خطب ومحاضرات
سلسلة السيرة النبوية بيعة العقبة الأولى
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة، فترة مكة.
تكلمنا في الدرس السابق عن العام العاشر من البعثة، وهو العام الذي عرف في السيرة بعام الحزن، وحدثت فيه الكثير من الشدائد والمصائب والآلام والأحزان، مات فيه أبو طالب مشركاً، وماتت فيه السيدة العظيمة الفاضلة خديجة رضي الله عنها، واشتد إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلقت أمامه أبواب الدعوة تماماً في مكة، ورفضت دعوته في الطائف، ورجم بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه صلى الله عليه وسلم، وشج رأس زيد بن حارثة ، ولم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي المشرك، وفوق ذلك لم تؤمن أي قبيلة في موسم الحج من السنة العاشرة.
كيف تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوضع؟
في السنة الحادية عشرة من البعثة ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة طوال العام، لكن أبواب الدعوة في هذا الوقت كانت مقفلة تقريباً، فكان لا بد له أن ينتظر موسم الحج القادم ليعرض الأمر على وفود القبائل التي ستأتي للحج، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء هذه السنة، وقبل موسم الحج لم يكن يسمع أن هناك أحداً غريباً أتى إلى مكة إلا ودعاه إلى الإسلام، ومن كل الذين أتوا إلى مكة في السنة الحادية عشرة من البعثة، آمن أربعة بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مقارنة بالعام السابق يعتبر إنجازاً جيداً؛ ففي السنة الماضية لم يؤمن غير عداس في الطائف، ومجموعة الجن.
أما الأربعة الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة فمنهم من لم نسمع عن أسمائهم كثيراً، لأنهم ماتوا بعد إسلامهم، رجل اسمه سويد بن الصامت وكان شاعراً من شعراء يثرب، والثاني اسمه إياد بن معاذ وكان طفلاً صغيراً عمره (12) أو (13) سنة، وكلاهما مات بعد شهور من إسلامه.
أما الاثنان الباقيان فقد كان إسلامهما مؤثراً؛ لأن كل واحد منهما أتى بعد ذلك بقبيلة كاملة للإسلام.
الأول: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه من قبيلة غفار على مقربة من يثرب، وهي قبيلة مشهورة بقطع الطريق والسطو على الناس، ومع ذلك أسلم أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه ورجع إلى قبيلته يدعوهم إلى الله، وكانت دعوته ناجحة، فقد أتى بقبيلة غفار كاملة للإسلام، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهبوا إليه في المدينة يبايعونه على الإسلام، وحينها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها)، أي: كل ما فات مسح.
الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وقصة إسلامه جميلة، وليس هناك وقت للدخول في تفصيلاتها، لكن المهم أنه بعد إسلامه رجع يدعو قومه، وقبيلته هي دوس من قبائل اليمن، وبعد مشوار طويل وقصة لطيفة آمنت دوس، وجاء الطفيل رضي الله عنه بسبعين أو ثمانين عائلة من دوس إلى المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والعائلة في ذلك الوقت عدد أفرادها كبير.
فإسلام أبي ذر والطفيل رضي الله عنهما أتى للمسلمين بقبيلتين كبيرتين، مع أن تلك القبيلتين لم تأت إلا بعد الهجرة، لكن هذا تدبير رباني من الله سبحانه وتعالى، يدبر بلطف وخفاء سبحانه وتعالى، ومن المؤكد أن إسلام هاتين القبيلتين كان نصراً كبيراً للدعوة في ذلك الزمن الذي يعرف بزمن الاستضعاف في فترة مكة.
مرت الشهور وجاء موسم الحج من السنة الحادية عشرة من البعثة، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته في كل موسم يدعو الناس إلى الإسلام، لكن في هذا الموسم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يغير من طريقته لدعوة القبائل.
ذكرنا قبل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في إجارة المطعم بن عدي من بني نوفل، وهو مشرك، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن المطعم له طاقة محدودة، وأصحابه وأقرانه هم زعماء الكفر في مكة، ولن يتركوه كثيراً يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.
التغييرات على أسلوب الدعوة في العام الحادي عشر من البعثة
وكانت هذه المطالب خطيرة في مكة، لأن قريشاً لو علمت بذلك ستقيم الدنيا ولن تقعدها، فـأبو لهب لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يطارده في كل مكان.
وكانت هناك مشكلة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تاريخ كل قبيلة في الجزيرة، ومدى قوتها، وأسماء القادة فيها، لاحتمال أن يتفق مع أحدهم ثم لا تتحمل قبيلته المسئولية، وهذه اتفاقيات في منتهى الخطورة، ولتفادي هذا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غير شيئين مهمين، الأول: جعل دعوته للقبائل سرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم من السنة الرابعة من البعثة وهو يكلم الناس علناً، كان يتكلم أمام أبي لهب وأبي جهل وكل المشركين، لكن الأمر اختلف، وكان هناك مرونة في الدعوة، إذا كانت العلنية لن تؤدي المهمة فلتكن سرية، ليس هناك عنترية ولا انتحار، بل هناك تخطيط وإعداد وفكر سياسي راق، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة بالليل فقط، يخرج بالليل من غير أن يراه أحد، وفي كل يوم يختار للدعوة قبائل معينة، ويذهب إلى مخيماتهم خارج مكة في السر، لكي لا يراه أحد، وبذلك سيضرب عصفورين بحجر؛ لأنه سيوصل لهم الدعوة من غير تشويش من أبي لهب أو قريش، ولأن قريشاً لن تعرف ما هي القبيلة التي وافقت على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان أول تغيير في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة أن جعل دعوته للوفود الحاجة سرية.
الثاني: أنه اصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان خبيراً بالأنساب، يستطيع أن يعرف القبيلة القوية العزيزة من القبيلة الضعيفة، ويستطيع أن يعرف زعماء القبائل وتاريخهم، لو كانت القبيلة قوية فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الإسلام، ويطلب منهم النصرة، ولو كانت القبيلة ضعيفة أو زعيمها ليس بيده القرار عرض عليهم الإسلام، لكن لم يطلب منهم النصرة.
تخطيط مهول، فبناء الأمم ليس شيئاً سهلاً، تخطيط سياسي على أعلى مستوى.
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني شيبان ونتائج ذلك
المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصبه اليأس بعد أن انتهى من كل هذه القبائل، بل ذهب إلى قبيلة أخرى وهي قبيلة بني شيبان؛ وسنقف وقفة مع مباحثات الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان.
قبيلة بني شبيان قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب -يعني: قريبة من العراق-، ذهب إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق، فبدأ أبو بكر أولاً يسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، بعد أن سمع أبو بكر هذا الاسم أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! هؤلاء غرر الناس، من أعظم القبائل، وعندما سأل عن أسماء الحضور وجد فيهم أشراف بني شيبان: مفروق بن عامر ، وهانئ بن قبيصة ، والنعمان بن شريك ، والمثنى بن حارثة.
وأبو بكر يعرفهم ويعرف تاريخهم، كما أنه حاد الذكاء فبدأ يستثير الحماسة والعزة عندهم، قال الصديق : كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق وهو المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، وهذا رقم كبير، ولا ننسى أن المسلمين كانوا في بدر (313) أو (314)، وكان الكفار ألفاً.
فأثاره أبو بكر أكثر وقال له: وكيف المنعة فيكم؟
أحس مفروق بالإهانة فعلاً، فرفع صوته وقال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى -يعني: في الحرب-، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.
كلام في منتهى الحكمة والقوة، وهذا ما كان يريده الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أن يظهر العزة والكرامة التي عنده، حتى إذا ما طلب منه الوقوف أمام قريش لا يتراجع أو يتردد.
وكما أن مفروقاً كان منتبهاً لأسئلة الصديق ، قال له: لعلك أخو قريش؟ أي: هل أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى دين جديد، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأحب الصديق أن يكسب نقطة في الحوار، فقال له بمنتهى الذكاء: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟! يعني: كأنهم متفقون على أنه رسول، وأمر واقع مسلّم به.
لكن مفروقاً كان ذكياً وانتبه لسؤاله فرد عليه وقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
لكن الحقيقة أنه كان رجلاً مؤدباً، وكل وفد بني شيبان كذلك، التفت مفروق للرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: وإلام تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يتكلم قال: (أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد).
ويبدو أن مفروقاً أعجبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يخاف من قريش، لكنه أحب أن يتعرف أكثر على الدين الجديد، قال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟
فكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ له قرآناً، وعندما وجد الوفد أخلاقهم عالية، اختار لهم آيات قرآنية تحض على الأخلاق الحميدة، لكي يقف معهم على أرضية مشتركة، فقرأ لهم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]
انبهر مفروق من حلاوة المعاني ومن حلاوة اللغة، وشعر بالإعجاز، وأحب أن يعرف أكثر، فقال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟!
قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على نفس الوتر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
تأثر مفروق بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. ثم بدأ يشتم قريشاً، وأعجبه الإسلام كثيراً، حتى قال كما في رواية: إن هذا والله! ليس من كلام الأرض.
لكن مفروق زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس بيده وحده، فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، ولما كان هانئ بن قبيصة صاحب خلفية دينية أوسع أحب أن يأخذ رأيه، فبدا أن هانئ بن قبيصة كان معجباً بالإسلام أيضاً، ولم يكن لديه أي اعتراض عليه، لكنه يخاف أن يأخذ قراراً مثل هذا يترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس فقط مع قريش، ولكن مع كل العرب.
قال هانئ بن قبيصة: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. يعني: ليس من المعقول أننا من جلسة واحدة ندخل في الإسلام ونحارب الدنيا بأكملها، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. يعني: أعطنا فرصة للتفكير، وأنا أعتقد أن هذا انسحاب مؤدب من هانئ.
إذاً: مفروق كان موافقاً، وهانئ متردد، وهو يميل إلى عدم الموافقة الآن، وإذا كانت العملية سيكون فيها حروب، فرأي وزير حربية بني شيبان سيكون مهماً أيضاً، وكان وزير الحربية عندهم هو المثنى بن حارثة رضي الله عنه؛ وقد أسلم بعد ذلك.
قال هانئ : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
المثنى فارس مغوار، وصاحب عقلية عسكرية فذة، وهو مشهور في العرب بذلك.
قال المثنى بن حارثة : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة .
يعني: هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه أضاف نقطة مهمة جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه هذا عن الوضع العسكري هو الذي سيجعله في النهاية يأخذ قراراً خطيراً.
قال المثنى : إنما نحن نزلنا بين صرتين اليمامة والسماوة.
الصرى هو تجمع المياه، يعني: أننا بين تجمعين للمياه، وبالتالي تجمعين للبشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذان الصريان؟ -أي: ما هما التجمعان؟- قال المثنى بن حارثة : أنهار كسرى، ومياه العرب).
أي: تجمع دولة فارس، وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية، والجزيرة العربية فيها عشرات القبائل، وهو أراد أن يبين له حدود إمكانياته، وسيعرض عرضاً خطيراً.
قال المثنى : فأما ما كان من أنهار كسرى -يعني: دولة فارس- فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول. يعني: نحن لا نستطيع أن نغضب كسرى فارس؛ لأن الخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.
كان مفروق يقول: نحن أكثر من ألف، لكن عندما تقارن ذلك بجيش فارس فهو أكثر من مليونين، عندما تأتي قبيلة تفتخر أنها أكثر من ألف، وبجانبها دولة فيها مليونا جندي، ليس الشعب وإنما الجنود فقط تعرف أن الفجوة هائلة، وبالحسابات المادية فقط مستحيل أن يصمد أحد أمام فارس، وفوق ذلك فتوقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن تعرف أنه لو غضب كسرى فارس فنحن ليس لنا شأن بك.
قال: وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، ألا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، يعني: لا نخترع شيئاً جديداً، ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد،
ثم قال: وإني أرى أن هذا الأمر -أي: الإسلام- مما تكرهه الملوك.
وفي النهاية لخص المثنى قراره في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
كان هذا يمثل انتصاراً مهولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطارد في مدينته الصغيرة مكة، ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من المضطهدين، وبقية أصحابه في الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية مثل بني شيبان، ثم الاشتراط الوحيد عدم حرب فارس، كل هذا يجعل العرض منطقياً بل مغرياً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض عرض المثنى بن حارثة وقال في أدب: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق) يعني: جميل جداً أنكم قلتم إمكانياتكم بوضوح، بدلاً من أن تتفقوا معي وبعد ذلك تتخلوا عني، ثم قال كلمة في منتهى الروعة، وهي عبارة عن قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: (فإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ليس من الممكن أن ينصر الإسلام الذي يختار منه شيئاً ويترك آخر، هذا لا يعرف ما معنى إسلام، ولا يعرف معنى العبودية لله عز وجل، العبد لا ينتقي من كلام سيده ما يعجبه ويوافق هواه.
فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم؛ لأن هؤلاء ليس هم من سيحملون الدعوة، فهو يريد رجلاً يقول له: إن الله قال لك اعمل كذا، يعمل ويطيع حتى وإن كان عقله لا يستوعب المراد والحكمة المقصودة من ذلك.
ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين رائع: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟) يعني: أمة فارس التي تخافون منها ستنهار تحت أقدام المسلمين، ماذا ستعملون حينها، هل ستدخلون في الإسلام؟!
قال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.
ولم يمر على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمس عشرة سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدك حصون فارس، وتزلزل عرش كسرى، والغريب أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفاً من كسرى فارس، كان بعد إسلامه أحد القواد الذين أزاحوا كسرى من ملكه، لكن المثنى بعد إسلامه كان شخصاً مختلفاً عما كان عليه قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام.
فشلت المفاوضات، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع ببساطة؛ لأن القواعد في ذهنه واضحة، ويرى كل شيء بوضوح، لا يفرط ولا يتنازل، وليس هناك من يضحك عليه أو يخدعه أو يخوفه صلى الله عليه وسلم، فهو يعلمنا كيف نبني أمتنا.
وتيقنوا أننا من غير هذه القواعد يستحيل علينا أن نبني الأمة، ومن أجل ذلك نحن ندرس السيرة.
دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للخزرج في العام الحادي عشر من البعثة
نسي الرسول صلى الله عليه وسلم كل شيء عن بني شيبان، وبدأ يتكلم مع هؤلاء في منتهى الحماس، قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج.
الخزرج قبيلة كبيرة مشهورة في يثرب، كما أن لديهم قبيلة مشهورة أخرى هي الأوس، وهؤلاء هم الأنصار، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي (500) كيلو تقريباً.
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم المفاوضات بسؤال مهم، قال: (أمن موالي اليهود؟! -يعني: حلفاء اليهود؟- قالوا: نعم
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطلعاً على أحوال زمانه، وكان يعرف موازين القوى في العالم، فمثلما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعامل مع بني شيبان، وعين لهم معه وعينهم الأخرى مع كسرى، أيضاً كان يعرف أن اليهود يعيشون في يثرب، وأنهم قوة سيكون لها أثر إما سلبي وإما إيجابي، ومن المؤكد أنه سيكون لها أثر أيضاً على من يعيشون بجانبهم.
فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخلفية في ذهنه، ثم قال لهم: (أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى) وجلسوا، فجلس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، كأي قبيلة من القبائل، فآمن هؤلاء الستة من ساعتهم.
لقد مرت علينا في السيرة مواقف كثيرة يؤمن فيها الإنسان بمجرد سماع القرآن، لكن هذا يكون على المستوى الفردي، لكن هذا الإيمان الجماعي غريب، ولا بد أن نقف معه وقفة لكي نحلل ونستفيد.
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى كان يعد هذه المجموعة بطريقة عجيبة؛ لكي تقبل الإسلام بهذه السهولة، ثم بعد ذلك تتحرك بالإسلام بنفس السهولة، وكان هذا الإعداد بأمور:
أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود. اليهود خلق عجيب، كان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم: إنه سيظهر في هذا الزمان نبي وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، ونتيجة هذه الأخلاق الفاسدة وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، وفي نفس الوقت خوف كبير منهم، لكن الأهم من ذلك أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل كانوا يصدقون فكرة ظهور الرسل على خلاف أهل مكة، وفي نفس الوقت يملؤهم الخوف من الرسول الذي سيظهر واتحاد اليهود معه، فلما سمعوا هذا الكلام قال بعضهم لبعض بمنتهى الصراحة وأمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا قوم! تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.
لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة.
ثانياً: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت، كانت هناك حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، ففي يوم بعاث المشهور دارت حرب هائلة بين الأوس والخزرج، وهذا اليوم كان في نفس السنة، كان في السنة الحادية عشرة من البعثة، منذ شهور قليلة، ولو استمر الحال على هذا الأمر لفنيت القبيلتان.
ففكر الخزرج أن هذا الرجل -صلى الله عليه وسلم- بما له من حلاوة منطق وقرآن معجز يستطيع أن يجمع القبيلتين ويحفظهم من الهلكة، وهم بأنفسهم قالوا هذا الكلام، قالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك.
تقول السيدة عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم -يعني: بسبب هذا اليوم أتى الناس وآمنوا بسرعة- وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: شرفاؤهم- وجرحوا، فقدمه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام.
إذاً: خلفية العلاقة مع اليهود، وخلفية الصراع المهلك الذي كان في يثرب جعل هؤلاء الستة يسلمون بسرعة، وليس هكذا فقط، بل جعلهم يرجعون بسرعة إلى يثرب ليحاولوا نشر الإسلام بأسرع طريقة؛ لكي يوحدوا الأوس والخزرج، ولكي يستطيعوا أن يقفوا أمام اليهود.
هذا ترتيب رباني عجيب! ينصر رسله والذين آمنوا في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطط لمقابلة هؤلاء الستة هذه السنة، لكنه كان يعمل في دعوته بمنتهى الحماس، قابل بني عامر وبني شيبان وبني عبس وبني حنيفة.. وغيرهم وغيرهم، ولكن ربنا شاء أن يؤمن هؤلاء، وفي هذا التوقيت بالذات.
ونعود ونقول: ليس المهم كم شخصاً آمنوا على يديك، ولكن المهم كم شخصاً أوصلت إليه رسالة الإسلام.
وهؤلاء الستة هم: أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر.
وقطبة وعقبة ليسا بإخوة ولكنه مجرد تشابه في الأسماء رضي الله عنهم أجمعين.
قال هؤلاء الستة: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
وعاد الستة إلى يثرب وبدءوا يتكلمون عن الإسلام، وليس هكذا فقط، بل بدءوا يتحدثون مع الأوس بهذا الشأن، وتناسوا يوم بعاث، وآمن بالفعل على أيديهم اثنين من الأوس، أبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة رضي الله عنهما.
ومرت سنة كاملة وهم يعملون في الدعوة في يثرب، ومع أن علمهم قليل، وسمعوا آيات قليلة من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم تحركوا بهذه الآيات، (بلغوا عني ولو آية).
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في خلال الأعوام العشرة السابقة إلى الإسلام فقط، (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، لكن الإسلام لوحده لم يكن كافياً، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم مع الإسلام إلى طلب النصرة، والدفاع عنه وعن المؤمنين ومواجهة قريش.
وكانت هذه المطالب خطيرة في مكة، لأن قريشاً لو علمت بذلك ستقيم الدنيا ولن تقعدها، فـأبو لهب لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يطارده في كل مكان.
وكانت هناك مشكلة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تاريخ كل قبيلة في الجزيرة، ومدى قوتها، وأسماء القادة فيها، لاحتمال أن يتفق مع أحدهم ثم لا تتحمل قبيلته المسئولية، وهذه اتفاقيات في منتهى الخطورة، ولتفادي هذا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غير شيئين مهمين، الأول: جعل دعوته للقبائل سرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم من السنة الرابعة من البعثة وهو يكلم الناس علناً، كان يتكلم أمام أبي لهب وأبي جهل وكل المشركين، لكن الأمر اختلف، وكان هناك مرونة في الدعوة، إذا كانت العلنية لن تؤدي المهمة فلتكن سرية، ليس هناك عنترية ولا انتحار، بل هناك تخطيط وإعداد وفكر سياسي راق، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة بالليل فقط، يخرج بالليل من غير أن يراه أحد، وفي كل يوم يختار للدعوة قبائل معينة، ويذهب إلى مخيماتهم خارج مكة في السر، لكي لا يراه أحد، وبذلك سيضرب عصفورين بحجر؛ لأنه سيوصل لهم الدعوة من غير تشويش من أبي لهب أو قريش، ولأن قريشاً لن تعرف ما هي القبيلة التي وافقت على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان أول تغيير في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة أن جعل دعوته للوفود الحاجة سرية.
الثاني: أنه اصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان خبيراً بالأنساب، يستطيع أن يعرف القبيلة القوية العزيزة من القبيلة الضعيفة، ويستطيع أن يعرف زعماء القبائل وتاريخهم، لو كانت القبيلة قوية فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الإسلام، ويطلب منهم النصرة، ولو كانت القبيلة ضعيفة أو زعيمها ليس بيده القرار عرض عليهم الإسلام، لكن لم يطلب منهم النصرة.
تخطيط مهول، فبناء الأمم ليس شيئاً سهلاً، تخطيط سياسي على أعلى مستوى.
ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة غسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني الحارث بن كعب، وبن عذرة، وبني قيس، وبني محارب، ذهب إلى كل هؤلاء وإلى غيرهم، فلم يقبل أي من هؤلاء الدعوة. وليس هناك مشكلة؛ لأن مهمتنا ليست الهداية، ولكن البلاغ، لا يهم كم آمن على يديك، لكن المهم كم عدد الذين أبلغتهم أمر الإسلام، هذا هو الذي يحاسبك عليه ربنا، عملك وليس نتائجك.
المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصبه اليأس بعد أن انتهى من كل هذه القبائل، بل ذهب إلى قبيلة أخرى وهي قبيلة بني شيبان؛ وسنقف وقفة مع مباحثات الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان.
قبيلة بني شبيان قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب -يعني: قريبة من العراق-، ذهب إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق، فبدأ أبو بكر أولاً يسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، بعد أن سمع أبو بكر هذا الاسم أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! هؤلاء غرر الناس، من أعظم القبائل، وعندما سأل عن أسماء الحضور وجد فيهم أشراف بني شيبان: مفروق بن عامر ، وهانئ بن قبيصة ، والنعمان بن شريك ، والمثنى بن حارثة.
وأبو بكر يعرفهم ويعرف تاريخهم، كما أنه حاد الذكاء فبدأ يستثير الحماسة والعزة عندهم، قال الصديق : كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق وهو المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، وهذا رقم كبير، ولا ننسى أن المسلمين كانوا في بدر (313) أو (314)، وكان الكفار ألفاً.
فأثاره أبو بكر أكثر وقال له: وكيف المنعة فيكم؟
أحس مفروق بالإهانة فعلاً، فرفع صوته وقال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى -يعني: في الحرب-، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.
كلام في منتهى الحكمة والقوة، وهذا ما كان يريده الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أن يظهر العزة والكرامة التي عنده، حتى إذا ما طلب منه الوقوف أمام قريش لا يتراجع أو يتردد.
وكما أن مفروقاً كان منتبهاً لأسئلة الصديق ، قال له: لعلك أخو قريش؟ أي: هل أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى دين جديد، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأحب الصديق أن يكسب نقطة في الحوار، فقال له بمنتهى الذكاء: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟! يعني: كأنهم متفقون على أنه رسول، وأمر واقع مسلّم به.
لكن مفروقاً كان ذكياً وانتبه لسؤاله فرد عليه وقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
لكن الحقيقة أنه كان رجلاً مؤدباً، وكل وفد بني شيبان كذلك، التفت مفروق للرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: وإلام تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يتكلم قال: (أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد).
ويبدو أن مفروقاً أعجبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يخاف من قريش، لكنه أحب أن يتعرف أكثر على الدين الجديد، قال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟
فكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ له قرآناً، وعندما وجد الوفد أخلاقهم عالية، اختار لهم آيات قرآنية تحض على الأخلاق الحميدة، لكي يقف معهم على أرضية مشتركة، فقرأ لهم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]
انبهر مفروق من حلاوة المعاني ومن حلاوة اللغة، وشعر بالإعجاز، وأحب أن يعرف أكثر، فقال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟!
قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على نفس الوتر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
تأثر مفروق بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. ثم بدأ يشتم قريشاً، وأعجبه الإسلام كثيراً، حتى قال كما في رواية: إن هذا والله! ليس من كلام الأرض.
لكن مفروق زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس بيده وحده، فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، ولما كان هانئ بن قبيصة صاحب خلفية دينية أوسع أحب أن يأخذ رأيه، فبدا أن هانئ بن قبيصة كان معجباً بالإسلام أيضاً، ولم يكن لديه أي اعتراض عليه، لكنه يخاف أن يأخذ قراراً مثل هذا يترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس فقط مع قريش، ولكن مع كل العرب.
قال هانئ بن قبيصة: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. يعني: ليس من المعقول أننا من جلسة واحدة ندخل في الإسلام ونحارب الدنيا بأكملها، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. يعني: أعطنا فرصة للتفكير، وأنا أعتقد أن هذا انسحاب مؤدب من هانئ.
إذاً: مفروق كان موافقاً، وهانئ متردد، وهو يميل إلى عدم الموافقة الآن، وإذا كانت العملية سيكون فيها حروب، فرأي وزير حربية بني شيبان سيكون مهماً أيضاً، وكان وزير الحربية عندهم هو المثنى بن حارثة رضي الله عنه؛ وقد أسلم بعد ذلك.
قال هانئ : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
المثنى فارس مغوار، وصاحب عقلية عسكرية فذة، وهو مشهور في العرب بذلك.
قال المثنى بن حارثة : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة .
يعني: هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه أضاف نقطة مهمة جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه هذا عن الوضع العسكري هو الذي سيجعله في النهاية يأخذ قراراً خطيراً.
قال المثنى : إنما نحن نزلنا بين صرتين اليمامة والسماوة.
الصرى هو تجمع المياه، يعني: أننا بين تجمعين للمياه، وبالتالي تجمعين للبشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذان الصريان؟ -أي: ما هما التجمعان؟- قال المثنى بن حارثة : أنهار كسرى، ومياه العرب).
أي: تجمع دولة فارس، وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية، والجزيرة العربية فيها عشرات القبائل، وهو أراد أن يبين له حدود إمكانياته، وسيعرض عرضاً خطيراً.
قال المثنى : فأما ما كان من أنهار كسرى -يعني: دولة فارس- فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول. يعني: نحن لا نستطيع أن نغضب كسرى فارس؛ لأن الخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.
كان مفروق يقول: نحن أكثر من ألف، لكن عندما تقارن ذلك بجيش فارس فهو أكثر من مليونين، عندما تأتي قبيلة تفتخر أنها أكثر من ألف، وبجانبها دولة فيها مليونا جندي، ليس الشعب وإنما الجنود فقط تعرف أن الفجوة هائلة، وبالحسابات المادية فقط مستحيل أن يصمد أحد أمام فارس، وفوق ذلك فتوقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن تعرف أنه لو غضب كسرى فارس فنحن ليس لنا شأن بك.
قال: وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، ألا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، يعني: لا نخترع شيئاً جديداً، ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد،
ثم قال: وإني أرى أن هذا الأمر -أي: الإسلام- مما تكرهه الملوك.
وفي النهاية لخص المثنى قراره في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
كان هذا يمثل انتصاراً مهولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطارد في مدينته الصغيرة مكة، ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من المضطهدين، وبقية أصحابه في الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية مثل بني شيبان، ثم الاشتراط الوحيد عدم حرب فارس، كل هذا يجعل العرض منطقياً بل مغرياً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض عرض المثنى بن حارثة وقال في أدب: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق) يعني: جميل جداً أنكم قلتم إمكانياتكم بوضوح، بدلاً من أن تتفقوا معي وبعد ذلك تتخلوا عني، ثم قال كلمة في منتهى الروعة، وهي عبارة عن قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: (فإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ليس من الممكن أن ينصر الإسلام الذي يختار منه شيئاً ويترك آخر، هذا لا يعرف ما معنى إسلام، ولا يعرف معنى العبودية لله عز وجل، العبد لا ينتقي من كلام سيده ما يعجبه ويوافق هواه.
فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم؛ لأن هؤلاء ليس هم من سيحملون الدعوة، فهو يريد رجلاً يقول له: إن الله قال لك اعمل كذا، يعمل ويطيع حتى وإن كان عقله لا يستوعب المراد والحكمة المقصودة من ذلك.
ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين رائع: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟) يعني: أمة فارس التي تخافون منها ستنهار تحت أقدام المسلمين، ماذا ستعملون حينها، هل ستدخلون في الإسلام؟!
قال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.
ولم يمر على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمس عشرة سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدك حصون فارس، وتزلزل عرش كسرى، والغريب أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفاً من كسرى فارس، كان بعد إسلامه أحد القواد الذين أزاحوا كسرى من ملكه، لكن المثنى بعد إسلامه كان شخصاً مختلفاً عما كان عليه قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام.
فشلت المفاوضات، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع ببساطة؛ لأن القواعد في ذهنه واضحة، ويرى كل شيء بوضوح، لا يفرط ولا يتنازل، وليس هناك من يضحك عليه أو يخدعه أو يخوفه صلى الله عليه وسلم، فهو يعلمنا كيف نبني أمتنا.
وتيقنوا أننا من غير هذه القواعد يستحيل علينا أن نبني الأمة، ومن أجل ذلك نحن ندرس السيرة.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور | 4061 استماع |
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً | 3972 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى | 3935 استماع |
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك | 3781 استماع |
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة | 3718 استماع |
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية | 3648 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن | 3637 استماع |
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة | 3570 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام | 3453 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية | 3401 استماع |