شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 591-595


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم السلام عليكم.

أما بعد:

فهذا يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر جمادى الثانية من سنة (1427) للهجرة، ورقم هذا الدرس (199) من شرح بلوغ المرام، وإن شاء الله غداً نكمل المائتين، وتعرفون أن بداية هذا الدرس كانت قديمة, يمكن (1410 تقريباً), يعني أصبح له الآن ما يزيد على سبع عشرة سنة، والحمد لله أنا أؤمن دائماً وأبداً بأن الإنسان يواصل، إذا بدأ في شيء يكمله، مهما كانت العثرات والعوائق والتوقفات والأحوال، إلا أن الإكمال جيد.

إذا قلت في شيء (نعم) فأتمه فإن (نعم) دين على الحر واجب

وإلا فقل (لا) تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب

الإنجاز دائماً قرين المثابرة، كما يقولون: المثابرة زوجة كل ناجح، كما أنها طليقة كل الفاشلين .

فعلى الإنسان دائماً أن يتعلم المثابرة والمواصلة.

بالأمس أخذنا خمسة أحاديث تتعلق بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة, وذكرنا الخلاف فيها، وتتعلق أيضاً بالدعاء الوارد في صلاة الجنازة, بماذا يدعو، وذكرنا نوعين من الأدعية الواردة, ( اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله )، هذا واحد, وهو أصح.

والثاني: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا, وحاضرنا وغائبنا, وصغيرنا وكبيرنا, وذكرنا وأنثانا).

اليوم عندنا الحديث رقم (569), وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، والحديث متفق عليه, وهو حديث عظيم.

تخريج الحديث

أولاً: ما يتعلق بالتخريج، فقد رواه الأئمة في كتبهم: الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه , يعني: أصحاب الكتب الستة كلهم رووه في كتاب الجنازة, باب: الإسراع بالجنازة.

إذاً: الحديث متفق عليه كما يقول المصنف. ونحن نقول: رواه الستة, وأيضاً رواه الإمام أحمد في مسنده , فيصح أن نقول: رواه إذاً السبعة، وقد رواه أيضاً الإمام مالك في الموطأ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما , والطحاوي وغيرهم. هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

معاني ألفاظ الحديث

النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث. قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ), أسرعوا: مأخوذ من السرعة, والإسراع هو ضد البطء، لكن في قوله: ( أسرعوا ) مبحثان:

المبحث الأول: هل المقصود الإسراع بتجهيز الجنازة، أو المقصود الإسراع بالمشي إذا حملوها؟

الأمر محتمل؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ) يحتمل أن يكون: أسرعوا بها إذا حملتموها على أكتافكم إلى القبر بعد الصلاة عليها، ويدل على ذلك قوله في الحديث: ( وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، يعني: عن أكتافكم، فهذا ظاهره قد يدل على أن المقصود بالإسراع هنا الإسراع بها عند حملها بعدما صلي عليها عندما يذهبون بها إلى المقبرة.

ويحتمل أن يكون المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها بعد الموت، بما يشمل الإسراع بغسلها وتكفينها والصلاة عليها في أقرب وقت، ثم الإسراع بها في المشي، وبناءً عليه يكون هذا المفهوم أوسع من الأول أو لا؟ يكون أوسع، يعني: أسرعوا بها منذ ماتت إلى أن تدفنوها. وهذا المعنى أوجه وسوف نشير إليه بعد قليل إن شاء الله تعالى. إذاً هذا بحث!

المبحث الثاني: ما المقصود بالإسراع عند حمل الجنازة؟ هل المقصود بالإسراع الإسراع الشديد أم الإسراع المعتدل والمشي السريع؟ يعني: هل المقصود الركض بها، أو المقصود المشي السريع؟

المقصود المشي السريع المعتدل, الذي لا يشق على الذين يتبعون الجنازة، وليس المقصود بالإسراع الركض أو الخبب الفاحش, الذي يؤذي من يتبعون الجنازة .

وأيضاً سوف نزيد هذا الأمر وضوحاً إن شاء الله.

( أسرعوا بالجنازة )، والجنازة المقصود بها الميت، وكأنه نزل هذا اللفظ منزلة الإنسان، ولهذا قال: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها )، وجعل الضمير ضمير مؤنث, يعني: يعود الضمير على الجنازة سواءً كانت جنازة ذكر أو أنثى، قال: ( فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ).

قوله: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ) هذا فيه حذف أكيد، فالمبتدأ محذوف مقدر، يعني: فالأمر خير تقدمونها إليه، أو ما أشبه ذلك.

وهكذا قوله: ( فشر تضعونه )، هذا فيه حذف, وهو خبر لمبتدأ محذوف, يعني: تقديره: فهو شر تضعونه عن رقابكم, أو فهي -يعني: الجنازة- إما أن نقول: (فهو) يعني: الميت، أو (فهي) يعني: الجنازة, (شر تضعونه عن رقابكم).

إذاً: قوله: فخير يعني: فالأمر خير أو فهو خير تقدمونها إليه. وكذلك فشر فيه حذف, تقديره فهو شر أو فهي شر تضعونه عن رقابكم.

وقوله أيضاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك )، كان من الممكن أن يكون التعبير في الحديث: إن تك صالحة فخير، وإن تك فاسدة؛ لأن مقابل الصلاح الفساد، فلماذا النبي صلى الله عليه وسلم اختار قوله: (سوى ذلك)؟

وهو دليل على اختيار الألفاظ الحسنة، فبدلاً من أن يقول: فاسدة أو شريرة قال: (سوى ذلك). وهذا نوع من التعبير الحسن عن المعنى السيئ، وهذا في القرآن الكريم كثير, مثل قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، قال المفسرون: لما كان الأمر شراً لم ينسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما قالوا: أريد, وجعلوا الفاعل مجهولاً، لكن لما صار خيراً، قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

فمن تعليم الشريعة أن الإنسان يحسن انتقاء الألفاظ والعبارات بالتعبير حتى عن المعاني السيئة، وهذا من الأدب والذوق أن يقول الإنسان مثل هذا المعنى، لم يقل: وإن تكن فاسدة، وإن كان هو المراد، وإنما قال: ( وإن تك سوى ذلك ) يعني: غير صالحة، واللغة العربية حمالة أوجه، كما يقولون.

تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فالإنسان إذا أراد أن يعبر عن العسل عبر عنه بالعسل أو مجاج النحل أو غير ذلك من الألفاظ الجميلة، وإذا أراد أن يعبر عنه بسوء قال: هذا قيء الزنابير, والأمر واحد، وإنما التعبير مختلف.

المقصود بالإسراع بالجنازة

النقطة الثالثة: مسائل في الحديث، والمسألة الأولى: ما المقصود بالإسراع:

وجمهور أهل العلم يقولون: إن المقصود بالإسراع هو سرعة المشي حين حمل الجنازة، ويحتجون بقوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم )، مما يدل على أن الأمر يتعلق بحمل الجنازة، هذا قول.

والقول الثاني: أن المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها وتهيئتها, يعني: الإسراع بكل ما يتعلق بحال الميت، وهذا ذكره ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما، وقال النووي عن هذا القول: إنه باطل ومردود، واحتج بظاهر الحديث الذي ذكرناه.

والواقع أن ما ذكره أو مال إليه ابن بطال والقاضي عياض وجيه, ولا يتعارض مع ظاهر الحديث، وكون الإمام النووي رحمه الله يقول: قول باطل ومردود - يعني: أخذاً بظاهر الحديث- فيه غرابة، فإن القول ليس شديد الضعف، وإنما القول له وجاهة جداً:

أولاً: أن قوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم ), ليس نصاً في الحمل، فإن مسألة الرقاب هذه تستخدم كثيراً في اللغة, تقول: فلان في رقبته دين مثلاً, في رقبته دين أو حق أو غرم، ولا يعني أنه يحملها على رقبته، وإنما المقصود الحمل المعنوي وليس الحمل الحسي، إذاً: هذا وجه, يدل على أن أمر الحديث ليس نصاً.

ثانياً: نقول: ليس كل الذين يتبعون الميت يحملونه على رقابهم، وإنما الذي يحمله منهم فئة خاصة منهم، وأما الأكثرون فإنهم يتبعونه من دون حمل، والخطاب هو خطاب للعام وليس خطاباً للخاص.

أيضاً: يقوي هذا الاختيار الذي ذهب إليه ابن بطال وعياض وغيرهما: أن المقصود الإسراع العام أن ثمة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا ينبغي لجثة أو لجيفة امرئ مسلم أن يحبس بين ظهراني أهله ). أو: ( إذا مات امرؤ مسلم فلا تحبسوا جيفته بين ظهراني أهله ). وهذا الحديث رواه أبو داود, وقال الحافظ ابن حجر: إن إسناده صحيح. فنقول: إن قوله: ( لا ينبغي لجيفة امرئ مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله )، دليل على أن الإسراع عام, يشمل الإسراع بالتجهيز والإسراع بالصلاة في أقرب وقت صلاة، والإسراع بالدفن.

وهو عام أيضاً؛ فإن حديث الباب يدل على هذا المعنى وعلى غيره، ولكن لا ينبغي قصر الإسراع على الإسراع بالجنازة.

إذاً: هذه نقطة تتعلق بالإسراع ومعناه واختلاف العلماء فيه.

حكم الإسراع بالجنازة

النقطة الثانية: تتعلق بحكم الإسراع بالجنازة:

وهذا أيضاً نقول: إن جمهور أهل العلم يقولون: إن الإسراع بالجنازة سنة، ويرون أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله: ( أسرعوا بالجنازة ) أنه أمر إرشاد, كما ذكرنا في غير موضع.

والدليل على أنه أمر إرشاد التعليل الوارد فيه، فإنه حين يقول مثلاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

هذا يدل على أن الأمر يتعلق بأفضلية واستحباب، والأمر هنا وإن كان لا يوجد صارف مباشر له، إلا أن موضوع الأمر يدل على أنه للاستحباب، ولهذا ذهب الجمهور وهو المشهور عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أنه يستحب الإسراع في الجنازة، وهذه نصوصهم في الباب.

في المسألة قول آخر للإمام ابن حزم أنه يقول: يجب الإسراع بالجنازة وجوباً, ويحتج للوجوب بظاهر حديث الباب أنه أمر: (أسرعوا). والأمر يقتضي الوجوب, ولا يوجد له صارف، وبناءً عليه ذهب ابن حزم للوجوب.

ونقول نحن جواباً على هذا: أولاً: فيما يتعلق بالصارف فإن التعليل يدل على نوع من الصرف عن الوجوب.

ثانياً: سبق أن قررنا وبينا موضوع دلالة الأمر والنهي.. هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ فإذا كان الأمر في مسألة تعبدية محضة فالأصل أنه للوجوب، وإن كان في مسألة إرشادية فالأصل أنه للاستحباب، وهذا الباب الذي نحن فيه الأقرب أنه للإرشاد؛ لأنه لا يتعلق بعبادة مباشرة كصلاة أو غيرها.

الأمر الثالث: أننا نقول: إنه حكى غير واحد الإجماع على أن الإسراع للاستحباب وليس للوجوب، وقد نص ابن قدامة على هذا, قال: إنه للاستحباب بغير خلاف نعلمه، ولكن رأي ابن حزم لا شك أنه رأي معتبر مع أننا نقول كما حكى غير واحد: إنه قول شاذ, كما ذكر العراقي في طرح التثريب , وكذلك ذكر الشوكاني، مع أن الشوكاني رحمه الله يميل إلى رأي ابن حزم في مسائل عديدة, ويأخذ بظاهريته في مسائل، ولكنه ذكر أن هذا القول بالوجوب قول شاذ.

فوائد الحديث

ما يتعلق بفوائد الحديث: فيه أولاً: مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وفيه: مشروعية المبادرة إلى الخير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ) . مشروعية المبادرة إلى الخير من الحي قبل الميت، ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: (( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ))[البقرة:148]، وقال: (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ))[الحديد:21]. فيبادر الإنسان إلى الخير, يبادر إلى طلب العلم, يبادر إلى الحفظ، يبادر إلى العمل الصالح؛ لأنه لا يدري متى يحال بينه وبين ذلك، إما بعجز يعتريه هو, أو بفتور همة, أو بذهاب هذا الخير الذي كان الإنسان يحاوله ويؤجل ويسوف، ومن هذا ما يتعلق مثلاً ببر الوالدين، فالمبادرة في البر مطلوب، لأنه قد يحال بينك وبينه، فتصبح أنت عاجزاً بآفة أو سبب أو بُعد، وقد يحال بينك وبين ذلك برحيل الأبوين، ولهذا جاء: ( الوالد أوسط أبواب الجنة )، فإذا مات الوالد أغلق باب من أبواب الجنة، كما جاء في الحديث. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر ثم لم يدخلاه الجنة ). فالمبادرة إلى أعمال الخير مشروع. أيضاً من فوائد الحديث: مشروعية التعبير الحسن عن المعاني المذمومة كما ذكرنا. من فوائد الحديث: كراهية صحبة الأشرار، ونأخذها من قوله: ( إن كانت سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، فإذا كان الشرير حتى وهو ميت، يطلب الخلاص منه وهو لا يضرك لعجزه، فكذلك إذا كان حياً فالخلاص منه أولى؛ لئلا يصحب الإنسان الأشرار, وكما قيل: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي فهنا نقول: إن من فوائد الحديث: مشروعية صحبة الأخيار وتجنب الأشرار، وأيضاً: الأخيار قد يكونون من البشر وقد يكونون من الملائكة، والأشرار قد يكونون من البشر وقد يكونون من الشياطين، فيتجنب الإنسان الأعمال التي تجعل الشياطين تلابسه, مثل الوقوع في المحرمات والموبقات والشهوات، والغفلات الشديدة المردية التي تفضي بالإنسان إلى أن تتسلط عليه الشياطين, كما قال الله عز وجل: (( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ))[المجادلة:19]. ولهذا سماهم حزبه، لأنهم كأنه تفرد بهم.

أولاً: ما يتعلق بالتخريج، فقد رواه الأئمة في كتبهم: الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه , يعني: أصحاب الكتب الستة كلهم رووه في كتاب الجنازة, باب: الإسراع بالجنازة.

إذاً: الحديث متفق عليه كما يقول المصنف. ونحن نقول: رواه الستة, وأيضاً رواه الإمام أحمد في مسنده , فيصح أن نقول: رواه إذاً السبعة، وقد رواه أيضاً الإمام مالك في الموطأ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما , والطحاوي وغيرهم. هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث. قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ), أسرعوا: مأخوذ من السرعة, والإسراع هو ضد البطء، لكن في قوله: ( أسرعوا ) مبحثان:

المبحث الأول: هل المقصود الإسراع بتجهيز الجنازة، أو المقصود الإسراع بالمشي إذا حملوها؟

الأمر محتمل؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ) يحتمل أن يكون: أسرعوا بها إذا حملتموها على أكتافكم إلى القبر بعد الصلاة عليها، ويدل على ذلك قوله في الحديث: ( وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، يعني: عن أكتافكم، فهذا ظاهره قد يدل على أن المقصود بالإسراع هنا الإسراع بها عند حملها بعدما صلي عليها عندما يذهبون بها إلى المقبرة.

ويحتمل أن يكون المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها بعد الموت، بما يشمل الإسراع بغسلها وتكفينها والصلاة عليها في أقرب وقت، ثم الإسراع بها في المشي، وبناءً عليه يكون هذا المفهوم أوسع من الأول أو لا؟ يكون أوسع، يعني: أسرعوا بها منذ ماتت إلى أن تدفنوها. وهذا المعنى أوجه وسوف نشير إليه بعد قليل إن شاء الله تعالى. إذاً هذا بحث!

المبحث الثاني: ما المقصود بالإسراع عند حمل الجنازة؟ هل المقصود بالإسراع الإسراع الشديد أم الإسراع المعتدل والمشي السريع؟ يعني: هل المقصود الركض بها، أو المقصود المشي السريع؟

المقصود المشي السريع المعتدل, الذي لا يشق على الذين يتبعون الجنازة، وليس المقصود بالإسراع الركض أو الخبب الفاحش, الذي يؤذي من يتبعون الجنازة .

وأيضاً سوف نزيد هذا الأمر وضوحاً إن شاء الله.

( أسرعوا بالجنازة )، والجنازة المقصود بها الميت، وكأنه نزل هذا اللفظ منزلة الإنسان، ولهذا قال: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها )، وجعل الضمير ضمير مؤنث, يعني: يعود الضمير على الجنازة سواءً كانت جنازة ذكر أو أنثى، قال: ( فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ).

قوله: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ) هذا فيه حذف أكيد، فالمبتدأ محذوف مقدر، يعني: فالأمر خير تقدمونها إليه، أو ما أشبه ذلك.

وهكذا قوله: ( فشر تضعونه )، هذا فيه حذف, وهو خبر لمبتدأ محذوف, يعني: تقديره: فهو شر تضعونه عن رقابكم, أو فهي -يعني: الجنازة- إما أن نقول: (فهو) يعني: الميت، أو (فهي) يعني: الجنازة, (شر تضعونه عن رقابكم).

إذاً: قوله: فخير يعني: فالأمر خير أو فهو خير تقدمونها إليه. وكذلك فشر فيه حذف, تقديره فهو شر أو فهي شر تضعونه عن رقابكم.

وقوله أيضاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك )، كان من الممكن أن يكون التعبير في الحديث: إن تك صالحة فخير، وإن تك فاسدة؛ لأن مقابل الصلاح الفساد، فلماذا النبي صلى الله عليه وسلم اختار قوله: (سوى ذلك)؟

وهو دليل على اختيار الألفاظ الحسنة، فبدلاً من أن يقول: فاسدة أو شريرة قال: (سوى ذلك). وهذا نوع من التعبير الحسن عن المعنى السيئ، وهذا في القرآن الكريم كثير, مثل قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، قال المفسرون: لما كان الأمر شراً لم ينسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما قالوا: أريد, وجعلوا الفاعل مجهولاً، لكن لما صار خيراً، قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

فمن تعليم الشريعة أن الإنسان يحسن انتقاء الألفاظ والعبارات بالتعبير حتى عن المعاني السيئة، وهذا من الأدب والذوق أن يقول الإنسان مثل هذا المعنى، لم يقل: وإن تكن فاسدة، وإن كان هو المراد، وإنما قال: ( وإن تك سوى ذلك ) يعني: غير صالحة، واللغة العربية حمالة أوجه، كما يقولون.

تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فالإنسان إذا أراد أن يعبر عن العسل عبر عنه بالعسل أو مجاج النحل أو غير ذلك من الألفاظ الجميلة، وإذا أراد أن يعبر عنه بسوء قال: هذا قيء الزنابير, والأمر واحد، وإنما التعبير مختلف.

النقطة الثالثة: مسائل في الحديث، والمسألة الأولى: ما المقصود بالإسراع:

وجمهور أهل العلم يقولون: إن المقصود بالإسراع هو سرعة المشي حين حمل الجنازة، ويحتجون بقوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم )، مما يدل على أن الأمر يتعلق بحمل الجنازة، هذا قول.

والقول الثاني: أن المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها وتهيئتها, يعني: الإسراع بكل ما يتعلق بحال الميت، وهذا ذكره ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما، وقال النووي عن هذا القول: إنه باطل ومردود، واحتج بظاهر الحديث الذي ذكرناه.

والواقع أن ما ذكره أو مال إليه ابن بطال والقاضي عياض وجيه, ولا يتعارض مع ظاهر الحديث، وكون الإمام النووي رحمه الله يقول: قول باطل ومردود - يعني: أخذاً بظاهر الحديث- فيه غرابة، فإن القول ليس شديد الضعف، وإنما القول له وجاهة جداً:

أولاً: أن قوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم ), ليس نصاً في الحمل، فإن مسألة الرقاب هذه تستخدم كثيراً في اللغة, تقول: فلان في رقبته دين مثلاً, في رقبته دين أو حق أو غرم، ولا يعني أنه يحملها على رقبته، وإنما المقصود الحمل المعنوي وليس الحمل الحسي، إذاً: هذا وجه, يدل على أن أمر الحديث ليس نصاً.

ثانياً: نقول: ليس كل الذين يتبعون الميت يحملونه على رقابهم، وإنما الذي يحمله منهم فئة خاصة منهم، وأما الأكثرون فإنهم يتبعونه من دون حمل، والخطاب هو خطاب للعام وليس خطاباً للخاص.

أيضاً: يقوي هذا الاختيار الذي ذهب إليه ابن بطال وعياض وغيرهما: أن المقصود الإسراع العام أن ثمة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا ينبغي لجثة أو لجيفة امرئ مسلم أن يحبس بين ظهراني أهله ). أو: ( إذا مات امرؤ مسلم فلا تحبسوا جيفته بين ظهراني أهله ). وهذا الحديث رواه أبو داود, وقال الحافظ ابن حجر: إن إسناده صحيح. فنقول: إن قوله: ( لا ينبغي لجيفة امرئ مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله )، دليل على أن الإسراع عام, يشمل الإسراع بالتجهيز والإسراع بالصلاة في أقرب وقت صلاة، والإسراع بالدفن.

وهو عام أيضاً؛ فإن حديث الباب يدل على هذا المعنى وعلى غيره، ولكن لا ينبغي قصر الإسراع على الإسراع بالجنازة.

إذاً: هذه نقطة تتعلق بالإسراع ومعناه واختلاف العلماء فيه.

النقطة الثانية: تتعلق بحكم الإسراع بالجنازة:

وهذا أيضاً نقول: إن جمهور أهل العلم يقولون: إن الإسراع بالجنازة سنة، ويرون أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله: ( أسرعوا بالجنازة ) أنه أمر إرشاد, كما ذكرنا في غير موضع.

والدليل على أنه أمر إرشاد التعليل الوارد فيه، فإنه حين يقول مثلاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

هذا يدل على أن الأمر يتعلق بأفضلية واستحباب، والأمر هنا وإن كان لا يوجد صارف مباشر له، إلا أن موضوع الأمر يدل على أنه للاستحباب، ولهذا ذهب الجمهور وهو المشهور عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أنه يستحب الإسراع في الجنازة، وهذه نصوصهم في الباب.

في المسألة قول آخر للإمام ابن حزم أنه يقول: يجب الإسراع بالجنازة وجوباً, ويحتج للوجوب بظاهر حديث الباب أنه أمر: (أسرعوا). والأمر يقتضي الوجوب, ولا يوجد له صارف، وبناءً عليه ذهب ابن حزم للوجوب.

ونقول نحن جواباً على هذا: أولاً: فيما يتعلق بالصارف فإن التعليل يدل على نوع من الصرف عن الوجوب.

ثانياً: سبق أن قررنا وبينا موضوع دلالة الأمر والنهي.. هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ فإذا كان الأمر في مسألة تعبدية محضة فالأصل أنه للوجوب، وإن كان في مسألة إرشادية فالأصل أنه للاستحباب، وهذا الباب الذي نحن فيه الأقرب أنه للإرشاد؛ لأنه لا يتعلق بعبادة مباشرة كصلاة أو غيرها.

الأمر الثالث: أننا نقول: إنه حكى غير واحد الإجماع على أن الإسراع للاستحباب وليس للوجوب، وقد نص ابن قدامة على هذا, قال: إنه للاستحباب بغير خلاف نعلمه، ولكن رأي ابن حزم لا شك أنه رأي معتبر مع أننا نقول كما حكى غير واحد: إنه قول شاذ, كما ذكر العراقي في طرح التثريب , وكذلك ذكر الشوكاني، مع أن الشوكاني رحمه الله يميل إلى رأي ابن حزم في مسائل عديدة, ويأخذ بظاهريته في مسائل، ولكنه ذكر أن هذا القول بالوجوب قول شاذ.