خطب ومحاضرات
شرح عمدة الأحكام [75]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الصيد:
عن أبي ثعلبة الخشني قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت -يعني: من آنية أهل الكتاب- فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل
مما أحله الله تعالى الصيد الحلال، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4]، والجوارح هي التي تعلم ويصاد بها، فمن الجوارح الكلاب المعلمة، ومن الجوارح الطيور المعلمة، وقد اشترط الله تعالى فيها التعليم: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4] فيعلم الكلب أو نحوه كيفية، الإرسال وكيفية الإمساك، وكذلك الطير الذي يصاد به كالباز والشاهين والباشق والصقر ونحوها من الطيور التي تعلم وترسل فتصيد، فأباح الله تعالى هذا الاصطياد ، وأباح أكل هذا الصيد.
والأمر في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] أمر إباحة، ومنع من الصيد في حالة الإحرام فقال: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وقال: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، فدل على أنه إذا لم يكن هناك إحرام فإن الصيد حلال، وكذلك يحرم الاصطياد داخل الحرم؛ لأن مكة وما حولها حرم لا ينفر صيدها، يعني: لا يصطاد ولا يطرد، أما بقية البلاد غير الحرمين فإنه يجوز أن يصيد فيه غير المحرم.
حكم استعمال آنية الكفار
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتركها إذا وجد غيرها، يعني: إذا وجدتم آنية غير آنية الكفار فلا تأكلوا ولا تشربوا فيها؛ مخافة أن يكون فيها شيء من أثر نجاسة، وقد يكون ذلك لأجل ألا يكون لهم منة على المؤمن، فيكون ذلك سبباً لمحبتهم ومودتهم، وموالاتهم وتقريبهم، بل لا تأخذوا منهم شيئاً وأنتم تجدونه عند غيرهم، فإذا لم تجدوا غير تلك الآنية فإن لكم رخصة في أن تأكلوا أو تشربوا أو تطبخوا فيها، ولكن بعد التطهير، بعدما تغسلها بالماء وتنظفها حتى يزول ما يخاف أن يكون فيها من آثار النجاسة، هذا جواب السؤال الأول.
حل الصيد
إذاً: الصيد بالكلب المعلم حلال، بشرط أن يكون معلماً، ومتى يكون معلَّماً؟
المعلَّم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذا حد المعلم.
علم الله أن الإنسان قد يحتاج إلى الاصطياد من هذه الدواب المباحة المنتشرة في الأرض، وهذه الدواب منها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام، وللحرام علامات يعرف بها، ويتميز بها الحلال من الحرام، فمنها ما يكون بالغذاء، ومنها ما يكون بوصف اتصف به، والدواب المباحة قد سبق ذكر بعضها، فتقدم أن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الصيد، وذكر أن الصحابة أنفجوا أرنباً، وأمسكها أنس وذبحها أبو طلحة ، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله، فدل على أنها من الصيد، وتقدم في الحج ذكر حمار الوحش، وأنه من الصيد، وهو دابة أكبر من الوعل أو قريب منه، أو هو نوع من الوعول، فهو من الصيد، وكذا الظباء، والوعول، والإيل، والأروى، هذه كلها من أنواع الصيد، ومن أنواع الصيد المتوحش ما يعيش في البراري كالوبر واليربوع، وما يلحق به، فهذه من أنواع الصيود التي تعيش في البراري، وتتقوت من القوت الحلال، فترعى من الرعي الذي ينبت في الأرض، وتشرب إذا وردت ماء أو تعيش بدون ماء.
كذلك أيضاً أباح الله الكثير من الطيور المباحة، فالحمام بأنواعه من الطيور الحلال، وكذلك الحجل من الطيور المباحة، وهكذا الحبارى من الطيور المباحة؛ وذلك لأن قوتها وغذاءها حلال من الطيب، وأما الأشياء المستقذرة فإنها محرمة، حرم النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير)، فحرم ذوات المخالب، فالصقر ولو كان مما يعلم فإنه حرام لأنه ذو مخلب، وكذلك العقاب، والغراب، والباشق، والعقاب، والرخم، والنسور التي تأكل الجيف والقاذورات، فهذه ليست من الصيد، بل هي من المحرمات؛ لأنها تتغذى بالجيف وتأكلها وتأكل الأقذار، بخلاف الصيد الذي يتغذى بالأعشاب، أو الطيور التي تتغذى بالحبوب وبالأعشاب كالحمام ونحوها فهذه من الطيبات.
فعرفنا بذلك الفرق بين ما هو حلال من الطيور وما هو حرام، وكذلك الوحوش، فذوات الأنياب حرام كالذئب والنمر والأسد والدب وما أشبهه، وأيضاً ما يأكل الجيف كالكلاب بأنواعها، فهذه كلها محرم أكلها ولو كانت أليفة، فليست من الصيد الذي أباحه الله في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وفي قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، وفي قوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، وإنما المراد ما أمسكت من الصيد الحلال، فهذا الصيد يقتنصه المقتنصون؛ لأنه طعام لذيذ ولحم شهي كسائر اللحوم، والله تعالى أباح اللحوم الطيبة، فأباح بهيمة الأنعام، أباح لحم الإبل والبقر والغنم بأنواعها، وتقدم أن لحم الخيل أيضاً مباح؛ لأنه من الطيبات، وكذلك لحوم الأسماك ودواب البحر لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، وتقدم أيضاً إباحة أكل الجراد، وهو من اللحوم المباحة وإن تقذره بعض من لم يألفه.
وهذه الصيود جعل الله لها ما تتحصن به، فمنها ما يتحصن عن الاصطياد بجناحيه فيطير حتى يحرز نفسه وينجو بنفسه عن أن يدركه من يطلبه، فالحمام وما أشبهه من الحجلات والعصافير بأنواعها تتحصن وتتحرز بأجنحتها بأن تطير حتى تؤمن نفسها، والظباء ونحوها جعل الله لها حصناً بشدة السعي، فهي تسعى سعياً شديداً حتى لا يدركها الإنسان ولا يدركها إلا جارح قوي سابق من الكلاب ونحوها، ولاشك أن هذه كلها جعل الله لها سلاحاً تتوقى به حتى تحصن نفسها، ولكن إذا غلبها الإنسان بأن اصطادها بشبكة أو اصطادها بجارح أو اصطادها بسهم رماها به؛ فهي من الطيبات التي أحلها الله، وجعل أكلها من نعمه التي أنعم بها على عباده، فيأكلها المصطاد سواء أكل تفكه وتلذذ وتنعم وإن لم يكن جائعاً، وإن كان اللحم موجوداً، أو أكل غذاء، فهناك من ليس لهم كسب وليس لهم غذاء إلا الاصطياد، ليس لهم حرفة ولا صنعة، وليس لهم مورد إلا أن يصطادوا، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام صياداً، ما كان له حرفة إلا أنه يذهب فيصيد بالنبل، يعني: يرمي السهام فيصيد من الطيور المباحة ومن الوحوش المباحة ونحوها، فيكون ذلك غذاء له ولأولاده، ونسمع أن كثيراً من الناس ما كان لهم غذاء إلا ما يصطادونه مما أباحه الله تعالى من هذه الصيود التي امتن الله بإحلالها في قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4].
حكم الصيد بالكلب
واختلفوا إذا قتلها الكلب، عادة أنه إذا أمسكها فإنه يمسكها بأنيابه، وقد يكون صاحبه بعيداً، فلا يدركه إلا وقد ماتت في فمه، فالأكثرون على أنها تؤكل لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، ولكن بشرط أن تسمي عند الإرسال، فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله بأن تقول: باسم الله، والله أكبر؛ فإذا أمسك عليك فكل حتى ولو قتل بعضِّه أو بتحامله على ذلك الصيد حتى مات بثقله فالصحيح أنه يباح، وذلك لكونه داخلاً فيما أباحه الله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، والحديث لم يفصل في الكلب المعلم، بل قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم فكل)، ولم يقل: إن وجدته حياً، بل أطلق ذلك بشرط ذكر اسم الله تعالى، فالكلب المعلم إذا قتل فإن قتله حلال بشرط التسمية عند الإرسال، ولو لم يجرح، ولكن إذا وجدت الصيد حياً فلا بد من ذبحه وتذكيته؛ حتى يخرج الدم، وإذا وجدته قد مات فلا بد من قطع رأسه وحلقومه ولو لم يخرج منه دم حتى تتحقق التذكية ظاهراً، فهذا حكم صيد الكلب المعلم.
أما الكلب غير المعلم من سائر الكلاب إذا استرسل وأمسك، ووجدت الصيد في فمه قد مات فلا تأكل؛ وذلك لأنه أمسك لنفسه، وإن وجدت الصيد حياً لم يمت وذكيته فإنه مباح، ويدخل في قوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، والتذكية هي أن تذبحه من حلقه حتى تقطع الحلقوم والمريء والوريدين، حتى يخرج الدم المتحجر في بدنه، أباح الله المذكى بقوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، وأباحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (فأدركت ذكاته فكل)، فأما إذا لم يكن معلماً وقتل فلا تأكل، وكذلك إذا أكل، فإذا وجدت الكلب قد أكل من الصيد سواء كان معلماً أو غير معلم فلا تأكل، فإنه أمسك على نفسه أي: اصطاد لنفسه ولم يصطد لصاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] يعني: أمسكن لكم، فأما إذا أكل فإنه لم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه.
حكم الصيد بالطيور الجارحة
حكم الصيد بالسهام والرصاص والحجر
وما ببندق الرصاص صيد فإنه مباح فحله استفيد
أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه
فالحاصل أنه يحل أكل ما صيد بهذا الرصاص ونحوه، أما ما صيد بالحجر أو صيد بالعصا أو صيد بالسهم ولكن أصابه بعرضه، فلا يؤكل، بل يدخل في الموقوذة التي ذكر الله أنها من المحرمات، وهي التي تضرب حتى تموت، ولا تنجرح بالضرب، فإذا رميت عصفوراً مثلاً بحجر، وذلك الحجر كبير فشدخه ولم يجرحه ومات فلا تأكل، فإن وجدته قد جرحه فأسال منه الدم فكل إذا سميت عند الرمي، وهكذا إذا رميته بعصا وأصابته العصا بحدها وبرأسها فنفذت فيه وجرحته فإنه حلال إذا سميت عند الرمي، وأما إذا أصابته بعرضها فمات فإنه من الموقوذة فلا يؤكل، هذا ما يتعلق بالصيد بالقوس.
هذا الحديث عن أبي ثعلبة جرثوم بن ناشر الخشني رضي الله عنه، ذكر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالين: سؤال يتعلق بآنية الكفار، وسؤال يتعلق بالصيد، فأما آنية أهل الكتاب فذكر أنهم يحتاجون لها، فما حكم الطبخ والأكل والشرب فيها؟ وكأنه توقف فيها لأن أهل الكتاب الذين هم النصارى أو اليهود كانوا يستحلون الخمر، فيشربون في آنيتهم الخمور، فتكون تلك الآنية قد تلوثت بهذا الشراب المحرم، وكانوا يطبخون في قدورهم الميتة، ويطبخون فيها لحم الخنزير، وهو محرم، فتكون تلك القدور بعد الطبخ فيها شيء من آثار ذلك المطبوخ، فما حكم طبخنا فيها، أو شربنا فيها، هل ذلك جائز أم لا؟
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتركها إذا وجد غيرها، يعني: إذا وجدتم آنية غير آنية الكفار فلا تأكلوا ولا تشربوا فيها؛ مخافة أن يكون فيها شيء من أثر نجاسة، وقد يكون ذلك لأجل ألا يكون لهم منة على المؤمن، فيكون ذلك سبباً لمحبتهم ومودتهم، وموالاتهم وتقريبهم، بل لا تأخذوا منهم شيئاً وأنتم تجدونه عند غيرهم، فإذا لم تجدوا غير تلك الآنية فإن لكم رخصة في أن تأكلوا أو تشربوا أو تطبخوا فيها، ولكن بعد التطهير، بعدما تغسلها بالماء وتنظفها حتى يزول ما يخاف أن يكون فيها من آثار النجاسة، هذا جواب السؤال الأول.
السؤال الثاني عن الصيد، فذكر أن الصيد يكون بالرمي، ويكون بالكلب، والكلب قد يكون معلماً وقد يكون غير معلم، ويلحق بالكلب الجوارح التي ذكرها الله تعالى في القرآن: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ [المائدة:4] فالطيور المعلمة تسمى جوارح؛ لأنها تجرح الصيد إذا صادته، فأباح الله تعالى صيد الطيور المعلمة، وأباح أيضاً صيد الكلاب المعلمة، فقوله تعالى: مُكَلِّبِينَ [المائدة:4] يعني: متخذين هذه الكلاب تعلمونهن مما علمكم الله.
إذاً: الصيد بالكلب المعلم حلال، بشرط أن يكون معلماً، ومتى يكون معلَّماً؟
المعلَّم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذا حد المعلم.
علم الله أن الإنسان قد يحتاج إلى الاصطياد من هذه الدواب المباحة المنتشرة في الأرض، وهذه الدواب منها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام، وللحرام علامات يعرف بها، ويتميز بها الحلال من الحرام، فمنها ما يكون بالغذاء، ومنها ما يكون بوصف اتصف به، والدواب المباحة قد سبق ذكر بعضها، فتقدم أن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الصيد، وذكر أن الصحابة أنفجوا أرنباً، وأمسكها أنس وذبحها أبو طلحة ، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله، فدل على أنها من الصيد، وتقدم في الحج ذكر حمار الوحش، وأنه من الصيد، وهو دابة أكبر من الوعل أو قريب منه، أو هو نوع من الوعول، فهو من الصيد، وكذا الظباء، والوعول، والإيل، والأروى، هذه كلها من أنواع الصيد، ومن أنواع الصيد المتوحش ما يعيش في البراري كالوبر واليربوع، وما يلحق به، فهذه من أنواع الصيود التي تعيش في البراري، وتتقوت من القوت الحلال، فترعى من الرعي الذي ينبت في الأرض، وتشرب إذا وردت ماء أو تعيش بدون ماء.
كذلك أيضاً أباح الله الكثير من الطيور المباحة، فالحمام بأنواعه من الطيور الحلال، وكذلك الحجل من الطيور المباحة، وهكذا الحبارى من الطيور المباحة؛ وذلك لأن قوتها وغذاءها حلال من الطيب، وأما الأشياء المستقذرة فإنها محرمة، حرم النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير)، فحرم ذوات المخالب، فالصقر ولو كان مما يعلم فإنه حرام لأنه ذو مخلب، وكذلك العقاب، والغراب، والباشق، والعقاب، والرخم، والنسور التي تأكل الجيف والقاذورات، فهذه ليست من الصيد، بل هي من المحرمات؛ لأنها تتغذى بالجيف وتأكلها وتأكل الأقذار، بخلاف الصيد الذي يتغذى بالأعشاب، أو الطيور التي تتغذى بالحبوب وبالأعشاب كالحمام ونحوها فهذه من الطيبات.
فعرفنا بذلك الفرق بين ما هو حلال من الطيور وما هو حرام، وكذلك الوحوش، فذوات الأنياب حرام كالذئب والنمر والأسد والدب وما أشبهه، وأيضاً ما يأكل الجيف كالكلاب بأنواعها، فهذه كلها محرم أكلها ولو كانت أليفة، فليست من الصيد الذي أباحه الله في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وفي قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، وفي قوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، وإنما المراد ما أمسكت من الصيد الحلال، فهذا الصيد يقتنصه المقتنصون؛ لأنه طعام لذيذ ولحم شهي كسائر اللحوم، والله تعالى أباح اللحوم الطيبة، فأباح بهيمة الأنعام، أباح لحم الإبل والبقر والغنم بأنواعها، وتقدم أن لحم الخيل أيضاً مباح؛ لأنه من الطيبات، وكذلك لحوم الأسماك ودواب البحر لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، وتقدم أيضاً إباحة أكل الجراد، وهو من اللحوم المباحة وإن تقذره بعض من لم يألفه.
وهذه الصيود جعل الله لها ما تتحصن به، فمنها ما يتحصن عن الاصطياد بجناحيه فيطير حتى يحرز نفسه وينجو بنفسه عن أن يدركه من يطلبه، فالحمام وما أشبهه من الحجلات والعصافير بأنواعها تتحصن وتتحرز بأجنحتها بأن تطير حتى تؤمن نفسها، والظباء ونحوها جعل الله لها حصناً بشدة السعي، فهي تسعى سعياً شديداً حتى لا يدركها الإنسان ولا يدركها إلا جارح قوي سابق من الكلاب ونحوها، ولاشك أن هذه كلها جعل الله لها سلاحاً تتوقى به حتى تحصن نفسها، ولكن إذا غلبها الإنسان بأن اصطادها بشبكة أو اصطادها بجارح أو اصطادها بسهم رماها به؛ فهي من الطيبات التي أحلها الله، وجعل أكلها من نعمه التي أنعم بها على عباده، فيأكلها المصطاد سواء أكل تفكه وتلذذ وتنعم وإن لم يكن جائعاً، وإن كان اللحم موجوداً، أو أكل غذاء، فهناك من ليس لهم كسب وليس لهم غذاء إلا الاصطياد، ليس لهم حرفة ولا صنعة، وليس لهم مورد إلا أن يصطادوا، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام صياداً، ما كان له حرفة إلا أنه يذهب فيصيد بالنبل، يعني: يرمي السهام فيصيد من الطيور المباحة ومن الوحوش المباحة ونحوها، فيكون ذلك غذاء له ولأولاده، ونسمع أن كثيراً من الناس ما كان لهم غذاء إلا ما يصطادونه مما أباحه الله تعالى من هذه الصيود التي امتن الله بإحلالها في قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4].
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أمسك عليك الكلب فإما أن يكون الكلب معلماً وإما أن يكون غير معلم، وقد عرفت أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل على صاحبه، بل أمسك على صاحبه ولم يأكل من الصيد، هذا هو الكلب المعلم، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أنه إنما أمسك على نفسه) يعني: لم يمسك لك، وإنما أمسك لنفسه، فعلامة المعلم أنه يمسك الأرنب -مثلاً- بأنيابه حتى يأتي إلى صاحبه فيقبضها، فإن وجدها ميتة فهي حلال وإلا ذكاها، ويذكيها بكل حال.
واختلفوا إذا قتلها الكلب، عادة أنه إذا أمسكها فإنه يمسكها بأنيابه، وقد يكون صاحبه بعيداً، فلا يدركه إلا وقد ماتت في فمه، فالأكثرون على أنها تؤكل لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، ولكن بشرط أن تسمي عند الإرسال، فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله بأن تقول: باسم الله، والله أكبر؛ فإذا أمسك عليك فكل حتى ولو قتل بعضِّه أو بتحامله على ذلك الصيد حتى مات بثقله فالصحيح أنه يباح، وذلك لكونه داخلاً فيما أباحه الله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، والحديث لم يفصل في الكلب المعلم، بل قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم فكل)، ولم يقل: إن وجدته حياً، بل أطلق ذلك بشرط ذكر اسم الله تعالى، فالكلب المعلم إذا قتل فإن قتله حلال بشرط التسمية عند الإرسال، ولو لم يجرح، ولكن إذا وجدت الصيد حياً فلا بد من ذبحه وتذكيته؛ حتى يخرج الدم، وإذا وجدته قد مات فلا بد من قطع رأسه وحلقومه ولو لم يخرج منه دم حتى تتحقق التذكية ظاهراً، فهذا حكم صيد الكلب المعلم.
أما الكلب غير المعلم من سائر الكلاب إذا استرسل وأمسك، ووجدت الصيد في فمه قد مات فلا تأكل؛ وذلك لأنه أمسك لنفسه، وإن وجدت الصيد حياً لم يمت وذكيته فإنه مباح، ويدخل في قوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، والتذكية هي أن تذبحه من حلقه حتى تقطع الحلقوم والمريء والوريدين، حتى يخرج الدم المتحجر في بدنه، أباح الله المذكى بقوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، وأباحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (فأدركت ذكاته فكل)، فأما إذا لم يكن معلماً وقتل فلا تأكل، وكذلك إذا أكل، فإذا وجدت الكلب قد أكل من الصيد سواء كان معلماً أو غير معلم فلا تأكل، فإنه أمسك على نفسه أي: اصطاد لنفسه ولم يصطد لصاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] يعني: أمسكن لكم، فأما إذا أكل فإنه لم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الأحكام [4] | 2583 استماع |
شرح عمدة الأحكام [29] | 2581 استماع |
شرح عمدة الأحكام [47] | 2518 استماع |
شرح عمدة الأحكام [36] | 2501 استماع |
شرح عمدة الأحكام 6 | 2441 استماع |
شرح عمدة الأحكام 9 | 2369 استماع |
شرح عمدة الأحكام 53 | 2356 استماع |
شرح عمدة الأحكام [31] | 2340 استماع |
شرح عمدة الأحكام 56 | 2331 استماع |
شرح عمدة الأحكام 7 | 2330 استماع |