سلسلة السيرة النبوية قيام الدولة الإسلامية


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

اليوم نبدأ الحديث عن العهد المدني في السيرة النبوية، قبل هذا تكلمنا عن العهد المكي، والكثير الكثير من الأحداث الهامة جداً في العهد المكي للأسف أغفلت؛ لكثرة الأحداث وصعوبة الإلمام بكل ما تم في حياته صلى الله عليه وسلم من دروس وعبر وعظات وأحكام وتشريعات، إذا كنا نقول ذلك الكلام عن فترة مكة فالحديث عن فترة المدينة أصعب بشكل لافت للنظر؛ لأن أحداث المدينة المنورة كثيرة جداً ومتشعّبة: غزوات، وسرايا، ومعاهدات، ولقاءات ومعاملات، وحياة زوجية للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة مع الصحابة، وحياة مع المنافقين، وحياة مع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين.. ومن غيرهم، في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبوية، ويكاد يكون من المستحيل أن تجمع كل السيرة النبوية في فترة المدينة المنورة في مجموعة واحدة أو مجموعتين أو ثلاث أو أكثر، سنظل نتكلم سنين كثيرة في السيرة النبوية، ومهما تكلم المتكلمون قبل ذلك ستجد جديداً في السيرة النبوية؛ لأن السيرة النبوية كنز لا ينتهي عجائبه، كما تقرأ القرآن الكريم فأنت في كل فترة تأتي بجديد وبإضافة في فقه آية أو في فهم معنى، ويبدع المفسّرون في تفسير بعض الآيات كل سنة، مع أن لنا تقريباً (1400) سنة ونحن نفسر القرآن الكريم، كذلك في السيرة النبوية كلما تقرأ حدثاً قد تطلع منه على جديد، وكتب السيرة التي تُطبع في هذا الوقت بعد (1400) سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبوية ما زالت تخرج لنا جديداً.

إذاً: السيرة النبوية إعجاز وترتيب دقيق جداً من رب العالمين سبحانه وتعالى، وضع الله عز وجل فيها كل المتغيرات والأحداث، التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم حجته على البشر في قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد سنة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا في مجموعة المدينة هذه لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول جميع الأمور بالترتيب، سنُغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى مجموعات أخرى من المحاضرات والدروس.

على سبيل المثال سنجعل مجموعة نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وحل مشكلات العالم. نتناول فيها كيف حل الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة البطالة، ومشكلة الأمية، ومشكلة الزواج المتأخر، ومشكلة الفقر، ومشكلة اللاجئين.. مشاكل كثيرة جداً مرت بالأمة الإسلامية، حلها الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة علمية عملية واضحة، نستطيع أن نقلدها بمنتهى السهولة لو درسنا السيرة النبوية.

وسوف نجعل أيضاً مجموعة من المحاضرات إن شاء الله نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين. وسنجمع فيها أخطاء المؤمنين التي وقعوا فيها في فترة المدينة أو في فترة مكة، وهذه الأخطاء في الحقيقة تحتاج منا إلى دراسة متأنية وتحليل لكل خطأ كيف حدث؟ وكيف خرج منه المسلمون؟ وفي الحقيقة تأخذ مساحات كبيرة جداً من الوقت في التحليل والدراسة؛ ولهذا سنحاول أن نخرج هذه الأخطاء قدر المستطاع دون الإخلال بترتيب الأحداث وبفقه المعاني في داخل الفترة النبوية في المدينة المنورة، ونجمع كل هذه الأخطاء في مجموعة: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين.

ومن المجموعات مجموعة: بناء الدولة الشاملة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء العسكري، البناء القضائي، البناء الرياضي، فالرسول عليه الصلاة والسلام كوَّن دولة شاملة بترتيبات دقيقة جداً وقانون محكم، كل هذا يحتاج إلى تفصيلات لا نستطيع أن نتحدث عنها كلها في هذه المجموعة.

إجمالاً فترة المدينة المنورة بصفة عامة لها سمات تميزها عن فترة مكة المكرمة، ففترة مكة تستطيع أن تقول: إنها فترة بناء الفرد المسلم الصالح المؤمن بربه، والمؤمن برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، المعتقد بالبعث والحساب يوم القيامة، ودخول الجنة أو النار، كانت بناءً للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جداً، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، فمرة عن طريق التخفي، ومرة أخرى عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، ومرة عن طريق الهجرة، فالهجرة إلى الحبشة كانت مرتين، والثالثة كانت للمدينة المنورة.

أما فترة المدينة المنورة فكانت فترة بناء للأمة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكة نبني أفراداً، ففي فترة المدينة المنورة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات.

وهذه القضية شاقة عسيرة، لكن بدأها الرسول عليه الصلاة والسلام بصبر، وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير.

هذه قضية بناء أمة بكل الأصول والتفريعات، فنحن عندما نريد تأسيس شركة كبرى من لا شيء أمر صعب، فكيف ببناء أمة؟!

إن قصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري المذهل إلا في أمة الإسلام، فبعض الدول قامت بسرعة، لكنها سرعان ما وقعت، ولم تترك خلفها أي تراث حضاري يُذكر، فعندما تريد المقارنة بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار تجد أن أمة التتار أيضاً قامت بسرعة، وانتشرت انتشاراً هائلاً في الأرض، لكن أين تراث التتار الآن؟ أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهت بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي في الإسلام؛ لأن دين الله عز وجل يختلف كلية عن كل قوانين البشر الوضعية، دين غالب قاهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة، تحديات داخل المدينة المنورة وخارج المدينة المنورة، داخل الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع، ومن أزمة إلى أزمة أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلامية.

هذه ليست حكمة بشرية فقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أحكم البشر وأعلم الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو منهج إلهي صادق بنى الأمة بهذا الإعجاز الواضح وبهذا التوقيت المعجز، ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنورة دولة معترفاً بها في العالم، لها قوة، ولها مكانة، ولها سفراء، ولها مراسلات إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة وقوية مع قوى العالم في ذلك الوقت.

تجربة رائعة حقاً تستحق الدراسة، بل تجب دراسة هذه التجربة، هذا هو الدين الإسلامي حقيقة، الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، الدين الإسلامي منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد والمجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فقد تعلمنا في فترة المدينة المنورة كيف يكون المحيا لله عز وجل في كل جزئية من جزئيات الحياة.

فترة مكة كان أيضاً يطبق على المسلمين، لكن المسلمين لم تكن عندهم تشريعات ولا دولة، ولم تكن عندهم سياسة واقتصاد وقضاء، هذه الأمور لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن المسلمين كانوا عبارة عن جماعة صغيرة جداً مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضح تمام الوضوح في فترة المدينة المنورة.

ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكة التي هي بناء الأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانت على مستوى واحد من الأهمية تقريباً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قوية بغير تربية مكة، ولن تفهم فترة المدينة مطلقاً بدون الرجوع إلى فترة مكة.

تربية مكة كانت الأساس للصرح الضخم الذي بُني بعد ذلك في المدينة المنورة، والأساس الذي يبني فوقه عشرات الأدوار لا أحد يراه، إلا العالمين ببواطن الأمور، فلو أتيت أحد المهندسين فإنه يستطيع أن يخبرك بعمق الأساس ومساحته وقوته، وأيضاً كم يستطيع أن يبني فوق العمارة التي بُنيت، فلو كان الأساس ضعيفاً فإن البناء ينهار عند أول هزة، قد تجده يقف أمامك فترة من الزمن، لكن أول زلزال ولو كان يسيراً قد يجعل البناء ينهار بالكلية، وما أكثر ما رأينا دولاً وأحياناً تكون دولاً إسلامية تنهار؛ لأن الأساس كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة، وما أحداث طالبان منا ببعيد، ما نشك في نياتهم وفي أخلاقهم وفي عبادتهم، لكن البناء كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة؛ فحدث هذا الانهيار المروع وفي فترة قصيرة؛ لأنه لم تُدرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام دراسة متأنية منهم، أو ممن وقع من أمثالهم في حلقات التاريخ المختلفة.

إلى كل العاملين على الساحة الإسلامية أقول: دراسة السيرة ليست ترفاً فكرياً، إنما هي فريضة على كل من أراد أن يعز هذه الأمة وأن يشارك في بنائها.

ما هو الأساس الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء الأمة الإسلامية، وحرص على تقويته في فترة مكة المكرمة؟

ما الذي نأخذه من فترة مكة لندخل فترة المدينة؟

شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها

جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم ثلاثة أسس رئيسية للأمة الإسلامية:

الأول: الإيمان به وتعظيمه واليقين الكامل في قدرته وحكمته وأحقيته بالطاعة والخضوع، لا إله إلا الله، هذه كلمة عاش لها صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، من أول البعثة إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وهو يزرع في الناس هذه الكلمة الموجزة جداً، التي توضح معنى عبادة الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، كان يمشي وسط المشركين في مكة المكرمة ويقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، فنجاة البشر بصفة عامة في الدنيا بقول لا إله إلا الله، ونجاة البشر يوم القيامة بقول لا إله إلا الله.

لكن ليس المقصود أن تقولها باللسان، فجميعنا يقول: لا إله إلا الله، من منا في حياته يطبق قول لا إله إلا الله؟

هل كان ينكر العرب أن الله عز وجل هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلق البشر؟

أبداً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]هذا اعتراف من الجميع، لكن المشكلة الرئيسة أنهم حكموا غير الله عز وجل في حياتهم، عبدوا الله عز وجل ظاهراً وطبقوا شرع غيره في كل جزئية من جزئيات حياتهم؛ لذلك كانوا من الكافرين، وخسروا الخسران المبين؛ من أجل عدم تطبيق كلمة لا إله إلا الله في حياتهم، والذين قالوها هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ملكوا العرب والعجم كما وعدهم صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).

يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] الناس جميعاً تعترف أن الخلق لله، ما ادعى بشر قبل ذلك وإلى الآن وإلى يوم القيامة أنه يخلق، فالجميع يعترف أن الخلق قوة خارجة عن إرادة البشر وقدرتهم، وهذا يحيلنا جميعاً إلى الله عز وجل أنه هو الذي خلق، لكن من الذي يأمر؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

لا إله إلا الله تقتضي أن تطيع الله عز وجل، إن هذا الكلام ليس بالسهل، بل كثيراً ما يتعارض مع مصلحتك في الظاهر، والشرع كله مصلحة؛ واتباع شرع ربنا سبحانه وتعالى يحقق لك المصالح في الدنيا والآخرة، لكن عين الإنسان القاصرة أحياناً لا ترى الخير، ولا ترى الحق والصواب في أمر من الأمور، وتظن أن اختيارها أفضل مما اختاره رب العالمين سبحانه وتعالى لها، وهذا ضعف إيمان، فلابد أن تؤمن إيماناً يقينياً بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى على أنه يختار الاختيار الأفضل لك ولأمتك، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة في كل مكان في الأرض؛ لأن هذه حقائق ثابتة، والإنسان إذا كان عنده تردد في هذا المعنى فهذا ضعف إيمان؛ ولهذا مكث الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة من مجموع (23) سنة من البعثة كلها يزرع هذا المعنى فقط، ويركز تركيزاً كاملاً على معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يعمل من أجل لا إله إلا الله فترة طويلة جداً من الزمان، وحرص في فترة المدينة المنورة على تأكيد هذا المعنى حتى مات صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فالأصل الأول الذي لا تُبنى أمة الإسلام إلا به: لا إله إلا الله.

شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بمقتضاها

الثاني: الإيمان الكامل والجازم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى برسالة منه إلى البشر عامة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرمت مثل الذي حرم الله) تماماً بتمام؛ لأن السنة وحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، والقرآن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

فلو كان الناس لا يفهمون معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وظنوا أنه مجرد رجل حكيم أو عبقري أو سياسي قدير أو كذا من الأمور، لأخذوا من كلامه وردوا حسب ما أرادوا، لكن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يزرعه في فترة مكة المكرمة أن ما يقوله هو وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، سواء كان كلام رب العالمين القرآن، أو كان وحياً وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى، سواء الحديث القدسي أو الحديث النبوي كما نعلم جميعاً.

الإيمان الجازم باليوم الآخر

الثالث: الإيمان الجازم بأن هناك بعثاً يوم القيامة، وأن هناك حساباً من إله قدير عليم حكيم، يثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار.

هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا يدعو المشركين جميعاً إلى الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى. قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعلمون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).

جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم ثلاثة أسس رئيسية للأمة الإسلامية:

الأول: الإيمان به وتعظيمه واليقين الكامل في قدرته وحكمته وأحقيته بالطاعة والخضوع، لا إله إلا الله، هذه كلمة عاش لها صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، من أول البعثة إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وهو يزرع في الناس هذه الكلمة الموجزة جداً، التي توضح معنى عبادة الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، كان يمشي وسط المشركين في مكة المكرمة ويقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، فنجاة البشر بصفة عامة في الدنيا بقول لا إله إلا الله، ونجاة البشر يوم القيامة بقول لا إله إلا الله.

لكن ليس المقصود أن تقولها باللسان، فجميعنا يقول: لا إله إلا الله، من منا في حياته يطبق قول لا إله إلا الله؟

هل كان ينكر العرب أن الله عز وجل هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلق البشر؟

أبداً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]هذا اعتراف من الجميع، لكن المشكلة الرئيسة أنهم حكموا غير الله عز وجل في حياتهم، عبدوا الله عز وجل ظاهراً وطبقوا شرع غيره في كل جزئية من جزئيات حياتهم؛ لذلك كانوا من الكافرين، وخسروا الخسران المبين؛ من أجل عدم تطبيق كلمة لا إله إلا الله في حياتهم، والذين قالوها هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ملكوا العرب والعجم كما وعدهم صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).

يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] الناس جميعاً تعترف أن الخلق لله، ما ادعى بشر قبل ذلك وإلى الآن وإلى يوم القيامة أنه يخلق، فالجميع يعترف أن الخلق قوة خارجة عن إرادة البشر وقدرتهم، وهذا يحيلنا جميعاً إلى الله عز وجل أنه هو الذي خلق، لكن من الذي يأمر؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

لا إله إلا الله تقتضي أن تطيع الله عز وجل، إن هذا الكلام ليس بالسهل، بل كثيراً ما يتعارض مع مصلحتك في الظاهر، والشرع كله مصلحة؛ واتباع شرع ربنا سبحانه وتعالى يحقق لك المصالح في الدنيا والآخرة، لكن عين الإنسان القاصرة أحياناً لا ترى الخير، ولا ترى الحق والصواب في أمر من الأمور، وتظن أن اختيارها أفضل مما اختاره رب العالمين سبحانه وتعالى لها، وهذا ضعف إيمان، فلابد أن تؤمن إيماناً يقينياً بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى على أنه يختار الاختيار الأفضل لك ولأمتك، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة في كل مكان في الأرض؛ لأن هذه حقائق ثابتة، والإنسان إذا كان عنده تردد في هذا المعنى فهذا ضعف إيمان؛ ولهذا مكث الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة من مجموع (23) سنة من البعثة كلها يزرع هذا المعنى فقط، ويركز تركيزاً كاملاً على معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يعمل من أجل لا إله إلا الله فترة طويلة جداً من الزمان، وحرص في فترة المدينة المنورة على تأكيد هذا المعنى حتى مات صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فالأصل الأول الذي لا تُبنى أمة الإسلام إلا به: لا إله إلا الله.

الثاني: الإيمان الكامل والجازم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى برسالة منه إلى البشر عامة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرمت مثل الذي حرم الله) تماماً بتمام؛ لأن السنة وحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، والقرآن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

فلو كان الناس لا يفهمون معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وظنوا أنه مجرد رجل حكيم أو عبقري أو سياسي قدير أو كذا من الأمور، لأخذوا من كلامه وردوا حسب ما أرادوا، لكن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يزرعه في فترة مكة المكرمة أن ما يقوله هو وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، سواء كان كلام رب العالمين القرآن، أو كان وحياً وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى، سواء الحديث القدسي أو الحديث النبوي كما نعلم جميعاً.

الثالث: الإيمان الجازم بأن هناك بعثاً يوم القيامة، وأن هناك حساباً من إله قدير عليم حكيم، يثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار.

هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا يدعو المشركين جميعاً إلى الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى. قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعلمون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).

هناك أمور أخرى كثيرة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم منها: تقوية الأواصر بين المسلمين، زرع الأخلاق الحميدة، وتنمية روح التسامي والتضحية عند المسلمين، والبذل والعطاء، لكن لن تتحقق هذه الأمور كلها إلا إذا آمنت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة إيماناً يقينياً جازماً.

قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].

هل نستطيع أن نفهم تطبيق شرع الله في حياتنا من غير أن نفهم هذه الأصول أو الأسس الثلاثة؟

في فترة المدينة المنورة جاءت تشريعات وقوانين كثيرة جداً، ولن يطبق هذه القوانين إلا من رُبِّي تربية صادقة صحيحة في فترة مكة المكرمة، أو تربى في المدينة المنورة على هذه الأصول الثلاثة المهمة.

فإن كان الإيمان ضعيفاً كان الانسياق للقانون الذي أتى من عند رب العالمين عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أيضاً، ومن ثم كان بناء الأمة الإسلامية ضعيفاً، والدستور الإسلامي هو أحكم قانون عرفته الأرض؛ لأنه من عند رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يعلم ما يصلح العباد وما ينفعهم؛ لهذا كان اختياره لنا دائماً أفضل من اختيارنا لأنفسنا، والمسألة مسألة إيمان ويقين كما ذكرنا، إلا أن فلسفة الحكم في الإسلام لا تعتمد فقط على دقة القوانين وإحكامها، ولا تعتمد على مهارة الحاكم وحسن إدارته، بل تعتمد أيضاً على الشعور الدائم من المسلم بأنه مراقب من رب العالمين سبحانه وتعالى، وليست فقط رقابة ظاهرية، بل رقابة للباطن أيضاً: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29].

ويصف ربنا سبحانه وتعالى نفسه بقوله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ونتيجة هذه المراقبة سيكون الحساب يوم القيامة ثم الجنة أو النار، ومن ثم الأمة التي تؤمن بالله لا تخالف الدستور أو القانون الإلهي حتى في غياب عين الحاكم، أو حتى في غياب المدير أو الشرطي، وما ذلك إلا لأنها تعلم أن الله عز وجل يراقبها.

هذه هي فلسفة الحكم في الإسلام، لو أحسن المسلمون فقه هذه الفلسفة لكانت أمة الإسلام هي أكثر الأمم انضباطاً في تنفيذ قوانينها.

ولو أضفت إلى هذا حقيقة أن القانون الإسلامي هو أفضل قانون في الأرض بلا منازع؛ فإن هذا يفرز أفضل أمة بكل المقاييس؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] فأنتم خير أمة وقانونكم هو خير القوانين، واتباعكم للقانون خير الاتباع، هذا إذا كان الناس يفهمون حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة.

فإذا رأيت في فترة من الفترات أو في مكان من الأمكنة أن أمة الإسلام ليست خير الأمم في الأرض، فاعلم أن هذا نتج من مخالفة المسلمين، إما بترك أجزاء من القانون، وإما بسوء التربية الذي يفرّغ القانون من روحه ومعناه، فيتحايل عليه المسلم ناسياً أن الله يراقبه؛ وما ذلك إلا لضعف إيمان، لو حصل هذا ستجد الفساد في أمة الإسلام، وستجد الرشوة والتزوير لإرادة الشعوب، وستجد التدليس على الناس، والكذب والبهتان والفواحش والمنكر، ستجد انهياراً كاملاً لكل فضيلة وخلق ومعروف؛ وذلك لأن القانون تفرّغ من روحه، فالناس لا يعرفون أن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل يراقبهم في كل صغيرة وكبيرة.

خلاصة لما سبق لن تكون للمسلمين أمة ودولة بغير تربية مكة، تربية الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر، تربية الصبر والثبات والتضحية والتجرد والإخلاص الكامل لله رب العالمين سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4061 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3973 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3935 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3782 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3718 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3648 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3637 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3571 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3453 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3401 استماع