سلسلة السيرة النبوية المسلمون بعد الأحزاب


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فلا شك أن دراسة التاريخ بصفة عامة من أهم الأمور في حياة البشر عامة، ومن أهم الأمور في حياة المسلمين بصفة خاصة؛ لأن هذا أمر إلهي مباشر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].

ولا شك أن أروع القصص وأهمها هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أحداثاً مشوقة ومواقف عجيبة، لا، لكن لأن السيرة النبوية جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي على الأرض، وحياته كانت تطبيقاً عملياً لكل توجيه رباني في الكتاب الكريم.

واتباع السنة المطهرة والطريقة التي كان يحيا بها صلى الله عليه وسلم أمر ضروري ولازم لرضا رب العالمين ولدخول الجنة، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

إذاً: كيف سنتبع الرسول عليه الصلاة والسلام من غير أن نعرف سيرته وحياته؟!

كنا قد تحدثنا في محاضرات سابقة عن فترات هامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحدثنا في مجموعة من المحاضرات عن العهد المكي في غاية الأهمية، وفي مجموعة أخرى من المحاضرات تحدثنا عن تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة خلاص الخمس السنوات الأولى من الفترة المدنية، فالسنوات الخمس الأولى كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية، بدأت من الهجرة وانتهت بانتهاء غزوة الأحزاب.

وكانت مرحلة التأسيس مرحلة شاقة جداً ومرهقة، فقد تعددت فيها أنواع الصراع مع أعداء الأمة، فقد وجهوا كل طاقاتهم لمنع قيام الدولة الإسلامية، ولكن بفضل الله نجح المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولتهم برغم كل هذه المعوقات، وبانتهاء غزوة الأحزاب انتهت هذه المرحلة الهامة لتبدأ مرحلة أخرى لا تقل أهمية أبداً عن المراحل السابقة، عبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله الدقيق الذي يعبر عن دراية كاملة بوضعه ووضع العالم من حوله، قال صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن سنسير إليهم؛ لأن الدولة الإسلامية بفضل الله أصبحت من القوة بحيث أنها لا يمكن أن تستأصل، وبحيث أنه من الصعب جداً على الآخرين التفكير الجدي في غزو المدينة المنورة، هذه المرحلة الجديدة نستطيع أن نسميها مرحلة الانتشار والفتح والتمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى.

سينتشر فيها دين الإسلام كما سنرى بسرعة مذهلة، ليس فقط في الجزيرة العربية، بل وما حولها، وسيتطور الأمر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لينتشر الإسلام في ربوع العالم المختلف.

هذه هي طبيعة بناء الأمة الإسلامية، تبدأ شاقة وعسيرة؛ لأن كل الأعداء على اختلاف توجهاتهم يتعاونون في حربها، ثم تخرج الأمة من عنق الزجاجة في وقت ما لتبدأ مرحلة الانتشار والفتح والتمكين.

في ذي العقدة سنة (5) هـ رحلت الأحزاب، وفي نفس الشهر بدأ المسلمون مرحلتهم الجديدة، حملات عسكرية متتابعة وسريعة لهدف رئيس هو تأديب وعقاب أولئك الذين شاركوا في حصار المسلمين في غزوة الأحزاب، أو تأديب أولئك الذين غدروا بالمسلمين في حوادث أخرى سابقة للأحزاب؛ ليعلم الجميع أن انتهاك حرمات الأمة الإسلامية لا يمر هكذا بدون عقاب.

والحملات العسكرية بعد الأحزاب كانت مكثفة جداً، بمعدل حملة كل (20) يوماً تقريباً، وهذا فيه إرهاق شديد جداً على الدولة الإسلامية الناشئة، ومع ذلك هذا الإرهاق لا بد منه؛ لأن الأمة التي لا تجاهد تصاب بالذل، روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة)، العينة: نوع من أنواع الربا، (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد) ما هو الذي سيحصل؟ (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ضعف المسلمين وذلة المسلمين لا يؤدي فقط إلى التهديد المستمر للدولة الإسلامية، ولكن يؤدي أيضاً إلى فقد الثقة في الدين الإسلامي نفسه، ستقول الناس: لو كان هذا الدين عظيماً لكافح من أجله أصحابه، لو كان هذا الدين عظيماً لفرض نفسه على الآخرين وسادهم، ولذلك جعل الله عز وجل من دعاء المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85]، هذه الفتنة قد تكون نتيجة الوضع المتردي للمسلمين في فترة من فترات حياتهم، ينفر الناس من الإسلام، يهجرون الإسلام؛ لعدم ثقتهم في المسلمين، وهذا أمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تبقى صورة الأمة الإسلامية مرفوعة ومهابة وسط الجزيرة العربية.

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق

لقد بدأ الجهاد مباشرة بعد غزوة الأحزاب، وأول ما بدأ به تحرك تجاه أولئك الذين حركوا جموع العرب لغزو المدينة المنورة، وبالتحديد اتجاه اليهود وزعمائهم، وأهم هؤلاء الزعماء حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب كان قد قتل مع يهود بني قريظة في أعقاب غزوة الأحزاب مباشرة، وبعد مقتل حيي بن أخطب لزم على المسلمين أن يذيقوا سلام بن أبي الحقيق من نفس الكأس الذي كان يريد أن يذيقه للشعب المسلم بكامله في المدينة المنورة، من أجل هذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية لاغتيال سلام بن أبي الحقيق في خيبر، وسلام بن أبي الحقيق من زعماء خيبر، وخيبر على بعد حوالي ( 150 ) كيلو شمال المدينة المنورة، وهي مهمة خطيرة جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية كاملة بقيادة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه وأرضاه.

ونحن نرى الفكر السياسي والعسكري الدقيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بالسرية هذه سيقضي على رءوس الفتنة ومجرمي الحرب ومحركي الجموع، وبالتالي يستطيع بعد ذلك أن يسيطر على الأمور بصورة أيسر وبطريقة أسرع، وبحمد الله نجحت سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل سلام بن أبي الحقيق ، وتخلص المسلمون من رأس كبير من رءوس الفتنة، وكانت خسارة كبيرة جداً لليهود، وبالذات أن ذلك كان بعد التخلص من بني قريظة، وبعد التخلص من حيي بن أخطب ، وبات واضحاً للجميع أن الدولة الإسلامية في طريقها إلى النمو والقوة، وأن نجمها سيعلو في الجزيرة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذه النجاحات المتتالية في الأحزاب وبني قريظة وفي حادثة اغتيال الزعيم اليهودي سلام بن أبي الحقيق ، بل استغلها بنشر القوات الإسلامية في كل مكان هنا وهناك، وبسط السيطرة على المناطق المختلفة في الجزيرة، وقام بتأديب وعقاب من اشتركوا في إيذاء المسلمين قبل ذلك.

سرية محمد بن مسلمة لتأديب بني بكر بن كلاب من قبائل نجد

بعد عودة سرية عبد الله بن عتيك من خيبر، أرسل سرية بقيادة محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالقرطاء، وهي تبعد عن المدينة المنورة أكثر من (300) كيلو متر، وهذه السرية كانت موجهة إلى بطن بني بكر بن كلاب ، وهم من قبائل نجد الذين اشتركوا في حصار المدينة المنورة أيام الأحزاب، مع أن هذه السرية كانت مكونة فقط من (30) فارساً فهي سرية صغيرة، إلا أنها حققت نتائج عظيمة جداً، لا تتناسب مطلقاً مع عددها الصغير.

ألقى الله سبحانه وتعالى بهذه السرية الرعب في قلوب بني بكر، لقد هرب معظمهم من السرية، وتفرقوا في الصحراء وقتل منهم عشرة، واستاق محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه عدداً كبيراً جداً من الإبل والشياه، جاء في بعض التقديرات أنها (150) من الإبل و(3000) من الشياه.

وكان من آثار هذه السرية أن ارتفعت هيبة المسلمين في قلوب الأعراب هنا وهناك، وخاف الناس منهم، وتحسن الوضع الاقتصادي في المدينة المنورة، وبالذات أن المسلمين لا زالوا خارجين من أزمة الأحزاب، فقد كانوا في حالة شديدة جداً من الفقر والجوع، وارتفعت معنويات المسلمين جداً، وشعروا بشعور المهاجم لا شعور المدافع.

إذاً: هذه ثلاثة آثار إيجابية لهذه السرية البسيطة.

قصة أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه

عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟

أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله: (ما عندك يا ثمامة ؟) لنتصور حلم ورفق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب رجلاً يعلم أنه جاء ليقتله: (ما عندك يا ثمامة ؟ فقال ثمامة : عندي خير يا محمد).

ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً.

هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم).

الثاني: (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك.

الثالث: (وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر.

إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد.

فـثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً.

فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال: (ما عندك يا ثمامة ؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له: (ما عندك يا ثمامة ؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء.

تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء!

أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال: (إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن، وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي، وإنما بعد أن رأى الحق رغب فيه وأسرع إلى الإسلام مهما كانت العواقب ومهما كانت النتائج.

وقرر السيد ثمامة بن أثال الذي تعود أن يتبعه الناس أن يتحول من سيد إلى تابع مطيع لهذا الدين الجديد دين الإسلام، فعنده إيمان عميق ومن أول يوم من أيام الإسلام.

لقد وقف ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في خشوع أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (أشهد أنه لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، ثم قال: يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي).

في لحظات تبدلت المشاعر والأحاسيس والأمنيات والأهداف هذا هو الإسلام، وهذه هي نتيجة المعاملة بالحسنى، والجدال بالتي هي أحسن، والرفق والحلم مع الناس.

ثم قال ثمامة رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) يعني: أنه كان ناوياً العمرة بعد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الآن صار مسلماً، فهو يسأل: هل يذهب لأداء العمرة أم لا؟ (فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما ذهب إلى مكة) فهو زعيم كبير جداً وكان مقرباً إلى أهل مكة، (فلما ذهب إلى أهل مكة وعرف المشركون في مكة أنه قد أسلم، فقال له أحد المشركين: صبوت؟) يعني: تركت العبادة الصحيحة؟ يعني: كما تقول لواحد مؤمن في هذا الوقت: كفرت؟ (فقال ثمامة : لا والله ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: ما كنت عليه من عبادة الأصنام هو الباطل، وأنا في هذا الوقت آمنت حقيقة لا صبوت.

ثم أخذ قراراً في منتهى الجرأة والأهمية والتضحية، قال مخاطباً زعماء قريش: (لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم) هذا قرار عجيب جداً، إنه قرار مقاطعة اقتصادية كاملة لأقوى قبيلة عربية في المنطقة قريش، لماذا هذه المقاطعة؟ لأنها معادية للإسلام والمسلمين، هذا قرار فيه جرأة كبيرة جداً، فهو سيواجه قريشاً بكل قوتها ورجالها وسلطانها وعلاقاتها وتاريخها، وهو سيمنع الطعام عن مكة، وكانت اليمامة المصدر الرئيسي لشعير وخبز مكة، كان يطلق على اليمامة ريف مكة.

هذا القرار فيه إيذاء شديد لمصالح مكة، وحصار اقتصادي مريع لمكة، وهو قرار في نفس الوقت فيه تضحية كبيرة جداً من ثمامة ؛ لأنه ليس فقط سيواجه زعماء مكة أو يفقد علاقات مهمة معهم، ولكنه سيفقد كذلك ثروات ضخمة؛ فـثمامة بن أثال تاجر يعتمد في التجارة على البيع والشراء، فهو الآن يقرر رضي الله عنه وأرضاه أن يخسر هذه التجارة، ويخسر هذه الأموال، ويخسر هذه العلاقات، ولكن كل ذلك في سبيل الله؛ إذاً: هو ليس بخسران في الحقيقة بل هو رابح ربحاً عظيماً جداً؛ لأنه ترك تجارة المشركين وتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى.

يتعلل الكثير الآن بأننا لا نستطيع أن نقاطع أعداءنا؛ لأننا سنفقد ثروات اقتصادية ضخمة وسنخسر مادياً، والمصانع ستقفل، والتجارات ستقف، أقول: هذه طبيعة الحروب، والنصر لا يأتي إلا ببذل وتضحية في سبيل الله؛ لأن هذا الذي نشتريه بجهادنا بأنفسنا وأموالنا هو شيء ثمين ونفيس جداً، إنه شيء اسمه الجنة، فلا بد أن يكون المدفوع في الجنة كثيراً وعظيماً جداً؛ لأنه كما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فأنت تتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى، والثمن الجنة.

فـثمامة أخذ قراراً ونفذه بالفعل وتمت المقاطعة وعلم بها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وتركها تحدث دون أن يمنعها، ففي هذا الأمر أبلغ الرد على من يقول: إن المقاطعة بدعة، بل على العكس، المقاطعة سنة تقريرية من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.

والسنة: هي كل فعل أو قول أو تقرير لرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى حدثاً من أحداث الصحابة فيسكت عنه أو يستحسنه أو يقره بكلمة أو بفعل، كل هذا يحول الحدث إلى سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو رأى منكراً لنهى عنه، فهذا الأمر حدث من ثمامة بن أثال وسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره، واستمر ثمامة في المقاطعة إلى أن حدث أمر غريب.

فما هو الذي حصل بعد هذا من أجل أن نفهم معنى السنة ومعنى البدعة؟ الذي حصل أن المقاطعة أثرت تأثيراً مباشراً قوياً حاسماً على زعماء مكة وعلى شعب مكة بصفة عامة، كادت مكة أن تهلك، وفشلت كل محاولات مكة في إقناع ثمامة بن أثال بالعدول عن المقاطعة؛ لأنه أصر عليها وربط رفع المقاطعة بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على إعطاء مكة الشعير من جديد، وقريش لم يكن أمامها إلا حل واحد، وهو حل عجيب، وأبعد حل ممكن نتصوره، بل أبعد حل ممكن تتصوره قريش نفسها.

ماذا عملت قريش؟ لقد أرسلت وفداً إلى المدينة المنورة؛ ليستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لـثمامة بمعاودة التجارة مع قريش، هذا الموقف كان بعد شهور قليلة جداً من غزوة الأحزاب، فقريش تنازلت عن كبريائها وغطرستها وذهبت لتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام وتطلب منه وترجوه وتستحلفه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليأذن له بمعاودة التجارة معها، فكتب له صلى الله عليه وسلم ولم يلمه على المقاطعة ولم يقل: هذا غير صحيح أو غير سنة، بل أذن له أن يعطيهم؛ بسبب الأرحام التي سألوه بها صلى الله عليه وسلم.

فهذا أمر واضح جداً في السيرة النبوية، وهو أمر يقبله كل عقل وكل شرع؛ لأنه ليس من المعقول أن الناس تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذبح المسلمين وتحاصر المسلمين وتجوع المسلمين فإذا ما أخذنا قراراً بعدم الشراء منهم سميناه بدعة، هذا أمر غريب جداً على الفقه والفهم الإسلامي.

ولا يخفى علينا في هذا الموقف أن نرى رقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وافق على إعطاء قريش مع كل ما فعلته مع المسلمين قبل ذلك، وافق على طلب قريش وأمر ثمامة بإلغاء المقاطعة التي كانت بينه وبين قريش.

فهذا الموقف رفع رءوس المسلمين إلى السماء، لم تعد دولة المسلمين دولة ضعيفة مهيضة الجناح، مهددة من هنا وهناك، لا، بل أصبحت دولة منتصرة تبسط سيطرتها على بقاع متعددة في الجزيرة العربية، يرهبها الصغير والكبير، لها قوة اقتصادية، لها علاقات دبلوماسية، في يدها مفاتيح لتغيير الأوضاع في الجزيرة، وللتأثير على الجميع بما فيهم قريش ذاتها.

لقد كانت سرية محمد بن مسلمة سرية بسيطة مكونة من (30) فارساً، لكن إذا أراد الله عز وجل بالأمة خيراً فلا راد لفضله سبحانه وتعالى، ويأتي الخير بأهون الأسباب التي يتوقعها المسلم، بل يأتي من حيث لا يتوقع أصلاً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3]، والنصر ما هو إلا نوع من الرزق، وكثيراً ما يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.

قصة غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لعضل والقارة من بني لحيان

بعد هذه الآثار العظيمة من ارتفاع معنويات المسلمين، وخوف الأعراب، وهزة قريش، وإسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وقتل زعماء اليهود الكبار وفي أولهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، بعد كل هذا كان لزاماً على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك؛ لأن قريشاً ستنشغل بنفسها ولن تقدم أي معونة لأحد في حرب المسلمين، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في رسم خطة لبسط السيطرة على الجزيرة العربية.

ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في صورة شبكة منظمة رائعة، طرقت تقريباً كل دروب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وكان شعار هذه المرحلة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

فأول قبيلتين فكر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يحاربهم: قبيلة عضل، وقبيل قارة، وقصة هاتين القبيلتين في الغدر بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معروفة ومشهورة، وتكلمنا عليها قبل هذا في الدروس السابقة، وهي قصة الغدر عند ماء الرجيع.

فقد قتلت هاتان القبيلتان من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام (10) عند ماء الرجيع، بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكان وقع هذه المصيبة كبيراً جداً على الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ظل يدعو عليهم في قنوته في كل صلواته لمدة شهر كامل.

فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد الفرصة مواتية لقتالهم أعد العدة لذلك، بل وقرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة بني لحيان.

وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالفعل بجيشه إلى بني لحيان في ربيع أول سنة (6) هـ، وهذا الخروج خطير جداً لأمور:

أولاً: لأن قبائل بني لحيان قبائل قوية مقاتلة.

ثانياً: لأن قبائل بني لحيان اشتهرت بالغدر وقطع الطريق، من أجل هذا عندهم عدة كمائن على الطريق.

ثالثاً: لأن مساكن بني لحيان بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فهي تبعد تقريباً (400) كيلو متر من المدينة المنورة إلى الجنوب.

رابعاً: لأن مساكن بني لحيان قريبة جداً من مكة المكرمة، على بعد (90) كيلو متر من مكة المكرمة، فلا يستبعد أبداً أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة من مكة المكرمة فتخرج له قريش، وأنتم تعرفون قوة قريش.

كل هذه الأمور جعلت هذه الغزوة خطيرة، ومن أجل هذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه فيها.

وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع أول (6) هـ، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في (200) من أصحابه، ومعه مجموعة من الفرسان في هذه الغزوة، وأوهم الناس أنه سيتجه إلى الشمال في بادية الشام، وبعد ذلك غير الاتجاه وذهب إلى الجنوب حتى يعمي على العدو، ووصل إلى ديار بني لحيان، لكن كما ذكرنا قبل هذا أن بني لحيان كانت لهم عدة كمائن على الطريق، واكتشفت هذه الكمائن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن فروا من ديارهم لما عرفوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد غزوهم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في (200) فارس، وجاء على بعد (400) كيلو من المدينة المنورة، فهرب بنو لحيان جميعاً في رءوس الجبال وتركوا ديارهم خالية.

وكان على غير مراد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يقابلهم ويحاربهم؛ لينتقم لأصحابه أصحاب الرجيع، لكن هروب بني لحيان ترك أثراً إيجابياً كبيراً جداً في صالح المسلمين في المنطقة كلها.

العربي ليس من شيمه الهروب، والجبن صفة مذمومة جداً عنده، لا يحب أبداً أن يوصف بها، وبالذات إن كانت القبيلة قبيلة قوية لها تاريخ في الحرب والقتال والغزو، لكن ربنا سبحانه وتعالى ألقى الرعب في قلوبهم، لم يفكروا أصلاً في المقاومة، لم يفكروا في سمعتهم أمام القبائل الأخرى، فكان ذلك انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين بلا شك، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا الانتصار، بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان، لكن لم يعثر على أحد منهم.

ويعتبر بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض القبيلة مدة يومين كاملين هذا من أقوى دلالات الانتصار عند العرب، لأن من ينتصر لا يخرج سريعاً من مكان القتال وكأنه يخشى القوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أنه لا يخاف بني لحيان ومكث يومين كاملين، ليس هذا فحسب، بل أرسل سرية صلى الله عليه وسلم من (10) فرسان في اتجاه مكة حتى بلغت كراع الغميم، وكراع الغميم على بعد حوالي (60) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم ولا يستخفون؛ ليعلم بهم أهل مكة وأنهم سيغزون مكة؛ وذلك لإلقاء الرعب في قلوب القرشيين، وحدث ما تمناه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد فزعت قريش ونفرت إلى السلاح، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام عاد إلى المدينة ولم يدخل معهم في قتال؛ لأنه غير مستعد لقتال قريش في ذلك الوقت، لكن تحقق له ما أراد وشعرت قريش بالخطر الشديد من المسلمين.

غارة عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين حول المدينة وردة فعل المسلمين تجاه ذلك

بعد أسبوعين كاملين من الغياب عن المدينة المنورة، وفي أثناء عودة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أغار عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين في خارج المدينة المنورة، في منطقة تعرف بالغابة، وأخذ منها إبلاً وشياهاً للمسلمين، وقتل راعيها -وهو رجل من غفار- واحتملوا امرأته، وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل الخبر إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم نقل له سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسلمة من أعظم الرماة في الإسلام، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك عاد سلمة مسرعاً إلى منطقة الغابة وظل يرمي الفرقة الغازية فقتل بعضهم وأصاب بعضهم.

وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فرقة سريعة الحركة من الفرسان، وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا غير سعيد بن زيد المهاجري رضي الله عنهم أجمعين، وكان في هذه الفرقة المقداد بن عمرو وعباد بن بشر وأبو قتادة وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم أجمعين، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال صلى الله عليه وسلم لأميرهم سعد بن زيد : (اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس) وخرجت هذه الفرقة السريعة، والرسول عليه الصلاة والسلام تبعها بعد ذلك بجيش من المسلمين، وأدرك هذه الفرقة عند مكان يسمى ذو قرد على بعد حوالي (35) كيلو متر شمال شرق المدينة المنورة.

في هذه الغزوة قتل أبو قتادة رجلاً من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه، وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة، وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل.

وطلب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل معه من الرجال ليغزو بهم قبائل غطفان في مكانها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض ذلك؛ لأن قبائل غطفان قبائل قوية جداً ومنازلها بعيدة عن المدينة المنورة، ولا يريد أن يدخل معها في صراع وهو لم يعد العدة الكافية لذلك.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع في واقعية دون تهور، فقد كان كل ذلك في حدود المدينة المنورة، وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيش إلى مغامرة غير مأمونة، وعلى العكس من ذلك فقد أخذ جيشه القليل صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بني لحيان؛ لأن هناك اختلافاً بين بني لحيان وبين بني غطفان، فقبيلة لحيان وإن كانت قوية إلا أنها أقل بكثير جداً من قبائل غطفان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي لكل أمر قدره، يحسب حساباته بدقة، ويتصرف على ضوء هذه الحسابات، في توازن رائع وفقه عميق.

هذه الحملة الأخيرة التي قادها صلى الله عليه وسلم تعرف بغزوة الغابة، وهو المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن ، أو غزوة ذي قرد، وهو المكان الذي وصل إليه صلى الله عليه وسلم في مطاردته للمشركين، وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6)هـ.

السرايا التي بعثها صلى الله عليه وسلم بعد غزوة ذي قرد لتأديب القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب وغيرها

وبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريباً؛ وذلك إلى القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب، وكذلك القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى القائل التي تستعد لغزو المدينة المنورة.

وهكذا بعث صلى الله عليه وسلم السريا الآتية:

أولاً: بعث سرية بقيادة عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه إلى غمر مرزوق، وهو تجمع لفرع من فروع بني أسد، وبنو أسد من القبائل التي اشتركت في حصار الأحزاب، وكانت هذه السرية في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد وهو ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6)هـ.

السرية الثانية كانت بقيادة محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة على بعد حوالي (55) كيلو متر شمال المدينة، وهذه كانت في ربيع الثاني سنة (6)هـ.

في نفس الشهر ربيع الثاني خرجت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه إلى نفس المكان ولنفس الهدف لقتال بني ثعلبة.

في نفس الشهر كذلك ربيع الثاني خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالجموم، والجموم على بعد حوالي (100) كيلو متر من المدينة المنورة وخرجت لقتال بني سليم.

وبعد عودة هذه السرية بأيام في شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة جداً بقيادة زيد بن حارثة مرة ثانية أيضاً.

وسنرى أن اسم زيد بن حارثة يتكرر مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه لأمر كبير جداً سنعرفه عندما نأتي لغزوة مؤتة إن شاء الله.

المرة الثانية: خرج زيد بن حارثة على رأس سرية أخرى موجهة إلى منطقة تعرف بالعيص، وهذه المنطقة شمال غرب المدينة المنورة، وكان غرض هذه السرية اعتراض قافلة من قوافل قريش، فأمسك زيد بن حارثة بالقافلة بكاملها، وكانت ضربة كبيرة جداً لقريش.

وفي الشهر الذي يليه شهر جمادى الآخرة من سنة (6)هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الثالثة على رأس سرية إلى منطقة تعرف بالطرف على بعد (55) كيلو متر من المدينة المنورة على طريق العراق، وكانت لقتال فرع من فروع بني ثعلبة.

وفي نفس الشهر جمادى الآخرة سنة (6)هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في منتهى الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية، وهذه السرية مهمة جداً ومحتاجة لوقفة، وسبب هذه السرية أن أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه كان في طريقه من الشام إلى المدينة المنورة فاعترض طريقه أحد زعماء قبيلة جذام، وقبيلة جذام تسكن في شمال الجزيرة العربية، فهذا الزعيم كان اسمه الهنيد بن عوص ومعه ابنه ومجموعة من رجال قبيلة جذام، وأخذوا ما مع دحية الكلبي رضي الله عنه، وسمع بذلك مجموعة من بني الضبيب، وبنو الضبيب كانوا من المسلمين فهبوا لنجدة دحية الكلبي ، ونجحوا في استرداد الأشياء التي سلبها منه الهنيد بن عوص ومن معه، وحمل دحية الكلبي هذه الأشياء وعاد إلى المدينة المنورة، في عرف أناس كثيرين أن الموقف انتهى، ما دام الشيء الذي أخذ رجع فليس هناك داع للقتال، لكن عندما أخبر دحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة، حتى وإن كان ما سلب من المسلمين رد إليهم؛ ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا ينبغي أبداً أن تنتقص، وأن أي قبيلة أو إنسان تسول له نفسه التعدي على حرمة الأمة الإسلامية، ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة من المسلمين لا بد أن يحدث انتقام من قبل الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، من أجل هذا قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعث جيشاً لعقاب قبيلة جذام على تعديها على أحد رعايا الدولة الإسلامية، وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذان تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه.

هذا موقف مشرف جداً، يكتب بماء الذهب وأغلى من الذهب، لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع، فحاربهم وأجلاهم من المدينة جميعاً، وهاهو الآن ينتفض لانتهاك حرمة رجل مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فلا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة لحماية القائد لها، ولا تسل عن مدى إحساسهم بالأمان وهم يعلمون ويوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم، تحفظ كرامتهم، تدافع عن حقوقهم، ترفع رءوسهم في العالم أجمع.

وهذا الموقف يزداد قيمة عندما نعرف أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة قوية جداً، قبيلة جذام، وتقع مساكنها على بعد حوالي (800) كيلو متر شمال المدينة المنورة.

تصوروا اجتياز مسافة طويلة وصعبة جداً في الصحراء وسيتم فيها لقاء صعب، لكن كرامة الأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات، هكذا يكون التعامل مع هموم وقضايا الأمة.

فالرسول عليه الصلاة والسلام جهز سرية بقيادة زيد بن حارثة للمرة الخامسة في سنة (6) من الهجرة، عدد أفرادها (500) رجل، وهذه أكبر ا

لقد بدأ الجهاد مباشرة بعد غزوة الأحزاب، وأول ما بدأ به تحرك تجاه أولئك الذين حركوا جموع العرب لغزو المدينة المنورة، وبالتحديد اتجاه اليهود وزعمائهم، وأهم هؤلاء الزعماء حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب كان قد قتل مع يهود بني قريظة في أعقاب غزوة الأحزاب مباشرة، وبعد مقتل حيي بن أخطب لزم على المسلمين أن يذيقوا سلام بن أبي الحقيق من نفس الكأس الذي كان يريد أن يذيقه للشعب المسلم بكامله في المدينة المنورة، من أجل هذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية لاغتيال سلام بن أبي الحقيق في خيبر، وسلام بن أبي الحقيق من زعماء خيبر، وخيبر على بعد حوالي ( 150 ) كيلو شمال المدينة المنورة، وهي مهمة خطيرة جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية كاملة بقيادة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه وأرضاه.

ونحن نرى الفكر السياسي والعسكري الدقيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بالسرية هذه سيقضي على رءوس الفتنة ومجرمي الحرب ومحركي الجموع، وبالتالي يستطيع بعد ذلك أن يسيطر على الأمور بصورة أيسر وبطريقة أسرع، وبحمد الله نجحت سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل سلام بن أبي الحقيق ، وتخلص المسلمون من رأس كبير من رءوس الفتنة، وكانت خسارة كبيرة جداً لليهود، وبالذات أن ذلك كان بعد التخلص من بني قريظة، وبعد التخلص من حيي بن أخطب ، وبات واضحاً للجميع أن الدولة الإسلامية في طريقها إلى النمو والقوة، وأن نجمها سيعلو في الجزيرة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذه النجاحات المتتالية في الأحزاب وبني قريظة وفي حادثة اغتيال الزعيم اليهودي سلام بن أبي الحقيق ، بل استغلها بنشر القوات الإسلامية في كل مكان هنا وهناك، وبسط السيطرة على المناطق المختلفة في الجزيرة، وقام بتأديب وعقاب من اشتركوا في إيذاء المسلمين قبل ذلك.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4061 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3973 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3936 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3782 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3719 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3649 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3637 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3571 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3454 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3401 استماع