شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 556-561


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز].

ورقم هذا الدرس (192) من سلسلة: أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الإثنين، العشرون من شهر جمادى الأولى من سنة (1426هـ)، وهذا جامع الراجحي بـبريدة، الدرس ضمن سلسلة دروس الدورة العلمية الرابعة.

(كتاب الجنائز)، وفيه أحاديث كثيرة تصل إلى نهاية خمسمائة وتسعة وتسعين حديثاً، يعني: حوالي أكثر من ستين حديثاً، ولن نستطيع إنجازها في هذه الدورة لكن نأخذ منها ما تيسر، وبإنجاز كتاب الجنائز نكون قد انتهينا من كتاب الصلاة.

علماً أن كتاب الجنائز -كما أسلفت لكم وأشار إليه كثير من المصنفين- أنه كتاب مستقل، حتى في كتب السنة وغيرها، يصنف مستقلاً، وبعضهم يقولون: إن العلماء وضعوا كتاب الجنائز بين الصلاة وبين الزكاة لتعلقه بالبابين معاً؛ والذي يظهر لي أن في هذا نوعاً من التكلف، وأن الصواب أن الجنائز وإن كان كتاباً مستقلاً إلا أنه ملحق بكتاب الصلاة؛ لأن الأصل صلاة الجنازة، وما يذكر بعدها فإنما هو تابع لها .

المصنف رحمه الله ذكر عدداً من الأحاديث:

أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورقمه (534): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت )، وقد عزاه المصنف للترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان .

تخريج الحديث

وهذا الحديث أولاً هو في سنن الترمذي كتاب الزهد باب ذكر الموت، وكذلك هو في النسائي في كتاب الجنائز باب ذكر الموت، وابن ماجه ذكره في الزهد أيضاً، وقد رواه الإمام أحمد وابن حبان -كما أشار المصنف- والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي . ورواه البيهقي -أيضاً- في كتاب شعب الإيمان له وهو كتاب مطبوع.

وهذا الحديث في سنده شيء: فإنه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو بن علقمة وإن كان صدوقاً إلا أن في روايته عن أبي سلمة شيئاً، وقد أعلَّ الإمام أحمد هذا الإسناد، وكذلك أعله الدارقطني بأن محمد بن عمرو بن علقمة أحياناً يروي عن أبي سلمة ويقف، وأحياناً يروي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهو مرة يروي الحديث مرسلاً -يعني: بدون ذكر أبي هريرة - ومرة يرويه متصلاً مسنداً إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأن هذا يكثر في حديثه، وبهذا ضعفوا روايته كهذا الحديث وغيره.

ولذلك الإمام أحمد عدَّ هذا الحديث حديثاً منكراً، وكذلك الدارقطني قال: إنه لا يصح. ولكن كثيراً من أهل العلم صححوا هذا الحديث أو حسنوه، وممن ذكر المصنف أنه صححه: ابن حبان، وكذلك ذكرنا أن الحاكم صححه وقال: على شرط الشيخين. وهكذا وافقه الذهبي على ذلك. والترمذي مثل ذلك والنووي والألباني .. وغيرهم.

وأقول: لعل الذين صححوا هذا الحديث أو حسنوه صححوه بشواهده وليس بمجرد إسناده، فالحديث له شواهد:

منها: حديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات، فإنه ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا عند سعة إلا ضيقها )، وحديث ابن عمر رواه الطبراني وفي سنده مجهول .

وله شاهد آخر أيضاً عن أنس رضي الله عنه عند الطبراني وأبي نعيم والبزار، وشاهد أنس صححه ابن السكن وحسنه المنذري، والواقع أنه حسن، وإن قيل بضعفه مطلقاً فلا بأس بذلك؛ لأنه ليس له طريق يصح.

وأمثل وأفضل الأحاديث في الباب هو حديث ابن عمر عند الطبراني وفيه مجهول، أما حديث أنس ففيه منكر الحديث، وأما حديث الباب ففيه انقطاع -كما ذكرنا-.

ولكن مما يُسهل الأمر: أن الحديث في باب عام وهو في باب الوعظ والذكر والتخويف، وليس يتعلق به حكم معين، وإن كنت سأذكر ملاحظة في متن الحديث بعد قليل.

معاني ألفاظ الحديث

ما يتعلق بألفاظ الحديث:

فأولاً: الجنائز كما هو عنوان الباب، الجنائز: جمع، والمفرد: جنازة، وتنطق بفتح الجيم وبكسرها. فإذا قلنا: جَنازة أو جِنازة كلاهما صحيح.

وبعض أهل اللغة فرقوا، فقالوا: إن الجِنازة -بالكسر- يطلق على النعش، وأما الجَنازة -بالفتح- فإنه يطلق على الميت نفسه، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الميت فوق النعش. يعني: الميت المسجَّى على النعش يسمى جَنازة بالفتح، وبالكسر جِنازة يطلق على النعش، أو على النعش فوقه الميت، وبعضهم عكس، والأول هو المشهور.

إذاً: هذا هو معنى الجنائز.

وبحث الجنائز في الغالب هو بحث -كما قلت- يدخل فيه جانب التذكير، وجانب أحكام الميت: كالوصية، والصلاة، والدفن، والاستغفار، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة.. وغير ذلك من الأحكام، ويلحق العلماء به الحديث عن وصول الثواب إلى الميت، وما يخفف به عنه، وعذاب القبر.. وغير ذلك من الأحكام.

وقد صنف الشيخ الألباني بالمناسبة رسالة طيبة اسمها: أحكام الجنائز وبدعها، وهو كتاب مشهور طبع طبعات كثيرة جداً، والكتاب جيد، وفيه جهد عظيم، وفي آخره وضع الشيخ ملحقاً ببدع الجنائز، وربما يكون توسَّع في ذكر البدع وألحق منها ما لا يصلح أن يوصف بأنه من البدع، لكن للشيخ رحمه الله طريقته واجتهاده ودقته وحرصه، المهم أن هذا معنى الجنائز.

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى في هذا الحديث: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات )، أكثر العلماء والرواة رووه بالذال المعجمة: (هاذم) بالذال، والهذم: هو القطع، فكأنه يقول: أكثروا ذكر قاطع اللذات، ومعنى كونه قاطعاً للذات يحتمل معنيين:

إما أن يكون المعنى أن مجيء الموت ينهي اللذة، فإن الناس مهما تمتعوا إذا جاء الموت حال بينهم وبين ما يشتهون، فيكون الموت قاطعاً لاستمتاعهم ونعيمهم في الدنيا، وهذا واضح.

ويجوز عندي أن يكون للحديث معنى آخر، وهو: أن يكون ذكر الموت هاذماً للذات: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) يعني: الموت ليس فقط بمجيئه يهذم اللذات ولكن مجرد ذكره.

يهذم اللذة يعني: يقطعها، فإن الإنسان إذا كان مسترسلاً في لذة أو نعيم فذكر الموت ربما قطع استمتاعه، وهنا نذكر قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وُسِّع عليه في المال وقُرِّب له يوماً ما طعام فتذكر وبكى وقال أنه ذكر: ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم مصعب بن عمير

-الشهيد- رضي الله عنه فاستشهد فلم يجدوا ما يكفنونه به إلا بردة إذا غطوا بها رأسه ظهرت رجلاه وإذا غطوا رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، قال: ثم خلفنا من بعدهم فأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا ) ولم يأكل حتى رفعت المائدة.

فيجوز أن يكون المعنى إذاً: أن مجرد ذكر الموت يهذم اللذة، والمعنيان قريب من قريب.

وفي الحديث رواية أخرى -وإن لم تكن بالمشهورة- وهي أن (هادم) بالدال، بالدال المهملة، يعني: التي ليس عليها نقطة، فهي من الهدم إذاً هادم اللذات، وهذا أيضاً معنى واضح: أن مجيء الموت يهدم اللذة، كأن اللذة بناء فإذا جاء الموت هدمها وأزالها.

وقد ذكر المعلق رواية أخرى بمعنى: (هازم) بالزاي (هازم اللذات)، والذي يظهر لي أنها تصحيف، وإن كان لو ثبتت الرواية لها معنى ولها وجه، ولكن الأقرب أنها تصحيف، وأكثر الرواة بل وأكثر أئمة اللغة يذكرونه بالذال: (هاذم) كـالخطابي وغيره.

وأما اللذات: فهي جمع لذة وهي المتعة أياً كانت، سواءً كانت بأكل أو شرب أو لهو أو أهل.. أو غير ذلك.

فوائد الحديث

فيما يتعلق بالحديث ففيه عدد من الفوائد: الفائدة الأولى: مشروعية ذكر الموت، وذكر الموت أن يكون على بال الإنسان، والحديث نص -لو صح- في هذا الباب، فإنه أمر بذكره بل أمر بالإكثار من ذكره، ولكن نقول: إنك لو تدبرت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة في البخاري

ومسلم

وغيرهما فإنك لا تجد أمراً بذكر الموت مجرداً، بل في القرآن مثلاً الله سبحانه وتعالى حين يمدح الأنبياء والرسل يقول: (( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ))[ص:46] ماذا؟ (( ذِكْرَى الدَّارِ ))[ص:46] ما قال: ذكرى الموت؛ لأن ذكر الموت مجرداً يمكن أن يكون حسناً ويمكن أن يكون غير ذلك، فإذا كان ذكر الموت على سبيل الاستعداد له، والامتناع عن الذنب، والإقلاع عن المخالفة، فهذا لا شك أنه محمود، وكم من إنسان يوعظ بالموت، سواءً برؤية مشاهد الموتى، أو بتصور الموت، أو باستذكاره، فيقلع عما هو عليه، فهذا وجه محمود، لكن قد يكثر الناس من ذكره -كما أشار الإمام ابن القيم

في زاد المعاد - فيطيلون في كتب الوعظ بذكر ما يفعله الدود في الأجساد، وتصور الإنسان في قبره، وكيف حاله.. إلى غير ذلك من الأشياء التي هي عبارة عن عدمية محضة، قد تورث عند الإنسان نوعاً من الانقباض عن الدنيا، ولكنها لا تفعل عنده نوعاً من الإيجابية والفعل والعمل في هذه الدار. ولذلك يشترك في ذكر الموت أحياناً حتى بعض غير المؤمنين، الكفار مثلاً يقولون: (( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ))[المؤمنون:82]، فهم يذكرونه ويعرفون أنه آت، وكثير من الشعراء الذين يسترسلون، مثلاً أبو العتاهية

كثيراً ما تجد في ديوانه ذكر الموت والحفر والبلاء والدود.. وغير ذلك، ومع هذا تكلم بعض الأئمة والعلماء في سيرته، وبعضهم اتهموه، ولكن نحن نقول: إن هذه التهمة بعيدة ولا دليل عليها والأصل براءة المسلم. لكن يشار إلى أن ذكر الموت مجرداً ليس فيه أجر، يعني: لو أن الإنسان ذكر الموت الموت الموت الموت، لا يكتب له أجر بذكر الموت، وإنما يكتب له أجر بذكر الله.. بقراءة القرآن.. بالصلاة على رسول الله.. بفعل الخير.. وما أشبه ذلك، ويكتب له أجر إذا تذكر الموت على الصفة الشرعية التي أشرنا إليها. كما أن هناك صورة ثالثة غير محمودة يقع فيها من يذكرون الموت وهي: أن يتحول الموت إلى كابوس يسيطر عليهم ويخيفهم، فيصبح الواحد منهم مريضاً بالخوف، وهذا أشرت إليه في محاضرة: (أنا خائف) وزعتها عليكم، وأتمنى أن تسمعوها؛ لأنها مفيدة في هذا الباب وغيره. إن البعض قد يوسوس حتى يتحول إلى نوع من المرض النفسي في تخيل الموت، حتى إنه لا يستطيع أن يأكل جيداً، ولا أن ينام، فيصيبه قلق، ولا أن يستمتع بأهله، ولا أن يعيش مع أطفاله، وكلما اجتمع مع صبيانه تخيل الموت وقد أخذه عنهم وبقي هؤلاء الصبيان أيتاماً فدمعت عينه، وحيل بينه وبين ما هو مشروع، بل قد يترتب على ذلك أن يقصر فيما أوجب الله عليه من الحقوق وغير ذلك. فهذا من التفصيل الذي أردت أن أقوله في موضوع ذكر الموت والوجه المحمود منه والوجه غير المحمود. فهذه إحدى فوائد الحديث. ومن فوائد الحديث: فساد الاسترسال في اللذة: فإن قوله: ( هاذم اللذات )، يدل على أن استرسال الإنسان في اللذة ليس محموداً، الإنسان يتمتع، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وقال سبحانه: (( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الأعراف:32]، لكن لا يسترسل الإنسان وراء ذلك طويلاً، فإن الاسترسال وراء اللذة ربما حال بين الإنسان وبين عمل الخير، أو جعله يتعلق بالحياة الدنيا ويطول أمله فيها؛ ولذلك كان عمر بن الخطاب

رضي الله عنه يكثر أن يستشهد بأبيات من الشعر، يقول: لا شيء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له بأمر ربك لم يعلم بها أحد إلى غير ذلك. وهكذا أيضاً الأئمة، عمر بن عبد العزيز

رضي الله عنه لما ولي الخلافة وكان الشعراء جرت العادة أنهم يهنئون الملوك بالسلطان والرياسة ويقولون قولاً طويلاً، فتغيرت اللهجة؛ لأن عمر

رضي الله عنه كان صاحب زهد وإعراض، فجاءه الشعراء يعرضون عليه معاني أخرى: وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والفلق فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق وغير نفحة أعواد تُشب له وقلَّ ذلك من زاد لمنطلق فلا شك أن الاسترسال وراء اللذة يضر بالإنسان، وأن على المرء أن يداوي قسوة قلبه بتذكر الموت؛ ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بزيارة القبور، كما في حديث مسلم

: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ). ولهذا نقول من فوائد الحديث وهي فائدة صحيحة: مشروعية زيارة القبور؛ لأنها من تذكر الموت، بل هي من أعظم ما يؤمر به من تذكر الموت؛ لأن الإنسان يرى الموت بعينه عياناً بياناً.

وهذا الحديث أولاً هو في سنن الترمذي كتاب الزهد باب ذكر الموت، وكذلك هو في النسائي في كتاب الجنائز باب ذكر الموت، وابن ماجه ذكره في الزهد أيضاً، وقد رواه الإمام أحمد وابن حبان -كما أشار المصنف- والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي . ورواه البيهقي -أيضاً- في كتاب شعب الإيمان له وهو كتاب مطبوع.

وهذا الحديث في سنده شيء: فإنه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو بن علقمة وإن كان صدوقاً إلا أن في روايته عن أبي سلمة شيئاً، وقد أعلَّ الإمام أحمد هذا الإسناد، وكذلك أعله الدارقطني بأن محمد بن عمرو بن علقمة أحياناً يروي عن أبي سلمة ويقف، وأحياناً يروي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهو مرة يروي الحديث مرسلاً -يعني: بدون ذكر أبي هريرة - ومرة يرويه متصلاً مسنداً إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأن هذا يكثر في حديثه، وبهذا ضعفوا روايته كهذا الحديث وغيره.

ولذلك الإمام أحمد عدَّ هذا الحديث حديثاً منكراً، وكذلك الدارقطني قال: إنه لا يصح. ولكن كثيراً من أهل العلم صححوا هذا الحديث أو حسنوه، وممن ذكر المصنف أنه صححه: ابن حبان، وكذلك ذكرنا أن الحاكم صححه وقال: على شرط الشيخين. وهكذا وافقه الذهبي على ذلك. والترمذي مثل ذلك والنووي والألباني .. وغيرهم.

وأقول: لعل الذين صححوا هذا الحديث أو حسنوه صححوه بشواهده وليس بمجرد إسناده، فالحديث له شواهد:

منها: حديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات، فإنه ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا عند سعة إلا ضيقها )، وحديث ابن عمر رواه الطبراني وفي سنده مجهول .

وله شاهد آخر أيضاً عن أنس رضي الله عنه عند الطبراني وأبي نعيم والبزار، وشاهد أنس صححه ابن السكن وحسنه المنذري، والواقع أنه حسن، وإن قيل بضعفه مطلقاً فلا بأس بذلك؛ لأنه ليس له طريق يصح.

وأمثل وأفضل الأحاديث في الباب هو حديث ابن عمر عند الطبراني وفيه مجهول، أما حديث أنس ففيه منكر الحديث، وأما حديث الباب ففيه انقطاع -كما ذكرنا-.

ولكن مما يُسهل الأمر: أن الحديث في باب عام وهو في باب الوعظ والذكر والتخويف، وليس يتعلق به حكم معين، وإن كنت سأذكر ملاحظة في متن الحديث بعد قليل.

ما يتعلق بألفاظ الحديث:

فأولاً: الجنائز كما هو عنوان الباب، الجنائز: جمع، والمفرد: جنازة، وتنطق بفتح الجيم وبكسرها. فإذا قلنا: جَنازة أو جِنازة كلاهما صحيح.

وبعض أهل اللغة فرقوا، فقالوا: إن الجِنازة -بالكسر- يطلق على النعش، وأما الجَنازة -بالفتح- فإنه يطلق على الميت نفسه، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الميت فوق النعش. يعني: الميت المسجَّى على النعش يسمى جَنازة بالفتح، وبالكسر جِنازة يطلق على النعش، أو على النعش فوقه الميت، وبعضهم عكس، والأول هو المشهور.

إذاً: هذا هو معنى الجنائز.

وبحث الجنائز في الغالب هو بحث -كما قلت- يدخل فيه جانب التذكير، وجانب أحكام الميت: كالوصية، والصلاة، والدفن، والاستغفار، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة.. وغير ذلك من الأحكام، ويلحق العلماء به الحديث عن وصول الثواب إلى الميت، وما يخفف به عنه، وعذاب القبر.. وغير ذلك من الأحكام.

وقد صنف الشيخ الألباني بالمناسبة رسالة طيبة اسمها: أحكام الجنائز وبدعها، وهو كتاب مشهور طبع طبعات كثيرة جداً، والكتاب جيد، وفيه جهد عظيم، وفي آخره وضع الشيخ ملحقاً ببدع الجنائز، وربما يكون توسَّع في ذكر البدع وألحق منها ما لا يصلح أن يوصف بأنه من البدع، لكن للشيخ رحمه الله طريقته واجتهاده ودقته وحرصه، المهم أن هذا معنى الجنائز.

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى في هذا الحديث: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات )، أكثر العلماء والرواة رووه بالذال المعجمة: (هاذم) بالذال، والهذم: هو القطع، فكأنه يقول: أكثروا ذكر قاطع اللذات، ومعنى كونه قاطعاً للذات يحتمل معنيين:

إما أن يكون المعنى أن مجيء الموت ينهي اللذة، فإن الناس مهما تمتعوا إذا جاء الموت حال بينهم وبين ما يشتهون، فيكون الموت قاطعاً لاستمتاعهم ونعيمهم في الدنيا، وهذا واضح.

ويجوز عندي أن يكون للحديث معنى آخر، وهو: أن يكون ذكر الموت هاذماً للذات: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) يعني: الموت ليس فقط بمجيئه يهذم اللذات ولكن مجرد ذكره.

يهذم اللذة يعني: يقطعها، فإن الإنسان إذا كان مسترسلاً في لذة أو نعيم فذكر الموت ربما قطع استمتاعه، وهنا نذكر قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وُسِّع عليه في المال وقُرِّب له يوماً ما طعام فتذكر وبكى وقال أنه ذكر: ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم مصعب بن عمير

-الشهيد- رضي الله عنه فاستشهد فلم يجدوا ما يكفنونه به إلا بردة إذا غطوا بها رأسه ظهرت رجلاه وإذا غطوا رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، قال: ثم خلفنا من بعدهم فأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا ) ولم يأكل حتى رفعت المائدة.

فيجوز أن يكون المعنى إذاً: أن مجرد ذكر الموت يهذم اللذة، والمعنيان قريب من قريب.

وفي الحديث رواية أخرى -وإن لم تكن بالمشهورة- وهي أن (هادم) بالدال، بالدال المهملة، يعني: التي ليس عليها نقطة، فهي من الهدم إذاً هادم اللذات، وهذا أيضاً معنى واضح: أن مجيء الموت يهدم اللذة، كأن اللذة بناء فإذا جاء الموت هدمها وأزالها.

وقد ذكر المعلق رواية أخرى بمعنى: (هازم) بالزاي (هازم اللذات)، والذي يظهر لي أنها تصحيف، وإن كان لو ثبتت الرواية لها معنى ولها وجه، ولكن الأقرب أنها تصحيف، وأكثر الرواة بل وأكثر أئمة اللغة يذكرونه بالذال: (هاذم) كـالخطابي وغيره.

وأما اللذات: فهي جمع لذة وهي المتعة أياً كانت، سواءً كانت بأكل أو شرب أو لهو أو أهل.. أو غير ذلك.

فيما يتعلق بالحديث ففيه عدد من الفوائد: الفائدة الأولى: مشروعية ذكر الموت، وذكر الموت أن يكون على بال الإنسان، والحديث نص -لو صح- في هذا الباب، فإنه أمر بذكره بل أمر بالإكثار من ذكره، ولكن نقول: إنك لو تدبرت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة في البخاري

الحديث الذي بعده (535) وهو: حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد قائلاً فليقل: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي ).

تخريج الحديث

والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى والطب باب تمني الموت، وكذلك رواه مسلم في الذكر والدعاء في كراهية تمني المريض للموت، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في باب: ذكر تمني الموت، وأيضاً الإمام أحمد روى الحديث في مسنده.

ولهذا مثل هذا الحديث المصنف رحمه الله وإن قال: متفق عليه، إلا أنه يصح أن نقول: رواه السبعة؛ لأنه رواه مع الشيخين أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد في المسند، فقد خرَّجه السبعة، وغير ذلك أيضاً: ابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني .

شواهد الحديث

والحديث -مع أنه صحيح كما ذكرت- له شواهد:

منها: حديث خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو في المتفق عليه أيضاً: ( أنهم دخلوا عليه يعودونه وهو مريض، فقال: والله لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت لتمنيته )، ثم ذكر قصته في أول الإسلام وآخره.

ومن شواهده أيضاً حديث عن أبي هريرة أو عن سعيد بن عبيد مولى ابن أزهر، والواقع أنه حديث واحد لكن مرة يروى عن سعيد وهو يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت، فإما محسناً فلعله يزداد، أو مسيئاً فلعله ينزع )، لاحظ الفائدة: ( إما محسناً فلعله يزداد ) يعني: يزداد من الإحسان، والحديث في صحيح البخاري وغيره، محسن يعمل صالحاً فلا يتمنى الموت؛ لأن العمر يزيده خيراً، ( أو مسيئاً ) لا يتمنى الموت ( فلعله أن ينزع )، يعني: يتوب من إساءته ومن معصيته.

واللفظ الآخر للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يرجه من قبل أن يأتيه، فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) وهو بهذا اللفظ عند مسلم.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله )، نقول: هذا عموم: (انقطع عمله)، ولكن يستثنى منه ماذا؟ ما جاء في الألفاظ الأخرى مثل قوله: ( انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وهذا المقصود فيه انقطاع ماذا؟ لفظ الحديث: (انقطع عمله)، يعني: العمل الذي مصدره هو، وأما عمل الآخرين فإن الحديث لم يتعرض له، وهذه فائدة، فانقطاع العمل هنا يعني: العمل الذي قام به هو، وأما عمل الآخرين: كدعاء الناس له، أو صدقاتهم عنه.. أو ما أشبه ذلك فهو باب آخر.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) يعني: أن استمرار الإنسان في الحياة وهو مؤمن، الإيمان هو أعظم الطاعات، وما يترتب على ذلك من أداء الصلاة وصوم رمضان والدعاء.. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

معاني ألفاظ الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنين ) التمني معروف: وهو تطلع الإنسان إلى ما يحب في المستقبل مما هو مأمول وممكن .

والحديث نهي: ( لا يتمنين ) وهو نهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، دليل على شدة النهي عن تمني الموت.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لضرٍ نزل به )، الأقرب والله أعلم أن المقصود بالضر هاهنا يعني: الضر الديني أو الدنيوي؟ الدنيوي نعم، يعني: لمرض.. لفقر.. لحاجة.. لمشكلة عائلية.. لهمّ.. لغمّ، أنه لا يتمنى ذلك.

( لضر نزل به ) يعني: من أمر الدنيا مما قد يصيب الناس.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فإن كان لابد فاعلاً ).

قوله: (لا بد) يعني: لا مندوحة، وكان الإنسان لابد داعياً ومتمنياً، يعني: الأفضل أن لا يتمنى قط، ولا يدعو بالموت من قبل أن ينزل به، ولاحظ القيد الذي ذكرناه قبل قليل: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يرجه من قبل أن يأتيه )، فهنا قال: (لا يتمنين)، لكن إذا كان ولا بد وأصر الإنسان علمه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء المأثور، وهو أن يقول: ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي )، وهذه هي الرواية الأوضح، أنه دعا بالحياة: (أحيني) يعني: أبقني حياً، ( ما دامت الحياة )؛ لأنه هو حي؛ ولهذا كان من المناسب أن يقول: (ما دامت)؛ لأنها موجودة فالمقصود استدامتها.

وأما الموت فقال: ( وتوفني إذا كان )، فأتى بأداة الشرط المستقبلة، وهي: (إذا)، إشارة لأن الموت أمر مستقبل لم يقع بعد وقت الدعاء.

حكم تمني الموت

طيب، والحديث فيه مسألة: تمني الموت، وهي مسألة أطال فيها العلماء وتكلموا، وذكروا أحكامها في شرح هذا الحديث، وفي الكتب المخصصة أيضاً، ككتاب القرطبي التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة .. وغيره كثير.

وظاهر الحديث يدل على كراهية تمني الموت لسبب دنيوي.

وذهب بعض أهل العلم إلى تحريم ذلك لظاهر النهي.

وظاهر الحديث يدل على الكراهة؛ لأنه قال في آخر الحديث: ( فإن كان ولا بد )، فدل على أن الأمر ليس نهياً على سبيل الجزم والقطع، وإنما على سبيل الكراهة، فتمني الموت مطلقاً مخالفة لما هو الأفضل والأحسن مما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر أهل العلم أنه يمكن أو يسوغ للإنسان تمني الموت في أحوال:

الحالة الأولى منها: إذا كان ذلك لغرض ديني أو شرعي، أو خشي الإنسان الفتنة على نفسه في الدين فإن هذا لا يمنع من تمني الموت، وقد كان في الدعاء الذي رواه النسائي وغيره وسنده جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الدعاء ومنه: ( أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون )، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا بالقبض عند الفتنة.

والمقصود هنا:

إما أن تكون الفتنة التي تعرض للإنسان في دينه فيحب أن يموت قبل أن يُفتن.

أو الفتنة العامة التي تقع بين الناس: من القتال والاختلاف والتطاحن، والتي يضيع الأمر فيها فلا يعرف الناس الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، ويكون هناك جرأة على الدماء، وهذا من أعظم معاني الفتنة في الإسلام، فلذلك يتمنى الإنسان أو يدعو بالموت عند الفتنة أن يُقبض إلى ربه جل وعز وهو غير مفتون.

وكذلك قد يرى الإنسان أنه وصل إلى حال لا يريد أن ينقص عنها؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال في آخر عمره: (اللهم قد كبرت سني، ورقَّ عظمي، وكثرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع)، فكون عمر رضي الله عنه يدعو بهذا الدعاء -والله أعلم- هذا فيما ظهر لي لأن عمر رضي الله عنه على ما هو عليه من القوة أنه لم يكن يرضى بأقل مما هو يريد ويتمنى، فإذا ضعفت قوته وهو الإمام الخليفة تمنى أن يُقبض على تلك الحال من القوة والاستمساك والالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نُقل هذا عن عمر بن عبد العزيز وعن جماعة من الصحابة والسلف والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقد يُحمل بعض ما ورد على معنى آخر، إما أن يكون لم يبلغه النهي، أو يكون عالماً من نفسه حالة خاصة.. أو ما أشبه ذلك.

الحالة الثانية التي يجوز فيها تمني الموت من غير كراهة: هي ما إذا دنا الموت بالإنسان، إذا دنا الموت من الإنسان فيكون يتمنى أن يقبض على الإسلام، ولعل من هذا الباب قول يوسف عليه الصلاة والسلام: أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

وكذلك نُقل عن جماعة مثل هذا المعنى، ولعل هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي في صحيح مسلم : ( أن المؤمن إذا حضره الأجل أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه )، فيكون في هذه الحالة هو لم يتمن الموت من قبل أن يأتيه، ولكن لما دنا الموت كأنه فرح به، وهذا مشهور عن الصحابة، معاذ رضي الله عنه عندما أصبح قال: ( لا أفلح من ندم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار )، وهكذا عدد من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم مثل هذا المعنى، فهذا مما يستثنى ويدل على الجواز.

فوائد الحديث

من فوائد الحديث: أولاً: النهي عن تمني الموت وأن ذلك مكروه كما ذكرنا. ومن فوائده: جواز تمني الموت إذا كان لخوف الفتنة في الدين كما أسلفنا أيضاً. منه: بيان الدعاء المشروع في مثل هذه الحال وهو: ( اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي ). من ذلك: أن أفضل الأمور هو التفويض إلى الله سبحانه وتعالى، فإن هذا الدعاء إنما فَضُل لكونه يحتمل ويشتمل على التفويض لله؛ لأنه لا يعلم الإنسان أيهما الخير له: الحياة أو الموت، وإن كان ظاهر الحال له شيئاً، وهكذا في كل الأمور، فالإنسان عندما يكون على مفرق طرق قد يرى شيئاً أنه أفضل وخير له، لكن الله يعلم ما لا يعلمه الإنسان؛ ولهذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الاستخارة، كما في حديث جابر

رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري

، وقال حديث جابر

المشهور: ( أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك -إلى قوله-: إن كنت تعلم هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ). فهكذا حديث الباب أنه فوض الأمر إلى الله: إن كنت يا رب تعلم أن موتي خير فعجله، أو حياتي خير فطولها، أو تعلم أن زواجي، أو وظيفتي، أو انتقالي، أو إقامتي، أو بدئي، أو ختامي، أو سفري.. أو غير ذلك من الأشياء، فأحسن ما يكون في الدعاء هو التفويض إلى الله سبحانه وتعالى. من فوائد الحديث وهي فائدة لطيفة: تحريم الانتحار، وكيف؟ ومن أين نأخذ هذه الفائدة؟ نعم. إذا كان مجرد تمني الموت وهو كلام باللسان منهياً عنه، فكيف بأن يتسبب الإنسان في قتل نفسه؟! وهذا من المحرمات بإجماع المسلمين، قال الله عز وجل: (( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ))[النساء:29-30]، فالآية الكريمة دلَّت على تحريم قتل النفس ودلت على تحريم قتل الغير أيضاً. وهكذا الحديث الذي في البخاري

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل أو شاهق -يعني: باختياره- فهو يتردى منه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً ).. إلى غير ذلك من النصوص التي ورد فيها.. حتى الحديث الآخر: ( عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة )، الرجل الذي كانت به جراحة، قال الله تعالى: ( عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ). طيب، هل الانتحار كفر، المنتحر نقول: كافر؟ لا؛ لماذا؟ لأن الانتحار ذنب من الذنوب مثل قتل الغير، قتل الإنسان نفسه مثل قتل الإنسان لأخيه المسلم، هو ذنب، وهو أيضاً كبيرة من كبائر الذنوب ولكن ليس كفراً؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على قاتل نفسه ولكن لم يمنع المسلمين من الصلاة عليه. ولهذا هل يصلى على المنتحر؟ يصلى عليه، في الجملة يصلى عليه، لكن يمكن لأحد أن يترك الصلاة عليه من باب التأديب والزجر للآخرين، وإلا فإنه يصلى عليه مثله مثل أصحاب الذنوب من المسلمين، وهذا معنى وإن كان واضحاً إلا أنه يخفى على بعض الناس. ولا شك أن قتل الإنسان نفسه، واشتهر في هذا الزمن بسبب ضعف الإيمان، وبسبب مؤثرات إعلامية واجتماعية، وبسبب قلة الصبر، وبسبب تباعد الناس فيما بينهم، وعدم دعم ومؤازرة ومساندة بعضهم لبعض.. إلى غير ذلك، لكن فيه عدد من الأمور: الأمر الأول: مخالفة الشريعة، كما قال الله تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ))[النساء:29]، وهو قتل النفس، وهو من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله. الأمر الثاني: ما فيه من الوعيد الشديد أنه في نار جهنم، وأن الله تعالى حرم عليه الجنة، وهذا لا يعني تحريماً مؤبداً ولا يعني تخليداً مؤبداً في النار، ولكن يعني المكث الطويل في النار، ويعني التهديد والزجر. كذلك: أن ذلك دليل على ضعف الإيمان عند صاحبه، فإن المؤمن لا يعدم الصبر؛ ولهذا الإيمان نصف صبر ونصف شكر، ولذلك لا يكون الإيمان إلا بالصبر، وفي الحديث الذي في مسلم

حديث صهيب

: ( عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له -هذا النصف الأول-، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، أيضاً هذا هو النصف الثاني، فإذا الإنسان ما شكر ولا صبر بل تسرع وانتحر؛ فقد ضعف الإيمان عنده جداً. كذلك من آثاره أو علاماته: أن الانتحار يدل على الجبن والسلبية والنقص، فالانتحار كأنه عبارة عن استقالة من الحياة، واحد يقدم استقالته، فنقول: الأمر ليس بيدك، أنت عبد مربوب، الله تعالى هو الذي أوجدك باختياره وليس باختيارك، لم يؤخذ رأيك عندما جئت إلى هذه الدنيا تأتي أو لا تأتي؟ كذلك لا يؤخذ رأيك في الموت، وليس من حقك أن تحدد الوقت الذي تموت فيه، فالانتحار سلبية وجبن وخور وضعف عن مواجهة الحياة وتحمل مسئولياتها وتبعاتها. وأيضاً هو دليل على ضعف العقل؛ لأن الإنسان إذا كان يظن في الانتحار أنه يخرج من آلام الحياة الدنيا، أفلا يخاف أن يكون خروجه إلى ما هو أشد وأعظم وأنكى؟ وإذا كان يطمع في رحمة الله فرحمة الله تعالى تأتيه في الدنيا قبل الآخرة، ورحمة الله قريب من المحسنين، وهو غير محسن . ومع ذلك الحقيقة الانتحار فيه عجب؛ أليس الانتحار دليلاً على فقد الصبر؟ بلى، ومع ذلك انظر: فقد الصبر وأقدم على أعظم عمل وهو قتل النفس، قتل النفس فيما يبدو لك وأنت تفكر بعقلك أنه عمل صعب وشاق، ويحتاج إلى قدر كبير جداً من الصبر والإرادة والقوة والشجاعة حتى يقدم الإنسان عليه، ولكن هذا نوع من الانفصام في شخصية الإنسان في الغالب، أو الإحباط أو وجود اضطراب شديد في نفسيته قد يوصل إلى مثل هذا الأمر. ولهذا أقول: يجب أن نفهم الصبر فهماً جيداً، وأن الصبر هو -كما يقول الإمام ابن القيم

- الإحجام في موضع الإحجام، والإقدام في موضع الإقدام، بعض الناس قد يعجز مثلاً عن أن يصبر على أمر يسير جداً، ومع ذلك يصبر على خوض المعارك ويُقتل فيها، فتتعجب: هذا الإنسان الذي لم يستطع أن يصبِّر نفسه على أمر يسير كيف أقدم على ذلك الأمر الكبير؟! هذا ليس بالضرورة دليلاً على حصول الصبر، لكنه دليل على نوع من الاندفاع غير المنضبط في شيء، والضعف المفرط أيضاً في شيء آخر كما ذكرنا فيما سبق.

والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى والطب باب تمني الموت، وكذلك رواه مسلم في الذكر والدعاء في كراهية تمني المريض للموت، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في باب: ذكر تمني الموت، وأيضاً الإمام أحمد روى الحديث في مسنده.

ولهذا مثل هذا الحديث المصنف رحمه الله وإن قال: متفق عليه، إلا أنه يصح أن نقول: رواه السبعة؛ لأنه رواه مع الشيخين أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد في المسند، فقد خرَّجه السبعة، وغير ذلك أيضاً: ابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني .

والحديث -مع أنه صحيح كما ذكرت- له شواهد:

منها: حديث خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو في المتفق عليه أيضاً: ( أنهم دخلوا عليه يعودونه وهو مريض، فقال: والله لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت لتمنيته )، ثم ذكر قصته في أول الإسلام وآخره.

ومن شواهده أيضاً حديث عن أبي هريرة أو عن سعيد بن عبيد مولى ابن أزهر، والواقع أنه حديث واحد لكن مرة يروى عن سعيد وهو يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت، فإما محسناً فلعله يزداد، أو مسيئاً فلعله ينزع )، لاحظ الفائدة: ( إما محسناً فلعله يزداد ) يعني: يزداد من الإحسان، والحديث في صحيح البخاري وغيره، محسن يعمل صالحاً فلا يتمنى الموت؛ لأن العمر يزيده خيراً، ( أو مسيئاً ) لا يتمنى الموت ( فلعله أن ينزع )، يعني: يتوب من إساءته ومن معصيته.

واللفظ الآخر للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يرجه من قبل أن يأتيه، فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) وهو بهذا اللفظ عند مسلم.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله )، نقول: هذا عموم: (انقطع عمله)، ولكن يستثنى منه ماذا؟ ما جاء في الألفاظ الأخرى مثل قوله: ( انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وهذا المقصود فيه انقطاع ماذا؟ لفظ الحديث: (انقطع عمله)، يعني: العمل الذي مصدره هو، وأما عمل الآخرين فإن الحديث لم يتعرض له، وهذه فائدة، فانقطاع العمل هنا يعني: العمل الذي قام به هو، وأما عمل الآخرين: كدعاء الناس له، أو صدقاتهم عنه.. أو ما أشبه ذلك فهو باب آخر.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) يعني: أن استمرار الإنسان في الحياة وهو مؤمن، الإيمان هو أعظم الطاعات، وما يترتب على ذلك من أداء الصلاة وصوم رمضان والدعاء.. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع