خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/985"> د. راغب السرجاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/985?sub=8341"> سلسلة السيرة النبوية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
سلسلة السيرة النبوية خاتمة السيرة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فمع المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات السيرة النبوية، وهي -في الحقيقة- المحاضرة الأخيرة من هذه المجموعة: مجموعة الفتح والتمكين، وإنه لمن الصعب على النفس أن نتحدث عن خاتمة للسيرة، فإن أنفسنا قد تعلقت تعلقاً كبيراً بالحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فحديثنا عنه كان أسعد حديث، وتدبرنا لسيرته كان أجمل تدبر، واستفادتنا منها كانت أقصى استفادة، لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون -إن شاء الله- آخر حديثنا عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، بل ستتوالى بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته صلى الله عليه وسلم.
إن سيرته كانت مثالاً يحتذى به في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، مثالاً واضح المعالم للمجتمعات الصغيرة والكبيرة لبناء الأمم، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.
بعث صلى الله عليه وسلم في أمة مفرقة مشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة وصبر رائع يغير الأوضاع، يعدل من المسار، يقوم المعوج، يوضح الطريق، يكمل الأخلاق، ما ترك معروفاً إلا وأمر به، ولا منكراً إلا ونهى عنه، مع العلم أن طريقه لم يكن سهلاً، بل كان مليئاً بالصعاب والأشواك، فقد عارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته وقاومه أهله، ومع هذا ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة صلى الله عليه وسلم.
مر صلى الله عليه وسلم في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة.
مرحلة الإعداد
في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع.
كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين.
واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية.
هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية.
لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً.
مات نصيره من أعمامه أبو طالب ، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول.
بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة.
كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات على الأمة الإسلامية مطلقاً؛ لكونهم يدبرون ويكيدون للإسلام، بينما هم في الظاهر عكس ذلك تماماً، وكان لا بد من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب.
مرحلة وضوح الرؤية
هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.
هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم.
ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت.
وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان.
وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار.
وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها.
ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرحمن، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع صلى الله عليه وسلم.
المرحلة الأولى التي مر بها صلى الله عليه وسلم أسميها: مرحلة الإعداد، هذه المرحلة بدأت منذ نزول الوحي، واستمرت حوالي خمس عشرة سنة من حياته صلى الله عليه وسلم، وهي فترة بقائه في مكة وسنتين من المدينة المنورة إلى قبيل موقعة بدر.
في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع.
كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين.
واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية.
هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية.
لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً.
مات نصيره من أعمامه أبو طالب ، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول.
بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة.
كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات على الأمة الإسلامية مطلقاً؛ لكونهم يدبرون ويكيدون للإسلام، بينما هم في الظاهر عكس ذلك تماماً، وكان لا بد من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب.
بعد غزوة بدر دخل المسلمون في مرحلة جديدة هامة أسميها: مرحلة زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات والابتلاءات والمعارك، فقد وقعت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، لكن المؤمن الصادق لم يكترث بهذا، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أحد ومأساة بئر معونة وحادثة ماء الرجيع، فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف.
هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.
هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم.
ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت.
وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان.
وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار.
وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها.
ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرحمن، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا العرض السريع لهذه السيرة العظيمة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد لنا من وقفة أو وقفات معها نستخرج منها بعض السمات العظيمة -لا كل السمات- التي تظهر في عموم البعث النبوي لا في موقف عابر وليس في حدث معين، سمات عامة تصاحب كل مواقف السيرة من أولها إلى آخرها، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الباهرة العظيمة
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولاً فقط، بل كان حاكماً وقائداً وزعيماً، ومع هذا عاش مع أصحابه وأتباعه كواحد منهم، ما فضل نفسه عليهم بطعام ولا بشراب ولا بسكن ولا بمال، تحمل معهم الأذى في كل موضع، وجاع معهم كما يجوعون بل أكثر، وتعب معهم كما يتعبون بل أشد، وحوصر معهم وهاجر وقاتل، بل كان أقربهم للعدو، ما فر يوماً في حياته لا في أحد ولا في حنين ولا في غيرهما، لم يزده كثرة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما غضب لذاته قط صلى الله عليه وسلم، وما انتقم لنفسه أبداً، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل فينتقم حينئذ لله.
كان كريماً واسع الكرم، جاءت له الدنيا راغمة فأنفقها كلها في سبيل الله، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، مع كونه في ذلك الوقت كان يرأس دولة تشمل الجزيرة العربية بكاملها، لم يورث درهماً ولا ديناراً، ولا عرف عنه قط أنه خص نفسه بشيء دون أصحابه وأتباعه، كان كثير المخالطة لشعبه، لم ينعزل عنهم أبداً، كان يجالس الفقراء ويرحم المساكين وتسير به الأمة في شوارع المدينة لحاجتها أينما شاءت، وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ويخطب الجمع، ويعطي الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم ويزورونه في بيته صلى الله عليه وسلم، وهو في كل ذلك دائم الابتسام، منبسط الأسارير، متهلل الوجه صلى الله عليه وسلم.
كان رحيماً بأمته تمام الرحمة، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، كان كثير العفو حتى عمن ظلمه وبالغ في ظلمه، كان واصلاً للرحم حتى لمن قطع رحمه وبالغ في القطع.
لم تكن عظمته صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسياً بارعاً، وقائداً حكيماً، وخطيباً مفوهاً لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، أوتي جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة فيمكث العلماء والحكماء الأعوام والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها، يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يزل أو يظلم أو يغضب، يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم، ما يسفه رأياً ولا ينتقص أحداً، الحكمة ضالته أينما وجدها أخذها ما دامت في حدود الشرع.
كانت حياته كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظمه وبجله وقدره من سمع عنه ولم يره، بل الذين لم يعاصروه أصلاً، بل حتى من هم من غير المسلمين.
يقول بسمارك زعيم ألمانيا المشهور في القرن التاسع عشر: إني أدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة ممتازة، وليس في الإمكان إيجاد قدوة كمحمد ثانياً. صلى الله عليه وسلم.
برناردشو الأديب البريطاني المشهور كان يقول: لو كان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بيننا الآن لحل مشاكل العالم كلها وهو يشرب كوباً من القهوة.
يقول لامارتين الشاعر الفرنسي المتميز: من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟ - صلى الله عليه وسلم- ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان.
ويقول تولستوي الأديب الروسي المشهور: أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء.
ويقول جوته الشاعر الألماني الشهير: بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، تعرفنا في هذه السلسلة على طرف ضئيل جداً من شخصيته العظيمة، ولن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نحيط بعظمته؛ لأن محاولة الإحاطة بعظمته تدخل فعلاً في باب المستحيل، هي هذه السمة الأولى البارزة من خلال دراسة السيرة النبوية.
عظمة جيل الصحابة
الصحابة هم خير البشر بعد الأنبياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) إلى آخر الحديث.
لقد اختار الله عز وجل الصحابة لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم تماماً كما اختار نبيه صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ، فكان لا بد من وجود جيل صالح ورع حكيم دقيق لينقل بأمانة وبدقة ما قاله أو فعله أو أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظهر لنا منذ أول لحظات هذه السيرة وحتى خاتمتها أن هذا الجيل كان جيلاً أميناً مضحياً مجاهداً متجرداً لله عز وجل، حريصاً على كل خير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، باذلاً الوسع كل الوسع لنصرة الله ورسوله ودين الإسلام.
رأينا في هذه المحاضرات مواقف مشرفة لا تحصى في كل المواقف، في مكة والمدينة، في بدر وأحد والأحزاب والحديبية ومكة وتبوك وغيرها وغيرها، وليس فقط في الغزوات أو المعارك ولكن في كل مواقف السيرة، وليس معنى هذا أنهم جيل بلا أخطاء أو أنهم معصومون من الزلل، ولكن كما يقولون: أخطاؤهم تذوب في بحار حسناتهم، كما أنهم بفضل الله كانوا سريعي التوبة من ذنوبهم، سريعي الأوبة إلى الله عز وجل، وفوق ذلك لم يتهم واحد منهم بالكذب أو الخيانة أو التضليل.
هؤلاء هم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، والذين وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
السنة مصدر أساسي للتشريع
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السنة النبوية مصدر رئيس لا غنى عنه أبداً من مصادر التشريع في الإسلام، والسنة التي أقصدها هنا هي منهجه صلى الله عليه وسلم في الحياة، هي كل قول أو فعل صدر منه، كل تقرير أقره صلى الله عليه وسلم، ليس القرآن وحده هو المصدر التشريعي الوحيد كما يدعي بعض المنكرين للسنة، بل رأينا بوضوح في السيرة النبوية من خلال هذه الدراسة: أن حياته صلى الله عليه وسلم كانت تشريعاً كاملاً للأمة، كانت تفسيراً جلياً لآيات القرآن الكريم، كانت تفصيلاً لما أجمل في القرآن، كانت بسطاً لما اختصر في القرآن، بل كانت أحياناً مشرعة لأحكام لم تأت أصلاً في القرآن، رأينا ذلك في غزوة خيبر عندما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية.
رأينا بوضوح في السيرة النبوية أن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مجرد قصة لعابد يصلي ويصوم ويقوم ويقرأ القرآن، لكن حياته كانت تشريعاً كاملاً متكاملاً، قام فيها صلى الله عليه وسلم بتوضيح موقف الشرع من كل قضية من قضايا الحياة.
هذا ما يجعلنا نقول وبصدق: إن الاستغناء عن السنة يعني الاستغناء عن الدين، والطعن في حجية السنة هو الطعن في الإسلام ذاته، ودراسة السيرة أكبر دليل على الموضوع.
شمولية الإسلام
الإسلام ليس كما يعتقده الكثيرون صيام وصلاة؛ إذ ليس موطن تطبيق الإسلام المسجد فقط، ولكن الإسلام دين يحكم كل دقائق الحياة، كما يتضح من اسمه، فالإسلام هو إسلام كامل لله رب العالمين، ويظهر معنى الإسلام الذي نقصده في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] فالعبادة والحياة والممات كلها لله عز وجل، وليس معنى هذا أن التشريع جمود يمنع من مواكبة تغيرات الزمان، لكن التشريع فيه مرونة كبيرة جداً تجعله صالحاً لكل ظرف، قابلاً للتطبيق في الجزيرة العربية وفي غيرها من بقاع العالم المختلفة، قابلاً للتطبيق في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وفي الأزمان التي لحقته وفي زماننا وإلى يوم القيامة.
واجه الرسول عليه الصلاة والسلام ظروفاً متباينة تماماً في مراحل حياته المختلفة، ومع ذلك كان هناك قانون لكل فترة حسب الظروف والمتغيرات، وكان هذا القانون من الشمول بحيث إنه غطى كل جوانب الحياة الإيمانية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك من الجوانب، استوعب القانون الإسلامي معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في فترة مكة، فترة الاضطهاد والتعذيب والتنكيل، كما أنه استوعب معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في المدينة المنورة في كل مراحلها، سواء في فترة الإعداد، أو في فترة الصدام مع العدو، أو في فترة التمكين والعلو في الجزيرة، في فترة دعوة العالم، في كل هذه الفترات استوعب القانون الإسلامي كل المتغيرات والظروف.
ما يجعلنا نجزم بشمول المنهج الإسلامي، وأنه منهج بلا ثغرات مطلقاً، وكيف يكون به ثغرات وهو منهج رب العالمين سبحانه وتعالى؟! كيف يصل المخلوق إلى ما هو أبدع وأروع مما صنعه الخالق؟! هذا مستحيل، هذا هو منهجنا منهج الإسلام، وكان هذا واضحاً تمام الوضوح في دراسة السيرة النبوية.
الوسطية في منهج النبي صلى الله عليه وسلم
ولا بد أن نتحدث عن الوسطية بعد حديثنا عن الشمول؛ فالذي يدرس السيرة النبوية ويتجول بين صفحاتها يدرك تماماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع قضايا حياته المختلفة بتوازن رائع، فليس معنى أنه كان يجد قرة عينه في الصلاة أن يهمل بيته، بل كان يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين يبالغون في العبادة إلى درجة إهمال شئون حياتهم الأخرى، يأمرهم أن يقللوا من العبادة، وأن يأخذوا من وقت الصلاة والصيام ويعطوا زوجاتهم وأولادهم، نعم كان يحب الإنفاق في سبيل الله ويحض عليه، لكنه ما كان يترك أصحابه ينفقون كل أموالهم في سبيل الله دون أن يتركوا شيئاً لأولادهم، بل أمرهم أن يتركوا ورثتهم أغنياء، ولم يقبل منهم صلى الله عليه وسلم إنفاق المال كله في سبيل إلا في ظروف معينة، ومن أفراد بأعيانهم كـالصديق رضي الله عنه في قصة الهجرة وتبوك.
وليس معنى أنه كان يحب الموت في سبيل الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) ليس معنى هذا أن يلقي بنفسه في المهالك دون اكتراث أبداً، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يلبس درعين من حديد، ويضع الخطة المناسبة للمعركة، ويرسل العيون، ويأخذ بجوانب الحيطة والحذر، ويؤمن ظهره، ويحمي جيوشه وشعبه، هكذا رأيناه في دروس السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم.
حياة متوازنة راقية لا إفراط ولا تفريط، لا تشدد وتطرف، وكذلك لا تسيب وتنازل، حياة متوازنة عبر عنها ربنا سبحانه وتعالى بقوله وهو يصف هذه الأمة العظيمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
البعد الأخلاقي للتشريعات الإسلامية
عند النظر إلى كل شعائر الإسلام تجد أنها في المقام الأول تسمو بالأخلاق، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصوم ينهى عن قول الزور والشقاق والعراك والتشاحن، الصدقة تطهر النفس وتوطد العلاقات الطيبة في المجتمع، وهكذا في كل التشريعات.
في أحداث السيرة النبوية رأينا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هذا الجانب الأخلاقي في كل مواقفه وفي كل معاملاته صلى الله عليه وسلم.
يكفي فقط أن نذكر مجالين يتعجب الكثير في زماننا الآن من ارتباط الأخلاق بهما:
أما المجال الأول فهو: المجال السياسي، ألف الناس في زماننا الآن وقبل ذلك تصوير السياسة على أنها خبث وكيد وخيانة وغدر ونفاق وعنف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أثبت لنا عكس ذلك تماماً، رأيناه في مكة وفي المدينة يحاور ويفاوض، ولكنه ما كذب ولا غدر ولا خان صلى الله عليه وسلم، بل إنه لم تخرج منه كلمة سوء واحدة يندم عليها صلى الله عليه وسلم، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً حتى مع أعتى الأعداء، بل كان واسع الصدر صلى الله عليه وسلم، كان مبتسماً هادئاً حيياً، كان خلوقاً صلى الله عليه وسلم في سياسته الداخلية مع شعبه وحكومته وأعوانه وأنصاره بل ومع معارضيه، بل حتى المنافقين معلومي النفاق بالوحي كان يحسن صحبتهم ويعفو عن سبابهم أو قطيعتهم صلى الله عليه وسلم.
وكان خلوقاً كذلك في سياسته الخارجية مع رسل وأمراء وملوك العالم، حتى من حاربه منهم فإنه لم يخرج أبداً عن حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق صلى الله عليه وسلم، وراجع -إذا أحببت- محاوراته صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة أمثال عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ووفود قريش المتتالية.
أيضاً انظر إلى مباحثاته صلى الله عليه وسلم مع بني عامر وبني شيبان وغيرهما، وراجع بيعتي العقبة الأولى والثانية، راجع المعاهدات والمحاورات مع اليهود ومع مشركي المدينة، راجع صلح الحديبية، راجع استقباله صلى الله عليه وسلم للوفود المختلفة على مدار السنوات المتعاقبة، راجع الرسائل إلى ملوك العالم، والخطب السياسية والمكاتبات إلى العمال والأمراء، ولا نبالغ إذا قلنا: إن علينا أن نراجع حياته بكاملها لأنه ما خلت لحظة من لحظات حياته، ولا مرحلة من المراحل التي مر بها في سياسته من أخلاق رفيعة وخلال حميدة في كل المواقف.
هذه كانت أخلاقه في الجانب السياسي من حياته صلى الله عليه وسلم، والكلام يستغربه سياسيو العصر الحديث ومحللو العالم ومفكروه، لكن هذا واقع رأيناه في السيرة النبوية.
المجال الآخر -وهو صعب أن تجد زعيماً من زعماء العالم إلا من رحم الله عز وجل- يفلح في التحلي بالأخلاق في الجانب العسكري والواقع أن الضوابط الأخلاقية التي وضعها صلى الله عليه وسلم في حروبه من المستحيل فعلاً الإلمام بها في هذه العجالة، فهي تحتاج إلى بحث مفصل ودراسة متأنية، ويكفي أن نذكر أنه كان دائماً يجعل الحروب آخر الحلول، لم يكن أبداً -كما يشاع عنه في بعض الكتابات أو الرسوم- متعطشاً للدماء كما نرى الكثير الآن من قادة وعسكري العالم، لكن كان كثير العفو صلى الله عليه وسلم عن عدوه في حالة تسليم العدو ورضوخه، وراجعوا فتح مكة، راجعوا موقعة حنين وغيرهما، وكان يحرم صلى الله عليه وسلم الخيانة في الحرب، أو نقض العهود، أو الهجوم دون إنذار، وكان يحرم قتل النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين غير المحاربين، وكان يكرم الأسرى ويوصي بهم، وكان يحرم قطع النخيل والأشجار إلا بضرورة عسكرية، وكان لا يهدم الديار ولا يخرب الأراضي صلى الله عليه وسلم، كان لا يعيث في الأرض فساداً بما اعتدنا أن نراه في الحروب غير الإسلامية سواء في القديم أو الحديث، دعوة الإسلام دعوة أخلاق في المقام الأول، والذي يدرس أحداث السيرة سيجد أن هذه السمة بارزة لا تخفى على أي محلل، ولن يجهلها أي منصف، وصدق الله عز وجل عندما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] إذاً: هذه هي السمة السادسة من السمات البارزة في السيرة النبوية.
أبدية الحرب والصراع بين الكفر والإيمان في الحياة
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الصراع ليس صراعاً شخصياً معه صلى الله عليه وسلم، إنما هو صراع عقائدي سيستمر مع أصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة، لذا كان من آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى حرب الرومان، وأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وجعل الجهاد صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، ولن يأتي زمان أبداً على الأرض يختفي فيه الشر وينتهي الباطل، أو يرضى فيه أهل الباطل عن أهل الحق فتكون حالة من الحوار فقط دون قتال.
وقد وعد الله عز وجل الشيطان بالبقاء إلى يوم يبعثون، وسيظل للشيطان محاولات ومحاولات لإضلال الخلق، ولن يقبل المؤمن الصادق بهذا الإفساد في الأرض، وستبقى أيضاً محاولات الإصلاح مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة.
هذا ما رأيناه في السيرة ورأيناه بعد ذلك بعد أحداث السيرة، ونراه في زماننا هذا، وسيبقى إلى يوم القيامة، سنة من سنن رب العالمين: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
بث الأمل في المسلمين
إن المؤمن لا يقنط أبداً من رحمة الله عز وجل، ولا يقنط أبداً من فضله وكرمه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] .
لذا فإن المؤمن مع رؤيته للظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية لا يتأثر مطلقاً بذلك، ويعلم دائماً أن الميزان في صالحه ما دام الله عز وجل معه، من هذا المنطلق يمكننا فهم الروح المتفائلة التي كان يتصف بها المجتمع المسلم في كل مراحل السيرة النبوية حتى في أشد هذه المراحل ظلاماً، رأينا ذلك في كل سنوات مكة الصعبة، بل رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى وهو مطارد في هجرته من مكة إلى المدينة، ورأيناه يبشر بنصر المسلمين في بدر مع كون المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ورأيناه يطمئن المسلمين بعد مصيبة أحد أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، ورأيناه يبشر المؤمنين ليس بفك الحصار عن المدينة أيام الأحزاب فقط، ولكن أيضاً بفتح فارس والشام واليمن، منهج حياة كامل رأيناه بارزاً في السيرة النبوية في كل المراحل.
لم يكن هذا التبشير فقط في المواطن الصعبة أو في مواقف الأزمات، بل كان سياسة عامة انتهجها صلى الله عليه وسلم في كل أحاديثه وخطبه وحواراته وتعليقاته صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة مما يجعل هذه البشرى وهذا الأمل منهجاً واضحاً من مناهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء أمته.
سعادة المسلمين بالمنهج الإسلامي
ولعلنا نفسر سبب السعادة بعد بدر والأحزاب وفتح مكة وغير ذلك من الانتصارات والإنجازات، لكن قد يتساءل أحد ممن يدرسون السيرة فيقول: هل هناك سعادة في تعذيب أهل مكة للمؤمنين؟ هل هناك سعادة في مصيبة أحد؟ هل هناك سعادة في أزمة حنين؟
الحق: أنه ليس هناك فترة من فترات السيرة النبوية إلا وتلحظ فيها لوناً من ألوان السعادة، حتى ولو كان الظاهر حزناً وألماً؛ فالمسلم الصادق يعاني ويتألم وهو يعلم أن العاقبة للمتقين، وأنه سيأتي يوم يمكن الله عز وجل فيه للإسلام ويعز فيه الدين، وهذا الأمل يبعث في نفسه الراحة والسعادة والاطمئنان، إضافة إلى سعادة المؤمن بعدم خصامه مع الكون والأرض والمخلوقات، فالكل يعبد الله عز وجل في تناسق جميل، وانسجام طبيعي.
أما الكافر فهو يعيش في تناقض مع نفسه ومع الكون، الكون كله يشهد بكل ذرة فيه بعظمة الخالق ووحدانيته وحكمته، والكافر لا يقر بذلك، فأي تعاسة تكون في نفسه؟ وأي سعادة يعيش فيها المؤمن بتوافقه مع الكون في عبادة رب العالمين سبحانه وتعالى؟!
والمسلم فوق ذلك ينتظر جنة في الآخرة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويعلم يقيناً أنه سيعوض يوم القيامة عن كل ظلم وقع عليه، وعن كل ألم تحمله، وعن كل هم أو غم عاش فيه، هذا التعويض المنتظر يخفف عليه كثيراً من ألمه ونصبه، حتى رأينا من يفقد حياته، ومع ذلك يقول كلمات تعبر عن منتهى السعادة، مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه وهو يطعن بالحربة في ظهره فتخرج من صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة. سبحان الله! هذه أيضاً سعادة.
وأمثلة ذلك كثيرة في السيرة النبوية، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن في باطن كل ألم سعادة؛ لأن المسلم يستشعر وقت وقوع الألم أنه قد كفر عنه جانب من خطاياه، ورفع قدره بدرجة معينة في الجنة، فانتظار المؤمن للجنة وحب المؤمن للجنة يجعله يقبل الألم، بل ويرضى به، وهذا نوع من أنواع السعادة لا تجده إلا عند المؤمنين حقيقة.
كانت هذه السمة التاسعة من سمات السيرة النبوية: السعادة في كل مواقف السيرة حتى وإن كانت مواقف مؤلمة.
وضوح مهمة البلاغ في الدعوة
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم ما يريد من أول أيام الدعوة، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تبليغ كل من يعرف ومن لا يعرف، واختلفت وسائل البلاغ في كل مرحلة، لكن البلاغ كان سمة عامة في كل مراحل السيرة، في أول أيام الدعوة كان البلاغ سراً وعن طريق الانتقال، واستمر ذلك ثلاث سنوات كاملة، ثم أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر على الناس، وبلغ أهل مكة جميعاً، وناداهم قبيلة قبيلة ورهطاً رهطاً، وصدوه عن دعوته وقاوموه، لكنه ما قصر صلى الله عليه وسلم في البلاغ أبداً، بل كان يذهب إليهم في اجتماعاتهم وبيوتهم، وكان لا يترك زائراً يدخل مكة إلا وحدثه عن الإسلام وبلغه إياه، وكان لا يترك وفداً أتى للحج إلا وشرح له الرسالة الإسلامية وبشره وأنذره، وكان يجد إعراضاً كثيراً وسخرية مرة، ومع ذلك ما توانى لحظة عن إيصال رسالته للناس صلى الله عليه وسلم.
وفي فترة المدينة المنورة اجتهد في نشر دعوته وتبليغ الناس، ليس فقط في المدينة ولكن في كل أرجاء الجزيرة، ووصل الأمر في السنة السابعة من الهجرة إلى مكاتبة زعماء وملوك العالم لتبليغهم دعوة الإسلام، كانت المهمة واضحة تمام الوضوح في ذهنه صلى الله عليه وسلم، إنه البلاغ مهمة الرسل، ومهمة أتباعهم الذين يسيرون في طريقهم.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفانياً في أداء هذه المهمة النبيلة إلى درجة أنه كان يحزن حزناً شديداً يكاد يهلكه عندما لا يهتدي إنسان بكلمات القرآن، مع أن مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي البلاغ فقط وليست الهداية، إلى الدرجة التي رفق الله عز وجل به وأنزل آيات في مواطن عدة من القرآن الكريم تنهاه عن الحزن الشديد، قال تعالى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] وأمثال ذلك كثير في القرآن الكريم.
إذاً: على المسلم الفاهم الواعي أن يلتقط هذه المهمة النبيلة ليجعلها مهمة حياته، لا يرضى أبداً بأقل منها رسالة، لا يرضى أبداً بأبسط منها قضية، هذه هي قضية المسلم في حياته بكاملها، وهذا ما فهمناه بوضوح من خلال السيرة النبوية.
كانت هذه السمة العاشرة من السمات البارزة في السيرة النبوية، فتلك عشرة كاملة.
سمات أخرى في السيرة النبوية
هناك جوانب أخرى كثيرة من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى تفريغ وقت، وإلى بذل جهد لكي تدرس وتفهم؛ لذا سنحاول إعداد بعض المحاضرات الخاصة بحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: سنتكلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام والدولة الشاملة، والرسول عليه الصلاة والسلام وحل مشكلات العالم، والرسول عليه الصلاة والسلام وفقه المعاملات، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والجانب الأخلاقي في التشريعات الإسلامية المختلفة، والرسول عليه الصلاة والسلام وفن امتلاك القلوب، والرسول عليه الصلاة والسلام وما تميز به عن عموم المسلمين، وخصائص حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام سواء كانت القرآن الكريم أو المعجزات الحسية التي رآها معاصروه، أو الإنباء بالغيب، أو الإسراء والمعراج، إلى أشياء كثيرة جداً نحتاج أن نفصل فيها في حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
بالإضافة إلى جوانب كثيرة متعلقة بخصائص حياته صلى الله عليه وسلم، مثل فن الإدارة، فن القيادة، فن التغيير، فن الخطابة، فن تربية الأطفال، وغير ذلك من فنون إبداعية تحتاج إلى تفصيل ودراسة وتعمق.
هذه بعض البحوث التي سنعملها إن شاء الله في الفترات القادمة، وهي مجرد فصول من كتاب ضخم كبير يستحيل إتمامه أبداً، وسيظل الدعاة والعلماء ينهلون من هذا النبع الصافي إلى يوم القيامة.