سلسلة السيرة النبوية إسلام هوازن


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني : فترة الفتح والتمكين.

في الدرس السابق تحدثنا عن توزيع غنائم حنين، وعن تقسيم أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعماء مكة وزعماء القبائل العربية المختلفة، وكان كما رأينا توزيعاً سخياً بلغ مائة من الإبل للبعض، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وذكرنا علة ذلك وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد استقرار الدولة الإسلامية، ووازن بين مصلحة هذا الاستقرار، وبين مفسدة حرمان المجاهدين الذين بذلوا الجهد، وكانوا سبباً مباشراً في النصر يوم حنين، فوجد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الموازنة أن استقرار الدولة الإسلامية أثقل، ولذلك أعطى المؤلفة قلوبهم ومنع السابقين، وتفهم كثير من الصحابة هذا الموقف، لكن هذا التفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، وشعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، بينما أعطي من لا يستحق، فهذه المجموعة من الأصحاب هم الأنصار، غضب كثير من الأنصار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الخمس المملوك للدولة، مع أنه أعطى بسخاء مجموعة حديثة الإسلام، ما قدمت شيئاً للإسلام، وما خدمت الدولة الإسلامية خدمة تذكر.

وقبل أن تأخذوا موقفاً من الأنصار، وقبل أن توجهوا اللوم على الأنصار بأي صورة من صور اللوم، فتعالوا بنا نراجع بعض الحقائق التاريخية الهامة:

أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، قبل ظهور الأنصار في الصورة كان المسلمون متشتتين في الأرض، ناس في مكة وناس في الحبشة وناس في غيرها من القبائل، فجعل الله عز وجل الأنصار سبباً في جمع شمل المسلمين، وفي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك عندما استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في مدينتهم، المدينة المنورة.

ثانياً: أخذ الأنصار منذ الأيام الأولى لإسلامهم القرار بمواجهة الأحمر والأسود من الناس، كانوا يعرفون تماماً أن الإسلام يعني: مفارقة العرب قاطبة، يعني: قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، يعني: مواجهة العالم، هكذا كانوا يعرفون، وهكذا أخذوا القرار بمنتهى التشرف القوة.

ثالثاً: أن قيمة المال في عيون الأنصار قليل جداً، بل لعله منعدم، فأحياناً قد لا يرون لأنفسهم حقاً في أموالهم الشخصية، فتجدهم يعطون هذه الأموال للآخرين بطيب نفس، قل أن يوجد مثلهم في البشر، ورأينا كيف كانوا يقسمون الأموال بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، بغض النظر عن الحالة المادية للأنصاري الذي ينفق، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، ووصف الأنصار بصفة الإيثار، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله ويؤثر غيره على نفسه وهو محتاج.

هذه هي نفسية الأنصار بشهادة رب العالمين سبحانه وتعالى.

رابعاً: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا الجانب الأعظم من الجيش في بدء أول مواقع المسلمين، وبدء المسلمين كانوا (313) أو (314) والأنصار كانوا يمثلون ثلثي الجيش تقريباً، (231) من الأنصار، و(83) أو (84) من المهاجرين، واستمر الأمر على ذلك في بقية الغزوات إلا الغزوات المتأخرة التي زاد فيها عدد المسلمين جداً، لكن في الغزوات الأولى كان معظم الجيش من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولديهم من المواقف المشرفة في التاريخ ما لا يحصى، ومن أشهر المواقف موقف أحد، ففي أحد فر بعض المسلمين، وصار إحباط من بعض المسلمين، لكن الثبات كل الثبات كان في جانب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فرأينا في غزوة أحد استشهاد شباب الأنصار حول الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، كانوا واقفين حوله تسعة، سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين: سعد ، وطلحة رضي الله عنهما، مات السبعة كلهم تحت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم، ورأينا أمثلة سعد بن الربيع وحنظلة وأنس بن النضر وعبد الله بن حرام وخيثمة وعمرو بن الجموح وغيرهم.

وشهداء أحد كانوا سبعين، وكان فيهم (66) أنصارياً، يعني نسبة (94%)، بذل، تضحية، جهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس.

خامساً: أن الأنصار على خلاف ما يتوقع الكثيرون، كانت حالتهم المادية فقيرة، وقد ذكرنا هذا الكلام قبل ذلك عندما تكلمنا عن المجتمع المدني الذي هاجر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أوائل عهد المدينة المنورة، مع أن القارئ للسيرة قد يظن الأنصار أغنياء لكثرة عطاء الأنصار وكرم الأنصار، لكن الثابت أن معظم الأنصار كان فقيراً فعلاً، وأن حالة المدينة الاقتصادية كانت منخفضة جداً، وليس أدل على ذلك من مواقف الجوع الكثيرة جداً التي مرت بها المدينة المنورة، ومن أشهرها حصار الأحزاب في أواخر سنة (5)هـ، كانت المدينة في حالة من الفقر الشديد، وبالكاد يأكلون، وأكلهم غير مستساغ أصلاً كما ذكرنا في دروس الأحزاب.

سادساً: أنه بعدما حدثت الأزمة في حنين وفر معظم الجيش نادى رسول لله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الشجرة أهل الحديبية، ثم قصر الدعوة بعد ذلك في الأنصار، قال: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار فالأنصار هم رجال الأزمات، وهم فرسان المواقف الصعبة فعلاً، يا للأنصار! يا للأنصار! قالوا دون تردد: لبيك يا رسول الله! أبشر نحن معك، يا لبيكاه.

ثم عادوا رضي الله عنهم وأرضاهم، ووقفوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقادوا حركة هجوم مضادة على المشركين، فغير الله عز وجل من حال إلى حال، سبحان الله انقلبت الهزيمة إلى نصر، بعد أن جعل الله عز وجل الأنصار سبباً في ذلك.

هذه هي قصة الأنصار، وهذا هو تاريخ الأنصار، منذ إسلام الأنصار وإلى هذه اللحظة إلى يوم حنين، ومكانتهم في الإسلام لا ينكرها أحد.

والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان يفتخر جداً بالأنصار رضي الله عنهم، كان يقول: (الأنصار كرشي وعيبتي) كرش الرجل: أي خاصة الرجل، وعيبة الرجل: أي موضع سر الرجل، ثم قال: (ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).

هذه مقدمة لا بد منها قبل الحديث عن موقف الأنصار من غنائم حنين، وبعد ذلك لنكن واضحين، ضع نفسك مكان الأنصار، بعد كل هذه الشراكة في النصر تاريخاً وواقعاً إذا بثمرات النصر الصعب والتضحية المتكررة توزع على الآخرين؛ لذلك حزن الأنصار حزناً شديداً جداً حتى إن بعضهم قال: إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا؟! هذا الكلام في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.

وفي رواية أخرى قال بعضهم: (يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر دمائهم).

سبحان الله الموقف فعلاً موقف يلفت الأنظار.

وفي بعض الروايات أن الأنصار قالوا: (فإن كان من أمر الله صبرنا، وإن كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه)

فالأنصار بهذا القول يلتزمون بالحدود الشرعية تماماً، هم يقولون: لو كان هذا الأمر من رب العالمين سبحانه وتعالى وحكم الشرع، فلا بد من السمع والطاعة، ولو كان اختياراً بشرياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبناه على هذا الاختيار.

وقبل أن تلوم الأنصار وتعاتبهم على عتبهم للرسول عليه الصلاة والسلام أضرب لك مثلاً يقرب لك موقف الأنصار، ويضعك في داخل هذا الموقف: لو كنت تعمل في شركة، وخدمت في هذه الشركة بكل طاقتك مدة عشر سنين، وقدمت للشركة كل ما تستطيع، والشركة كانت صغيرة في أولها، وبعد ذلك كبرت على كتفيك، ولم تطلب لنفسك في كل تاريخ الشركة أي شيء زائد عن الحد، مع كونك كنت دائماً تعمل أكثر مما يطلب منك، وبعد ذلك مرت الأيام، وجاء من يعمل في الشركة إلى جوارك، فإذا به سيئ الخلق غير منضبط في عمله، يحضر في أوقات ويغيب في أضعاف هذه الأوقات، ويتحدث بالسوء عن صاحب الشركة الذي أنت خدمته بإخلاص طوال السنين العشر السابقة، وبعد ذلك في أواخر السنوات العشر حققت الشركة نجاحاً كبيراً هائلاً، وربحت صفقة كبيرة جداً كنت أنت السبب فيها، وكان الموظف الجديد معوقاً لهذه الصفقة، وبعد أن تمت الصفقة جاء صاحب الشركة فأعطى كل منكما الراتب الشهري الرسمي له، ثم إذا به يعطي الموظف الجديد غير المنضبط نصف مليون جنيه مكافأة، ولم يعطك أنت شيئاً ماذا ستفعل؟

كن صادقاً مع نفسك، وأجب!! ماذا ستفعل؟

بالمناسبة نصف مليون هذا ليس رقماً عشوائياً، لا، كذلك الجمل الواحد في زماننا الآن ثمنه خمسة آلاف جنيه، يعني مائة من الإبل تساوي (500000) جنيه أي: نصف مليون، والأنصاري لم يأخذ سوى راتبه فقط، أخذ جملين، نصيبه الشرعي. وغير ذلك من المؤلفة قلوبهم أخذوا الجملين، فهذه المكافأة المائة من الإبل كانت زيادة على الراتب الشرعي، فماذا تفعل في موقف مثل هذا ؟ حاول أن تجيب، بالتأكيد ستجد نفسك لم تأخذ شيئاً، لم تعترف حتى بالراتب الذي أخذته.

بهذا نستطيع أن نفهم عبارة أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (ولم يعط الأنصار شيئاً)

لأنه بالمقارنة لما أخذه المؤلفة قلوبهم، فكأنهم لم يأخذوا شيئاً، أو أن الأنصار لم يعطوا أي شيء من الخمس المتبقي من الغنيمة الذي وزع على المؤلفة قلوبهم.

الموقف صعب جداً، ونعذر فيه الأنصار تماماً، وأنا أقول: إن الأنصار كانوا في غاية الأدب في هذا الحوار الذي دار بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يعذر الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، ويقدر موقفهم، وسنرى هذا الكلام في الحوار الذي سيأتي.

على الرغم من كل ما ذكرناه، وعلى الرغم من المثل الذي وضحنا به هذه الصورة، فهذا الموقف وهذه الكلمات لم تكن من عامة الأنصار، إنما كانت من بعض شباب الأنصار، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الذي قال هذا الكلام وأعلن بهذا الاعتراض، فقال فقهاء الأنصار وعلماؤهم وسابقوهم: (أما ذوي رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم) يعني: أن هذا الكلام كان من بعض الشباب، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه كما سيتبين في الأحداث القادمة كان موافقاً على هذا الكلام، مع أنه لم يقله، وهذا الكلام واضح في رواية الإمام أحمد رحمه الله: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ فقال سعد : يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي) يعني: أنني أشعر بما يشعرون به وإن كنت لم أقل مثل ما قالوا.

ولا تنسوا أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة، والبشر جبلوا على حب المال، فإذا كان هذا المال حلالاً صرفاً فما المانع من طلبه، وخاصة إذا كانوا يشعرون أنهم هم السبب في تلك الثروة، فلماذا لا يأخذون جزءاً منها.

ثم إن هناك بعداً آخر مهماً جداً وهو أن الأنصار كانوا يخشون أن يتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في مكة المكرمة خير بقاع الأرض، وأحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الآل والعشيرة، وفيها الطفولة والشباب والذكريات، وفيها أعز قبائل العرب قريش، وأهم مركز من مراكز التجارة في الجزيرة العربية، ويأتي لها الناس جميعاً طول السنة من كل مكان، وفيها من المقومات الكثيرة ما يجعل اختيارها كعاصمة جديدة للدولة الإسلامية أمراً مقبولاً جداً ومتوقعاً، فلما حدث توزيع الغنائم بهذه الصورة ثارت الشكوك في قلوب الأنصار، ولا ننسى أن الأنصار قالوا هذا الكلام قبل ذلك منذ أقل من شهرين عندما فتحت مكة، وطمأنهم صلى الله عليه وسلم أنه سيعود معهم إلى المدينة ولن يبقى في مكة المكرمة، وقال: (المحيا محياكم، والممات مماتكم) غير أنهم خافوا أن يكون الظرف قد تغير، والأحداث الجديدة غيرت من الصورة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح له رأي جديد في هذه القضية، وأنه سيعود إلى مكة المكرمة ولن يعود معهم إلى المدينة المنورة، والرسول عليه السلام كان يشعر بأن الأنصار يشعرون بهذا المعنى؛ لأن في الحوار الذي دار بينهم كما سنرى أكد على أنه سيعود معهم إلى المدينة المنورة، فشعر أن الأنصار كانوا خائفين من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ويترك المدينة مع كل المشاكل التي ممكن أن تحصل في المدينة المنورة نتيجة خروج الرسول عليه الصلاة والسلام والجيش الإسلامي الأساس من المدينة.

أيضاً ينبغي أن نذكر عظمة سعد بن عبادة رضي الله عنه والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، الذين كانوا صرحاء إلى أبعد درجة، وهذه الصراحة هي التي عالجت الموقف، فلو أخذ الأنصار بمثاليات غير واقعية، وأنكروا وجود مشكلة لتفاقمت هذه المشكلة، وحينها سيكون الحل والعلاج صعباً أو مستحيلاً.

تعالوا بنا ننظر كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بوادر هذه الأزمة الخطيرة؟ وإن سريان مثل هذا الشعور في هذه الطائفة المهمة جداً من الجيش قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية، هذه الكوارث بكل وضوح قد تعصف بالدولة الإسلامية.

ماذا نفعل إذا كانت هناك بوادر انسلاخ مجموعة من الجنود عن الصف العام للمسلمين؟

فهيا بنا لنرى المنهج النبوي الرفيع في علاج مثل هذا الأمر، هذا العلاج يجمع بشكل فريد فعلاً بين إقناع العقل وإرضاء العاطفة:

أولاً: عدم التغافل عن النار التي تحت الرماد، كان الموقف الشرعي والعقلي للرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الغنائم سليماً تماماً، وهو الأولى بلا جدال، بدليل أن الوحي لم ينزل بخلاف ذلك، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على علاج الموقف من البداية، لم يقل مثل ما يقول الكثير من الناس: ما دام أنني على الصواب لا يهمني كلام الناس، لم يقل: ما دام الله سبحانه وتعالى راضياً وعالماً ليس هناك داع إلى أن أسترضي الناس أو أبين لهم الأمر.

لم يقل: إن الأنصار مؤمنون شديدو الإيمان، وهذا كلام عارض لن يؤثر في مستقبل الدولة الإسلامية.

لم يقل: إن الأيام كفيلة بحل هذه القضايا، بل إنه لم يقل: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجب عليهم الطاعة.

لم يقل هذا الكلام ولا غيره من الكلام، بل انتقل إلى حل المشكلة بموضوعية، وأخذ الموضوع بمنتهى الجدية، ولم يؤجل الموضوع يوماً واحداً، ولا حتى ساعة واحدة، كان حاسماً تماماً في قراره، سريعاً في حل الأزمة، قال لـسعد بن عبادة مباشرة: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة).

إذاً: الملمح الأول في حل المشكلة: عدم التغافل عن الأزمة وهي ما زالت في بدايتها.

ثانياً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن لا ينتشر الأمر بين المسلمين، فقصر الحديث فيه مع أهل المشكلة وهم الأنصار، فهو لم يشأ أن يعلم به عامة الناس؛ لئلا يفتن بعضهم بالشبهة التي أثيرت، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي لا يأخذ الناس موقفاً سلبياً من الأنصار إذا تبين خطأ الأنصار، لكي تظل صورة الأنصار جميلة ومحفوظة عند عامة الناس، ولذلك عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المهاجرين يدخلون إلى الحظيرة التي سيتم فيها اللقاء في البداية تركهم، لكن عندما رآهم يزيدون منع دخول المهاجرين، وسمح بدخول الأنصار فقط، فهو حصر المشكلة في إطار محدود، بل إنه في رواية في البخاري ومسلم عن أنس سألهم تصريحاً قال: (أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ابن أخت القوم منهم).

الشاهد أن معظم الذين حضروا أو كلهم من الأنصار.

ثالثاً: أن وسائل حل مثل هذه المشاكل الضخمة من أبلغ الوسائل، فقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على لقاء أصحاب المشكلة بنفسه صلى الله عليه وسلم، ليسمع منهم ويسمعوا منه دون واسطة؛ لأن الواسطة قد لا تحمل الكلمات تماماً كما قيلت، وهذا الكلام ليس طعناً في الواسطة أو تقليلاً من إمكانيات الواسطة، أبداً، لكن شعور الجنود عامة بالقرب من قائدهم يحل الكثير جداً من المشاكل التي ممكن أن تحصل.

أحياناً الحوار المباشر بين القائد والجنود يخرج بعض القضايا التي يكتمها الجنود عادة، ويفتح باب التحاور، ويناقش الفرعيات، وكل هذا الكلام يساهم في احتواء الأزمة في أولها.

رابعاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام علل بوضوح وصراحة التقسيم الذي قسمه للغنائم، وذكر لهم السبب الذي من ورائه أعطى هؤلاء وترك الأنصار، قال لهم: (فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم) يعني: ليس تقديمي لهم؛ لأني أحبهم بصورة أكبر، أو لأني أقدر موقفهم البطولي، أو أداءهم المتميز، بل على العكس أنا وبكل صراحة أعلم أن قلوبهم مترددة، وأن أقدامهم ليست براسخة بعد في الإسلام، ولذلك أعطيهم.

فهذه الكلمات جاءت في منتهى الوضوح وبدون تورية حتى تحل المشكلة حلاً جذرياً.

خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لفت أنظار الأنصار إلى النظر أيضاً إلى النصف المملوء من الكوب، هذا هو النظر الواقعي، لو كان هناك كوب مملوء إلى النصف، فليس من الصواب أن تنظر إلى نصفه الفارغ، فتكون شديد التشاؤم، وليس من الصواب أيضاً أن تنظر إلى نصفه المملوء فتكون شديد التفاؤل بصورة غير واقعية، لكن الصواب أن تكون متوازناً وترى الأمر على حقيقته، نصف مملوء ونصف فارغ، نعم أنتم لم تأخذوا من هذا المال ومن هذه العطايا السخية، لكن ألم تأخذوا شيئاً؟! هل ألفتم النعمة فنسيتموها؟!

ألم يقدم لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قبل ذلك؟!

ألم ينفعكم الإسلام؟!

ألم تستفيدوا من انضمامكم إلى هذا الكيان الجديد في الدولة الإسلامية؟!

انظروا نظرة متوازنة حتى لا تشعروا بالغبن أو الظلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك هذا الكلام عائماً دون توثيق، بل ذكر طرفاً مما حصله الأنصار من الإسلام، ولم يذكر كل النعم، ذكر بعض النعم، وكان صريحاً وفي منتهى الوضوح، ولم يشعر بالحرج أبداً وهو يعدد النعم على الأنصار، لكنه كان مباشراً تمام المباشرة؛ لكي تفهم الناس بوضوح ما يقصده صلى الله عليه وسلم.

قال صلى الله عليه وسلم: (ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله يبن قلوبهم؟) ها هو يعدد النعم بكل وضوح، هذه نعم ثلاث من نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى.

هل هذه النعم أثقل أم المائة ناقة التي أخذها هذا أو ذاك؟!

أحياناً عندما يفقد الإنسان شيئاً يفكر فيه وينسى كل ما لديه من الأشياء الأخرى.

فالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ يعدد عليهم هذه النعم، وبدأ بواحدة لا يعدل بها شيء، (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟) هل نسيتم يوم دعوتكم للإسلام، وكنتم تسجدون لأصنام صنعتموها بأيديكم؟

نسيتم كيف كانت أحلامكم؟ وكيف كانت حياتكم؟ وكيف كانت نظراتكم للحياة بصفة عامة؟

نسيتم الجاهلية؟!

نسيتم التربية الإسلامية لكم يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة؟!

نسيتم كيف انتقلتم بالإسلام من الظلمات إلى النور؟!

نسيتم كيف صار لكم ذكر وشأن ليس في الجزيرة فقط، بل في العالم أجمع، وليس في زمانكم فقط، بل وإلى يوم القيامة؟!

أليست هذه مكاسب واقعية؟! (آلم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟)

وأنتم لم تربحوا فقط الآخرة، لقد غمرتكم النعم أيضاً في الدنيا. (آلم آتكم عالة فأغناكم الله؟).

ها أنتم الآن دولة لها كيان ومركز ومكانة، لكم جيوش هنا وهناك، لكم معاملات مع جميع العرب، لكم انتصارات مع دول العالم، لكم تجارة هنا وهناك، لكم صولات وجولات، وغنائم وانتصارات، أهكذا كان وضعكم قبل الإسلام؟! يثرب قبل الإسلام كانت مدينة عادية بسيطة جداً، ليس لها تأثير على حياة العرب فضلاً على حياة العالم.

ثم قال بعد ذلك: (ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم؟) أنسيتم حروبكم الدامية؟

أنسيتم دماء الأوس والخزرج التي سالت أعواماً على أرض يثرب؟!

أنسيتم يوم بعاث؟!

أنسيتم الكراهية والحقد والضغينة التي كانت تملأ قلوبكم قبل الإسلام؟!

من المؤكد أن الجميع لم ينس ذلك الأمر، هذا هو النصف المملوء من الكوب، فلماذا نظرتم إلى النصف الفارغ، وتركتم هذه النعم والإيجابيات؟!

الحقيقة هذه كلمات ثقيلة جداً وقعت كالصخر على أسماع الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، ردتهم إلى أرض الواقع.

لم يجد الأنصار إلا أن يقولوا: (لله ولرسوله المن والفضل).

أذهلتهم الكلمات وأثقلتهم النعم، لكن الرسول الحنون صلى الله عليه وسلم نظر إليهم بحب وعطف وإشفاق، مقدراً لموقفهم، لكن كان لا بد أحياناً أن يكون العلاج مؤلماً جداً.

والأنصار ما زالوا في حالة صمت بعد هذه الكلمات، يمنعهم أدبهم من ذكر أفضالهم على الدولة الإسلامية، ويمنعهم كذلك اقتناعهم أن الإسلام نعمة لا يعدلها شيء، لكن الرسول عليه السلام كان مشفقاً عليهم جداً، فقال لهم في حنان ظاهر: (ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!) ما ردكم على هذا الكلام.

فرد الأنصار بأدب جم وبصوت منخفض، قالوا: (بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ولرسوله المن والفضل) يعني: نعترف بكل ما قلت، وما أخذناه أكثر بكثير مما منع منا.

وبعد ذلك خاطبهم بوسيلة أخرى من وسائل علاج مثل هذه الأزمات الكبيرة، وهي وسيلة رفع الروح المعنوية للطرف صاحب الأزمة، وإشعاره بقيمته وإقناعه بأن القائد مقدر قيمته، ومقدر جهده، ولا يجحد فضله.

قال صلى الله عليه وسلم في تواضع وهو يرفع جداً من قيمة الأنصار: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدّقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك)

يعني: إن كان أدبكم أيها الأنصار يمنعكم من ذكر فضلكم علي، أنا شخصياً لا أنكره ولا أجحده، بل أعترف به وأقدره، بغيركم لم تكن هناك دولة، وبدونكم لم يكن هناك نصرة، صدقتموني ونصرتموني وآويتموني وأغنيتموني، فأحس الأنصار حينها بحرج شديد من هذه الكلمات، ولم ينطقوا بكلمة، فاستغل عليه الصلاة والسلام هذا الصمت، ودخل مباشرة في وسيلة ثانية جميلة جداً، وهي تهوين حجم الخسارة في عيون الناس، وهذه الأزمة التي تظنون أنها أزمة ليست أزمة وإنما هي شيء يسير جداً، قال صلى الله عليه وسلم في رقة شديدة: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا) (لعاعة) يعني: شيء يسير جداً. (تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم).

وبعد ذلك دخل في وسيلة أخرى مهمة جداً إنها وسيلة تحريك عواطف الأنصار، ونداء المشاعر المرهفة التي يتميز بها الأنصار. قال: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم) يعني: إن كانوا هم قد كسبوا النوق والشياه فأنتم قد كسبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73].

ثم أقسم صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)

ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يدعو قال: (اللهم! ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم) يعني: ابتلت لحاهم رضي الله عنهم وأرضاهم بالدموع.

ثم الوسيلة الأخيرة هي التذكير بالآخرة، هناك سيكون التعويض الرئيسي عن كل ألم أو تعب أو خسارة، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، الجنة ثمنها غال، قد نعطش في حياتنا لنروى من الحوض، قد يؤثرون علينا غيرنا، فنقبل طمعاً فيما عند الله، وقد نبيع الدنيا بكاملها لنشتري الآخرة، (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

ولذلك الأنصار بعدما سمعوا هذه الكلمات قالوا بمنتهى الصدق: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظًا) وخرج المسلمون من الأزمة، ونجح الرسول عليه السلام في منهجه التربوي، وعلم الأنصار بعد هذه التربية أن كل هذه الغنائم الهائلة إنما هي لعاعة، وإنها لكذلك.

إذاً: تعالوا بنا لنراجع المنهج التربوي النبوي البارع للخروج من مثل هذه الأزمات، أزمة خروج مجموعة من الجنود من الصف المسلم، وهي عشر نقاط:

الأولى: حل الأزمة بسرعة، وعدم التغافل عن النار تحت الرماد، وعدم التسويف.

الثانية: الحيلولة دون انتشار الأزمة، وحل الأزمة مع أهلها فقط.

ثالثاً: لقاء أصحاب الأزمة بصورة مباشرة دون وساطة.

الرابعة: الصراحة والوضوح وراء الفعل الذي أغضب أصحاب الأزمة، وذكر السبب الحقيقي للفعل.

الخامسة: النظر بتوازن إلى الموضوع، لفت أنظار أصحاب الأزمة إلى ما حصلوه من إيجابيات.

السادسة: الاعتراف بقيمة أصحاب الأزمة وفضلهم ورفع معنوياتهم.

السابعة: تهوين حجم الخسارة التي خسرها أصحاب الأزمة إن كانت هينة.

الثامنة: تحريك عواطف ومشاعر أصحاب الأزمة، إلى جوار إقناع عقولهم.

التاسعة: الدعاء المخلص لهم أن يرحمهم الله عز وجل وأن يثبت أقدامهم.

العاشرة: التذكير بالآخرة، وأن المرء في الدنيا لا يعدم أن يخسر شيئاً ليكسب الجميع.

فتلك عشرة كاملة.

وهكذا نرى أن السيرة النبوية منهج عملي للخروج من كل أزمة في حياتنا مهما تفاقمت، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي) مع العلم أن هذه الوسائل العشر ما كان لها أبداً أن تجدي لولا أن قلوب الأنصار مخلصة، وأن درجة إيمانهم عالية، وأن هدفهم الجنة، وأن حياتهم بكاملها كانت في سبيل الله.

وانتهت قصة الغنائم على خير والحمد لله، فألف صلى الله عليه وسلم قلوب البعض واسترضى آخرين، وحلت كل الأزمات، وكانت هذه الأيام من أسعد أيام المسلمين في الفترة النبوية.

بعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها ورضا كل فريق بما أخذ، سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة أو من الخمس الذي وهب للبعض، بعد انتهاء هذا التوزيع حدثت مفاجأة ضخمة غير متوقعة، جاء وفد من قبيلة هوازن أو بالتحديد من بطون بني نصر وبني سعد وكل بطون هوازن الأخرى باستثناء قبيلة ثقيف، جاءوا جميعاً إلى وادي الجعرانة.

لماذا جاءوا إلى هذا المكان الآن؟ هل جاءوا للتهديد والوعيد، أم جاءوا للمفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أم جاءوا لتحديد موعد جديد للقتال والثأر؟

لم يأتوا لهذا كله، وإنما جاءوا للإسلام، جاء وفد هوازن يعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الوفد مكوناً من أربعة عشر نفراً، يمثلون بطون هوازن المختلفة باستثناء ثقيف كما قلنا.

وجدوا أنفسهم خسروا كل شيء، خسروا نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأنعامهم، خسروا حاضرهم وسيخسرون أيضاً مستقبلهم إن هم بقوا على الشرك، ومثلما ذكرنا قبل ذلك أنهم كانوا قد فروا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان أمامهم بعد فقد كل هذه الممتلكات أن يفقدوا أيضاً ديارهم، ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، كان موقفهم صعباً جداً، ففكروا لو أنهم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يقبل منهم إسلامهم، وقد يعيد إليهم بعض الممتلكات، وواضح جداً أنهم لم يأتوا حباً في الإسلام، لكن معظم الذين يدخلون الإسلام لأجل شيء دنيوي يحبونه بعد فترة من الزمان تقصر أو تطول، فهم في النهاية بعد أن يعيشوا الإسلام سيشعرون بقيمته.

جلس وفد هوازن مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلنوا إسلامهم، ثم قالوا: (يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك)

ثم قام خطيبهم زهير بن صرد فقال: (يا رسول الله! إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك - يعني منهم بنو سعد الذين أرضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم - ثم أنشد شعراً كان منه:

امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر)

فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف مثل هذا؟ الموقف في غاية الحرج، ها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، وكما ذكرنا أنهم ما أتوا حباً في الإسلام، ولكنهم جاءوا لأنهم خسروا كل شيء، ولم يعد أمامهم من سبيل إلا أن يسلموا، فيستردوا شيئاً من ممتلكاتهم، فماذا يحدث إن لم تعد لهم نساؤهم وأموالهم؟ إن ردتهم محتملة جداً، بل هي الأغلب، وهذا هو المتوقع، في نفس الوقت الرسول عليه الصلاة والسلام قسم كل شيء في الغنائم على الجيش، أربعة أخماس الغنائم تقسمت على أفراد الجيش العام، وقسم كذلك الخمس المتبقي على سادة القبائل والزعماء وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أعطى هذه العطايا ليتألف قلوب الناس، لو أخذ منهم هذه الأشياء فقد يرتدون عن الإسلام، فماذا يعمل؟

هو يريد إسلام هوازن، وفي نفس الوقت يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، كيف الخروج من هذه الأزمة؟

خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في استرجاع سبي هوازن من المسلمين

تعالوا لننظر إلى المنهج الإسلامي الذي رأيناه من حبيبنا صلى الله عليه وسلم لحل مثل هذه المعضلة، فقد تحرك الرسول عليه الصلاة والسلام في ثلاث خطوات رائعة:

الخطوة الأولى: حاول أن يصل مع هوازن إلى حل في منتصف الطريق، ليس من الممكن أن يرجع لهم كل شيء، وحاول أن يصل معهم إلى أكبر تنازل ممكن، بحيث يقبلون به مع ثباتهم على الإسلام، فقال لهم صلى الله عليه وسلم في وضوح: (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) حتى في رواية البخاري يقول: (أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم) يعني: أنا أخرت توزيع الغنائم لعلكم تأتون، لكنكم تأخرتم، وهو بهذا يحاول أن يلطف قلوبهم.

وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بوضوح وبتعقل وبواقعية، لا يندفع بعاطفته إلى أمر قد لا يقدر عليه، ونحن لا بد أن نلاحظ أن السبي والأموال ليست أموراً مسروقة أو منهوبة من هوازن، وإنما هي حق للمسلمين، وتطلب هوازن أن يتنازل عنها المسلمون كرماً منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيرهم بين السبي أو المال، فماذا كان رد فعل هوازن؟ كانوا واقعيين، قالوا: (يا رسول الله! خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فلترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا) فاختاروا السبي دون الأموال.

الخطوة الثانية: إشعار هوازن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً معهم قلباً وقالباً، وأنه متعاطف معهم إلى أقصى درجة، وسوف يضحي هو شخصياً من أجلهم، وسيبذل قصارى جهده لاسترداد السبي من أفراد الجيش الإسلامي، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع نفسه في خندق هوازن، وصار مدافعاً عن قضيتهم، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ثبت أقدامهم بهذا العرض، فقد قال لهم في تجرد: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) يعني: أنا متنازل عما كان في نصيبي من السبي، وبصفتي عميد لعائلة عبد المطلب فسوف أطلب منهم رد السبي الذي أخذوه منكم، لكن في نفس الوقت أنا لا أستطيع أن أجبر بقية أفراد الجيش على رد ما معهم، لكني سأحاول.

هنا نجد ما نسميه بواقعية العطاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو لم يعد إلا بما يستطيع، وكان كريماً واسع الكرم صلى الله عليه وسلم، تنازل عن نصيبه وأقنع بني عبد المطلب بالتنازل عن حقوقها، لكنه لم يعط ما لا يملك.

الخطوة الثالثة خطوة هائلة مذهلة، لا أعتقد أن لها مثيلاً في تاريخ الأرض: اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هوازن على القيام بمحاولة لطيفة أمام المسلمين، يقنع فيها أفراد الجيش المسلم بإعادة السبي إلى هوازن.

هذه المحاولة من الرسول عليه الصلاة والسلام يبذل فيها هذا الجهد من أجل قبيلة كانت تحاربه منذ شهرين فقط، بل كانت حريصة تمام الحرص على استئصاله وأصحابه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لقنهم ما يقولونه تماماً باللفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا للناس: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم).

لاحظ العظمة النبوية، هو لم يتنازل عن حقه في السبي وحق بني عبد المطلب بينه وبينهم فقط، بل أراد أن يكون ذلك الأمر في العلن، ليقتدي به بقية المسلمين فيتنازلون عن السبي الذي ملكوه، ثم إنه يعلم وفد هوازن ألفاظاً ترقق من مشاعر المسلمين: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله) وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام سيقبل شفاعة المسلمين، وليس من المعقول أن المسلمين لن يقبلوا بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد لهم على واقعية الطلب، ينصحهم ألا يطلبوا الأموال والشياة، وإنما يطلبون السبي فقط؛ لكي لا يصعبوا الأمر على المسلمين فتفشل المحاولة، وفوق كل ذلك وعد الرسول عليه الصلاة والسلام وفد هوازن أنه سيسأل بنفسه المسلمين أنهم يرجعون السبي إلى هوازن.

ولاحظ مدى الرقي والتوازن والتعامل الحضاري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع كونه زعيم الأمة الإسلامية ورئيس الدولة والرسول المطاع صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يريد أن يجبر المسلمين على رأي يرى أنه لا يجوز له تأميم ما لا يملك، وأن هذا حق المالكين الآن، وليس له دخل فيه، إنما سيدخل في القضية في صورة شفيع أو وسيط يريد الخير بصدق للطرفين.

هل جاء في التاريخ كله شيئاً مثل هذا؟!

وعظمة الموقف لم تنته بعد، ما زال هناك فصول في القصة.

موقف المسلمين من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم إرجاع سبي هوازن

لما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر بالمسلمين، ثم كما هو متفق عليه مع هوازن، قام وفد هوازن يخاطب المسلمين جميعاً، وكأنهم لم يجلسوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وقالوا مثل ما نصحهم الرسول عليه الصلاة والسلام تماماً، قالوا: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا).

فقام صلى الله عليه سلم قابلاً شفاعة المسلمين وقال: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وكأن هذا الكلام لأول مرة يقوله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بما ينبغي عليه تجاه هوازن، وبقي أن يقوم المسلمون برد سبيهم كما فعل صلى الله عليه وسلم وأن يقبلوا بشفاعته كما قبل هو بشفاعتهم، لكن تعالوا لنر رد فعل المسلمين، والحقيقة أن رد المسلمين كان متبايناً، فالبعض وافق والبعض رفض.

قام المهاجرون فقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: نعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الحرية في التصرف فيه، وبالتالي سيرد إلى هوازن سبيهم، وقام الأنصار كذلك وقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل على أن المهاجرين والأنصار أخذوا من الغنائم، وإلا ماذا سيعيدون؟ فواضح أنهم أخذوا أربعة أخماس الغنيمة، والآن يعيدون ما أخذوه.

فهذا سبي أعيد من قسم هام من أقسام الجيش من المهاجرين والأنصار، لكن تبقى أقسام كبيرة من الجيش وخاصة الأعراب؛ لأنهم غالب الجيش، وهم في الأساس قبائل تميم وفزارة وسليم، فقام الأقرع بن حابس زعيم بني تميم وقال: أما أنا وبنو تميم فلا.

وقام عيينة بن حصن زعيم بن فزارة وقال: وأما أنا وبنو فزارة فلا.

وقام العباس بن مرداس زعيم بني سليم وقال: وأما أنا وبنو سليم فلا.

هذه ثلاث مشاكل كبيرة، فقامت بنو سليم وقالت: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: بنو سليم رفضت كلام زعيمهم العباس بن مرداس وقالت: سنعيد السبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف هذه القبائل الثلاث يحتاج إلى وقفة وتحليل.

قبيلة تميم وفزارة رفضتا إعادة السبي إلى هوازن، بينما قبلت قبيلة سليم، فبقيت مشكلتان أمام الرسول عليه الصلاة والسلام:

المشكلة الأولى: هي رفض قبيلة فزارة وتميم إعادة السبي، وهذا الموقف قد يؤثر على إسلام هوازن.

المشكلة الثانية: الخلاف الذي ظهر بين رأي العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم وبين أفراد القبيلة.

أما المشكلة الأولى: وهي مشكلة رفض قبيلتي فزارة وتميم إعادة السبي، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس من ذلك الأمر، لكن النظرة مادية بحتة عند تميم وفزارة، ولذلك دخل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مساومة مادية تجارية تناسب طبيعتهم في هذه المرحلة، فكان صلى الله عليه وسلم واقعياً إلى أبعد درجة، لم يلمهم على أنهم لم يقبلوا شفاعته؛ لأن هذا حقهم ورفضوا أن يتنازلوا عنه، وليس هذا أمراً مباشراً منه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان يتنازل عنه من السبي ست فرائض من أول شيء نصيبه).

سبحان الله! هل وقع في التاريخ كله موقف مشابه لهذا الموقف؟!

أنا والله لا أجد له مثيلاً إلا موقفه صلى الله عليه وسلم من طلقاء مكة.

فالرسول عليه الصلاة والسلام سيدفع لهم قيمة ما عندهم من السبي مضاعفاً ست مرات من أول سبي يحصل عليه المسلمين بعد ذلك.

والنبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن هوازن وكأنها أقرب الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم، مع أنها لم تسلم إلا منذ ساعة من الزمان، وقبلها كانت من ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه سيغرم الدولة الإسلامية ستة أضعاف قيمة السبي؛ من أجل الحفاظ على عقيدة هؤلاء القوم الجدد، فهو يتفاوض مع جيشه ليعيدوا السبي لهوازن لا يوجه لهم أمراً؛ لأنه يعلم أن ذلك حقهم.

وهو صلى الله عليه وسلم يفهم طبيعة النفس البشرية، ويفهم حدود العدل، ويفهم أسس القيادة، ويفهم قواعد الإدارة، ويفهم طرق الحكم، ويفهم فنون التعامل مع الناس بصفة عامة، إنه بلا جدال بحر لا ساحل له، وقدوة لا مثيل لها، من المستحيل أن نحيط بعظمته صلى الله عليه وسلم، ولو قضينا الأعمار في تحليل السيرة النبوية.

فماذا فعلت تميم وفزارة إزاء هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لقد قبلت القبيلتان بالكامل إعادة السبي إلى هوازن، ونجح العرض النبوي في الخروج من الأزمة، وعاد كل السبي إلى هوازن، إلا عجوزاً كانت في يد عيينة بن حصن الفزاري رفض أن يرجعها في أول الأمر كيداً لهوازن، ثم أعادها بعد ذلك، وبذلك حلت المشكلة الأولى، وعاد جميع السبي إلى هوازن.

المشكلة الثانية: أن هناك تعارضاً بين رأي زعيم القبيلة وبين جمهور الأتباع من القبيلة. هذا السبي حق شخصي لكل فرد، ليس حقاً عاماً للقبيلة، بمعنى أنه لو اعترض فرد أو اثنان أو أكثر من أفراد القبيلة ما جاز هنا أن نقول: رأي الأغلبية أو الشورى تقضي بذلك فنأخذ منه السبي، لا، هذا حقه وممكن أن يتمسك به، لذلك لا بد من موافقة شخصية من كل واحد.

في موقف آخر رائع من مواقفه صلى الله عليه وسلم -وكل مواقفه صلى الله عليه وسلم رائعة- خطب في عموم المسلمين وقال لهم كما جاء في رواية البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: (إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم).

سيقوم بمسح شامل دقيق للجيش الإسلامي؛ لكي يعلم رأي عامة الناس، فعاد إليه العرفاء بعد أن كلموا الناس، وأخبروه صلى الله عليه وسلم أن الناس قد طيبوا وأذنوا، أي: طابت نفوسهم بذلك، وأذنوا في عودة السبي عن طيب خاطر، وهذا منتهى العدل.

بذلك انتهت مشكلة هوازن تقريباً، ودخلت الإسلام بنفس راضية، وقد تيقنت أنها تتعامل فعلاً مع رسول وليس مع مجرد زعيم أو قائد.

هل وقفت العظمة النبوية عند هذا الحد؟ لا، لم تقف بعد، ليس لها نهاية كما قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحر لا ساحل له.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف النصري بعد إسلام قبيلته هوازن

بقي في قصة هوازن فصل عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل واستفادة، يحتاج أن نحمله ليس فقط للمسلمين، ولكن إلى أهل الأرض جميعاً لنقول لهم: هذا هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم، فأي قدوة تتبعون؟!

هذا الفصل العجيب هو أنه صلى الله عليه وسلم اكتشف أن مالك بن عوف النصري الزعيم الشاب قائد هوازن الذي جمع الجموع للحرب، والذي كان يريد أن يستأصل المسلمين، اكتشف أنه ليس مع الوفد المفاوض، وهو زعيم الناس ولم يأت معهم، ولم يسمع عنه كلمة، فسأل عنه، فقالوا له: إنه في الطائف في حصون ثقيف يخشى على نفسه من القتل، فقام صلى الله عليه وسلم في موقف رائع لا يقل عن المواقف الرائعة السابقة فقال: (أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله) يعني: ليس أهله فقط، وإنما أهله وماله، ثم قال: (وأعطيته مائة من الإبل).

هل ترون كم هو عظيم صلى الله عليه وسلم؟!

لقد كان الهدف الأسمى في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام هداية الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، بغض النظر عن تاريخهم وعن عداوتهم السابقة له وللمسلمين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغب عن ذهنه هذا الهدف, فهو حتى مع مالك بن عوف ما زال يحرص على إسلامه وهدايته.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قائد محنك حكيم مجرب، يقدر الأمور بحكمة، ويزن الأشخاص بميزان الذهب أو أدق، فـمالك بن عوف النصري قوة لا يستهان بها، ولا يمكن أبداً أن تتجاهل، فهو رجل استطاع أن يجمع ويحرك أكثر من (25000) ألف مقاتل، واستطاع أن يقنعهم أن يضحوا بكل ثرواتهم من أجل قضية ما، فوجود هذا الرجل خارج الصف أمر خطير فعلاً، وخاصة أنه في ثقيف، وثقيف لم تسلم بعد، وخطر ثقيف لم ينقطع عن المسلمين، ووجود شخصية خطيرة مثل هذه في داخل حصون ثقيف أمر لا تؤمن عواقبه، ثم إن هذا الرجل استطاع تحريك الجموع الكثيرة من أجل قضية قبائلية تافهة بالقياس إلى أهداف القتال في الإسلام.

فماذا سيحصل لو انضم هذا القائد الخطير إلى صفوف الجيش المسلم؟ ماذا سيفعل لو أصبح مقاتلاً في سبيل الله بدلاً من أن يكون مقاتلاً في سبيل هوازن؟ لذلك حرص الرسول عليه الصلاة والسلام كل الحرص على إسلامه، وحرص في نفس الوقت على حفظ كرامته، فرفع قيمته فخصه بوضع غير الناس، خصه بإعادة المال له مع الأهل، وليس فقط الأهل، ووعد بإعطائه مائة من الإبل كنوع من تأليف القلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن إسلام هوازن ضربة كبيرة جداً لـمالك بن عوف ، ومع ذلك لم يرد أن يكسر معنوياته، ولم يرد أن يذله وأن يعيره بانضمام جنوده إلى جيش المسلمين، وإنما عرض عليه عرضاً مغرياً جداً، وهو يعلم أن وضع مالك الآن أصبح صعباً للغاية، ومن ثم فتح له باب الرجوع إلى الله، والانضمام إلى دولة الإسلام.

هذه هي الحكمة، لو تريد أن تعرف ماذا تعني كلمة حكمة، فادرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وصل الخبر إلى مالك في الطائف، وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام كان وضع مالك صعباً جداً شديد الصعوبة، كان يتخوف على نفسه من قبيلة ثقيف، فقد أصبح وضعهم في مأزق خطير، كتب عليهم أن يحصروا في مدينتهم، ومالك هو الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب، فأصبح خائفاً منهم، ومالك لم يعد لديه أتباع، فقد أسلمت قبيلته، وأصبح موقفه في غاية الحرج، فجاءت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام منقذة له من أزمة خطيرة، جاءت هذه الدعوة لتخرجه من موقف لا يحسد عليه، وبالفعل لم يتردد مالك بن عوف لحظة ولم يفكر كثيراً، بل أسرع من فوره إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه بين يديه.

هل يوجد أحد في الدنيا كان يتوقع نتيجة مثل هذه بعد شهرين من موقعة حنين؟!

أرأيتم المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر؟!

أي قائد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ممن لا ينهج نهجه يكون همه الأول بعد النصر البحث عن قواد عدوه، لكي يحكم عليهم بالحبس، أو بالنفي، أو بالقتل، ويضع لهم صوراً على الإنترنت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كل البشر بغض النظر عن تاريخهم أو مواقفهم السابقة، فكانت نتيجة موقفه ذلك أن أسلمت هذه الشخصية القيادية الفذة مالك بن عوف ، فقوة مالك بن عوف التي تكلمنا عليها قبل ذلك، وقدرته على الحشد سيكون في صالح المسلمين.

لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن مالك بن عوف إنما أسلم في ظروف صعبة، وقد يكون إسلامه رغبة في المال والأهل والإبل، أو رهبة من ثقيف أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نثبت أقدامه في الإسلام؟ كيف نستفيد من طاقاته وقدراته؟ هل بمائة من الإبل أم أن هناك وسائل أخرى؟

انظروا إلى فعل النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم، قام بخطوتين مبهرتين:

الخطوة الأولى: أعاد مالك بن عوف إلى زعامة هوازن.

ومثل مالك لا يمكن أن يقبل بتهميشه، لن يكون الوضع مستقراً إلا إذا رضي ذلك القائد، ولن يرضى من كان في قدرات مالك إلا بتوليته قائداً، والدولة الإسلامية ستستفيد من طاقات مالك بن عوف إن سخرت لصالح المسلمين، وكل هذا يدفع في اتجاه تولية مالك بن عوف لأمر هوازن، بالإضافة إلى أن مالك بن عوف أقدر على قيادة قبيلته، فهو أكثر معرفة بأحوالها وبرجالها، وأدرى بشئونها وشئون المنطقة بكاملها.

ولا يقال هنا: كيف ولاه صلى الله عليه وسلم هوازن وقد رفض قبل ذلك أن يولي أبا سفيان على مكة؟

نقول: الوضع مختلف بين الاثنين، أبو سفيان له تاريخ طويل جداً من العداء مع المسلمين، وعنده ميراث ضخم من الكراهية للرسول عليه الصلاة والسلام، بينما مالك بن عوف حديث العهد بمثل هذه العداوات، وكل تاريخ العلاقة بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام لا يتعدى هذه الأيام التي تمت فيها حنين.

أما أبو سفيان فرجل موتور قتل ابنه حنظلة على يد المسلمين، ومالك بن عوف ليس كذلك.

وأبو سفيان كبير في السن قد غرق ولسنوات طوال في عبادة هبل واللات والعزى، بينما مالك بن عوف شاب حديث السن لم يفن عمره في حب هذه الأصنام.

وأبو سفيان يقود عدة قبائل حاربت الرسول عليه الصلاة والسلام لسنوات طوال وقد تنقلب عليه في لحظة، بينما مالك بن عوف يقود قبيلة تشعر بالجميل، وتعترف بالفضل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعاد لهم السبي بهذا الأسلوب الحضاري الذي رأيناه.

لهذا ولغيره وجد صلى الله عليه وسلم أنه من الأسلم والأفضل والأحكم أن يعيد مالك بن عوف على ولاية قومه، فيكسب مالك بن عوف ويكسب القبيلة بكاملها.

إذاً: هذه كانت الخطوة الأولى في تعامله صلى الله عليه وسلم مع مالك بن عوف رضي الله عنه.

الخطوة الثانية: أنه كلف مالك بن عوف وقبيلته بمهمة في غاية الأهمية، وهي مهمة حصار قبيلة ثقيف في الطائف.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الخطوات يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.

أولا: يجعل لـمالك بن عوف دوراً إيجابياً، ويحمله تبعات هامة جداً، فهذه كلها أمور تربوية مهمة جداً بالنسبة لهم، كما أنها تشعره بقيمته في الدولة الجديدة، وتشعره كذلك بثقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لا شك أنه يثبت أقدام مالك بن عوف وقبيلته في الدين الجديد.

كل هذه أمور إيجابية بالنسبة لـمالك بن عوف ، وليس فقط مالك بن عوف الذي سيثبت في الإسلام أو قبيلته، بل هناك فوائد ثانية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم سيكفى مئونة ثقيف، فيجعل من قبيلة هوازن درعاً للدولة الإسلامية، وسيحجم من قدرات وإمكانيات ثقيف، وسيقلل من خطرها، وفوق كل هذا الكلام يستطيع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرجع إلى المدينة المنورة بأمان؛ لكي يدير شئون الدولة الإسلامية الواسعة الآن، وليتابع المهام العظيمة الموكلة إليه هناك، وهو لم يكن بأي حال من الأحوال قادراً على البقاء كثيراً في منطقة الطائف أو حنين أو مكة، بعيداً عن العاصمة المدينة المنورة مسافة (500) كيلو متر، أما الآن فيستطيع أن يعود إلى المدينة المنورة وهو مطمئن إلى وجود من يسد هذه الثغرة من أبناء قبيلة هوازن.

إذاً: هذا قرار في منتهى الحكمة، وبالفعل قام مالك بن عوف رضي الله عنه وأرضاه بالمهمة خير قيام، وحاصر ثقيفاً حصاراً شديداً، وما استطاعوا الخروج من حصونهم، إلا بجهد جهيد، وظل مالك بن عوف رضي الله عنه قائماً بهذا الحصار ما يقرب من سنة، حتى فكرت ثقيف في أمر الإسلام كما سيأتي بعد ذلك إن شاء الله.

هذه كانت قرارات الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام معه الناس.

فنحن نقف على بعض المواقف من سيرته فقط، ولا نستطيع أبداً أن نحصي فضائله وأعماله وغزواته وما فعله صلى الله عليه وسلم في حياته.

ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4059 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3969 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3934 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3780 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3715 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3647 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3636 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3569 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3452 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3399 استماع