أساليب خصوم الإسلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله

وبعــد:

أيها الإخوة: يسرني في بداية هذا اللقاء بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن أرحب بهذا الجمع الأخوي المبارك، ببيتين من الشعر ليس من نظمي، ولكنهما من تجميعي، فأنا لا أنظم ولكنني أجمع، وأنتم جميعاً تعرفون المصانع أو الصناعات التجميعية.

يا قوم إن حبال الله تجمعنا      فهل يفرقنا خيطٌ من البشر

أما البيت الآخر فهو:

والشوق في أضلعي ما إن يبينه      نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب

إن مثل إن هذا الجمع الطيب، يثير في النفس مشاعر الأخوة الإسلامية، فعلى رغم تنائي الديار، وتباعد الأخطار والأمصار؛ إلا أن لواء الأخوة الإسلامية يظلل الناطقين بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويجمعهم على كلمة التقوى، ويوحد بينهم، ويُقِّرب مشاعرهم، فهم من أقصى بلاد العالم الإسلامي إلى أقصاه، يلتقون في شعورٍ واحد منسجم، حتى كأنهم جسدٌ واحد، فيكون شأنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وفي الحديث الآخر: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه}.

وكما قال الشاعر:

تذوب حشاشات العواصم حسرةً      إذا دميت في كف بغداد أصبع

ولو أن بَرَدى أنَّت لخطبٍ أصابها     لسالت بـوادي النيل للنيل أدمع

هكذا أخوة الإسلام تجمع المتباعدين والمتقاربين.

أيها الإخوة: موضوع المدارسة في هذه الليلة كما سمعتم هو: أساليب خصوم الإسلام في ضرب الدعوة الإسلامية. وقد اعترض في العنوان على كلمة: المعاصرة؛ لأن الأساليب في حقيقتها لا تختلف، فالأساليب التي كان يستخدمها فرعون لحرب موسى، هي الأساليب التي استخدمها النمرود لحرب إبراهيم، وهي التي استخدمتها قريش لحرب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الأساليب التي تستخدمها الجاهلية في كل زمان ومكان؛ لحرب الإسلام والدعوة الإسلامية.

إخوتي الأكارم، إن الذي يستمع إلى مثل هذا الحديث، يفترض -بادئ ذي بدء- أن عنده تسليماً مطلقاً لا يقبل الشك، في قضية الصراع بين الحق والباطل.

إذاً: من البدهيات التي يجب أن نوقن بها يقيناً كاملاً: أن الحق والباطل منذ وجد الإنسان في صراع دائم لا ينتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، صراع يبدأ بالدعوة إلى الحق، وانقسام الناس إلى مؤمنٍ وكافر، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].

إذاً: يترتب على الدعوة إلى الله انقسام الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، لا تنتهي القضية عند حد مجرد اختيار الإنسان للهدى أو للضلال، للإيمان أو للكفر، كلا! بل تنتقل إلى مسألة الصراع والخصام، ولذلك قال: فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45] الخصام بكل وسيلة، بالصراع العقائدي، واللسان والإعلام والبيان، وبكل وسيلة ممكنة، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].

إذاً: هناك صراع بالقول واللسان والحجة والبيان، وغير ذلك من الأساليب، بين جند الله وجند الشيطان، حتى الرسل والأنبياء جعل الله تعالى لهم أعداءً، بل إن الله تعالى عبَّر عن الكافرين بأنهم أعداء الله سبحانه، فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] فالكافر عدوٌ لله تعالى، كما أن الله تعالى عدوٌ له، وهذا الزخرف اللفظي والبهرج الإعلامي، الذي يستخدمه الضالون، يغتر به من لم يرد الله تعالى هدايتهم بل أراد فتنتهم، ولذلك قال في الآية السابقة: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ [الأنعام:113] أي هذا الزخرف وهذا الخداع والتضليل الإعلامي الذي يسلكه أعداء الإسلام: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113] بعد ذلك ينتقل الصراع إلى مرحلته الثالثة والأخيرة، وهي الحرب الصريحة بين الإسلام والكفر، وهذا ظاهر جداً، كما في قوله تعالى -حين ذكر عن فرعون أنه كان يهدد موسى وبنى إسرائيل بقوله- سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] هذه هي نهاية الصراع، أنه يتحول إلى صراع عسكري مسلح دامي، والعاقبة للمتقين في الدنيا وفي الآخرة.

انقسام الناس إلى إيمان لا نفاق فيه ونفاق لا إيمان فيه

أيها الإخوة: مرَّ على المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وقت من الأوقات، ربما نستطيع أن نقول: إن غالبية الناس في تلك المجتمعات، كانوا وسطاً، ليس لديهم صلاح ظاهر متميز، واستقامة وحرص على الدعوة، كما أنه ليس لديهم انحراف ظاهر -أيضاً- وعداوة للإسلام. فغالبية الناس متوسطون، يصلون الصلوات الخمس -هذا في وقتٍ ليس بالبعيد في أكثر المجتمعات الإسلامية- ويؤدون الزكاة، ويحافظون على الأعراض، لكن ليس لديهم غيرة على الإسلام، ولا حماس للدين، ولا انطلاق في الدعوة، ثم مني العالم الإسلامي بعدد من النكبات والنكسات، والدعوات المضللة، من شيوعية إلى علمانية إلى قومية إلى بعثية إلى غيرها، ومني بتجارب مريرة في مجال السياسة والاقتصاد وغيرها، ومني -أيضاً- بالاستعمار العسكري الذي سيطر على معظم البلاد الإسلامية، فحاول مسخ المسلمين، وتحويلهم عن دينهم إلى أديان أخرى، ثم جاءت هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون اليوم.

ولذلك أصبحت تجد -عياناً- أن المجتمعات الإسلامية اليوم، بدأت تتحول تدريجياً إلى التميز الذي ورد الإخبار عنه في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أشار أنه في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، يتحول الناس إلى معسكرين، معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، الآن بدأ هذا التميز وبدأت بوادره، فأصبح كثير من الناس يتجهون اتجاهاً إسلامياً صحيحاً عن علم ومعرفة ووعي وقناعة بالدين، فيضحون في سبيل الدين بالغالي والنفيس، ويختارونه على علم، ويبذلون في سبيله الوقت والمال والإمكانيات والجهود وكل ما يستطيعون، ويتحملون في سبيله الأذى والتعب. وفى مقابل ذلك، تجد أن هناك جموعاً من المنسلخين عن جسم هذه الأمة، الذين رضوا لهم اسماً آخر غير اسم الإسلام، الذي سماهم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله:هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] رضوا أن يكونوا شيوعين -مثلاً- أو علمانيين أو ملحدين أو زنادقة، أو أي أمر آخر غير الإسلام، هؤلاء اختاروا طريقهم -أيضاً- عن عمد وبوضوح، وصاروا يضحون في سبيله، ويتعبون من أجله، ويدعون إليه.

إذاً: أصبح المجتمع يتميز إلى معسكر إيمان عن وعي وبصيرة، ومعسكر نفاق أو ضلال -أيضاً- عن معرفة وإدراك وإصرار مسبق، وموقع الوسط الذي كان بالأمس يشغله أكثر الناس، بدأ ينقص ويتآكل تدريجياً، فبعض الناس تتجه نحو الإسلام عن وعي، وبعضهم يتجه إلى الضلال والانحراف عن وعي وتعمد وإصرار أيضاً، أما الوسط فيقل شيئاً فشيئاً، وربما يأتي يوم من الأيام لا تجد في أي مجتمع إسلامي شخصاً تستطيع أن تقول: إنه متوسط، ليس مؤمناً إيماناً حقاً ولا عدواً للإسلام، قلَّ أن تجد شخصاً كهذا. وهذا نموذج للصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر والهدى والضلال.

حقيقة الحرب ضد الإسلام

وإذا كان البعض يحاولون أن يغطوا هذا الصراع -أحياناً- بألفاظ وهمية وأشياء أخرى؛ فينبغي ألَّا ننخدع عن حقيقة هذه الحرب الضارية ضد الإسلام.

أحياناً نسمع من يقول: إن الغربيين يعطون الحرية للإسلام والمسلمين في الدعوة والصلاة وغيرها، وهذا الكلام قد يكون فيه شيء من الحق ولكن أُريد به باطل، أو شيء من الحق حمل أكبر من حجمه الطبيعي، فالواقع أن أولئك القوم، قد يقبلون بنشاط إسلامي إلى مدى معين وإلى مستوى معين، لكن لا يقبلون أن يرتفع الإسلام عن هذا المستوى، بحيث يتحول الإسلام إلى خطر يهددهم ويهدد مجتمعاتهم وأديانهم. فنحن جميعاً يجب أن نعلم ونقتنع -بمقتضى مطلق الصراع بين الحق والباطل، الذي قرره الله تعالى في كتابه، وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، بأكمل وأوضح بيان- أنهم لا يمكن أن يرضوا بذلك.

ولا مانع أن أشير إلى مثال صغير ولكنه معبر: فرنسا بدأ يغزوها الإسلام، وقبل فترة ليست بالقريبة، كتب أحد الصحفيين الفرنسيين، يشكو من الإسلام ومن تعاظم مده ويقول: كأنني أتصور ذلك اليوم الذي إذا جاء وقت الأذان، وضعت مكبرات الصوت في شوارع باريس، ولبس الناس الثياب البيضاء، فإذا أذن المؤذن أغلقت المحلات، وفرشت البسط في الشوارع، واتجه الناس إلى مكة وقالوا: الله أكبر. ويذكر كيف أن عدداً من أصدقائه كان منهم واحد رسام، وآخر وثالث ورابع، وتحولوا إلى مسلمين، فكان الإسلام يتحرك في فرنسا بصورة جيدة، وينتشر بشكل سريع، لكن الكل سمعوا بقصة الفتيات الثلاث المحجبات، التي أصبحت قضيتهن قضية كبرى في الصحافة العالمية، وقد حصلت على قصاصات من كثير من الصحف الأوروبية والأمريكية، تتحدث عن قضية الحجاب، لأن مجموعة من الفتيات العربيات المسلمات لبسن الحجاب في المدرسة، فثارت قضية كبرى، ومنعن من دخول المدرسة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت قضية صحفية، ونبش أولئك القوم التاريخ الماضي، ونبشوا قضية الحجاب في مصر، وقضية الطهطاوي وقاسم أمين وتاريخ الحجاب، ثم انتقلوا إلى قضية الخميني والخطر القادم من الإسلام، وربطوا هذا كله بوجود ثلاث فتيات يلبسن الحجاب في المدرسة.

إذاً حالوا أن يضفوا على القضية زخماً كبيراً، ويعظم الأمر ويتطور ليصبح قضية كبرى في صحافتهم، بل في مؤسساتهم الإدارية.

إذاً قضية الحرية التي تمنح للإسلام هناك، هي مجرد غطاء وهمي أو حرية إلى مستوى معين، فإذا تخطَّاها وتعداها المسلمون فسيواجهون حرباً ضارية.

أسباب معرفة كيفية الحرب ضد الإسلام

أيها الإخوة: لابد لنا -جميعاً- أن نفهم كيف يحاربون الإسلام، سواءً كانوا من الأعداء البعيدين أو من القريبين لأسباب:

أولاً: إن الذي لا يعرف أساليب الخصوم في حرب الإسلام؛ قد يتأثر بهذه الأساليب، فربما يذهب بعضنا ضحية تضليل، أو خداع أو تلبيس من أعداء الإسلام، بسبب جهله بالأساليب والطرائق التي يسلكونها.

ثانياً: قد يتعدى الأمر ذلك، ليشارك الواحد منا مشاركة فعلية في هذه الأساليب، ويكون عوناً لأعداء الإسلام على المسلمين من دون أن يشعر، لماذا؟

لأنه مغفل لم يدرك هذه الأساليب.

ثالثاً: لأننا باعتبارنا مسلمين، مطالبون بمواجهة هذه الأساليب بمثلها. فحتى نواجهها ونرد كيد المعتدي في نحره؛ لابد أن نعرف هذه الأساليب واحداً بعد آخر.

وسأشير إلى خمسة من الأساليب، التي ظهر لي أنها تجمع معظم الأعمال والخطط التي يسلكها أعداء الإسلام، سواءً كانوا من القريبين أو البعيدين.

أيها الإخوة: مرَّ على المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وقت من الأوقات، ربما نستطيع أن نقول: إن غالبية الناس في تلك المجتمعات، كانوا وسطاً، ليس لديهم صلاح ظاهر متميز، واستقامة وحرص على الدعوة، كما أنه ليس لديهم انحراف ظاهر -أيضاً- وعداوة للإسلام. فغالبية الناس متوسطون، يصلون الصلوات الخمس -هذا في وقتٍ ليس بالبعيد في أكثر المجتمعات الإسلامية- ويؤدون الزكاة، ويحافظون على الأعراض، لكن ليس لديهم غيرة على الإسلام، ولا حماس للدين، ولا انطلاق في الدعوة، ثم مني العالم الإسلامي بعدد من النكبات والنكسات، والدعوات المضللة، من شيوعية إلى علمانية إلى قومية إلى بعثية إلى غيرها، ومني بتجارب مريرة في مجال السياسة والاقتصاد وغيرها، ومني -أيضاً- بالاستعمار العسكري الذي سيطر على معظم البلاد الإسلامية، فحاول مسخ المسلمين، وتحويلهم عن دينهم إلى أديان أخرى، ثم جاءت هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون اليوم.

ولذلك أصبحت تجد -عياناً- أن المجتمعات الإسلامية اليوم، بدأت تتحول تدريجياً إلى التميز الذي ورد الإخبار عنه في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أشار أنه في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، يتحول الناس إلى معسكرين، معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، الآن بدأ هذا التميز وبدأت بوادره، فأصبح كثير من الناس يتجهون اتجاهاً إسلامياً صحيحاً عن علم ومعرفة ووعي وقناعة بالدين، فيضحون في سبيل الدين بالغالي والنفيس، ويختارونه على علم، ويبذلون في سبيله الوقت والمال والإمكانيات والجهود وكل ما يستطيعون، ويتحملون في سبيله الأذى والتعب. وفى مقابل ذلك، تجد أن هناك جموعاً من المنسلخين عن جسم هذه الأمة، الذين رضوا لهم اسماً آخر غير اسم الإسلام، الذي سماهم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله:هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] رضوا أن يكونوا شيوعين -مثلاً- أو علمانيين أو ملحدين أو زنادقة، أو أي أمر آخر غير الإسلام، هؤلاء اختاروا طريقهم -أيضاً- عن عمد وبوضوح، وصاروا يضحون في سبيله، ويتعبون من أجله، ويدعون إليه.

إذاً: أصبح المجتمع يتميز إلى معسكر إيمان عن وعي وبصيرة، ومعسكر نفاق أو ضلال -أيضاً- عن معرفة وإدراك وإصرار مسبق، وموقع الوسط الذي كان بالأمس يشغله أكثر الناس، بدأ ينقص ويتآكل تدريجياً، فبعض الناس تتجه نحو الإسلام عن وعي، وبعضهم يتجه إلى الضلال والانحراف عن وعي وتعمد وإصرار أيضاً، أما الوسط فيقل شيئاً فشيئاً، وربما يأتي يوم من الأيام لا تجد في أي مجتمع إسلامي شخصاً تستطيع أن تقول: إنه متوسط، ليس مؤمناً إيماناً حقاً ولا عدواً للإسلام، قلَّ أن تجد شخصاً كهذا. وهذا نموذج للصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر والهدى والضلال.

وإذا كان البعض يحاولون أن يغطوا هذا الصراع -أحياناً- بألفاظ وهمية وأشياء أخرى؛ فينبغي ألَّا ننخدع عن حقيقة هذه الحرب الضارية ضد الإسلام.

أحياناً نسمع من يقول: إن الغربيين يعطون الحرية للإسلام والمسلمين في الدعوة والصلاة وغيرها، وهذا الكلام قد يكون فيه شيء من الحق ولكن أُريد به باطل، أو شيء من الحق حمل أكبر من حجمه الطبيعي، فالواقع أن أولئك القوم، قد يقبلون بنشاط إسلامي إلى مدى معين وإلى مستوى معين، لكن لا يقبلون أن يرتفع الإسلام عن هذا المستوى، بحيث يتحول الإسلام إلى خطر يهددهم ويهدد مجتمعاتهم وأديانهم. فنحن جميعاً يجب أن نعلم ونقتنع -بمقتضى مطلق الصراع بين الحق والباطل، الذي قرره الله تعالى في كتابه، وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، بأكمل وأوضح بيان- أنهم لا يمكن أن يرضوا بذلك.

ولا مانع أن أشير إلى مثال صغير ولكنه معبر: فرنسا بدأ يغزوها الإسلام، وقبل فترة ليست بالقريبة، كتب أحد الصحفيين الفرنسيين، يشكو من الإسلام ومن تعاظم مده ويقول: كأنني أتصور ذلك اليوم الذي إذا جاء وقت الأذان، وضعت مكبرات الصوت في شوارع باريس، ولبس الناس الثياب البيضاء، فإذا أذن المؤذن أغلقت المحلات، وفرشت البسط في الشوارع، واتجه الناس إلى مكة وقالوا: الله أكبر. ويذكر كيف أن عدداً من أصدقائه كان منهم واحد رسام، وآخر وثالث ورابع، وتحولوا إلى مسلمين، فكان الإسلام يتحرك في فرنسا بصورة جيدة، وينتشر بشكل سريع، لكن الكل سمعوا بقصة الفتيات الثلاث المحجبات، التي أصبحت قضيتهن قضية كبرى في الصحافة العالمية، وقد حصلت على قصاصات من كثير من الصحف الأوروبية والأمريكية، تتحدث عن قضية الحجاب، لأن مجموعة من الفتيات العربيات المسلمات لبسن الحجاب في المدرسة، فثارت قضية كبرى، ومنعن من دخول المدرسة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت قضية صحفية، ونبش أولئك القوم التاريخ الماضي، ونبشوا قضية الحجاب في مصر، وقضية الطهطاوي وقاسم أمين وتاريخ الحجاب، ثم انتقلوا إلى قضية الخميني والخطر القادم من الإسلام، وربطوا هذا كله بوجود ثلاث فتيات يلبسن الحجاب في المدرسة.

إذاً حالوا أن يضفوا على القضية زخماً كبيراً، ويعظم الأمر ويتطور ليصبح قضية كبرى في صحافتهم، بل في مؤسساتهم الإدارية.

إذاً قضية الحرية التي تمنح للإسلام هناك، هي مجرد غطاء وهمي أو حرية إلى مستوى معين، فإذا تخطَّاها وتعداها المسلمون فسيواجهون حرباً ضارية.

أيها الإخوة: لابد لنا -جميعاً- أن نفهم كيف يحاربون الإسلام، سواءً كانوا من الأعداء البعيدين أو من القريبين لأسباب:

أولاً: إن الذي لا يعرف أساليب الخصوم في حرب الإسلام؛ قد يتأثر بهذه الأساليب، فربما يذهب بعضنا ضحية تضليل، أو خداع أو تلبيس من أعداء الإسلام، بسبب جهله بالأساليب والطرائق التي يسلكونها.

ثانياً: قد يتعدى الأمر ذلك، ليشارك الواحد منا مشاركة فعلية في هذه الأساليب، ويكون عوناً لأعداء الإسلام على المسلمين من دون أن يشعر، لماذا؟

لأنه مغفل لم يدرك هذه الأساليب.

ثالثاً: لأننا باعتبارنا مسلمين، مطالبون بمواجهة هذه الأساليب بمثلها. فحتى نواجهها ونرد كيد المعتدي في نحره؛ لابد أن نعرف هذه الأساليب واحداً بعد آخر.

وسأشير إلى خمسة من الأساليب، التي ظهر لي أنها تجمع معظم الأعمال والخطط التي يسلكها أعداء الإسلام، سواءً كانوا من القريبين أو البعيدين.

الأسلوب الأول، هو ما يمكن أن نطلق عليه: أسلوب الاحتواء، ومحاولة تفريغ الدعوة الإسلامية من مضمونها الصحيح، وتحويل الدعوة عن مسارها، وعن أهدافها التي قامت من أجلها.

فالدعوة الإسلامية في كل مكان، يجب أن يكون هدفها هو: إعادة عبودية الناس لله جل وعلا فقط، ليس لها أي هدف أو مطمع، إلا أن تجعل الناس عبيداً حقيقيين لله تعالى، تدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف:59] وكثيراً ما يحاول الأعداء في البداية -بدلاً من أن يواجهو الدعوة صراحةً- أن يفرغوها من محتواها، أن يحتووا هذه الدعوة، ويسيطروا أو يهيمنوا عليها بطريقة أو بأخرى.

اشغال الداعية ببنيات الطريق

من هذه الوسائل التي يسلكونها -مثلاً- أنهم قد يشغلون بعض الدعاة -كما يقال- ببنيات الطريق، وقد يستنزفون جهودهم في أعمال جانبية، بحيث تكون هذه الأعمال الجانبية غاية الدعاة ونهاية مقصدهم ومطافهم.

على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه.

من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه. وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد.

من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين.

فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة. ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!!

وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!!

وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟

حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى. المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟

قاعدة المصالح والمفاسد

قبل أن ننتقل من الأسلوب الأول، وهو أسلوب محاولة الاحتواء وتفريغ الدعوة من مضمونها الحقيقي، أودُّ أن أشير إلى قضية ربما تلتبس على كثيرٍ من الناس وكثيرٍ من الدعاة، وهي: إن هذا الكلام لا يمنع من تحصيل المسلم لخير الخيرين ودفعه لشر الشرين، فإن قاعدة المفاسد والمصالح في الإسلام قاعدة عظيمة، وهي تقتضي أن المسلم قد يحصل على مصلحة ولو من العدو أحياناً، فيرى أن كسبها نافع، دون أن يؤثر هذا في الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه، ودون أن يغير في وجهة الدعوة.

كما أنه يدفع المسلم إلى أن يحارب الشر ولو كان شراً جزئياً؛ لأنه يرى أنه شر عظيم، وينبغي دفعه عن مجتمع المسلمين، فنفرق بين قضية تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وبين قضية الاستجابة لأعداء الإسلام في بعض المطالب التي يريدون من ورائها تحويل مسار الدعوة عن هدفها الحقيقي، وهو إعادة عبودية الناس لله جل وعلا.

من هذه الوسائل التي يسلكونها -مثلاً- أنهم قد يشغلون بعض الدعاة -كما يقال- ببنيات الطريق، وقد يستنزفون جهودهم في أعمال جانبية، بحيث تكون هذه الأعمال الجانبية غاية الدعاة ونهاية مقصدهم ومطافهم.

على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه.

من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه. وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد.

من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين.

فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة. ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!!

وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!!

وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟

حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى. المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟

قبل أن ننتقل من الأسلوب الأول، وهو أسلوب محاولة الاحتواء وتفريغ الدعوة من مضمونها الحقيقي، أودُّ أن أشير إلى قضية ربما تلتبس على كثيرٍ من الناس وكثيرٍ من الدعاة، وهي: إن هذا الكلام لا يمنع من تحصيل المسلم لخير الخيرين ودفعه لشر الشرين، فإن قاعدة المفاسد والمصالح في الإسلام قاعدة عظيمة، وهي تقتضي أن المسلم قد يحصل على مصلحة ولو من العدو أحياناً، فيرى أن كسبها نافع، دون أن يؤثر هذا في الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه، ودون أن يغير في وجهة الدعوة.

كما أنه يدفع المسلم إلى أن يحارب الشر ولو كان شراً جزئياً؛ لأنه يرى أنه شر عظيم، وينبغي دفعه عن مجتمع المسلمين، فنفرق بين قضية تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وبين قضية الاستجابة لأعداء الإسلام في بعض المطالب التي يريدون من ورائها تحويل مسار الدعوة عن هدفها الحقيقي، وهو إعادة عبودية الناس لله جل وعلا.

الأسلوب الثاني -من أساليب حرب الإسلام قديماً وحديثاً- هو: زرع النفاق وبناء مساجد الضرار.

وهذا الأسلوب من المكر اليهودي، فبعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وضرب الإسلام بجرانه في الأرض، علم اليهود أن من الصعب حرب الإسلام علانية؛ فزرعوا ودسوا أذرعهم الخفية وهم المنافقون، ولذلك كانت الأولى البذرة من النفاق في المدينة على أيدي اليهود، كانوا منافقين من اليهود، الذين أظهروا الإسلام لضرب الإسلام وحربه، وهؤلاء أشد خطراً من الكافر المعلن وذلك لما يأتي:

أولاً: لأنهم يعيشون بين المسلمين، ويعرفون عورات المسلمين، ويستطيعون أن يصيبوهم في الصميم.

ثانياً: لأنه يصعب اتقاؤهم، فالكافر المعلن يمكن معرفة الخطر منه؛ لأنه معروف متميز، أما المنافق فإنه يعيش داخل الصف المسلم، وبالتالي يصعب معرفته واتقاء شره، ولذلك قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4] أي: المنافقين، وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ ) هذا أسلوب حصر، ومعروف عند العارفين باللغة العربية كأن معنى قوله: (هُمُ الْعَدُوُّ ) أي لا عدو إلا هم، وليس المقصود حصر العداوة فيهم فقط، لكن المقصود التأكيد على شدة عداوتهم، وضراوتها وقسوتها وصعوبة الحذر منها، ولذلك قال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] والمنافقون في كل زمان ومكان، لهم شخصيات ومؤسسات وملل ونحل، يدخلون وينفذون من خلالها.

على سبيل المثال: من شخصياتهم التاريخية عبد الله بن سبأ اليهودي، المعروف بـابن السوداء، وكان يهودياً من أهل صنعاء، فلمَّا رأى قوة الإسلام وانتشاره؛ أعلن الإسلام وجاء بين المسلمين، ثم تسلل إليهم، وبدأ يفتك بالمسلمين ويدعو وينشر بينهم الأفكار الضالة باسم الإسلام.

والشخصيات المنافقة على مدار التاريخ كثيرة، أما الملل والنحل فلعل من أكثرها وأعظمها التي استغلها المنافقون، على سبيل الإجمال ما يسمى: المذاهب الباطنية، والمذاهب الباطنية لفظٌ عام يشمل طوائف كثيرة، من الرافضة، والصوفية، والقاديانية، والبهائية في العصر الحاضر، وغيرها من الملل والنحل التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية، وأصبحت تقيم المؤسسات والمدارس والمراكز في بلاد العالم الإسلامي، وفي بلاد أمريكا وأوروبا، وتعلن أنها تدعو إلى الإسلام، وهي في الواقع تدعو إلى دينٍ آخر غير دين الإسلام، وإلى نبيٍ آخر غير محمد عليه الصلاة والسلام، لكنها تتمسح بالإسلام؛ للخداع والتضليل لهؤلاء السذج المغفلين، خاصة حين يكون الإنسان غير مسلم فيدعى إليهم، أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف عنه شيئاً ولا يميز بين الحق والباطل، فيضله هؤلاء، وقد يدخلونه في دينهم وملتهم ونحلتهم. فهذه نماذج من المنافقين.

مساجد الضرار

ومن بيوت الضرار ومساجد الضرار: المنافقون بنو مسجد الضرار الأول في المدينة، وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: تصلي فيه؛ لأن مسجدك بعيد، ويصعب علينا في الليلة الشاتية والليلة المطيرة أن نصل إليه، فهذا مسجد بنيناه حتى نصلي فيه فدعو الرسول عليه الصلاة والسلام للصلاة فيه، فنهاه الله عز وجل عن ذلك فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] فنهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وسماهم ضراراً فقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ [التوبة:107] كم من مؤسسة وكيان وجهة ومركز وشخصية، تحمل اسم الإسلام وتلبس لباسه، وتنادي به، لكن حقيقتها خلاف ذلك، وكم من إنسان يظهر الدعوة إلى جانب من جوانب الإسلام، وهو في الواقع كما قيل: كلمة حقٍ أريد بها باطل. وما أصعب التحرز من هؤلاء، فشأنهم كما قال الشاعر:

والمدّون هوى الإسلام سيفهم      مع الأعادي على أبنائه النجب
يخادعون به أو يتقون به وماله منهم رفد سوى الخطب

كم من إنسان كانت خطبه ملأى بالكلام عن الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، وحماية الإسلام، وتاريخ الإسلام، وتمجيد محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أعماله على النقيض من ذلك!

وهذا يذكرني بالأسطورة التي تذكرها بعض الكتب، عن انخداع بعض الناس بهذا الأمر، يقولون: إن هناك صياداً كان معه بندقية، فدخل إلى مكان ليصطاد بعض الطيور، فكان هناك عصفوران، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى هذا يريد أن يصطادنا، فنظر إليه وقال: إنه لن يصطادنا، ألا ترى أن عينيه تدمع وتبكي رحمة لنا وشفقة علينا؟ فقال له: لا تنظر إلى دمع عينيه، ولكن انظر إلى هذا السلاح الذي في يديه.

فكثير من الناس -كما يقال- يذرفون على الإسلام دموع التماسيح، لكن أقوالهم تقول لكل رائي ومتأمل: إنهم كاذبون في ذلك، ومن قبل كان عبد الله بن أبي بن سلول، شيخ النفاق والمنافقين في المدينة، كان إذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب، قام بعده عبد الله بن أبي بن سلول يعقب على الخطبة، ويشيد بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا لهذا النبي الكريم الذي اختاره الله لكم واجتباه وخصكم به... إلى غير ذلك من الكلام، وكان الناس ينخدعون بكلامه في أول الأمر.

إذاً ليس المقياس هو الكلام والخطب الرنانة، فكم من خطبٍ قيلت وليس لها رصيد من الواقع، إنما المقياس هو اتباع القول بالعمل، هذا هو الميزان الشرعي الحقيقي لمعرفة صدق الإنسان من كذبه، فإذا قال الإنسان قولاً -وهنا أيضاً أحذر- إذا قال الإنسان قولاً حسناً، لا ينبغي أن نسارع في اتهامه، بل يجب أن نتميز بالعدل حسناً جميلاً، نقول: هذا قول حسن وجميل، ولكن ننظر ماذا بعد هذا القول؟

فإن وجدناه أتبع القول بالعمل، كان هذا آيةً على صدقه، وإن وجدنا أنه توقف عند حد هذه البضاعة الكاسدة، بضاعة القول فحسب، وخالف ما يقول؛ عرفنا أن هذا القول كمجرد خداع وتضليل، وترويج هذا الأمر على الناس فقط.

معرفة أساليب دس المنافقين

أيها الإخوة: لابد من معرفة العدو من الصديق حول هذا الأسلوب، أسلوب دس المنافقين وبناء مساجد الضرار، لئلا يلتبس الأمر على كثيرين، فيتهمون من هم من هذا الأمر براء، أو ينخدعون بأناس ليس لهم في هذا الشأن نصيب.

فمن أوجب الواجبات على المسلم؛ أن يعرف عدو الإسلام من وليه، وهذا أمر تقتضيه الأخوة، والولاء والبراء في الإسلام، فلا ننخدع بشخص لمجرد أنه يتكلم بكلام معسول، حتى نرى مصداق ذلك في سيرته وسلوكه.

الأمر الآخر: لابد من فضح المنافقين وبيان خططهم ومؤامرتهم على الإسلام، سواءً كانوا أشخاصاً أو مؤسسات، أو أجهزة أو جمعيات، أو أحزاب أو تجمعات، أو ملل أو نحل، لابد من فضحها، وهذا من ضمن المقاصد التي نـزل القران من أجلها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] فاستبيان سبيل المجرمين -أي: إيضاح ومعرفة سبيل الكافرين والضالين- هي من مقاصد إنـزال الكتب وبعثة الرسل؛ لأن المسلم مطالب بأن يحب المسلم ويبغض الكافر والمنافق ويتبرأ منه، وكيف تبغضه وتبرأ منه وتحاربه وأنت لا تعرفه؟

ولذلك من أعظم المصائب التي يبتلى بها المسلمون، أن يلتبس العدو عندهم بالصديق، فيتحول الصديق -أحياناً- إلى عدو، ويتحول العدو -أحياناً- إلى صديق، لماذا؟

خذ مثالاً: قد يقع داعية من الدعاة في خطأ -والخطأ لا يسلم منه أحد- فيتحول هذا الداعية من صديق نعرف أنه مجاهد في سبيل الله ومضحٍ، عند بعض الناس إلى عدو؛ لأنه أخطأ، ومن هو الذي لا يخطئ؟

فهنا جعلنا الصديق عدواً.

مثال آخر: قد ينصح الداعية لبعض قومه، والنصيحة -أحياناً- توجد البغضاء، كما قال الأول:

وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي     وقد يستفيد البغضة المتنصح

أي أن الناصح ربما يبغض، لماذا؟

لأنه قال لنا كلاماً ما نحب أن نسمعه، نحن دائماً نحب أن نسمع من يمدحنا، ويقول: كلكم على صواب، وكل فعلكم حسنٌ وجميل، ولم يقع منكم ما يعاب، فهذا من طبيعة الإنسان: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] ولذلك إذا وجد إنسان يقول لنا: أخطأتم. ربما نبغضه ونحوله إلى عدو، ولو كان داعية للإسلام.

فهنا جعلنا الصديق عدواً، وفى أحيان أخرى لغفلتنا وسذاجتنا نجعل العدو صديقاً؛ لمجرد أنه كان يجيد فن الخداع.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع