خطب ومحاضرات
سلسلة السيرة النبوية قوة الإسلام
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا في الدروس السابقة عن بعض آثار صلح الحديبية المجيدة، ومن هذه الآثار -كما ذكرنا في الدرس السابق-: فتح خيبر، والآن نقف وقفة لتحليل الوضع بعد فتح خيبر.
تحليل الوضع في أوائل العام السابع من الهجرة:
أولاً: حيّد جانب قريش، وبدأت الأرض تتناقص من حول قريش، وشعرت قريش بعظمة الدولة الإسلامية وخاصة بعد فتح خيبر، وكانت قريش تعتبر خيبر من أقوى حصون الجزيرة العربية مطلقاً، وكانت تعتبر اليهود من أشد الناس قتالاً ومن أقواهم عدة، فكانت هزيمة اليهود في خيبر ضربة كبيرة جداً ليس لليهود فقط، ولكن لقريش في عقر دارها، لم تتصور قريش أن المسلمين بلغوا من القوة إلى الدرجة التي تمكنهم من فتح خيبر.
ثانياً: أمن المسلمون جانب اليهود بعد هزيمتهم في خيبر، وأصبح للمسلمين اليد العليا بلا منازع في الصراع الذي بينهم وبين اليهود بصفة عامة، ورأينا قبل هذا أن المسلمين لم يكتفوا فقط بفتح خيبر، ولكنهم فتحوا أيضاً وادي القرى وتيماء وفدك، يعني: جميع التجمعات اليهودية الموجودة في شمال المدينة المنورة.
ثالثاً: ازدادت قوة المسلمين بشكل ملحوظ، وكان ارتفاع الروح المعنوية عند المسلمين عالياً جداً؛ لأن فتح خيبر كان فيه خير كثير جداً للأمة الإسلامية، ليس من الجانب العسكري فقط، ولكن من الجانب الاقتصادي أيضاً، وذكرنا قول السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت: ما شبعنا من التمر إلا بعد فتح خيبر. وكذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وفوق ارتفاع الروح المعنوية انضم المسلمون من أماكن مختلفة في الجزيرة العربية إلى قوة المدينة المنورة، وجاء المسلمون من الحبشة، وهذا حدث تزامن مع فتح خيبر ولم نذكره في الدرس الماضي، ففي أواخر خيبر بعد أن تم فتح خيبر جاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون من الحبشة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أسهم لهم من أسهم خيبر؛ لأنه اعتبرهم مشاركين في الغزوة حيث جاءوا بهذه النية من الحبشة، فكانت إضافة كبيرة جداً للدولة الإسلامية، وقدم أيضاً الأشعريون وعلى رأسهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه من اليمن، وقدم كذلك الدوسيون وقبائل دوس قبائل كبيرة من اليمن، جاءت أيضاً في ذلك الوقت وعلى رأسهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وقدم المسلمون من قبائل أخرى كبيرة إلى المدينة المنورة، وازدادت أعداد المسلمين بعد فتح خيبر أو بعد صلح الحديبية، بل إن المسلمين قدموا أيضاً من مكة المكرمة ذاتها، بعد أن تنازلت قريش عن بند إعادة المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة، بعد الحرب التي شنها عليهم أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه وأصحابه، كما ذكرنا في الدروس السابقة، وبدأت قوة الدولة الإسلامية تنمو، وفي نفس الوقت بدأت قوة قريش تقل، ثم إن هناك عدداً كبيراً من العرب بعد صلح الحديبية أسلم ودخل في صف المسلمين، لم يكن يقوى على إعلان إسلامه قبل صلح الحديبية.
إذاً: بعد أن وضعت الحرب في الجزيرة العربية أوزارها وأمن الناس جانب قريش دخل في الإسلام من كان متردداً.
رابعاً: بقي من الأعداء القدامى للمسلمين قبيلة غطفان، وقبيلة غطفان مجموعة من المرتزقة يؤجرون للهجوم على الغير، استأجرهم قبل ذلك اليهود لحرب المسلمين في الأحزاب، وحاصروا المدينة المنورة بستة آلاف مقاتل مع أربعة آلاف من قريش، وكان الجميع عشرة آلاف، وكانوا يريدون استئصال الدولة الإسلامية تماماً، ولهم تاريخ معقّد مع المسلمين، ففي أكثر من مرة يحدث منهم نوع من الغدر بالمسلمين وقتل عدد من المسلمين، وما أحداث بئر معونة وغيرها من الأحداث ببعيدة من المسلمين، وآخر الأحداث التي حصلت من غطفان كان حصار الأحزاب، ثم محاولة معاونة يهود خيبر في حربهم ضد المسلمين لولا أن فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحالف الذي كان بين اليهود وبين غطفان، عن طريق إرسال سرية إلى غطفان كما فصلنا في الدرس السابق.
لقد تخلص المسلمون من عدوين: من قريش عن طريق المصالحة والمهادنة، ومن اليهود عن طريق الحرب كما في فتح خيبر، ولم يبق أمامهم سوى عدو واحد كبير وهو غطفان، بهذا التحليل أستطيع أن أحدد أهداف المرحلة القادمة.
ما هي أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في العام السابع، أهداف المرحلة التي بعد فتح خيبر؟
لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم هدفان رئيسان في العام السابع من الهجرة، أو في الفترة التي تلت فتح خيبر.
الهدف الأول: هو نشر الدعوة، واستغلال الهدنة التي حصلت بين المسلمين وبين قريش بعد صلح الحديبية.
الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان وتأمين جانبهم، والانتقام لكرامة الأمة الإسلامية من حصار غطفان ومن حرب غطفان المرة تلو المرة للمسلمين.
من اللافت للنظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لتحقيق هذين الهدفين سلك مسلكاً واحداً وهو إظهار القوة والعظمة والعزة للإسلام والمسلمين، فكما أن الإسلام دين وشريعة وقرآن يتلى يؤثر في قلوب الكثير من الناس، إلا أن هناك الكثير من الناس لا يتأثرون إلا بمظاهر القوة، ولا ينبهرون إلا بعزة الإسلام وسيادته على الغير، والطابع الذي كان يغلب على السنة السابعة هو إظهار القوة الإسلامية والعظمة الإسلامية والعزة الإسلامية، وقد ظهر ذلك في مراسلات الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في حروب الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في عمرة القضاء، وظهر تأثر الكثير من أهل مكة وأهل الجزيرة بصفة عامة -بل والعالم أجمع- بمظاهر القوة الإسلامية التي ظهرت في العام السابع من الهجرة.
لننظر هنا كيف حقق النبي صلى الله عليه وسلم الهدفين في السنة السابعة من الهجرة عن طريق إظهار القوة الإسلامية.
نشر الدعوة
إذاً: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاة هنا وهناك يدعون الناس إلى الإسلام، وبدأت القبائل تفكر في الإسلام بطريقة جديدة دون خوف أو وجل من قريش، فهناك أعداد كبيرة من العرب دخلت في الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية.
إيقاف خطورة قبيلة غطفان
وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا).
نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.
ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.
فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، وزمن البعثة النبوية فترة محدودة جداً وقصيرة، لا يمكن أبداً أن تستوعب كل هذه الأحداث، إلا إذا نظرت إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا أضفت إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة مسألة البركة التي يُنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين، عندها تستطيع أن تفهم كيف فعلوا هذه الأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان، وكانت كل أعمالهم هذه خالصة لله عز وجل، حتى إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عندما حكى هذا الحديث كره وندم أن حدّث بذلك الأمر، وقال: (ما كنت أصنع بأن أذكره)، فهو ندم على ذكره لذلك الأمر، وتمنى أنه لو كتم هذا الأمر ليصبح عمله بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن الحمد لله على أنه حدّث بذلك الأمر؛ ليصل إلينا فنتعلم منه ونُعلمه لإخواننا وأبنائنا.
ومع كل هذه الشدة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع أن تحدث معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة التي تغزى في عقر دارها، ولكن لم يرد ولم ينشب قتال أصلاً لا كبير ولا صغير، فقد آثر أهل غطفان ألا يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين على أقصى تقدير لا يزيدون عن سبعمائة كما ذكرنا، وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عُقر دار غطفان، وفي الطرق والدروب التي خبروها وعرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة جداً، قد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري ، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم.
سبحان الله! هذا الأمر في عُرف أهل الدنيا عجيب، كيف يهرب هؤلاء الغطفانيون وهم في هذه الظروف المستقرة من جيش ظروفه صعبة كجيش المسلمين، هذا الكلام وهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، إنه تأييد رب العالمين سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ولعامة المؤمنين الذين ساروا على طريقه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: قبل أن يصل إلى أرض المعركة يكون الجيش الذي هو ذاهب إليه مرعوباً منه.
إذاً: هذا الأمر تأييد رب العالمين لجيش المؤمنين، هذا أمر مفهوم بالنسبة لعموم المؤمنين، ورأوه كثيراً، رأوه في بدر وفي الأحزاب وفي قتال اليهود في المعارك المختلفة بدءاً من بني قينقاع وانتهاء بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أحد عندما كان المسلمون مرتبطين بالله عز وجل، قال تعالى تعليقاً على النصف الأول من غزوة أحد: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151] أي: أن الله سبحانه وتعالى إذا ارتبط به المسلمون ألقى في قلوب أعدائهم الرُعب، هذا بدون حسابات مادية وبدون أعداد وعدة، فهو أمر غير مفهوم تماماً عند أهل الدنيا، لكنه أمر مفهوم ويقيني عند المؤمنين؛ لأنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى معهم، لكن الجديد في غزوة ذات الرقاع الشعور أن هناك قوة خارقة إلى جانب المؤمنين، وهذا الشعور وجد عند أهل غطفان، وذلك عندما وجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم يرتعبون من غيرهم، فهؤلاء يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، وحياتهم كلها في حرب، وكل عيشهم قتال، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من أربعمائة أو سبعمائة، فإذا كان هذا الرعب من فريق قليل كالمسلمين، فإنه يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وإلى تحليل، هكذا فكّر أهل غطفان، فغزوة ذات الرقاع هزت قبيلة غطفان من الأعماق، مع أنها غزوة -كما ذكرنا- لم يحدث فيها قتال، لكن نحن تعودنا على أن يأتي النصر من حيث لا نحتسب، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.
فبدأت قبائل غطفان وزعماؤها يفكرون جميعاً بنظرة إيجابية لهذا الدين، مع أنهم لم يأخذوا قراراً سريعاً بالدخول في الإسلام، لكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل.
فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب وجدوا أنفسهم أمام شيء ما قبلوه قبل ذلك، ولم يسمعوا عنه إلا من غير المسلمين، فهم طالما سمعوا عن المسلمين من قريش ومن اليهود ومن غيرهم، لكنهم أول مرة يقابلون المسلمين حقيقة، ودخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ القلوب وعلى دهاة الإجرام أهل غطفان؛ لأن هذا الدين المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا الدين يتسلل إلى القلوب تسللاً.
الهدف الأول: نشر الدعوة، تكلمنا قبل هذا على الرسائل للزعماء والملوك، وفصّلنا فيها كثيراً، وهذه الرسائل أضافت للمسلمين قوة كبيرة جداً، وليست قوة معنوية، ولكن قوة عددية؛ لأن بعض هذه الرسائل أدت إلى دخول عدد جديد من المشركين في الإسلام، ومن أبرز هؤلاء مملكة البحرين بكاملها، دخل زعيمها المنذر بن ساوى ودخل جميع شعب البحرين في صف المسلمين، وكذلك دخلت دولة اليمن في الإسلام بعد إسلام باذان قائد اليمن الفارسي عندما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن معه شعبه الفارسيون الذين يعيشون في اليمن وأهل اليمن الأصليين، الجميع تقريباً آمن ودخل في صف الدولة الإسلامية، نعم هم بقوا في مكانهم في اليمن، ولكن هذه إضافة قوية جداً للدولة الإسلامية، ولا ننسى أن اليمن في جنوب قريش والمدينة المنورة في شمال قريش، بهذا تكون مكة المكرمة محاصرة بين مناطق إسلامية، وهذا بلا شك إضافة كبيرة للدولة الإسلامية الجديدة.
إذاً: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاة هنا وهناك يدعون الناس إلى الإسلام، وبدأت القبائل تفكر في الإسلام بطريقة جديدة دون خوف أو وجل من قريش، فهناك أعداد كبيرة من العرب دخلت في الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية.
الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان، وقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ليوقف خطورة غطفان ويؤمن جانبها عدة سرايا قرابة ست سرايا، ثم خرج إليها في غزوة ذات الرقاع، وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة سبع، يعني: كانت بداية فتح خيبر في أول محرم سنة سبع، واستمر أكثر من شهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أواخر شهر صفر سنة سبع أو أوائل ربيع الأول سنة سبع إلى غطفان، فهو خرج إلى غطفان بمجرد أن عاد من فتح خيبر، كان في حركة دائبة وفي جهاد مستمر في سبيل الله، وذكرت بعض كتب السير أن غزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ثبت في البخاري أنه شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى الأشعري باتفاق لم يأت إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر، فمن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع تمت في السنة السابعة من الهجرة.
وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا).
نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.
ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.
فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، وزمن البعثة النبوية فترة محدودة جداً وقصيرة، لا يمكن أبداً أن تستوعب كل هذه الأحداث، إلا إذا نظرت إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا أضفت إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة مسألة البركة التي يُنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين، عندها تستطيع أن تفهم كيف فعلوا هذه الأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان، وكانت كل أعمالهم هذه خالصة لله عز وجل، حتى إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عندما حكى هذا الحديث كره وندم أن حدّث بذلك الأمر، وقال: (ما كنت أصنع بأن أذكره)، فهو ندم على ذكره لذلك الأمر، وتمنى أنه لو كتم هذا الأمر ليصبح عمله بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن الحمد لله على أنه حدّث بذلك الأمر؛ ليصل إلينا فنتعلم منه ونُعلمه لإخواننا وأبنائنا.
ومع كل هذه الشدة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع أن تحدث معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة التي تغزى في عقر دارها، ولكن لم يرد ولم ينشب قتال أصلاً لا كبير ولا صغير، فقد آثر أهل غطفان ألا يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين على أقصى تقدير لا يزيدون عن سبعمائة كما ذكرنا، وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عُقر دار غطفان، وفي الطرق والدروب التي خبروها وعرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة جداً، قد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري ، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم.
سبحان الله! هذا الأمر في عُرف أهل الدنيا عجيب، كيف يهرب هؤلاء الغطفانيون وهم في هذه الظروف المستقرة من جيش ظروفه صعبة كجيش المسلمين، هذا الكلام وهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، إنه تأييد رب العالمين سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ولعامة المؤمنين الذين ساروا على طريقه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: قبل أن يصل إلى أرض المعركة يكون الجيش الذي هو ذاهب إليه مرعوباً منه.
إذاً: هذا الأمر تأييد رب العالمين لجيش المؤمنين، هذا أمر مفهوم بالنسبة لعموم المؤمنين، ورأوه كثيراً، رأوه في بدر وفي الأحزاب وفي قتال اليهود في المعارك المختلفة بدءاً من بني قينقاع وانتهاء بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أحد عندما كان المسلمون مرتبطين بالله عز وجل، قال تعالى تعليقاً على النصف الأول من غزوة أحد: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151] أي: أن الله سبحانه وتعالى إذا ارتبط به المسلمون ألقى في قلوب أعدائهم الرُعب، هذا بدون حسابات مادية وبدون أعداد وعدة، فهو أمر غير مفهوم تماماً عند أهل الدنيا، لكنه أمر مفهوم ويقيني عند المؤمنين؛ لأنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى معهم، لكن الجديد في غزوة ذات الرقاع الشعور أن هناك قوة خارقة إلى جانب المؤمنين، وهذا الشعور وجد عند أهل غطفان، وذلك عندما وجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم يرتعبون من غيرهم، فهؤلاء يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، وحياتهم كلها في حرب، وكل عيشهم قتال، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من أربعمائة أو سبعمائة، فإذا كان هذا الرعب من فريق قليل كالمسلمين، فإنه يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وإلى تحليل، هكذا فكّر أهل غطفان، فغزوة ذات الرقاع هزت قبيلة غطفان من الأعماق، مع أنها غزوة -كما ذكرنا- لم يحدث فيها قتال، لكن نحن تعودنا على أن يأتي النصر من حيث لا نحتسب، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.
فبدأت قبائل غطفان وزعماؤها يفكرون جميعاً بنظرة إيجابية لهذا الدين، مع أنهم لم يأخذوا قراراً سريعاً بالدخول في الإسلام، لكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل.
فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب وجدوا أنفسهم أمام شيء ما قبلوه قبل ذلك، ولم يسمعوا عنه إلا من غير المسلمين، فهم طالما سمعوا عن المسلمين من قريش ومن اليهود ومن غيرهم، لكنهم أول مرة يقابلون المسلمين حقيقة، ودخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ القلوب وعلى دهاة الإجرام أهل غطفان؛ لأن هذا الدين المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا الدين يتسلل إلى القلوب تسللاً.
عاد الرسول عليه الصلاة والسلام دون قتال، لكن ترك أثراً لا يُمحى من قلوب غطفان، وشاء الله عز وجل أن يضاعف من هذا الأثر بقصتين حدثتا مباشرة بعد هذه الغزوة أثناء عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غطفان إلى المدينة المنورة.
القصة الأولى
فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة.
ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.
القصة الثانية
والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.
القصة الأولى: جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن الجيش الإسلامي وهو عائد من غطفان إلى المدينة المنورة نزل في مكان ليستريح، فتفرق الناس في ظلال الشجر ليستظلوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر : فنمنا نوماً، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ناموا؛ فالطريق متعب، قال: فجاء رجل من الأعراب المشركين فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وفجأة استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد الأعرابي واقفاً على رأسه بالسيف، فقال له الأعرابي المشرك -وهو من غطفان-: أتخافني؟ الأعرابي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ وهذا السؤال غريب، وكان من المتوقع من هذا الرجل أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك ينال شرفاً كبيراً جداً عند أهل غطفان، لكن الرجل لم يفعل ذلك، وإنما بدأ في حوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لمنع رب العالمين سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أذى الآخرين، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] قال له: أتخافني؟ فرد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: لا. يعني: ما اهتز له جسم ولا دخل في قلبه أي خوف، فتعجب الأعرابي من هذا الموقف، السيف في يده والرسول عليه الصلاة والسلام أعزل وليس معه أحد ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله. وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الله. الله، فوقع السيف من يد الأعرابي، وفي رواية البخاري أيضاً يقول: إن الأعرابي شام السيف، أي: أنه أغمد السيف ولم يقع منه رغماً عن إرادته؛ تعجباً من ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية التي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله: أنه عندما وقع السيف من يد الأعرابي، فأمسك رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف ورفعه على الأعرابي وقال له: من يمنعك مني؟ فالأعرابي كافر ما استطاع أن يقول: الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، لكن طمع في كرم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: كن خير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال الأعرابي: أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. أي: أنه لم يسلم، لكنه وعد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يقاتله بعد ذلك، وعلى الرغم من الموقف الشديد إلا أن الأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، ومع ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراحه ولم يعاقبه، وثبت ذلك في البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعاقب هذا الرجل، وعاد الرجل إلى أهله سالماً وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وفي رواية: أن عدداً كبيراً من أهله أسلم، وأن هذا الرجل اسمه غورث بن الحارث .
فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة.
ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.
هذه قصة أخرى عجيبة حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أن جيش المسلمين نزل بأحد الأماكن للراحة، فعيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين للحراسة: عباد بن بشر الأنصاري رضي الله عنه، وعمار بن ياسر المهاجري رضي الله عنه، فقسم الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر ، فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، ووقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين أيضاً من غطفان، ورماه بسهم، فنزع عباد السهم وأكمل صلاته، والدم يسيل منه ويتفجّر، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة فجأة ولكنه أكمل صلاته، ثم أيقظ عمار بن ياسر ، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان ورأى الأسهم الثلاثة، قال لـعباد : هلا أيقظتني أول ما رمى؟ فيرد عباد بن بشر رضي الله عنه في يقين وخشوع ويقول: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها. وفي رواية ابن إسحاق : قال عباد : وايم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أحب إلي من قطعها. أي: لقطع هذا الرجل حياتي قبل أن أقطع هذه السورة، ولك أن تتصور مدى استمتاع عباد بقراءته، ومدى حبه لقيام الليل، ومدى استغراقه في عبادته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.
والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور | 4059 استماع |
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً | 3969 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى | 3934 استماع |
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك | 3780 استماع |
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة | 3715 استماع |
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية | 3647 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن | 3636 استماع |
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة | 3569 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام | 3452 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية | 3399 استماع |