شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 317-321


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

الأحاديث التي عندنا فأولها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد, وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) .

تخريج الحديث

والحديث كما ذكر المصنف رحمه الله رواه مسلم، فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، ولكن ليس في مسلم قوله: (اللهم) كما ساقه المصنف من حديث أبي سعيد، إنما فيه: (ربنا ولك الحمد)، وإنما كلمة: (اللهم ربنا ولك الحمد)، هذه جاءت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، فإن مسلماً روى الحديث عن أبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً عن ابن عباس، فحديث ابن عباس شاهد لحديث أبي سعيد وهو بمعناه.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الإمام ابن القيم في زاد المعاد أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين قول: (اللهم) والواو: (اللهم ربنا ولك الحمد)، إما أن تأتي الرواية: (اللهم ربنا لك الحمد)، أو (ربنا ولك الحمد)، فتكون (اللهم) أو الواو، إحداهما بديل عن الأخرى.

والواقع أن هذا الذي ذكراه رحمهما الله منقوض، بما ثبت في البخاري نفسه في عدد من رواياته من الجمع بينهما في مسلم، وكذلك في البخاري جاء: (اللهم ربنا ولك الحمد) فهذا مما يستدرك.

هذا الدعاء الذي ذكره أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحتاج إلى شرح وبيان في معناه.

معاني ألفاظ الحديث

فأما قوله: (اللهم) فإن الميم هاهنا كما قال أهل اللغة هي بدل عن ياء النداء، فهي بمقام قوله: يا الله، (اللهم) معناها: يا الله، ولذلك لا يجمع بين الياء والميم، الأصل ألا يجمع بينهما، فإما أن يقول: يا الله، وإما أن يقول: اللهم.

والجمع بينهما قليل أو نادر، ومنه قول الشاعر:

إني إذا ما حدث ألم أقول يا اللهم يا اللهم

وإلا فالأصل إما أن يقول: يا الله، وإما أن يقول: اللهم.

(ربنا ولك الحمد) والحمد: هو الثناء على المحمود بإحسانه، الثناء على الله تعالى بإحسانه إلى خلقه، وإفضاله عليهم, وجوده وكرمه جل وعلا.

وقوله: ( اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض -أو ملء السماوات والأرض- وملء ما شئت من شيء بعد )، يعني: أن هذا الحمد حمد كثير لا ينفد ولا ينقطع، بل هو ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء الله تعالى من أشياء، غير السماء، وغير الأرض.

ثم قال: (أهل الثناء والمجد) و(أهل) هاهنا منصوب، فإما أن يكون منصوباً على النداء، يعني: يا أهل الثناء, ويكون حرف النداء محذوفاً، يعني: يا أهل الثناء.

وقال بعضهم: إنه يمكن أن يكون مرفوعاً على الخبرية، فيكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: أنت أهل الثناء والمجد، وكلاهما ممكن، والثناء: هو الوصف الجميل، والمجد: المقصود به العظمة والرفعة، فهذا هو المجد.

وقوله: ( أحق ما قال العبد ) .. إلى آخر الحديث, هذا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: أن يكون المعنى: هذا الذكر الذي هو (اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد) هذا الذكر هو أحق ما قاله العبد، وهذا المعنى بناء عليه يكون قولك: (أحق) ما إعرابه؟

خبر للمبتدأ، يعني: هذا الكلام أحق ما قال العبد، والمبتدأ هنا محذوف، يعني: هذا أحق ما قاله، أو هذا الكلام أو نحو ذلك هو أحق ما قاله العبد، وهذا المعنى ذكره ابن الصلاح وغيره، ورجحه الصنعاني في سبل السلام، وبنى ترجيحه لهذا الوجه على أنه جاء في بعض روايات الحديث حذف ما بعد كلمة: (اللهم لا مانع لما أعطيت) حذفها, قال: فدل على أن الكلام في قوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت)، كلام مستأنف جديد، يتم المعنى بدونه, فالمعنى الأول: أن قولنا: (اللهم ربنا ولك الحمد) هو أحق ما قاله العبد، وأحسن ما قاله, وأصوب ما قاله العبد؛ لما فيه من الثناء على الله تعالى بما هو أهل له, وحمده حمداً يملأ السماوات، ويملأ الأرضين، ويملأ ما بينهما, ويملأ ما شاء الله تعالى من شيء، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني وهو أحسن وأقوى: أن يكون قولك: (أحق ما قال العبد) مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) فالمعنى أن هذا الثناء, وهذا الدعاء الذي هو (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولما معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) هو (أحق ما قاله العبد)، وعلى هذا يكون قوله: (وكلنا لك عبد) جملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر.

وهذا الوجه الثاني هو أصح وأرجح، أن قولنا: (أحق ما قال عبد) مبتدأ خبره جملة: (اللهم لا مانع لما أعطيت) يعني: قولك: (اللهم لا مانع لما أعطيت) هو أحق وأصوب وأحسن ما قاله العبد؛ لما فيه من التفويض إلى الله تعالى أيضاً، والاعتراف له بالألوهية والربوبية، وأنه هو المعطي المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، القابض، الباسط، وأنه لا يكون شيء في الكون إلا بإذنه سبحانه, كما أن فيه اعتراف العبد بذله وفقره وعبوديته وحاجته إلى الله تعالى.

وقوله في الدعاء: ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا ظاهر معناه.

( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) الجد: هو الحظ والغنى والنصيب والعظمة والسلطان، كل هذه معان للجد.

والجد: بفتح الجيم، هو هذه المعاني، فيكون المعنى: أن صاحب الغنى, وصاحب المال، وصاحب الجاه، وصاحب السلطان، لا ينفعه يا رب منك ماله وغناه وسلطانه وجاهه، لا، إنما ينفعه عمله الصالح، لا ينفع ذا الجد منك الجد، لا، ينفع ذا الجد منك العمل الصالح، والتقوى، والبر، والإحسان.

أما جده يعني: ماله وغناه، وسلطانه وملكه، ووزارته ورئاسته وإمارته لا تنفعه، بل قد تضره، هذا هو المعنى الأول.

المعنى الثاني: بالكسر, وهو وجه ضعيف: ( ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد ) والجد معروف في اللغة: هو الاجتهاد، تقول: إنسان صاحب جد، يعني: صاحب اجتهاد في عمله، وإن كان هذا الوجه ضعيفاً من حيث الرواية، ومن حيث اللغة أيضاً لهذا الموضع.

وعلى رواية الكسر مع ضعفها، فإن المعنى يكون: لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده؛ لأن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )، فإنما ينفعه رضا الله تعالى عنه، وقبول الله تعالى له، أما العمل بذاته فلا ينفع، وكما قيل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

وكما قلنا: الجد: هو الاجتهاد، فأول ما يجني عليه اجتهاده.

قيل -وجه آخر في الجد بكسر الجيم-: أن المقصود الإسراع في الهرب، إنسان جد في الهرب جداً، يعني: أسرع في الهرب، فكأن المعنى: إذا هرب الإنسان منك، فإنه لا ينفعه هربه منك، فإنك تدركه حيث كان، ولا يستطيع الإنسان الفرار من ربه، فلا مفر من الله ولا ملجأ من الله تعالى إلا إليه، وقد قال مخلوق لمخلوق:

فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

هذا بالنسبة لمخلوق، فالله تعالى هو مالك السماوات والأرض، وما فيهن، وما بينهما، فلا مفر منه إلا إليه، ولا مهرب ولا ملجأ من الله تعالى إلا إليه، فلا ينفع الإنسان هربه إلا إلى الله؛ ولهذا قال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:40].

فوائد الحديث

في الحديث فوائد: منها: مشروعية هذا الدعاء، واستحباب أن يقوله العبد بعدما ينهض من ركوعه.

ومنها: وجوب الاعتدال في القيام من الركوع.

ومنها أيضاً: وجوب الطمأنينة بعد الرفع من الركوع؛ لأن الرفع الذي يقال فيه هذا الدعاء أو بعضه، لابد أن تكون فيه طمأنينة.

وفيه: أن الإمام يجمع بين هذه المعاني، فيقول مع سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد.. إلى آخر الدعاء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: سمع الله لمن حمده، كما هو معروف، وكما سبق في حديث أبي هريرة السابق، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، كما ذكر أبو سعيد وابن عباس في هذا الحديث.

فالإمام -وحال النبي عليه الصلاة والسلام تحمل على الإمامة- يجمع بينهما، وقد ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الجميع يجمعون بينهما، الإمام والمأموم والمنفرد, فيقول كلهم: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.

أما الجمهور فيذهبون إلى أن هذا ذكر الإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يقول: سمع الله لمن حمده، ولكن يقول: ربنا ولك الحمد، بدليل حديث: ( وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد )، فإنه يدل على أن: سمع الله لمن حمده، ذكر للإمام، و: ربنا ولك الحمد، ذكر للمأموم، ودل الحديث على أن هذا الذكر يشترك فيه الإمام والمنفرد أيضاً.

والحديث كما ذكر المصنف رحمه الله رواه مسلم، فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، ولكن ليس في مسلم قوله: (اللهم) كما ساقه المصنف من حديث أبي سعيد، إنما فيه: (ربنا ولك الحمد)، وإنما كلمة: (اللهم ربنا ولك الحمد)، هذه جاءت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، فإن مسلماً روى الحديث عن أبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً عن ابن عباس، فحديث ابن عباس شاهد لحديث أبي سعيد وهو بمعناه.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الإمام ابن القيم في زاد المعاد أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين قول: (اللهم) والواو: (اللهم ربنا ولك الحمد)، إما أن تأتي الرواية: (اللهم ربنا لك الحمد)، أو (ربنا ولك الحمد)، فتكون (اللهم) أو الواو، إحداهما بديل عن الأخرى.

والواقع أن هذا الذي ذكراه رحمهما الله منقوض، بما ثبت في البخاري نفسه في عدد من رواياته من الجمع بينهما في مسلم، وكذلك في البخاري جاء: (اللهم ربنا ولك الحمد) فهذا مما يستدرك.

هذا الدعاء الذي ذكره أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحتاج إلى شرح وبيان في معناه.

فأما قوله: (اللهم) فإن الميم هاهنا كما قال أهل اللغة هي بدل عن ياء النداء، فهي بمقام قوله: يا الله، (اللهم) معناها: يا الله، ولذلك لا يجمع بين الياء والميم، الأصل ألا يجمع بينهما، فإما أن يقول: يا الله، وإما أن يقول: اللهم.

والجمع بينهما قليل أو نادر، ومنه قول الشاعر:

إني إذا ما حدث ألم أقول يا اللهم يا اللهم

وإلا فالأصل إما أن يقول: يا الله، وإما أن يقول: اللهم.

(ربنا ولك الحمد) والحمد: هو الثناء على المحمود بإحسانه، الثناء على الله تعالى بإحسانه إلى خلقه، وإفضاله عليهم, وجوده وكرمه جل وعلا.

وقوله: ( اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض -أو ملء السماوات والأرض- وملء ما شئت من شيء بعد )، يعني: أن هذا الحمد حمد كثير لا ينفد ولا ينقطع، بل هو ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء الله تعالى من أشياء، غير السماء، وغير الأرض.

ثم قال: (أهل الثناء والمجد) و(أهل) هاهنا منصوب، فإما أن يكون منصوباً على النداء، يعني: يا أهل الثناء, ويكون حرف النداء محذوفاً، يعني: يا أهل الثناء.

وقال بعضهم: إنه يمكن أن يكون مرفوعاً على الخبرية، فيكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: أنت أهل الثناء والمجد، وكلاهما ممكن، والثناء: هو الوصف الجميل، والمجد: المقصود به العظمة والرفعة، فهذا هو المجد.

وقوله: ( أحق ما قال العبد ) .. إلى آخر الحديث, هذا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: أن يكون المعنى: هذا الذكر الذي هو (اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد) هذا الذكر هو أحق ما قاله العبد، وهذا المعنى بناء عليه يكون قولك: (أحق) ما إعرابه؟

خبر للمبتدأ، يعني: هذا الكلام أحق ما قال العبد، والمبتدأ هنا محذوف، يعني: هذا أحق ما قاله، أو هذا الكلام أو نحو ذلك هو أحق ما قاله العبد، وهذا المعنى ذكره ابن الصلاح وغيره، ورجحه الصنعاني في سبل السلام، وبنى ترجيحه لهذا الوجه على أنه جاء في بعض روايات الحديث حذف ما بعد كلمة: (اللهم لا مانع لما أعطيت) حذفها, قال: فدل على أن الكلام في قوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت)، كلام مستأنف جديد، يتم المعنى بدونه, فالمعنى الأول: أن قولنا: (اللهم ربنا ولك الحمد) هو أحق ما قاله العبد، وأحسن ما قاله, وأصوب ما قاله العبد؛ لما فيه من الثناء على الله تعالى بما هو أهل له, وحمده حمداً يملأ السماوات، ويملأ الأرضين، ويملأ ما بينهما, ويملأ ما شاء الله تعالى من شيء، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني وهو أحسن وأقوى: أن يكون قولك: (أحق ما قال العبد) مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) فالمعنى أن هذا الثناء, وهذا الدعاء الذي هو (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولما معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) هو (أحق ما قاله العبد)، وعلى هذا يكون قوله: (وكلنا لك عبد) جملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر.

وهذا الوجه الثاني هو أصح وأرجح، أن قولنا: (أحق ما قال عبد) مبتدأ خبره جملة: (اللهم لا مانع لما أعطيت) يعني: قولك: (اللهم لا مانع لما أعطيت) هو أحق وأصوب وأحسن ما قاله العبد؛ لما فيه من التفويض إلى الله تعالى أيضاً، والاعتراف له بالألوهية والربوبية، وأنه هو المعطي المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، القابض، الباسط، وأنه لا يكون شيء في الكون إلا بإذنه سبحانه, كما أن فيه اعتراف العبد بذله وفقره وعبوديته وحاجته إلى الله تعالى.

وقوله في الدعاء: ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا ظاهر معناه.

( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) الجد: هو الحظ والغنى والنصيب والعظمة والسلطان، كل هذه معان للجد.

والجد: بفتح الجيم، هو هذه المعاني، فيكون المعنى: أن صاحب الغنى, وصاحب المال، وصاحب الجاه، وصاحب السلطان، لا ينفعه يا رب منك ماله وغناه وسلطانه وجاهه، لا، إنما ينفعه عمله الصالح، لا ينفع ذا الجد منك الجد، لا، ينفع ذا الجد منك العمل الصالح، والتقوى، والبر، والإحسان.

أما جده يعني: ماله وغناه، وسلطانه وملكه، ووزارته ورئاسته وإمارته لا تنفعه، بل قد تضره، هذا هو المعنى الأول.

المعنى الثاني: بالكسر, وهو وجه ضعيف: ( ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد ) والجد معروف في اللغة: هو الاجتهاد، تقول: إنسان صاحب جد، يعني: صاحب اجتهاد في عمله، وإن كان هذا الوجه ضعيفاً من حيث الرواية، ومن حيث اللغة أيضاً لهذا الموضع.

وعلى رواية الكسر مع ضعفها، فإن المعنى يكون: لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده؛ لأن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )، فإنما ينفعه رضا الله تعالى عنه، وقبول الله تعالى له، أما العمل بذاته فلا ينفع، وكما قيل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

وكما قلنا: الجد: هو الاجتهاد، فأول ما يجني عليه اجتهاده.

قيل -وجه آخر في الجد بكسر الجيم-: أن المقصود الإسراع في الهرب، إنسان جد في الهرب جداً، يعني: أسرع في الهرب، فكأن المعنى: إذا هرب الإنسان منك، فإنه لا ينفعه هربه منك، فإنك تدركه حيث كان، ولا يستطيع الإنسان الفرار من ربه، فلا مفر من الله ولا ملجأ من الله تعالى إلا إليه، وقد قال مخلوق لمخلوق:

فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

هذا بالنسبة لمخلوق، فالله تعالى هو مالك السماوات والأرض، وما فيهن، وما بينهما، فلا مفر منه إلا إليه، ولا مهرب ولا ملجأ من الله تعالى إلا إليه، فلا ينفع الإنسان هربه إلا إلى الله؛ ولهذا قال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:40].

في الحديث فوائد: منها: مشروعية هذا الدعاء، واستحباب أن يقوله العبد بعدما ينهض من ركوعه.

ومنها: وجوب الاعتدال في القيام من الركوع.

ومنها أيضاً: وجوب الطمأنينة بعد الرفع من الركوع؛ لأن الرفع الذي يقال فيه هذا الدعاء أو بعضه، لابد أن تكون فيه طمأنينة.

وفيه: أن الإمام يجمع بين هذه المعاني، فيقول مع سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد.. إلى آخر الدعاء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: سمع الله لمن حمده، كما هو معروف، وكما سبق في حديث أبي هريرة السابق، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، كما ذكر أبو سعيد وابن عباس في هذا الحديث.

فالإمام -وحال النبي عليه الصلاة والسلام تحمل على الإمامة- يجمع بينهما، وقد ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الجميع يجمعون بينهما، الإمام والمأموم والمنفرد, فيقول كلهم: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.

أما الجمهور فيذهبون إلى أن هذا ذكر الإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يقول: سمع الله لمن حمده، ولكن يقول: ربنا ولك الحمد، بدليل حديث: ( وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد )، فإنه يدل على أن: سمع الله لمن حمده، ذكر للإمام، و: ربنا ولك الحمد، ذكر للمأموم، ودل الحديث على أن هذا الذكر يشترك فيه الإمام والمنفرد أيضاً.

الحديث الذي بعده هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين, والركبتين, وأطراف القدمين ) .

تخريج الحديث

والحديث يقول المصنف رحمه الله تعالى: متفق عليه.

وهو كما قال, فإن هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم, في عدة أبواب متقاربة، أولها: باب السجود على سبعة أعظم.

وروى مسلم في صحيحه أيضاً في كتاب الصلاة, باب أعضاء السجود.

وقد رواه أيضاً أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، فهو مما يستدرك على المصنف تخريجه رحمه الله، فإنه كان ينبغي أن يقول في حق هذا الحديث: ورواه أحمد أيضاً، فهو مما يصح أن يقال فيه: رواه السبعة أو الجماعة.

ولكن المصنف رحمه الله اكتفى بقوله: متفق عليه، فهذا مما يستدرك، خاصة وأنه التزم بهذا الاصطلاح في غالب الكتاب.

في هذا الحديث قال المصنف رحمه الله، كما في المطبوع بين أيديكم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه )، فالموجود في المصادر: ( وأشار بيده على أنفه )، بدلاً من قوله: (إلى).

وكذلك وقع في ذلك صاحب العمدة، فإنه قال: ( وأشار بيده إلى أنفه )، وهذه الرواية: ( وأشار بيده إلى أنفه ) هي موجودة في بعض الروايات في صحيح البخاري، لكن المشهور في أكثر المصادر وأكثر الروايات: ( وأشار بيده على أنفه ) .

كما أن المصنف رحمه الله حذف من الحديث جملة, وهي: ( وألا أكف ثوباً ولا شعراً )، ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وألا أكف ثوباً ولا شعراً ) على الجبهة, فيكون قوله: ( ولا أكف ثوباً ولا شعراً ) جملة اعتراضية بين العدد وبين المعدود.

معاني ألفاظ الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت ) هذا أمر له عليه الصلاة والسلام، وهو من الله تعالى؛ لأنه هو الآمر لنبيه عليه السلام، وهو أمر لأمته أيضاً؛ ولهذا جاء في رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه : ( أمرنا أن نسجد ) , فدل على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم, وأمر لأمته من بعده.

ثم قال: ( على الجبهة وأشار على أنفه ) ومعنى (أشار على أنفه) كأن المعنى: أمرَّ يده على جبهته وعلى أنفه؛ ولهذا جاء في رواية عند النسائي عن ابن طاوس قال: ( ووضع يده على جبهته وأمرّها على أنفه ).

فهذا معنى قوله: (وأشار على أنفه) كأنه ضمن كلمة (أشار) معنى أمرّها, كما جاءت بالنص في رواية النسائي : (وأمرّها) وهذا تكميل رواية النسائي : ( وقال: هذا واحد )، يعني: الجبهة والأنف عضو واحد.

ثم قال: (واليدين) والمقصود باليدين الكفان، وقد جاء هذا مصرحاً به في صحيح مسلم، والمقصود الكفان، وليس المقصود الذراع، فإنه ورد النهي عن الافتراش حال السجود.

وقوله: (والرجلين) المقصود أطراف الرجلين، كما جاء في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في الصحيح: ( واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ).

السجود على الجبهة والأنف

في حديث ابن عباس رضي الله عنه مسألة الأعضاء التي يسجد عليها، فعندنا أولاً: الجبهة والأنف، هذان عضو واحد، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجزئ السجود على الجبهة دون الأنف، وهذا مذهب عطاء وطاوس وعكرمة والحسن البصري ومحمد بن سيرين، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وأبي ثور، وصاحبي أبي حنيفة محمد بن الحسن وأبي يوسف وغيرهم، قالوا: إنه يكفي أن يسجد الإنسان على جبهته ولو لم يصل أنفه إلى الأرض، واستدلوا لذلك بأدلة:

منها: قالوا: إن هذا هو السجود اللغوي، فإن السجود في اللغة: هو وضع الجبهة على الأرض، فإذا وضع الإنسان جبهته على الأرض سمي ساجداً, ولو لم يضع أنفه معها، فقالوا: هذا هو السجود اللغوي.

وربما عزز بعضهم هذا الاستدلال بحديث رواه أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، ورواه تمام في فوائده، وهو موجود في المطبوع من فوائد تمام , وكذلك رواه الطيالسي والطبراني في معجمه عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على أعلى الجبهة ) وفي رواية: ( مع قصاص الشعر ), وهذا الحديث فيه ضعف، فإن في معظم طرقه أبو بكر بن أبي مريم وهو عابد، ولكنه ضعيف، ركيك الحفظ كما قالوا، وله طريق أخرى ولكن فيها أيضاً راو ضعيف، فالحديث إذاً لا يصح الاستدلال به .

حديث جابر : ( أن النبي عليه السلام كان يسجد على أعلى الجبهة مع قصاص الشعر ) هذا القول الأول مذهب الجمهور.

القول الثاني: مذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه، ومذهب الأوزاعي وإسحاق وابن حبيب من فقهاء المالكية, وهو أيضاً قول للشافعي، قالوا: يجب الجمع بين الجبهة وبين الأنف في السجود، وهذا أيضاً قول لـسعيد بن جبير وابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة وابن أبي ليلى، كما ذكره في المغني . قالوا: يجب الجمع بينهما, وذهبوا إلى حديث ابن عباس : ( على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه ) فقالوا: إن الحديث يدل على وجوب الجمع بينهما لهذا الحديث.

واستدلوا أيضاً بحديث آخر رواه الدارقطني في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين ) وهذا الحديث لو صح لكان حجة لهم، إلا أن نفي الصلاة أقل ما يدل على الوجوب أن يصيب الأرض شيء من الأنف، والحديث رواه الدارقطني، وكأنه رجح المرسل عن عكرمة، وليس من رواية عكرمة عن ابن عباس، فقال: رواه غيره، يعني: غير قتيبة عن عكرمة مرسلاً، فظاهر لفظ الدارقطني أنه يرجح المرسل، وهكذا جاء عن الإمام أحمد أنه لما ذكر له هذا الحديث, قال: أخشى ألا يكون هذا الحديث ثبت, ثم قال: هو مرسل.

ومما يستدل به بعضهم على وجوب وضع الأنف على الأرض أيضاً: حديث أبي سعيد الخدري، وهو في الصحيحين، في قصة سجود النبي صلى الله عليه وسلم ليلة القدر، وأنه لما التفت وجدوا أثر الطين على جبهته وأنفه, ( انصرف وأثر الطين على جبهته وأنفه ) والحديث متفق عليه عن أبي سعيد الخدري، وقد ذكر الخطابي رحمه الله وغيره: أنه دليل على وجوب وضع الأنف على الأرض، قالوا: لأنه لو لم يجب لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أو لوث أنفه بالتراب والطين.

وهذا الاستدلال على الوجوب قال الحافظ ابن حجر وغيره: فيه نظر.

القول الثالث: ذهب أبو حنيفة رحمه الله فيما روي عنه إلى أنه يجزئ السجود على الأنف فقط دون الجبهة.

قال ابن المنذر رداً على أبي حنيفة رحمهما الله جميعاً: وهو قول يخالف الحديث الصحيح والإجماع الذي قبله فلا يصح، وذلك لأن ابن المنذر نفسه نقل إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف، فقال: لا أعلم أحداً سبق أبا حنيفة إلى هذا القول، ولعله ذهب إلى أنها عضو واحد، كما في حديث ابن عباس، فيجزئه السجود على بعض العضو دون بعضه الآخر.

ثم رد عليه في الحديث الصحيح، والإجماع الذي قبله إجماع الصحابة على أنه لا يصح هذا القول، وكأن القول الأوسط أقوى في أن الإنسان يسجد على جبهته وأنفه؛ لحديث ابن عباس، وما فيه من الأمر, ووضع اليد على الأنف وعلى الجبهة مشعر بأنهما كالعضو الواحد في السجود عليهما معاً, هذه مسألة السجود على الجبهة والأنف.

السجود على بقية الأعضاء السبعة

المسألة الثانية: مسألة بقية الأعضاء السبعة، فإن حديث ابن عباس حديث الباب، يشعر بأن الأعضاء السبعة لابد من السجود عليها، وإلى هذا ذهب الجمهور، إلى أنه لابد من السجود على الأعضاء السبعة، والكلام في الأنف مستثنى، سبق أن انتهينا الآن من الأنف، بقي الأعضاء السبعة التي هي الجبهة, واليدين, والركبتين، والرجلين، أو أطراف القدمين، فهذه الأعضاء ذهب الجمهور إلى أنه يجب السجود عليها، وهذا مذهب طاوس والشافعي في قول، وإسحاق وأحمد، ونسبه بضعهم إلى جمهور العلماء، ومن أدلتهم حديث الباب, وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أمرت )، وفي الرواية الأخرى كما ذكرت في البخاري : ( أمرنا )، وهو دليل على أنه أمر للأمة، قالوا: جمع هذه الأعضاء في السجود هو أجمع وأخلص في العبودية؛ إذ هو غاية الخشوع لله تعالى في ظاهر الإنسان، وفيه من الذل والاستكانة ما فيه.

كما أن ذلك هو نهاية الذل والخضوع، فإن الإنسان إذا وقف في صلاته واقفاً، واضعاً يديه إحداهما على الأخرى على صدره، كان هذا هيئة الخاضع الذليل، فإذا ركع كان الركوع أبلغ في الذل والاستكانة والخشوع لله تعالى، فإذا سجد كان نهاية الخشوع والذل والخضوع؛ لأنه يجعل أشرف ما فيه من الأعضاء، وأطيب ما فيه يواجه بها الأرض، ويعفرها بالتراب؛ إعلاناً للخضوع لله تعالى والانكسار بين يديه, ففي السجود من هذا المعنى، معنى الخشوع والخضوع والانكسار، وكمال الذل ما يجعل -كما قال ابن القيم رحمه الله أو غيره- الأعمال التي قبل السجود من القيام والركوع والوقوف أشبه ما تكون بالتقدمة، والتمهيد للسجود الذي هو نهاية الذل، ونهاية الخضوع، ونهاية العبودية لله تعالى، فهذا هو القول الأول: أن السجود ينبغي ويجب أن يكون على الأعضاء السبعة كلها.

القول الثاني: وهو قول للشافعي، وذهب إليه بعض فقهاء الشافعية أيضاً، وهو قول لـمالك وأبي حنيفة، بل نسبه الآمدي من الحنابلة أنه رواية عن الإمام أحمد، وقال القاضي: هو ظاهر كلامه، يعني: كلام الإمام أحمد، وهذا القول فيه نظر، أن يكون رواية عن الإمام أحمد .

ذهبوا إلى أن الواجب الجبهة فقط، وبقية الأعضاء غير واجبة، واستدلوا بأدلة ليست بقوية، منها: حديث المسيء في صلاته، وسبق مرات، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ويمكن جبهته )، وأمره أن يمكن جبهته، فقالوا: الأمر بتمكين الجبهة دون غيرها دليل على أنها هي الواجب، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء: ( سجد وجهي لله )، فقالوا: إضافة السجود إلى الوجه دليل على أنه هو الواجب.

ونقول: أما حديث المسيء، فإن الأمر بتمكين الجبهة لا يدل على الأمر بسجود غيرها، ولكن فيه مزيد من العناية بهذا العضو، وكذلك قوله: ( سجد وجهي )، فإضافة السجود إلى الوجه لا يقتضي انحصاره واقتصاره عليه دون غيره، كما استدل بعضهم بأن مسمى السجود هو تعفير الجبهة في الأرض، ونقول: دل المعنى الشرعي كحديث ابن عباس وغيره على أنه لو فرض أن المعنى اللغوي في السجود هو وضع الجبهة فقط، فإن المعنى الشرعي أضاف إليه سجود أعضاء أخرى، هذه مسالة.

السجود على حائل بينه وبين الأرض

المسألة الثالثة في حديث ابن عباس هي: مسألة السجود على حائل بينه وبين الأرض، والحديث يدل بظاهره على أنه يجوز السجود على حائل يحول بين الجبهة أو بقية الأعضاء وبين الأرض؛ لأنه يسمى سجوداً، وقد أمرنا بالسجود، فإذا سجد الإنسان سواء على الأرض، أو على فراش، أو حصير أو غير ذلك، فإنه يسمى: ساجداً، وأنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء، وبلا شك أن القدم والركبة لا يجب كشفها إجماعاً.

أما الركبة فلأن كشفها مدعاة إلى انكشاف بعض العورة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يصلون في ثيابهم وركبهم مستورة, وبالإجماع لا يجب كشف الركبة بل سترها أولى، وربما كان واجباً على القول بأنها من العورة.

وكذلك القدم فإنه لا يجب كشفها أيضاً لسبب, لماذا لا يجب كشف القدم؟ لجواز الصلاة بالخفاف، فإنها تكون القدم مستورة بها، وثبت المسح عليها وسبق يعني إجماعاً وتواتراً، فدل على أن كشف القدم أيضاً في السجود ليس بلازم.

نبقى في الجبهة واليدين، قال بعضهم: يجب كشفها، واستدلوا بحديث جاء في مراسيل أبي داود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسجد وقد اعتم -يعني: يسجد على عمامته- فحسر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبهته ) وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه مرسل.

كما استدلوا بحديث خباب رضي الله عنه، قد رواه مسلم في صحيحه أنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا، فلم يشكنا ) قالوا: (فلم يشكنا) قال بعضهم: يعني: لم يزل شكوانا، ولم يأذن لنا بأن نضع بين أيدينا وجباهنا وبين الأرض شيئاً يقينا من حر الرمضاء، هكذا فسروا الحديث، فقالوا: دل على أنه يجب كشف الجبهة وكشف اليدين، وهذا قول للشافعي، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد .

والصحيح أنه يجوز وجود حائل كما أسلفت على الجبهة وعلى اليدين وعلى غيرهما؛ ولذلك روى البخاري في صحيحه تعليقاً عن الحسن البصري رحمه الله قال: ( صليت خلف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فرأيتهم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد أحدهم على عمامته، وعلى قلنسوته )، فسجودهم وأيديهم في ثيابهم، وسجود أحدهم على عمامته وعلى قلنسوته، كما ذكره الحسن البصري وهو من التابعين، دليل على جواز ذلك.

وهذا الأثر الذي رواه البخاري تعليقاً قد وصله البيهقي رحمه الله بإسناده وقال: هذا أصح ما جاء في السجود موقوفاً على الصحابة، يعني: أصح ما جاء في السجود على حائل، موقوفاً على الصحابة .

قال البيهقي : وقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده على كور عمامته، ولا يصح منها شيء، هكذا يقول البيهقي , ومثله قال الإمام ابن القيم : لا يصح في السجود على العمامة شيء، جاءت هذه الأحاديث عن ابن عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى، وكلها أسانيدها ضعيفة لا تصح.

فلا يثبت في السجود على العمامة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان روي عن ابن عمر، وروي عن بعض الصحابة، وكأنه ثابت عن الصحابة، لكنه ليس بثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ومن الأدلة على جواز ذلك: أن الأصل الجواز، ومن قال بغيره فعليه أن يأتي بدليل يعتمد عليه في إثبات الحكم, وإن كانت المباشرة مباشرة الجبهة واليدين بالأرض قد تكون أظهر، وقد جاء فيها أحاديث، منها: ما جاء في البخاري : ( أن أبا جهل كان يقول: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟! ) (هل يعفر) يعني: يسجد ويضع وجهه وجبهته على العفر، وهو وجه الأرض، وهو العفر أو العفور، ( فقالوا: نعم ), فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر جبهته بالأرض، أو يباشر الأرض بجبهته، ولكن جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف ثوبه على الأرض من شدة الحر، في مكان السجود )، فكان أحدهم يضع طرف ثوبه على الأرض، يتقي به شدة الحر إذا سجد.

وهذا الحديث دليل على جواز ذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلونه، فهو دليل على جوازه، وأن الصلاة بذلك صحيحة لا شيء فيها.

فأما إن كان فعله لحاجة فهو جائز بلا كراهة، بل قد يكون فعله أولى، لما يحصل في فعله من الاطمئنان في السجود، والإقبال على الصلاة.

أما إن كان فعله لغير حاجة، فقد يقال بأن الأولى تركه, أو أن فعله مكروه؛ لأن فيه حركة في الصلاة، ولأن فيه تجنب مباشرة الأرض للجبهة واليدين، فقد يقال بكراهيته إذا لم يكن ثم حاجة.

وعلى كل حال فالصلاة صحيحة رواية واحدة في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ورخص فيه الأكثرون من العلماء.

أما حديث خباب الذي ذكرته قبل قليل، وهو قوله: ( فلم يشكنا ) فهذا أجاب عليه العلماء بأجوبة:

منها: أنهم شكوا إليه، وكأنهم طلبوا أن يسقف المسجد، ويظلل حتى يكون بارداً، هذا ذكره ابن قدامة في المغني، وهو وجه فيه ضعف.

الجواب الثاني وهو أقوى: قال بعضهم: إنه لم يحوجهم إلى شكوى، يعني: أذن لهم فلم يحوجهم إلى شكوى, هذا وجه, وهو على هذا يكون صالحاً للدليل الثاني أو القول الثاني.

الوجه الثالث في تأويل الحديث: قالوا: إنه ربما طلبوا تأخيراً للصلاة، زائداً عن الإبراد المشروع، فهم ما شكوا وطلبوا أن يضعوا على الأرض شيئاً، لكن طلبوا أن يؤخر الصلاة تأخيراً زائداً عن الإبراد المشروع، فلم يأذن لهم بذلك، ولم يستجب لشكواهم.

والوجه الرابع وهو طريف: ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين وهو جيد، وأنا قديم العهد، لكن إن شاء الله أني ما نسيت معنى كلام ابن القيم، قال: إن هذا الحديث ليس في مجال الصلاة، وإنما شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقونه من أذى المشركين الذين كانوا يصلونهم بحر الرمضاء، كـخباب رضي الله عنه، وعمار، وصهيب، وبلال وغيرهم، ممكن كانت قريش تعذبهم بحر الرمضاء، ( فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: اصبروا ) كما قال: ( اصبروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة )، وكما قال: ( كان الرجل قبلكم يؤخذ في الأرض، فيجعل فيها، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون ) وهذا الحديث حديث خباب وهو في صحيح البخاري .

فعلى هذا لا يكون الحديث في مجال الصلاة والسجود، وإنما يكون في مجال إيذاء المشركين، لمن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحديث يقول المصنف رحمه الله تعالى: متفق عليه.

وهو كما قال, فإن هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم, في عدة أبواب متقاربة، أولها: باب السجود على سبعة أعظم.

وروى مسلم في صحيحه أيضاً في كتاب الصلاة, باب أعضاء السجود.

وقد رواه أيضاً أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، فهو مما يستدرك على المصنف تخريجه رحمه الله، فإنه كان ينبغي أن يقول في حق هذا الحديث: ورواه أحمد أيضاً، فهو مما يصح أن يقال فيه: رواه السبعة أو الجماعة.

ولكن المصنف رحمه الله اكتفى بقوله: متفق عليه، فهذا مما يستدرك، خاصة وأنه التزم بهذا الاصطلاح في غالب الكتاب.

في هذا الحديث قال المصنف رحمه الله، كما في المطبوع بين أيديكم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه )، فالموجود في المصادر: ( وأشار بيده على أنفه )، بدلاً من قوله: (إلى).

وكذلك وقع في ذلك صاحب العمدة، فإنه قال: ( وأشار بيده إلى أنفه )، وهذه الرواية: ( وأشار بيده إلى أنفه ) هي موجودة في بعض الروايات في صحيح البخاري، لكن المشهور في أكثر المصادر وأكثر الروايات: ( وأشار بيده على أنفه ) .

كما أن المصنف رحمه الله حذف من الحديث جملة, وهي: ( وألا أكف ثوباً ولا شعراً )، ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وألا أكف ثوباً ولا شعراً ) على الجبهة, فيكون قوله: ( ولا أكف ثوباً ولا شعراً ) جملة اعتراضية بين العدد وبين المعدود.