سلسلة السيرة النبوية بين حنين والطائف


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله بالسميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا في الدرس السابق عن يوم حنين العجيب جداً أنه لم يَدُرْ فيه قتال يذكر، ومع ذلك كان له من الآثار ما لا يحصى.

من أهم هذه الآثار: أن المسلمين فقهوا جيداً حقيقة النصر في الإسلام، وعلموا تمام العلم أن المسلم الذي يعد العدة دون أن يرتبط بالله عز وجل أن نصره بعيد، وثباته محال.

فكان هذا الدرس من أبلغ الدروس التي تعلمها المسلمون في كل حياتهم السابقة.

رأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم سبحانه وتعالى، وعندما عادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن حتى واصلوا فرارهم إلى مدينة الطائف، وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصري .

بعد هذا الأمر أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم معظم الجيش وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن من أجل مقابلتهم في معركة فاصلة، من أجل ذلك ترك الرسول صلى الله عليه وسلم توزيع غنائم حنين الهائلة حتى ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع.

سار الرسول عليه الصلاة والسلام بجيشه الضخم متجهاً إلى الطائف، وسبحان الله المقارنة عجيبة جداً بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره صلى الله عليه وسلم إليها من إحدى عشرة سنة، أيام العهد المكي، من إحدى عشرة سنة كان صلى الله عليه وسلم متجهاً إلى الطائف وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان ماشياً على قدميه ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه، طردته مكة وأخرجته وتنكرت له، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد ماتت، وكذلك مات عمه أبو طالب أيضاً، وليس معه في مكة إلا قليل من المؤمنين لا يتجاوزون مائة واحد من الصحابة، وكانوا مشردين في الحبشة، وكان الوضع في غاية المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه، بل عمقت الآلام، فرفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة، واستقبلته استقبال اللئام لا استقبال الكرام، وطردوه وصاحبه زيداً رضي الله عنهم، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة .

وأنتم تعلمون الدعاء المشهور الذي دعا به هناك، وهو دعاء يعبر عن درجة الألم والأسى والحزن الشديدة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.

وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الطائف وعاد متجهاً إلى مكة مهموماً على وجهه في ظروف لا يتحملها عامة البشر، ومع كون حالته النفسية قد وصلت إلى أقصى درجات الألم إلا أنه رفض تدمير هذه القرية الطائف وغيرها من القرى ممن كفر بالله عز وجل، مع أن ملك الجبال عرض عليه هذا الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في منتهى التجرد: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده ولا يشرك به شيئاً).

وسبحان الله مرت الأيام، والأيام دول، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وغير الله عز وجل الأحوال، وجاء صلى الله عليه وسلم الآن بعد إحدى عشرة سنة بما لم يتصوره أحد، لا من الطائف ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها، جاء صلى الله عليه وسلم الآن عزيزاً منتصراً ممكناً رافعاً رأسه، محاطاً بجيش مؤمن جرار يزلزل الأرض من حوله، يرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أحد عشر عاماً فقط فرقت بين الموقفين.

وتحقق ما ذكره صلى الله عليه وسلم لصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه يوم قال له بيقين بعد عودتهم المحزنة من الطائف: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.

وجاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تصور الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الطائف كانت تجول في خاطره ذكريات لا حصر لها، يخرج بجيش يقطع الصحراء باتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، فماذا كان يفكر به صلى الله عليه وسلم؟ لعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حبه رضي الله عنه، الآن زيد لا يسير معهم قد سبق زيد إلى الجنة رضي الله عنه وأرضاه، استشهد في مؤتة كما ذكرنا قبل ذلك، لعله تذكر أهل الطائف وهم يرفضون دعوته جميعاً بلا استثناء في تعنت أشد من تعنت أهل مكة.

لعله تذكر عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي -هذا الذي انتهت إليه الآن زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه يمرط -أي: يمزق- ثياب الكعبة إن كان الله عز وجل قد أرسله.

وعبد يا ليل فر فراراً مخزياً من أرض حنين، وذهب ليختبئ في جبن ظاهر في داخل حصون الطائف.

لعله تذكر عداس النصراني رضي الله عنه الغلام الصغير الذي آمن، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئاً، لكن الله عز وجل يعلمه.

لعله تذكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها صلى الله عليه وسلم عندما طردوه من الطائف، فالآن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يرقدان في قليب بدر يعذبان مع قادة الكفر في قبورهم.

لعله تذكر وهو يمر من وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به في رحلته الأولى للطائف، وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة.

لعله يذكر جبريل وملك الجبال والحوار الذي دار معه. ذكريات كثيرة جداً! بعضها مفرحة وبعضها محزنة، ولكن الأيام على أي حال تمر، وكل شيء يتحول إلى ذكرى، ولا يبقى إلا العمل الذي قدم.

وصل الجيش العملاق إلى الطائف، وتوقع الجميع معركة هائلة ستقع بين تجمع هوازن وثقيف في حصون الطائف في عقر دارهم وبين جيش المسلمين الضخم، وكما ذكرنا أن عدد قتلى المشركين في موقعة حنين (70) رجلاً فقط، يعني: الجيش بكامله لا زال موجوداً في الطائف (25000) مقاتل أو يزيدون والجيش المسلم (12000) مجاهد، فتوقع الجميع معركة هائلة، لكن رفض المشركون الخروج للحرب، فظلوا في حصونهم دون قتال، وحصون الطائف كانت شديدة المنعة، وإذا قرر أهل ثقيف وهوازن عدم الخروج فسيكون القتال صعباً للغاية.

ومع أن عددهم وعدتهم أضعاف المسلمين. ومع أنهم يقاتلون في بلادهم التي خبروها، وهم في ظروف اعتادوا عليها، لكن ألقى الله عز وجل الرهبة في قلوبهم، فما استطاعوا أن يأخذوا قرار الحرب مرة ثانية، بل اكتفوا بفضيحة حنين.

ولاشك أن في هذا خزياً كبيراً جداً وصغاراً شنيعاً؛ لأن نساء وأموال وأنعام هوازن في يد المسلمين الآن، ومع ذلك فضلوا ألا يخرجوا لاستخلاص هذه الأنعام والأموال والنساء والأولاد من أيدي المسلمين، هذا خزي كبير جداً وذل ليس بعده ذل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى أهل الطائف من هوازن وثقيف يرفضون الخروج للقاء الفاصل لم يتنازل صلى الله عليه وسلم بسهولة، بل جمع الجيش الإسلامي وقرر ضرب الحصار على حصون الطائف المنيعة، لعلهم يفقدون الأمل ويخرجون، لكن أول ما فرض الحصار بدأ أهل الطائف بإطلاق السهام والرماح على المسلمين، وكانت حصونهم عالية وكبيرة، واشتد رميهم واستشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً، ولم تكن سهام المسلمين تصل إلى داخل الحصون، وأصبحت المشكلة كبيرة على المسلمين، فأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد المسلمون عن الحصن حتى لا تصيبهم السهام، وبالفعل عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان بعيد عن حصون الطائف، لكن أيضاً استمر الحصار على مدينة الطائف.

الرسول صلى الله عليه وسلم فكر في خطة لإخراج المشركين من الحصون، فأمر سلمان الفارسي رضي الله عنه بصناعة المنجنيق لقذف حصون الطائف بالحجارة، وأمر بصناعة دبابات خشبية لكي يختبئ تحتها الجنود ليصلوا إلى القلاع وإلى الحصون دون أن تصيبهم السهام، وبالفعل بدءوا في قذف أسوار الطائف بالمنجنيق الذي صنعه سلمان رضي الله عنه، وصار المسلمون تحت الدبابات الخشبية، وبالفعل كسروا جزءاً من السور، وكانوا على وشك الدخول داخل أسوار الطائف لولا أن أهل الطائف فاجئوا المسلمين بإلقاء الحسك الشائك المحمى بالنار، والحسك الشائك هو عبارة عن أشواك حديدية ضخمة أوقدت عليها النار حتى احمرت، فألقوها على المسلمين فصارت مأساة كبيرة، أصيب المسلمون إصابات بالغة، مما دفعت المسلمين إلى العودة من جديد إلى معسكرهم، وما قدروا أن يقتحموا حصن الطائف.

لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس فقرر أن تحرق حدائق العنب المحيطة بالطائف، وكانت جنات ضخمة فيها مزروعات كثيرة، وأهم هذه المزروعات العنب.

فأخذ رسول صلى الله عليه وسلم القرار بحرق هذه الأعناب حتى يدفع أهل الطائف أو يجبرهم على الخروج للقتال، هو لا يحرق هذه الأشجار أو هذه الأعناب بغرض التدمير أبداً، لكن بغرض إجبار أهل الطائف على الخروج للقتال.

وبدأ المسلمون بحرق كمية ضخمة من العنب، فنادت ثقيف الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الأسوار وقالت: لم تقطع أموالنا إما أن تأخذها إن ظفرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم. يعني: لو غلبتمونا تأخذونها، ولو لم تغلبونا فاتركوها لله وللرحم، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أدعها لله وللرحم التي بيني وبينكم.

ذكرنا فيما مضى أن العلاقة بين ثقيف وقريش سيئة جداً، لكن كانت إحدى جدات الرسول صلى الله عليه وسلم لأمه من ثقيف، كانت الجدة الخامسة للرسول عليه الصلاة والسلام واسمها: هند بنت يربوع الثقفية ؛ فلذلك ترك صلى الله عليه وسلم حرق الأعناب وقطعها للرحم التي بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم.

ولم يفعل صلى الله عليه وسلم كما تفعل الجيوش الكافرة العلمانية مثل: جيوش فارس والرومان والتتار واليهود، وجيوش العصور الحديثة التي تفسد في الأرض لمجرد الإفساد؛ حتى إن الله سبحانه وتعالى يصفهم في كتابه الكريم بقوله: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

يعني: الإفساد عند غرض، أما المسلمون فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا لغاية محددة، فلما لم تحقق وقفوا عن الحرق كما رأينا، إذاً: هذه الوسيلة لم تفلح في إخراج أهل الطائف.

الوسيلة الأولى: الضرب بالمنجنيق.

الوسيلة الثانية: حرق الأعناب.

الوسيلة الثالثة: محاولة تفكيك الصف داخل الحصون، فقد نادى صلى الله عليه وسلم على العبيد في داخل الحصون وقال: (أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر) وكان العبيد كثيرين في المجتمع العربي القديم، وسياسة الإسلام أتت بتحرير العبيد في كل مناسبة ممكنة، فكانت هذه فرصة طيبة لتحرير بعض العبيد من صفوف المشركين، فهؤلاء العبيد في الغالب سيسلمون، وبذلك يستنقذون من ظلمات الكفر، وسيفقد أهل ثقيف طاقة هؤلاء العبيد، وسوف ينقل هؤلاء العبيد الأخبار من داخل الطائف إلى خارجها، فهناك أكثر من فائدة، فقد كان قراراً سياسياً دعوياً عسكرياً بارعاً من الرسول عليه الصلاة والسلام.

وبالفعل بدأ يخرج بعض العبيد من داخل الحصون، حتى وصل عددهم إلى ثلاثة وعشرين من العبيد، واكتشفت ثقيف الأمر وشددت الحصار على الأسوار، ومنعت خروج بقية العبيد، واستفاد المسلمون من خروج هؤلاء الثلاثة والعشرين عبداً وأهم استفادة كانت أمرين:

وأعظم الأمرين: هو إضافة ثلاثة وعشرين رجلاً إلى أمة الإسلام، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

الأمر الثاني: معرفة بعض المعلومات العسكرية الخطيرة.

فقد أخبر هؤلاء العبيد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الطعام والشراب الذي في داخل الطائف يكفي للمطاولة والصبر على الحصار سنة على الأقل أو عدة سنوات، فهذه معلومة في غاية الأهمية، فالحصار لن يكون يوماً أو يومين ولا شهراً ولا شهرين، بل عندهم طعام يكفي لسنة أو أكثر، والمسلمون لا يستطيعون أن يبقوا في هذا المكان؛ لأن القوات الإسلامية ليست مجرد فرقة إسلامية من الجيش الإسلامي، وليست مجرد جيش لدولة، بل القوات الإسلامية هي المجتمع المسلم بكامله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك في المدينة المنورة التي هي عاصمة الدولة الإسلامية إلا القليل من الرجال لحراسة النساء والأطفال والديار، وهناك الكثير من القبائل التي دخلها الإسلام حديثاً، فهي تحتاج إلى متابعة مستمرة خوفاً من انقلابها إلى الكفر، والهجوم على المدينة المنورة.

وهناك الكثير من القبائل لم تسلم بعد في الجزيرة العربية، وهناك اليهود في خيبر على مقربة من المدينة، وهم على عهد وقد يخالفون وينقضون كعادتهم، وهناك أهل مكة حديثو عهد بجاهلية، وهناك الغنائم الضخمة المتروكة في وادي الجعرانة، يعني: هناك أمور ضخمة كثيرة لا يستطيع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك كل هذه الأمور، ويبقى في هذا المكان النائي إلى أجل غير مسمى.

فماذا يعمل الرسول عليه الصلاة والسلام؟ الحصار طال جداً، حتى وصلت في بعض التقديرات كما في رواية مسلم عن أنس رضي الله عنه إلى أربعين يوماً كاملة في حصار الطائف، وليس هناك أي فائدة.

استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه من أصحاب الخبرة العسكرية والرأي السديد، عندما تسمع اسم هذا الصحابي الذي استشاره الرسول عليه الصلاة والسلام سينتابك العجب لا محالة، من هذا الذي استشاره صلى الله عليه وسلم؟ إنه نوفل بن معاوية الديلي

رضي الله عنه وأرضاه، هذا نوفل بن معاوية الديلي

زعيم بني بكر القبيلة التي كانت متحالفة مع قريش بعد صلح الحديبية، وهو الذي قاد قومه لقتل خزاعة، والذي كان سبباً في نقض صلح الحديبية، والذي دخل الحرم المكي ليستمر في عملية قتل رجال خزاعة، والذي رد بالرد الكفري على قومه عندما قالوا له: يا نوفل إلهك إلهك، فقال: يا بني بكر! لا إله لكم اليوم، هذا هو نوفل بن معاوية الذي ارتكب كل هذه الجرائم منذ شهرين أو ثلاثة، والذي كان سبباً في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة المكرمة ثم حنين، ثم الطائف، وسبحان مقلب القلوب ومصرفها سبحانه وتعالى.

أسلم نوفل بن معاوية بعد هذا التاريخ الأسود مع المسلمين، أسلم وحسن إسلامه، وانضم إلى الجيش المسلم، وأصبح مستشاراً أميناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن كنا نعجب من تحوله من الكفر إلى الإيمان، ومن الغدر إلى الأمانة، ومن حلفه لقريش إلى دخوله في الإسلام، إن كنا نعجب من كل ذلك فالعجب كل العجب والإبهار كل الإبهار في الدروس التي يعطيها لنا معلم البشرية وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم!.

فنحن نرى هذا التوظيف الرائع منه صلى الله عليه وسلم لكل الطاقات التي حوله، وهذا الاستغلال المفيد لكل من دخل في صف المؤمنين، وهذه القيادة المبهرة لكل هذه الأنواع المختلفة من البشر، وهذا الأمر لم يكن حدثاً عارضاً في حياته صلى الله عليه وسلم، لا، بل كان أمراً متكرراً وثابتاً في حياته كلها صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون توليته عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه إمارة معركة ذات السلاسل ولم يمر على إسلامه إلا شهور قليلة، وكذلك تقريبه خالد بن الوليد في كل أموره، حتى قال خالد : فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه! فهذا إحساس صادق من خالد بن الوليد ، مع أنه من المؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يستشير أصحابه الآخرين مثل: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير .. وغيرهم وغيرهم أكثر من استشارته لـخالد بن الوليد ، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يشعره دائماً بقيمته وأهميته واحتياجه لرأيه.

وكلنا يذكر توليته عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة المكرمة، ولم يكن قد أسلم إلا منذ أيام، هكذا يكون التعامل مع الرجال، وبالذات الذين يتمتعون بملكات قيادية.

والقواد إذا همشوا لا تضيع قواتهم فقط، بل قد يكونون وبالاً على الأمة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قمة الحكمة في التعامل مع الناس، وقمة الحكمة في إنزال الناس منازلهم، وقمة الحكمة في احترام أرائهم واستغلال قدراتهم.

ومن هذه السياسة الحكيمة نرى نوفل بن معاوية القائد المحنك يدلي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يتتبع قواد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، مثل ما نرى في كل مكان، لكن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، إنها سياسة نبوية ثابتة مستقرة، فماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.

يعني: هو يشبه أهل ثقيف بالثعالب، وهذا حقيقي ومشتهر عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عيينة بن حصن : إنهم قوم مناكير. يعني: أصحاب دهاء وفطنة.

ورأينا من هذه الفطنة وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة.

ثم إنه يؤكد أنهم لا مهرب لهم من هذه الحصون ( إن أقمت عليه أخذته ) غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كسرت ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، لن تكون لهم قائمة بعد اليوم، فقد طارت فضيحتهم في الآفاق، لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: ( وإن تركته لم يضرك ).

يعني: لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك وستفتح الحصن، لكن تضييع الوقت في حصارهم قد يكون ضاراً بالجيش الإسلامي أكثر من ضرره بثقيف.

فهنا عقد الرسول صلى الله عليه وسلم موازنة بين الأمرين، فوجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة، فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام القرار الصعب بالانسحاب إلى وادي الجعرانة حيث غنائم المسلمين، وترك حصار حصون الطائف المنيعة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الحسم في هذا القرار، وأرسل إلى عمر بن الخطاب أن ينادي في الناس ويقول: إنا قافلون غداً إن شاء الله.

فكيف كان رد فعل المتحمسين والعاطفيين من أبناء الجيش الإسلامي؟ لم يستريحوا لهذا القرار، فقالوا في استنكار: نذهب ولا نفتح حصون الطائف، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم كثرتهم احترم رأيهم، وأراد لهم أن يتعلموا الدرس بصورة عملية، فقال لهم: اغدوا على القتال. يعني: ما دمتم تريدون أن نقاتل فلنقاتل، فسمح لهم بالقتال في اليوم الثاني، وخرج المسلمون للقتال، وفي هذا اليوم بالذات أصيب المسلمون بإصابات شديدة الخطورة وإصابات بالغة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم على القرار الذي رغبوا فيه، ولم يقل لهم: ألم أقل لكم، وإنما قال لهم: إنا قافلون غداً إن شاء الله. فقبل المسلمون هذه المرة في سرور وامتنعوا عن الجدل، واقتنعوا بعدم جدوى القتال، وبدءوا فعلاً في جمع الرحال، فضحك الرسول عليه الصلاة والسلام عند رؤية المسلمين وهم يسارعون إلى جمع رحالهم.

يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف أموراً مهمة جداً، يعلمنا الواقعية في الحياة، ليس عيباً أن نفشل في أمر من الأمور، وليس بالضرورة أن تكون كل معاركنا وكل مشاريعنا ناجحة، لكن المهم لا نغرق في العمل دون إدراك أن الهدف غير قابل للتحقيق، وليس معنى هذا سرعة اليأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم بذل كل ما في الوسع، فقد استخدم كل وسيلة لفتح الحصن، ولكن لم يقدر، فقبل في واقعية أن ينسحب، وفرق كبير جداً بين المثابرة وبين تضييع الوقت، فالمثابرة على أداء عمل أمر مطلوب، لكن لابد أن تكون هناك مؤشرات للنجاح، لابد أن تكون هناك مقاييس تشير إلى أن هذا العمل ممكن التحقيق، ولابد أن تكون الخسائر أقل من الفوائد، من أجل هذا لابد من المتابعة والملاحظة والتقييم المستمر.

أما تضييع الوقت فهو الاستمرار في عمل يستحيل تحقيقه بالإمكانيات المتاحة، أو يتسبب في خسائر أكبر من الفوائد.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحقق الفائدة العظمى حتى وإن حصلت بعض الخسائر.

فنحن نلاحظ رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد أذن لهم بالقتال مع علمه أن فتح الحصن صعب جداً، لكن ليعيشوا معه في واقعيته صلى الله عليه وسلم.

ولما أيقن الصحابة بعد بصعوبة المهمة، ووافقوا على الرحيل وهم راضون، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفك الحصار ويغادر الطائف وهو يضحك.

هذه القيادة الهادئة تبث الأمن والراحة في قلوب الجنود، لا يوجد انفعال ولا عصبية، ولا تحميل الآخرين أخطاء لم يعملوها، ولا حالة غضب، ولا حالة يأس وإحباط، ولا حزن، ولا كلمة (لو)، لو فعلنا كذا لكان كذا أو كذا، بل هدوء أعصاب، ورزانة، وثقة، وقدرة على التكيف في ظل كل الظروف.

أنا سعيد بعدم فتح الطائف، قد تستغرب الناس هذا الكلام، لكن الأمر المفرح من وجهين:

الأول: لو فتحت الطائف في هذه الظروف الصعبة والقتال الشرس، والمطاردة لهوازن وثقيف، والقتال في داخل الحصون، لقتل منهم ما لا يتصور، ولفقد الإسلام قوة هؤلاء جميعاً؛ لأن هوازن وثقيف أسلموا بعد ذلك، فلو قتلوا لفقد الإسلام قوتهم، ولكان عاقبتهم النار، وهذا أسوأ ولاشك.

الثاني: أن هذا الانسحاب دون إتمام المهمة فتح لنا باباً أن نفعل المثل إن تعرضنا لنفس الموقف، لكن لو أصر الرسول عليه الصلاة والسلام على عدم الانسحاب حتى يفتح الحصن، لكان في هذا إحراج كبير جداً للأمة الإسلامية؛ لأنه سيكون لزاماً علينا أن نفعل مثله، لكن بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لقادة المسلمين، ولرأي الشورى، إن رأى المسلمون أن الحصار يجدي صبروا كما حدث في فتح خيبر، وإن رأوا أنه أمر غير ممكن أو خسائره كبيرة انسحبوا، كما حدث في الطائف، ولهم في كلتا الحالتين أُسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هنا موقف في منتهى الرقي من مواقفه صلى الله عليه وسلم وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال في حب وفي أمل: اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم.

روى الترمذي وأحمد وقال الترمذي : حسن صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم) ما غابت عنه أبداً رسالته في الحياة، فرسالته أن يصل بدعوته إلى الناس لا أن يقتلهم، ما على الرسول إلا البلاغ، حتى وإن رفض أهل الطائف الإيمان واستكبروا عنه وقاوموا وقاتلوا، فهو ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع مرور السنين تلو السنين ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع ذكريات الطائف في المرة الأولى، ومع واقع الطائف في المرة الثانية، ما زال صلى الله عليه وسلم يرجو إسلامهم.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجز الناس عن النار، وهم يقتحمون فيها).

وأهل الطائف يدفعون أنفسهم دفعاً إلى النار ويقتحمون فيها، والرسول عليه الصلاة والسلام حريص عليهم أكثر من حرصه على نفسه صلى الله عليه وسلم.

كذلك عندما ناداه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين أبى صلى الله عليه وسلم أن يهلك الطائف ومكة المكرمة حتى بعد أن عرض عليه ذلك ملك الجبال.

كذلك فعل ذلك أيضاً مع قبيلة دوس لما رفضوا الإسلام قال: (اللهم أهد دوساً، وائت بهم).

وفعل ذلك مع قريش بعد أن قتلت (70) من خيار الصحابة في أحد، قال: (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون).

فصدق الله العظيم إذ يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ليس رحمة للمسلمين فقط، ولكن رحمة للعالمين لكل البشرية لكل الإنسانية.

رجع الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أربعين يوماً كاملة، ووصل إلى وادي الجعرانة ليبدأ في مهمة أخرى عظيمة، وهي مهمة تقسيم الغنائم المهولة على الجيش المنتصر.

نريد أن نقف وقفة سريعة مع الغنائم، الغنائم خصيصة لهذه الأمة العظيمة الأمة الإسلامية، فهي لم تكن مشروعة للأمم السابقة، روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. وذكرها منها: وأحلت لي الغنائم)، يعني: هي نعمة من الله عز وجل وحافز قوي للمجاهد، فهي عوض للمجاهد عن تركه للديار وللأعمال وللأسرة وللوطن، ولاشك أن الجيش الذي توزع عليه الغنائم يقاتل بحمية تختلف عن الجيش الذي لا يتجاوز فيه راتب الجنود دراهم معدودة.

يقول الشرع الإسلامي: إن أربعة أخماس الغنيمة توزع على أفراد الجيش المقاتل، وخمس الغنيمة المتبقية يذهب للدولة تتصرف فيه حسب المصلحة، لكن في هذا الوقت في زماننا يستكثر القادة الكبار والزعماء هذا العطاء الضخم للجنود، ويحتفظون به للدولة أو لهم، فيسلبون بذلك حق الجنود.

ولاشك أن ذلك سيكون له انعكاس كبير على قتال الجنود في المعارك، وعلى أداء الجنود في الحروب.

فماذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين الهائلة؟ الفقهاء وكتاب السير اختلفوا فيما فعله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين خاصة؛ أما المعارك السابقة بدءأً من بدر وحتى هذه اللحظة فقد اتفق الجميع على أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش وخمس للدولة، إلا أن الأمر بالنسبة لحنين كان موضع خلاف بين الفقهاء.

فمنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم.

والمؤلفة قلوبهم: هم الذين أسلموا حديثاً سواءً من أهل مكة الطلقاء، أو من الذين أسلموا من الأعراب قبل فتح مكة مباشرة.

ومن قال بهذا الرأي: ابن حجر العسقلاني رحمه الله كما في فتح الباري.

ومنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم أعطى المؤلفة قلوبهم من الخمس المتبقي المملوك للدولة.

وممن قال بهذا الرأي: القرطبي ، وأبو عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال، وابن خلدون ، والقاضي عياض .. وغيرهم.

وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير؛ لأن هذا الرأي يتفق مع الشرع والعقل والنقل، وعندي أكثر من دليل على ذلك:

الأول: هذه الغنائم ليست ملكاً للرسول عليه الصلاة والسلام ليوزعها بطريقة تخالف التوزعة الشرعية، بل هذه الغنائم ملك للجيش، ولا تؤخذ منه إلا باستئذان خاص، وأيضاً هذا ما حصل.

ومن قال: إن هذا أمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام يلزمه الدليل على ذلك، وإلا يصبح من حق أي زعيم أن يقول: إن ظرفي يماثل ظرف يوم حنين، فيأخذ الغنائم كلها لينفقها حسب ما يرى.

الدليل الثاني: لو كان هناك تغيير في تقسمة الغنائم لتوقعنا أن يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك أمر خاص بهذه الواقعة، حتى لا يعتقد البعض أن ما فعله في حنين قد نسخ التقسيم السابق للغنائم، خاصة وأن هذه المعركة هي آخر موقعة حربية مع العرب، حتى موقعة تبوك التي لم يحدث فيها قتال، ولم تكن فيها غنائم.

الدليل الثالثة: ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وكذلك عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأعرابي عند توزيع غنائم حنين بعد أن أمسك وبرة أو شعرة بين إصبعيه قال: (إنه ليس لي من الفيء شيء، ولا هذه) أي: ولا مقدار هذه الشعرة، (إلا الخمس، والخمس مردود فيكم) فهذا تصريح من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقاله بعد توزيع الغنائم، ولا أدري كيف خفي هذا الحديث عمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم، والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت ، وأخرجه كذلك مالك والشافعي ، وحسنه ابن حجر في الفتح.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يصرح أنه لا يملك في يوم حنين إلا الخمس فقط من الغنائم.

يبقى هذا الدليل الثالث.

الدليل الرابع: لو نظرت إلى من وزع عليهم الغنائم لأدركت أنه من المستحيل أن يكون قد قسم كل هذه الغنائم على المؤلفة قلوبهم، فعدد الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العطاء السخي لا يزيدون في أي كتاب من كتب السيرة على عشرين رجلاً، ولو جمعت الأسماء من الكتب المختلفة قد تصل إلى أربعين أو خمسين رجلاً بالكثير.

إذاً: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الناس مائة من الإبل فعطاؤه لأربعين رجلاً سيبلغ أربعة (4000) بعير فقط، مع أنه كان يعطي بعضهم خمسين لا مائة، فسيكون أقل من (4000) أو أقل من (5000) بعير.

فهذه (4000) بعير فأين ذلك من (24000) بعير هي غنائم حنين من غير الشياه فقد بلغت (40000) شاة، وغير الفضة (4000) أوقية من الفضة، وغير (6000) من السبي، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أرقاماً كبيرة كمائة بعير أو خمسين بعيراً إلا لهذه المجموعة من المؤلفة قلوبهم فقط.

الدليل الخامس: هل كان سيرضى أفراد القبائل من الأعراب ومن قريش إعطاء زعمائهم فقط، أم أنهم لا يرضون أبداً إلا إذا أخذوا ولو شيئاً يسيراً؟ يعني: لو أنا أعطيت لزعيم قبيلة غطفان مائة من الإبل، هل سيرضى (2000) أو (3000) غطفاني دون إعطائهم؟ لاشك أن قلوب الجميع كانت تهفوا إلى الغنيمة، وكل الناس تحتاج إلى تأليف قلوبهم.

أنا أرى أن (99%) من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وبعد فتح خيبر يحتاجون إلى تأليف لقلوبهم، ولن يترفع منهم عن هذه الغنيمة إلا القليل، أمثال: خالد بن الوليد ، عمرو بن العاص ، وعثمان بن طلحة ، والعباس ، أمثال هؤلاء الكبار وبعض الأفراد المعدودين.

أما الباقي فسيحتاج إلى تأليف، ودليل ذلك أن الرسول عليه السلام عند الهزيمة أول المعركة في حنين لم ينادِ على أولئك الذين أسلموا قبل الفتح؛ لأنه يعلم أن منهم من أسلم إلا رغباً أو رهباً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بالنداء أصحاب الشجرة أهل الحديبية وهؤلاء هم (1400) فقط، أي: أنه حتى يرضي المسلمين الجدد عليه أن يعطي (10600) مقاتل ويبقى (1400) وهم أصحاب الشجرة.

فإذا كان ينوي إعطاء (10600) من الغنيمة أيعجز أن يعطي (1400) الباقين؟ هذا كلام غريب لا يقبل، وخاصة أن هؤلاء هم الذين أدوا ما عليهم، وهم الذين دافعوا وكافحوا وبذلوا الجهد، وردوا كيد المشركين، فإعطاء (1400) لا يؤثر مطلقاً في إعطاء (10600).

فليس هناك أي داع لحرمانهم من الغنيمة الرئيسية الشرعية المستحقة وهي أربعة أخماس الغنيمة الكلية.

هذه خمسة أدلة، وهناك دليل سادس سنذكره إن شاء الله في الدرس الآتي مع تقدم الأحداث.

قد يقول قائل: إن هناك ما يعكر صفو هذا التحليل في أمرين:

الأول: رواية البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه وذكر فيها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً).

الأمر الثاني: ما جاء أيضاً في البخاري ومسلم : من أن الأنصار قد وجدوا في أنفسهم. أي: حزنوا بعد توزيع الغنائم، فإذا كانوا قد أخذوا فلماذا حزنوا؟ هذان الدليلان سنرد عليهما إن شاء الله أيضاً في الدرس الآتي.

إذاً: بعد كل هذا ماذا عمل صلى الله عليه وسلم؟ إن الشرع والمنطق والعقل يقول: إنه قسم أربعة أخماس الغنائم على الجيش بكامله سواءً كانوا من المهاجرين أو الأنصار، أو الأعراب الذين أسلموا قبل الفتح، يعني: قسم أربعة أخماس الغنائم على (12000) مقاتل، وبعد ذلك قسم الخمس المتبقي المملوك للدولة، الذي يملكه صلى الله عليه وسلم وله حق التصرف فيه كزعيم للدولة وكقائد للأمة الإسلامية، قسم هذا القسم على المؤلفة قلوبهم، على الأربعين أو الخمسين واحداً.

والجزء الأول: الذي هو أربعة أخماس قسمه صلى الله عليه وسلم بين (12000) بالتساوي؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مسند أحمد بن حنبل ، وذكر فيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم على السواء).

يعني: الفارس الذي معه فرس يأخذ ثلاثة أضعاف المترجل في القتال؛ لأنه يتولى رعاية الفرس من ماله الخاص، وبجهده الخاص؛ ولأ، الدولة كانت لا تملك هذه الخيول ولا تنفق عليها.

والجزء الثاني: الذي هو خمس الغنيمة وزعه الرسول صلى الله عليه وسلم على الطريقة التي يريدها، وهذا التوزيع كان على بعض الرجال دون غيرهم.

مقدار غنائم حنين

نتحدث عن غنائم حنين بالأرقام:

كانت غنائم (24000) من الإبل، و(40000) شاة، و(4000) أوقية من الفضة، هذا غير (6000) من السبي.

إذاً: أربعة أخماس الغنيمة تساوي (19200) من الإبل، و(32000) شاة، و(3200) أوقية من الفضة، و(4800) من السبي، فهذه الغنائم توزع على (12000).

كانوا يقيمون الجمل الواحد بعشر من الشياه، يعني: أن كل واحد من أفراد الجيش سيأخذ إما جملين، وإما عشرين من الشياه.

وجاء في بعض الكتب تقول: أن الواحد من (12000) كان يأخذ أربعة جمال أو أربعين شاة، لكن عندما تحسبها ستجد أن هذا غير صحيح، وأن الصحيح أن الواحد كان يأخذ جملين أو عشرين من الشياه، إلا أن تكون عدد الغنائم أكثر من ذلك، لكن الثابت والصحيح أن عدد الغنائم مثل ما ذكرناه: (24000) من الإبل، و(4000) وأربعة آلاف أوقية من الفضة.

فتكون هذه التقسيمات إما جملين أو عشرين من الشياه لكل فرد.

أما تقسيم الفضة فكل واحد سيأخذ ربع أوقية من الفضة.

أما السبي فتقسم بمعرفة الزعيم أو الإمام أو رئيس الدولة، وبما أن السبي (4800) وعدد الجيش (12000) فهناك من سيأخذ وهناك من لا يأخذ، فكان صلى الله عليه وسلم يقرع بين الصحابة رضي الله عنهم أحياناً، وكان يعوضهم بالمال أحياناً، وكان يعطي البعض أحياناً، والبعض الآخر يعطى من الغزو اللاحق بعد ذلك.

إذاً: القاعدة التي ستحكم هو التقسيم بالتساوي بالنسبة لأربعة أخماس الغنائم، أما بالنسبة للخمس المتبقي، فهذا المال هو مال الدولة، والرسول عليه الصلاة والسلام كقائد يوجهه في الوجه الأصلح للدولة، قد يشترى به السلاح، قد يفتدى به الأسرى، قد تكون منه الهبات لأهل البأس في الحرب، قد تعطى منه رواتب وأجور، قد يدخل في مشروعات الدولة المختلفة.

المهم أن القائد سينفقه في الوجه الأصلح للدولة، فما هو الأصلح للدولة في ذلك الوقت؟ الرسول صلى الله عليه وسلم رجل عمل يعيش أرض الواقع، ويعلم صلى الله عليه وسلم أن في جيشه من الرجال من يقف على شفا حفرة، فمنهم من هو متردد جداً في الإسلام.

ومنهم من دخل الإسلام رهباً من قوته، أو رغباً في أمواله.

ومنهم من كان سيداً مطاعاً في قومه ليس لأحد في العرب أو في العالم كلمة واحدة عليهم، فأصبح الآن تابعاً له صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من لو أمر قبيلته بالردة ومحاربة المسلمين لفعلوا ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كل هذه الأمور ويدركها تماماً، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هناك من لم يكن مقتنعاً تمام الاقتناع بالإسلام، ولم يكن الإيمان قد تغلغل في قلوبهم، وأن نور الإسلام لم يكن قد محا تماماً ظلمات الكفر التي عاشوا فيها سنوات طويلة.

سبب تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم بغنائم حنين

كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدولة الإسلامية تقف الآن على بركان خطير، فلو خطر على ذهن كل سيد من سادات العرب، وكل زعيم من زعماء القبائل المختلفة أن يثور وينقلب على الدولة الإسلامية، فإن هذا قد يؤدي إلى دمار شامل للدولة الجديدة؛ الدولة الجديدة لم تستقر بعد بصورة جيدة، وخاصة أن أموال وأملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت جداً، وكثر أتباع المسلمين، وليس هناك وقت كاف لتربية كل هؤلاء المسلمين الجدد.

فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لن يؤمن جانبهم إلا بترضية سخية ومجزية من الدولة الإسلامية، فلو أحسوا أن حالتهم المادية استقرت، وأن أموالهم كثرت، وأن وضعهم الاجتماعي تحسن بعد انتمائهم للدولة الإسلامية، فسيحبون هذه الدولة التي حققت لهم هذا الرخاء، ويحاولون بكل طاقة أن يدعموا هذه الدولة؛ ليستمر وضعهم في التحسن، وهؤلاء أصحاب مادة من البداية إلى أن يحسن إسلامهم بعد ذلك.

نعم، الإيمان الذي يكون سببه حب المال إيمان ضعيف، لكن قد يكون هذا في البداية، ثم إذا دخل في محاضن التربية الإسلامية يبدأ الإيمان في الرسوخ تدريجياً حتى يصبح الإيمان أغلى عنده من المال.

والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن النظام القبلي المترسخ في الجزيرة العربية منذ قرون يجعل لقائد القبيلة الكلمة العليا المطلقة في قبيلته؛ من أجل ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يشتري رضا هؤلاء الزعماء واستقرار هؤلاء الزعماء بالمال.

فعلاً هؤلاء الزعماء سوف يؤثرون تأثيراً إيجابياً على أتباعهم من القبائل المختلفة، ومن ثم هو يشتري استقرار الدولة الإسلامية، لكن هناك معوق لهذا الأمر، وهذا المعوق يحتاج إلى دراسة.

فالذين بذلوا الجهد في معركة حنين، والذين كانوا سبباً مباشراً من أسباب النصر هم قدامى المهاجرين والأنصار، وهؤلاء بفضل الله عز وجل ثابتون في الإسلام دون شك، لا يحتاجون لإغراء بالمال أو بغيره، وتاريخهم معروف جداً، ومواقفهم مشرفة وأياديهم بيضاء عن الإسلام والمسلمين.

وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يعطي عطاءً أكبر لأهل البلاء ولمن بذل جهداً زائداً في القتال، وعمل ذلك في أكثر من موقعة قبل حنين.

فهو لو أراد أن يكافئهم على جهدهم سيعطيهم من الخمس الذي تمتلكه الدولة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف المحايد، هل يعطي زعماء القبائل الذين أسلموا حديثاً ولم يبذلوا الجهد المطلوب في حنين، ولم يعودوا إلى الصف إلا بعد رؤية الأمور تتجه لصالح المسلمين؟ هل يعطي هؤلاء ليشتري استقرار الدولة الإسلامية، أم يعطي الأنصار والمهاجرين ليكافئهم على جهدهم؟

لقد عقد الرسول عليه الصلاة والسلام مقارنة بين الوضعين، واختار دون تردد الرأي الأول؛ لأن استقرار الدولة الإسلامية هدف تتضاءل إلى جواره الأهداف الأخرى، لو تزعزع هذا الاستقرار فسيدفع الجميع الثمن، سواء من قدامى المسلمين، أو ممن أسلموا حديثاً، الجميع سيعاني من هذا الاضطراب في استقرار الدولة الإسلامية.

ولا ننكر أن هناك ضرراً نفسياً ومادياً سيقع على الأنصار والمهاجرين، لكن الضرر الأكبر هو اضطراب الدولة الإسلامية وعدم استقرارها، ولتصديق قاعدة: دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين. رأى الرسول عليه الصلاة والسلام أن شراء زعماء القبائل وسادتهم بالمال مقدم على مكافأة الأنصار والمهاجرين، بل وجد صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يعطي جزءاً لسادة القبائل وجزءاً للأنصار والمهاجرين؛ لأن هذا سيؤدي إلى نقص المعطى لسادة القبائل، وقد يستصغرونه أو يستحقرونه فلا يتحقق المطلوب، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية: هؤلاء الزعماء قد لا يشعرون بشيء من التميز، ومن ثم قد لا يرضون تمام الرضا.

وأنا أعلم أن كلامي هذا قد لا يرضي عواطف المستمعين، لكن لاشك أنه يقنع عقول المستمعين، هذا الكلام عليه تطبيقات عملية كثيرة جداً سنراها بعد ذلك في الفتوح وعند مواجهة أحداث الفتنة، وفي مواقف كثيرة، ولاشك أن هذا هو الأفضل والأحكم؛ لأنه في الأساس اختيار نبوي أقره رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم ينزل وحي يعارض هذا القرار.

ونحن رأينا ممن عاصر هذا الموقف بعض الاستغراب وعدم الفهم، وكان ممن استغربه مؤمنون شديدو الإيمان كالأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وسنأتي لقصتهم في الدرس القادم إن شاء الله.

كذلك استغربه بعض الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وليسوا من السادة، ووصل استغرابهم إلى درجة غير مقبولة، من هؤلاء أحد الأعراب جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث جاء هذا الرجل وقال في غلظة: (والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله عز وجل فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينسب العدل في هذه القسمة له وحده، إنما قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) وهذا فيه تأكيداً على أن الأمر مؤيد بالوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

وهذه الكلمة من هذا الرجل كانت فاجرة، وقد تحمل على الكفر إلا أن الرسول عليه السلام لم يشأ أن يقتله بها، مع أن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد عرضا عليه قتل هذا الرجل، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أنه لا يقتل؛ لعلة واضحة، قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه) يعني: كان هدف استقرار الدولة الإسلامية واضحاً جداً في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم، لو قتل هذا الرجل لنفر الناس عن الدولة الإسلامية مخافة القتل عند الخطأ؛ لذلك عامله صلى الله عليه وسلم كما يعامل المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فهذه القصة أوضحت طبيعة بعض المسلمين الجدد، وأظهرت ما كان يتوقعه صلى الله عليه وسلم ويخشاه أمر واقعي موجود، وخاصة أن هذه القصة ما كانت حدثاً فريداً في قصة حنين، لا، بل تكررت في أكثر من موقف عند توزيع غنائم حنين، ولاشك أن هذا كله كان يتراكم في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام ليصبح سبباً واضحاً في القرار الذي أخذه بخصوص توزيع الخمس على الزعماء والسادة.

أيضاً موقف مشابه لهذا الموقف حدث عند توزيع الغنائم، وهذا الموقف جاء أيضاً في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يوضح طبيعة ونفسيات الأعراب المشاركين في حنين، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة، ومعه بلال رضي الله عنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني)، كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد وعد بتقسيم الغنائم عليهم، ولكن تأخر كثيرًا جدًا عن يوم حنين؛ لأنه بقي أربعين يوماً تقريباً محاصراً الطائف هذا غير أيام الذهاب والعودة، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن تلطف معه وقال له: أبشر. يعني: سأعطيك أبشر، فرد الأعرابي في غلظة تعبر عن نفسية منحرفة قال: قد أكثرت علي من أبشر، وحتى الآن لم أر شيئاً. هذا الكلام أثر جداً في الرسول عليه الصلاة والسلام، وغضب صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أبي موسى الأشعري وإلى بلال وقال: رد الأعرابي البشرى. قلت له: أبشر فرفض، فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا.

الشاهد من القصة: غلظة الأعراب الذين أسلموا حديثاً، فهم لم تروض أخلاقهم بعد في الإسلام.

خلاصة القول شئنا أم أبينا: هذه النوعية من الناس وهذه الفئة من المسلمين ستظل موجودة، إما أن نعترف بالواقع ونتعايش ونتعامل معهم على هذا الأساس، وإما نعيش في مثاليات وهمية ليس لها مكان على أرض الواقع، مع كل ما يحمله هذا النهج الأخير من خطورة على الأفراد والأمم، ونريد أن نلفت الأنظار أيضاً لنقطة مهمة جداً، قبل الخوض في تفصيلات ما حدث عند تقسيم الخمس على الزعماء والسادة، وهي: أنه لولا ثقة الرسول عليه الصلاة والسلام التامة بالسابقين من الأنصار والمهاجرين؛ لكان تطبيق هذا القرار مستحيلاً وغير ممكن؛ لأن إيمانهم لو كان ضعيفاً لاحتاجوا هم أيضاً إلى تأليف وإلى إعطاء مال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم تماماً أنهم عاشوا ليعطوا لا ليأخذوا، وعاشوا لدينهم لا لأنفسهم، وطلبوا الجنة ولم يطلبوا الدنيا، من أجل هذا استطاع أن يأخذ القرار الصعب.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وولديه يزيد ومعاوية من غنائم حنين

تعالوا بنا ننظر ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الخمس مع زعماء مكة وقادة القبائل، مع العلم أن هذا الخمس يمثل رقماً كبيراً جداً من الغنائم، فالخمس كان (4800) من الإبل، و(8000) شاه، و(800) أوقية من الفضة، و(1200) من السبي.

فكان أول لقاء مع زعماء مكة وأولهم أبو سفيان زعيم مكة الأول، فقد حكم مكة ست سنوات متصلة بعد مقتل أبي جهل ، منذ غزوة بدر حتى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة، وهو قد حصلت له مواقف مهينة في غضون الشهرين السابقين بدءاً من زيارته للمدينة المنورة كما رأينا قبل ذلك لمحاولة إطالة مدة الحديبية، ومروراً بموقفه في الطريق من المدينة إلى مكة، وكان إيمانه في ظروف قاسية جداً على قلب أي زعيم، وكذلك عند دعوته أهل مكة إلى عدم الدفاع عنها وفتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون قتال، وانتهاءً بنزع زعامة مكة منه، وإعطاء هذه الزعامة لأحد الأمويين، كان في مثل عمر أولاده وهو عتاب بن أسيد رضي الله عنه.

لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقدر كل هذه المعاناة التي يشعر بها أبو سفيان ، كما أنه يعلم أنه لن يرضى بقليل من العطاء؛ لأنه من كبار زعماء مكة؛ من أجل هذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام عطاء ضخماً.

جاء أبو سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في وادي الجعرانة، وحين رأى أبو سفيان الغنائم الهائلة قال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً. يعني: صرت أغنى رجل فينا.

فقد كان يلمح بوجود المال الكثير، فتبسم صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير نافع، قال: أعطني يا رسول الله من هذا المال. هكذا تصريحاً.

لا تتعجبوا؛ فهذه كميات هائلة من المال، ولعله إن لم يصرح أن توزع على غيره وعندها سيندم حيث لا ينفع الندم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال زن لـأبي سفيان أربعين أوقية من فضة، وأعطه مائة من الإبل. بلال الذي كان يباع ويشترى ويعذب هو الآن المقرب من زعيم الدولة، وهو الذي يعطي هذا وذاك من الزعماء السابقين، فكان أبو سفيان ينظر إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه، فكل هذه الأغنام، وكل هذه الإبل، وكل هذه الفضة تصبح ملكه، في لحظة واحدة أصبح أبو سفيان يمتلك أربعين أوقية من الفضة. يعني: حوالي كيلو ونصف فضة، ومائة من الإبل، وهذا رقم ضخم هائل، فدية القتيل مائة من الإبل، وهذا هو نفس الرقم الذي رصدته قريش لمن يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام أو الصديق رضي الله عنه حياً أو ميتاً عند الهجرة إلى المدينة، ومع أن هذا رقم مهول إلا أن أبا سفيان وجد نفسه يطلب المزيد قبل أن يفنى هذا المال الغزير، قال أبو سفيان : ابني يزيد يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فقال أبو سفيان : ابني معاوية يا رسول الله، وهذان كانا مسلمين من أبنائه، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فذهل أبو سفيان وقال في صدق -واسمعوا هذا الكلام الذي سيقوله-: إنك الكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً. تشعر بالصدق في كل كلمة من كلماته، ما الذي غيره من رجل يشك في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى رجل مؤمن مادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي ثبته بعد تردد؟ ما الذي أسعده بعد حزن؟ أليست الثلاثمائة من الإبل والمائة والعشرين أوقية من الفضة، وما هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟ وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟ وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية، وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة على الإيمان.

صحيح أن المال حلو خضر، لكن يتصاغر جداً إلى جوار هذه المعاني، فهذه كانت نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام، من أجل هذا كان يعطي صلى الله عليه وسلم بلا حساب، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان يعطي وكأن المال لا ينتهي، وانتهت قصة أبي سفيان مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وجاء غيره وغيره وغيره.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام من غنائم حنين مع درس تربوي نبوي

جاء حكيم بن حزام رضي الله عنه وهو أيضاً من مسلمة الفتح، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار رواه البخاري ومسلم ، والذي يروي الحوار هو حكيم بن حزام نفسه، يقول حكيم رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطان) يعني: أعطاه مائة من الإبل، ثم يقول حكيم : (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثانية، (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثالثة، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطي حكيم بن حزام درساً تربوياً في منتهى العظمة، قال له: (يا حكيم ، إن هذا المال حلوة خضرة) ولم يقل: حلو خضر؛ لأن المقصود هنا الدنيا، كما في الحديث: (إن الدنيا حلوة خضرة).

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بسخاوة نفس) يعني: بغير شره وبغير إلحاح، (بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس) يعني: بطمع وتشوف، (لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى).

لما سمع حكيم بن حزام الدرس دخل في قلبه مباشرة، وفقه مراد الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وأسرع برد المائة الثانية والثالثة وأخذ الأولى فقط، ثم قال في صدق: (يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) يعني: لا آخذ من أحد شيئاً، ولا أنقص أحداً من ماله، فكان صادقاً في قسمه هذا رضي الله عنه، ما كان يأخذ من أحد شيئاً أبداً، حتى إنه كان يرفض العطاء الذي يستحقه من أبي بكر ثم عمر بعد ذلك؛ لأنه أقسم أنه لا يأخذ من أحد شيئاً أبداً.

كان هذا درساً نبوياً عظيماً جداً، والمنهج الإسلامي العظيم كيف يبني الناس على صورة أشبه بالملائكة منها بالبشر.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لبقية زعماء القبائل من المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين

غدا صلى الله عليه وسلم يوزع على بقية زعماء مكة، أعطى من يعتقد أن في قلبه ضغينة للإسلام وحقد على الدولة الجديد، إما لدوافع قبلية، أو أن أقارب بعضهم قتلوا على يد المسلمين، أو أنهم نزعت زعامتهم الشخصية، فأعطى سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو أحد كبار زعماء مكة، والمفاوض القرشي الشهير في صلح الحديبية، والذي أسلم منذ أيام قليلة فقط في فتح مكة.

وأعطى الحارث بن هشام أخا أبي جهل وذلك ليلين قلبه، ويهون عليه مصابه في أخيه زعيم مكة سابقاً أبي جهل ، وليتألف قلوب بني مخزوم.

وأعطى النضير بن الحارث أخا النضر بن الحارث شيطان قريش المعروف، والذي كان من ألد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي قتل في أعقاب غزوة بدر، أعطاه ليتألف قلبه، ويتألف قلوب بني عبد الدار.

وأعطى صلى الله عليه وسلم كثيراً من زعماء مكة ليضمن استقرار الأوضاع في مكة.

بعد ذلك بدأ يعطي زعماء القبائل من الأعراب من أجل أن يضمن ولاءهم وانتماءهم للدولة الإسلامية، فقد أعطى عيينة بن حصن زعيم قبيلة بني فزارة، أعطاه مائة من الإبل، وهذا الرجل كان غليظاً جداً سيئ الخلق، اشتراه صلى الله عليه وسلم بالمال في هذا الموقف، فسكن عن إحداث فتنة، وإن كانت أخلاقه لم تتغير كثيراً، فهذا الرجل ارتد بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه عاد وتاب أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وأعطى كذلك زعيم بني تميم: الأقرع بن حابس وأيضاً كان من غلاظ الطباع، وحديث الإسلام، وقبيلته بنو تميم قوية أعطاه مائة من الإبل ليتألف قلبه وقبيلته.

وكذلك أعطى العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم، يبدو أنه قدر قيمة العباس أقل مما قدر قيمة عيينة والأقرع فأعطاه خمسين ناقة فقط، ومع أن خمسين ناقة كثيرة جداً إلا أن ذلك لم يعجب العباس بن مرداس فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد والمساواة مع عيينة والأقرع زعيمي فزارة وتميم، وقال العباس بن مرداس شعراً:

فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

العبيد الذي هو: الفرس حقه، يعني: يكون نصيبه أصبح هو لين بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع.

فـحصن والد عيينة وحابس والد الأقرع ومرداس والد العباس هذا.

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

يعني: من تضع قدره يا رسول الله اليوم لن يرفع بعد ذلك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات قال: اقطعوا عني لسانه وزيدوه إلى مائة، فزادوا له في العطاء فزادوه إلى المائة.

وتعليق الرسول عليه الصلاة والسلام يشعر أن هؤلاء ما دخلوا في الإسلام إلا رغباً في هذه الأموال أو رهباً من الدولة الإسلامية.

وبعد ذلك حسن إسلام العباس بن مرداس وصار من فضلاء الصحابة رضي الله عنه.

إذاً: نجحت سياسة إعطاء المال لتأليف القلوب بتثبيت هؤلاء المسلمين الجدد على الإسلام، وبالتالي تثبيت أركان الدولة الإسلامية.

روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لصفوان من غنائم حنين مع كونه مشركاً في ذلك الوقت

إن الرسول عليه الصلاة والسلام عند توزيع غنائم حنين أعطى من غنائم حنين بعض المشركين، ومن أشهر من أعطاهم: أحد زعماء مكة الكبار صفوان بن أمية وكان مشركاً. وصفوان هو ابن الزعيم المكي المشهور أمية بن خلف ، وأمية بن خلف قتل كافراً في بدر، وصفوان من زعامات مكة الذين اشتركوا في الحروب المتتالية ضد المسلمين، وممن فر من مكة بعد الفتح صفوان بن أمية ، والرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كان قد أعطاه مدة أربعة شهور ليفكر في أمر الإسلام، ثم استأجر منه صلى الله عليه وسلم السلاح في غزوة حنين، وخرج صفوان مع الجيش المسلم إلى حنين؛ ليحمل الأسلحة للمسلمين على جماله، وظهرت منه بعض الكلمات توضح ميلاً إلى الإسلام، لما انهزم المسلمون في أول الأمر وهربوا قال كلدة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم، فاعترض صفوان على شماتة كلدة وقال: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني -أي: يملكني- رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.

وإن كان قال هذا الكلام من ناحية قبلية بحتة إلا أنه عبر عن اختفاء الضغينة الشديدة للرسول عليه الصلاة والسلام من قلبه.

ويبدو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحس منه فرصة إسلام، فأراد أن يجزل له العطاء بصورة أضخم من كل التصور.

فـصفوان بن أمية كان واقفاً يشاهد الناس تأخذ الغنائم، ولكونه من المشركين بقي يشاهد متحسراً، فنادى الرسول عليه الصلاة والس