحديث متفق عليه.

في هذا الحديث عدة مسائل:

تخريج الحديث

المسألة الأولى: ما يتعلق بتخريج الحديث: فالحديث متفق عليه كما ذكر المصنف، فقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه، رواه في كتاب الزكاة، ورواه أيضاً في كتاب المغازي، وفي كتاب التوحيد، كعادة البخاري في تكرار الحديث، وأخذ أجزاء متفرقة منه بغرض التفقه منها.

وقد رواه مسلم أيضاً في كتاب الإيمان، لما فيه من ذكر الإيمان بالله في أوله: ( أن يؤمنوا بالله )، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه كلهم في كتاب الزكاة .

إذاً: يصح أن نقول عن هذا الحديث: إنه حديث رواه الستة، وهو مصطلح يطلقه المصنف رحمه الله على الصحيحين والسنن الأربع، فالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه؛ يعبر عنه عادة بأنه رواه الستة، فإذا أضيف إليهم الإمام أحمد قيل: رواه السبعة.

وهذا الحديث أيضاً رواه الإمام أحمد، فيصح أن يقول المصنف عنه بدلاً من قوله: متفق عليه، يصح أن يقول: رواه السبعة.

وقد روى الحديث أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والدارمي، وأبو عوانة في مسنده وغيرهم من الأئمة، فهو حديث صحيح مشهور.

معاني ألفاظ الحديث

المسألة الثانية في الحديث: ما يتعلق بألفاظه وغريبه؛ فإن في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً )، بعثه أي: أرسله. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم أرسله أميراً وحاكماً ووالياً على أهل اليمن . وقيل: لا، بل بعثه قاضياً، وكان معه في بعض ذهباته أبو موسى الأشعري كما هو معروف حينما قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً

وأبا موسى

إلى اليمن فقال لهما: تطاوعا ولا تختلفا، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا
).

ومعاذ بن جبل هو من شباب الصحابة رضي الله عنهم، من شباب الأنصار فهو أنصاري، وقد ذهب إلى اليمن وبقي بها زمناً طويلاً، ثم ذهب إلى الشام، ومات بها على ما هو معروف، وآثاره في اليمن خالدة، آثاره في إسلام الناس وآثار البناء والمسجد الذي بناه رضي الله عنه وأرضاه، وكان بعث النبي صلى الله عليه وسلم له إلى اليمن في سنة عشر من الهجرة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك تأتى قومًا أهل كتاب) المعنى: أن فيهم أهل كتاب، ليسوا كلهم، فإن اليمن كان فيها أهل كتاب من اليهود والنصارى، وكان فيها الوثنيون وغيرهم، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قومًا أهل كتاب) يعني: تأتي بلداً فيه بعض أهل الكتاب، وأهل الكتاب هو مصطلح شرعي نبوي بل قرآني يقصد به أهل الكتابين غالباً وهم اليهود والنصارى، كما يقول ربنا سبحانه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156]، والمعنى أنهم أهل كتاب سماوي؛ لأن عندهم التوراة والإنجيل، وهم أيضاً أهل كتابة وعلم خلاف العرب الأميين، الذين كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، فكانت الكتابة فاشية عند اليهود والنصارى بحكم وجود الكتب السماوية عندهم، والعرب كانوا لا يعرفون الكتابة غالباً إلا عن طريقهم، كما قال الشاعر العربي:

كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي يقارب أو يزيل

فكانوا يعرفون الكتابة عن طريق أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقال: (إنك تأتي قومًا أهل كتاب) وفي ذلك إشارة إلى أهمية فقه الإنسان بمن يدعوهم، وأن الناس ليسوا سواءً، فدعوة الكتابي غير دعوة الوثني، غير دعوة البوذي، غير دعوة الملتبس الأمر عليه، غير دعوة المسلم المقصر أو البعيد، لابد من معرفة ذلك، فبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) يعني: أمره صلى الله عليه وسلم بأن يبدأهم بدعوة التوحيد، وذلك لأنها هي معقد الإيمان، والتي لا يقبل من أحد عمل إلا بها، فهي البوابة إلى الدخول في الإسلام؛ ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بها.

قال: (فإن هم أطاعوا لذلك) يعني: آمنوا به، واعترفوا به، وأقروا به، ونزلوا عنده، وهذا يشمل أمرين:

يشمل أولاً : الاعتراف برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول إلى الناس كافة.

ويشمل ثانياً : عقد العزم على اتباعه حتى لو قصر أو فرط، أما لو اعترف به دون أن يكون عنده نية طاعة فهذا لا يعتبر طاعة؛ ولهذا لما جاء اليهوديان كما في سنن الترمذي وأصله في صحيح مسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أسئلة كثيرة جداً، ففي آخرها: ( قاموا إليه وقبلوا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك لنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما منعكم أن تسلموا ؟ قالوا: إننا قد وعدنا بنبي يبعث في بني إسرائيل، ونريد أن نتبعه ).

فلم يكن اعترافهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة كافياً في الطاعة.

إذاً: قوله: ( فإن هم أطاعوا لذلك ) يعني: أقروا به والتزموه.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً )، والصدقة هي الزكاة يقيناً، فالمقصود هنا الزكاة المفروضة كما بينا، وهكذا لغة القرآن يعبر بالصدقة عن الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ[التوبة:60].

( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ( على فقرائهم) هذا فيه إشارة إلى صنف واحد من أصناف أهل الزكاة وهم الفقراء، وإن كان الله تعالى ذكر في القرآن الكريم أصناف أصحاب الزكاة الثمانية، فهذا لمجرد التمثيل، وأيضاً قوله: ( على فقرائهم ) يقصد به في ظاهر الحال فقراء البلد، وقد تمسك به من قال: بأن الزكاة لا تنقل من بلد إلى بلد كما سوف نبينه.

ثم قال: ( وإياك وكرائم أموالهم ) (وإياك) هذه أداة تحذير، يعني: احذر، ( كرائم أموالهم )، ولابد أن تكون الواو معها، (وإياك وكرائم أموالهم) والكرائم: جمع كريمة، وهو النفيس الغالي من المال، يعني: إذا أخذت الزكاة منهم فلا تذهب إلى أطيب المال، وأفضله، وأنفسه، وأغلاه، فتأخذ منه الزكاة، لا، ولكن خذ الزكاة من جنس المال، إن كان طيباً كله فخذ الطيب، وإن كان وسطاً فخذ الوسط، وإن كان المال كله مراضاً أو صغاراً أو ضعافاً فخذ من سائره، هذا هو المعنى في قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) يعني: لا تأخذ في الزكاة طيب المال، ولكن خذ من جنس المال.

ثم قال: ( واتق دعوة المظلوم )، يعني: تجنبها بترك الظلم، فلا تكن أنت الظالم وهو المظلوم، فتقوى دعوة المظلوم، أي: ألا تفعل ظلماً يوجب أن يدعو المظلوم عليك:

أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم

ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك من الملوم

فقال: (اتق دعوة المظلوم) وهذا شيء عجيب! هو أرسله أميراً أو أرسله قاضياً، وفي ذلك إشارة إلى أن الأمير والقاضي قد يقع منهم ظلم لكثرة ما يترافع إليه الناس، ولسعة سلطانه على الناس، فأوصاه بهذه الوصية الفاذة الشادة الجامعة: (واتق دعوة المظلوم)، وفي بعض الألفاظ قال: ( ولو من كافر )، وهذه عند الإمام أحمد في مسنده، ( ولو من فاجر )، ويغني عن هذه الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )، يعني: ليس بينها وبين الله مانع يمنع من قبولها، أي: لا مانع أبداً من قبول دعوة المظلوم عند الله، وهذا معناه أياً كان هذا المظلوم، فلا شيء يمنع من نفاذ دعوته، ووصولها إلى الله عز وجل، وإجابة الله تعالى لدعائه.

أقوال العلماء في حكم نقل الزكاة من بلد إلى آخر

المسألة الثالثة في الحديث: مسألة حكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد، هل يجوز نقل زكاة البلد إلى بلد آخر؟

طبعاً هنا المقصود بالبلد المدينة، وليس الأمر متعلقاً بالدولة؛ لأن بلاد الإسلام كانت في ذلك الوقت كلها بلداً واحداً، وهكذا عبر العصور الإسلامية في عصور الخلافة الأموية والعباسية كانت كلها بلداً واحداً، يعني:لم تكن شعوباً مختلفة مثل ما يعرف اليوم مصر، العراق، سوريا، لبنان، السعودية، لا، وإن سميت بهذه الأسماء أو بعضها إلا أنها كانت واحدة من حيث التبعية السلطانية السياسية، إنما المقصود بالبلد المدينة أو مجموعة القرى المتقاربة، هذا هو المراد به.

وقد أجمع العلماء على أنه يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر إذا استغنى أهل البلد الذي فيه الزكاة، فهذا مما لا يدخل في الخلاف، كما أنه يمكن أن نقول: أجمعوا أيضاً على أنه إذا كان بلد الزكاة فيه حاجة شديدة فلا يجوز نقل الزكاة إلى بلد آخر غير محتاج، يعني: لا يجوز أبداً أن تنقل زكاة أهل الصومال إلى بلد إسلامي في رغد من العيش، أو زكاة النيجر مثلاً أو البلاد التي فيها مجاعة، فهذا مما لا يدخل -والله أعلم- في أصل الاختلاف، وإنما الأمر فيما إذا كانت الأوضاع عادية.

وقد اختلف العلماء في مسألة نقل الزكاة على أقوال: ‏

القول الأول: عدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر وأدلته

القول الأول منها: أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، بل يجب صرفها في البلد الذي يكون فيه المال ويكون فيه صاحب المال، وهذا قول المالكية والحنابلة.

واحتجوا بحديث الباب، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) مرجع الضمير إلى البلد الذي بعث إليه؛ ولذلك قالوا: لا يجوز أن يتجاوز بها فقراء البلد أنفسهم.

وهكذا أيضاً مما يدل على ذلك حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: ( أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو الذي يأتي على الصدقة، مبعوث الصدقة، الساعي- فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائنا فيردها في فقرائنا، قال: وكنت غلامًا يتيمًا فأعطاني قلوصًا منها )، هذا أبو جحيفة، والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

فحديث أبي جحيفة يدل على ما دل عليه حديث معاذ بن جبل من وجوب إعادة الزكاة في فقراء البلد ذاته ونفسه.

القول الثاني: جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر وأدلته

القول الثاني في المسألة : أن ذلك جائز، أنه يجوز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وهذا قول للشافعية يعني: هو أحد أقوال الشافعية، وهو أيضاً قول للمالكية، واختاره الإمام البخاري صاحب الصحيح أنه لا بأس أن تنقل زكاة البلد إلى بلد آخر.

واحتج هؤلاء: أولاً: بعموم النصوص الآمرة بالزكاة، مثل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، أو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس، وذكر منها: إيتاء الزكاة ).

أو غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر بإخراج الزكاة أو بإيتاء الزكاة أو بإعطاء الزكاة في القرآن أو في الحديث، ولم يحدد أنها تعطى في البلد ذاته، فقالوا: هذا دليل على أنه إذا أدى الزكاة في البلد أو في غير البلد أن ذلك سواء، هذا دليل.

ومن أدلتهم أيضاً: قصة طاوس بن كيسان، وقد روى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول لأهل اليمن: (ائتوني بثياب لبيس أو خميص هي أرفق عليكم وخير لأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام)، فقالوا: إن هذا النص دليل على أن معاذاً كان يأخذ الزكاة من أهل اليمن، ويطلب منهم أن يعطوه ثياباً أو شيئاً من هذا القبيل، وأنها أرفق بهم، ويذهب بها إلى المدينة يوزعها على فقراء المدينة، وهذا الأثر عن طاوس في قصة معاذ ذكره البخاري في صحيحه معلقاً، وفي سنده انقطاع بين طاوس ومعاذ، فهو مما يطلق عليه أنه مرسل، يعني: ليس متصل الإسناد، وبهذا أعله قوم.

وقال آخرون: إن المقصود بما كان يطلبه من أهل اليمن الجزية، وليس الزكاة.

والأقرب: أن الأمر لم يكن متعلقاً بالجزية، وإنما كان متعلقاً بالزكاة، وأيضاً أن الحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه يعتضد بالعمل، فإن العمل كان على ذلك، وهذا هو الدليل الثالث في جواز إخراج الزكاة أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون بصدقاتهم أحياناً إلى المدينة النبوية، كان الأعراب وغيرهم يأتون بصدقاتهم إلى المدينة النبوية لكثرة من يكون فيها من المحتاجين والفقراء كأصحاب الصفة وغيرهم.

والدليل الرابع : أن ذلك هو عمل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن ذلك: [ أن عمر كان يبعث إلى الأنصار خصوصاً في زمن المجاعة، ويقول: أدركونا.. أدركونا، فيبعثون بصدقاتهم وزكواتهم إلى المحتاجين في المدينة وما حولها ].

إذاً: القول الثاني أن صرف الزكاة في غير البلد لغير فقراء البلد جائز.

ويمكن أن أضيف دليلاً خامساً لم أر من ذكره بخصوص هذه المسألة، وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، والحديث الآخر في الصحيح أيضاً: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) .

فهذا يتعزز به في جواز نقل الزكاة إلى بلد آخر.

القول الثالث: جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر مع الكراهة

القول الثالث: أن ذلك جائز ولكنه مكروه، وهذا مذهب أبي حنيفة والليث بن سعد من فقهاء المدينة، والحسن البصري وغيرهم، وكأنهم أرادوا بهذا القول أن يجمعوا بين أدلة القائلين بالمنع وأدلة القائلين بالجواز كما أسلفنا.

القول الرابع: جواز نقل الزكاة لولي الأمر أو نائبه

القول الرابع: وهو قول الشافعية أن ذلك جائز لولي الأمر، يعني: يجوز للحاكم أو الإمام أن ينقل الزكاة لما يرى من المصلحة في ذلك، أما إذا كان مخرج الزكاة هو صاحب المال فليس له أن ينقلها.

الراجح في مسألة نقل الزكاة من بلد إلى آخر

والذي يظهر ويترجح من هذه المسألة والله أعلم: أن الأولى أن تصرف الزكاة في بلد المال الذي هو فيه، لحاجة الناس، ولمعرفة الناس بهذا المال، فتتطلع نفوسهم إليه، فهذا هو الأولى، ولكن يجوز نقل الزكاة إلى بلد آخر إذا كان في ذلك مصلحة أو كان له حاجة، بل قد يكون نقلها أحياناً أولى، مثل ما إذا كان أهل البلد حاجتهم ليست بذاك، ويوجد في بلاد أخرى من هو أحوج، فإنه حينئذٍ يكون نقلها أولى وأدعى إلى تحقيق مقصد الزكاة.

ومثل ذلك أيضاً: إذا نقلها لأقارب محتاجين، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الزكاة على القريب: ( إنها صدقة وصلة )، كما في حديث ابن مسعود وأم سلمة وغيرهما.

فإذا كان نقلها لأقارب محتاجين ولو كانوا في غير البلد، ومثل ذلك أيضاً: إذا كان هناك مجاعة، فيتعين نقلها مثل وجود وحصول المجاعات الموجودة اليوم في العالم الإسلامي، وقد أشرنا إلى طرف منها أمس في الصومال، أو في بنجلاديش، أو في أفغانستان، أو في غيرها من بلاد المسلمين التي تعيش حالة من الفقر وشظف العيش والمجاعة.

ومثل ذلك إذا كان نقلها لما هو أنفع، مثل نقل الزكاة لطلبة العلم، والمقصود بطلبة العلم سواء كانوا طلبة علم شرعي يتعلمون القرآن والحديث والسنة ويعلمون الناس، أو كانوا طلبة علم دنيوي مما يحتاج إليه الناس، فإن الإسلام أيضاً يحرض المسلمين على أن يتعلموا، وأن يكونوا علماء في الطب، وفي الهندسة، وفي الإدارة، وفي الاقتصاد، وفي غيرها، حتى لا يكونوا عالة على غيرهم، أو يصبحوا جهالاً في عالم لا يعترف إلا بالمعلوم.

إذاً: إذا كان نقل الزكاة لمثل هذه المقاصد والأغراض فهو جائز.

فوائد الحديث

النقطة الرابعة في حديث ابن عباس رضي الله عنه، هي: الفوائد المستنبطة من الحديث، وقد أشرت إلى طرف منها أثناء العرض:

من فوائد الحديث: فضيلة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنها مهمة الأنبياء والمرسلين والصحابة والعلماء.

ومنها: قضية البداءة بتعليم الإيمان، والدعوة إليه، والتحريض عليه؛ لأنه لا يصح عمل إلا به.

ومنها: قضية التدرج، والتدرج أمر ثابت في كل شيء، النبي صلى الله عليه وسلم أثبته هنا في الدعوة، مع أن الدين كان كاملاً لما بعث معاذ بن جبل في السنة العاشرة، وإنما تدرج في دعوتهم، فهكذا اليوم نحن ينبغي أن نتدرج في دعوة الناس؛ لأنك إذا أعطيتهم الأوامر كلها دفعة واحدة ربما ثقلت عليهم وعجزوا عنها وتركوها، ولا شك أن ثمة فرقاً بين الركن وبين الواجب وبين المستحب؛ ولذلك فإن الداعية عليه أن يتدرج في إيصال الدعوة إلى الآخرين.

ومن ذلك: معرفة أحوال المدعوين.

ومنها: وجوب الزكاة، وأنها من أركان الإسلام.

ومنها: أن الزكاة ينبغي أن تصرف للمستحقين من أهل البلد.

ومنها: تحريم الظلم، وبيان مغبة عاقبته.

ومنها: دعوة المظلوم، وأنها تستجاب.

ومنها: وجوب العدل حتى مع غير المؤمنين. وفوائد الحديث كثيرة هذه بعضها.

المسألة الأولى: ما يتعلق بتخريج الحديث: فالحديث متفق عليه كما ذكر المصنف، فقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه، رواه في كتاب الزكاة، ورواه أيضاً في كتاب المغازي، وفي كتاب التوحيد، كعادة البخاري في تكرار الحديث، وأخذ أجزاء متفرقة منه بغرض التفقه منها.

وقد رواه مسلم أيضاً في كتاب الإيمان، لما فيه من ذكر الإيمان بالله في أوله: ( أن يؤمنوا بالله )، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه كلهم في كتاب الزكاة .

إذاً: يصح أن نقول عن هذا الحديث: إنه حديث رواه الستة، وهو مصطلح يطلقه المصنف رحمه الله على الصحيحين والسنن الأربع، فالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه؛ يعبر عنه عادة بأنه رواه الستة، فإذا أضيف إليهم الإمام أحمد قيل: رواه السبعة.

وهذا الحديث أيضاً رواه الإمام أحمد، فيصح أن يقول المصنف عنه بدلاً من قوله: متفق عليه، يصح أن يقول: رواه السبعة.

وقد روى الحديث أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والدارمي، وأبو عوانة في مسنده وغيرهم من الأئمة، فهو حديث صحيح مشهور.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4734 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4201 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4082 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3888 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع