شرح عمدة الأحكام [68]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم، فاقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت).

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير).

قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة!

والضفير: الحبل].

هذه الأحاديث تتعلق بحد الزنا، وقد عُرف أن الله تعالى حرمه وجعله فاحشة من أعظم الفواحش، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلَاً [الإسراء:32]، وجعل حده الجلد فقال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] أي: لا ترحموهما ولا ترقُّوا لهما: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

فهذا دليل على عظمة هذا الذنب.

والمفاسد التي تترتب عليه كثيرة ومشهورة، وقد توسع العلماء في ذكرها، وبينوا الأضرار التي تحصل في المجتمعات إذا فشت فيها فاحشة الزنا، وكذلك أيضاً ما يحصل فيها من العقوبات الأخروية أو العقوبات السماوية بسبب فُشُوِّ هذه الفاحشة.

ولأجل ذلك جعل الله حد الزنا -أي: العقوبة التي تترتب على فعله- من أبشع العقوبات وأشنعها، فإذا كان الزاني قد من الله عليه بالزواج، وقد أحصن فرجه يعني: قد نكح نكاحاً صحيحاً ثم بعد ذلك زنى فذنبه أكبر، فيستحق أن يُرجم، ولو كان قد طلق زوجته أو توفيت ما دام أنه قد تزوج زواجاً صحيحاً ودخل بزوجته، وهكذا المرأة التي تزوجت ودُخل بها ثم زنت، فإن عقوبة كل منهما أن يُرجم بالحجارة حتى يموت، وأن يجتمع عليه جماعة ويرجموه ويقذفوه بالحجارة إلى أن يموت، وذلك لأن الله تعالى عاقب قوم لوط بمثل ذلك كما في قوله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ [هود:82-83].

(مِنْ سِجِّيْلٍ): قيل: إنها من النار.

(مَنْضُودٍ) أي: منضَّدة مهيأة، (مُسَوَّمَةً) أي: موسومة مهيأة لمن تقع عليه وتقتله، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].

وكانت فاحشتهم شنيعةً، وهي أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، فكذلك كل من فعل هذه الفاحشة وهي جريمة الزنا، ومثلها أو أبشع منها جريمة الفعل في الذكور، كل ذلك يستحق أصحابه هذه العقوبة التي هي الجلد أو الرجم، فإن كان لم يسبق أن تزوج بل لا يزال بكراً رجلاً كان أو امرأة فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُشدد عليه في الجلد لقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، ويُشهر أمره لقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] أي: يكون جلده على مشهد من جمع من الناس.

ويجلده الجلاد وهو إما قائم وإما مضطجع، ويفرق الجلد على جسده.

الجلد هو الذي ذكر في القرآن، وفي هذه القصة أن البكر عليه جلد مائة، وعليه مع ذلك تغريب عام، وأن الرجم يكون على المحصن.

وهذه القصة فيها أن رجلاً كان له ابن شاب فاستُخدم في أحد البيوت، وأصبح خادماً عند صاحب بيت من البيوت، وكان فيه نزعة الشباب، وفيه قوة الشهوة، فسولت له نفسه أن زنى بامرأة صاحب البيت، وكأنها لم يكن عندها من الورع ما يمنعها من هذه الفاحشة، فمكنَّته من نفسها، واعترف هو بالفعل، واعترفت أيضاً، وعرف كل منهما أنه وقع في ذنب، وأراد كل منهما التخلص والتطهير لَمَّا وقعا في هذه الفاحشة التي دفعتها إليهما الشهوة.

والعسيف هو الأجير، فوالد الأجير اعتقد أنه يكفي أن يدفع عنه هذه الفدية، فدفع عنه مائة من الغنم كفدية، ودفع عنه وليدةً أي: مملوكة أراد أن يبذلها حتى يخلص ولده من الرجم، ولما سأل أُخبر بأنه ليس عليه رجم؛ لأنه لم يُحصن، وأن الرجم يكون على المرأة، وأن عقوبته الجلد والتغريب، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفُتيا، وأخبره بأن مائة من الغنم والوليدة ترجع إليك، ولا تُقبل الفدية عن الحدود، وأن عقوبة ولدك أن يُجلد مائة جلدة وأن يغرَّب.

والتغريب هو: أن يُنفى عن بلده إلى بلاد بعيدة ينقطع خبره عن أهله، ويكون غريباً في تلك البلاد بحيث لا يرى من يعرفه، رجاء أن تتغير حاله إلى أحسن، هذا هو التغريب، ويرى بعضهم أنه يُكتفى بالسجن إذا خيف أنه إذا غرِّب زاد شره وزاد فساده، فإن كثيراً من البلاد البعيدة قد يكون فيها فساد، وقد يكون فيها منكر، فلذلك رأوا أنه يُسجن لمدة سنة، وكل ذلك حفاظاً على الحرمات، وغَيرةً على الأنساب؛ لأن هذه الفاحشة تفسد الأخلاق، وتفسد البيوت، وتختلط الأنساب، وتُدخل المرأةُ على الرجل من ليس من أولاده؛ فيعظُم الشر والضرر، هذه عقوبة هذا الزاني.

أما المرأة فلما كانت محصنة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها هذا الرجل فاعترفت، فأمر بها فرُجمت، أي: قذفت بالحجارة، واجتمع عليها مَن رجَمها إلى أن ماتت، فاستقرت الشريعة على أنه يُرجم من كان محصناً، ويُجلد من لم يكن محصناً.

حد الأمة المملوكة إذا زنت

قال الله تعالى في الإماء: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] وفهم الصحابة أنها إذا كانت قد أحصنت فعقوبتها نصف عقوبة المحصنات، وظنوا أن الإحصان هو النكاح، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رجم على الأمة، ولا رجم على العبد، وما ذاك إلا أنه مملوك لغيره، ولا يزول ملك الغير بسبب ذلك الجاني، فكانت عقوبته الجلد.

وما مقدار عقوبة العبد أو الأمة؟

مقداره: خمسون جلدة، نصف جلد الحر رجلاً كان أو امرأة، فتُجلد الأمة خمسين، ويُجلد العبد خمسين، ولو كان قد تزوج، ولا رجم عليه؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف.

ثم في هذا الحديث أنه فوَّض جلدها إلى السيد الذي يملكها، وأمره أن يقيم الحد عليها، فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرِّب -يعني: لا يوبخها، قال:- ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر)، يعني: أنها لا خير فيها ما دام أنها تكرر منها الزنا أربع مرات، ولم تتب بهذا الجلد وبهذا الحد.

ولا يجوز إكراهها على الزنا كما قال تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَاً [النور:33].

وبكل حال فهذه الآية تدل على أن الزنا فاحشة محرمة، وأن البغي التي تزني وتمكن من نفسها إذا كانت أمة لا يجوز إمساكها، وإذا كانت زوجةً لا يجوز إبقاؤها، بل يفارقها إذا خاف أن تفسد عليه فراشه، ومعلوم أن هذا كله محافظة على الفُرُش، وأن الرجل تأخذه غَيرة شديدة أن يرى امرأته تفعل الفاحشة، وكذلك يرى أمته أو يرى أحد محارمه يفعل مثل هذه الجريمة.

ولا شك أن هذا يوجب على كل مسلم أن يكون حذراً غيوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، فالله تعالى يغار، كما أن الإنسان يغار، والإنسان الذي لا يغار إذا زنت امرأته يسمى ديوثاً، وهو الذي يقر الخنا في أهله، فالذي يغار إما أن يقتلها أو يقتل ذلك الذي فعل الجريمة معها، كما رُوي أن سعدا رضي الله عنه قال: (لو وجدتُ مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفِّح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غَيرة سعد! والله لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني)، وسعد بن عبادة من سادات الأنصار من الخزرج، وهذه غيرته.

وذكروا أن رجلاً من الصحابة وجد مع امرأته رجلاً، ولما وجدهما في الفراش سل سيفه وضربهما وهو لا يشعر بما حصل منه ولا يدري، وكانت ضربته قد قطعتهما نصفين، وجاء حتى وقف إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقالوا له: ما فعلت؟ فقال: لا أدري، إلا أني رأيت شيئاً وضربته ولا أدري كيف ضربته، فذهبوا وإذا هو قد قدَّهما نصفين، ولا شك أن ذلك كله من الغَيرة على محارم الله تعالى، والإنسان تحمله هذه الغَيرة على ألَّا يأتي أية فاحشة، ولا أن يقرها في أهله؛ مخافة أن يفسد المجتمع بمثل إقرار وانتشار هذه الفواحش، ومتى أقيمت الحدود على مثل هؤلاء الزناة وقُمعوا واضطُهدوا وأُذلُّوا؛ قلت الفواحش، وذلَّ أهلها، وإذا تُسُوهل بهذه الحدود وتُرك أهلها يفعلون هذه الجرائم خُشي أن يفسد المجتمع وأن تنتشر العقوبات، وأن تنزل الآفات والأمراض والعاهات التي لم تكن في سلف من أسلاف الأمم، كما ورد ذلك في الحديث: (ما ظهر الزنا في قوم حتى أعلنوه إلا ابتلوا بالعقوبات والأمراض التي لم تكن فيمن قبلهم).

قال الله تعالى في الإماء: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] وفهم الصحابة أنها إذا كانت قد أحصنت فعقوبتها نصف عقوبة المحصنات، وظنوا أن الإحصان هو النكاح، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رجم على الأمة، ولا رجم على العبد، وما ذاك إلا أنه مملوك لغيره، ولا يزول ملك الغير بسبب ذلك الجاني، فكانت عقوبته الجلد.

وما مقدار عقوبة العبد أو الأمة؟

مقداره: خمسون جلدة، نصف جلد الحر رجلاً كان أو امرأة، فتُجلد الأمة خمسين، ويُجلد العبد خمسين، ولو كان قد تزوج، ولا رجم عليه؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف.

ثم في هذا الحديث أنه فوَّض جلدها إلى السيد الذي يملكها، وأمره أن يقيم الحد عليها، فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرِّب -يعني: لا يوبخها، قال:- ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر)، يعني: أنها لا خير فيها ما دام أنها تكرر منها الزنا أربع مرات، ولم تتب بهذا الجلد وبهذا الحد.

ولا يجوز إكراهها على الزنا كما قال تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَاً [النور:33].

وبكل حال فهذه الآية تدل على أن الزنا فاحشة محرمة، وأن البغي التي تزني وتمكن من نفسها إذا كانت أمة لا يجوز إمساكها، وإذا كانت زوجةً لا يجوز إبقاؤها، بل يفارقها إذا خاف أن تفسد عليه فراشه، ومعلوم أن هذا كله محافظة على الفُرُش، وأن الرجل تأخذه غَيرة شديدة أن يرى امرأته تفعل الفاحشة، وكذلك يرى أمته أو يرى أحد محارمه يفعل مثل هذه الجريمة.

ولا شك أن هذا يوجب على كل مسلم أن يكون حذراً غيوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، فالله تعالى يغار، كما أن الإنسان يغار، والإنسان الذي لا يغار إذا زنت امرأته يسمى ديوثاً، وهو الذي يقر الخنا في أهله، فالذي يغار إما أن يقتلها أو يقتل ذلك الذي فعل الجريمة معها، كما رُوي أن سعدا رضي الله عنه قال: (لو وجدتُ مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفِّح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غَيرة سعد! والله لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني)، وسعد بن عبادة من سادات الأنصار من الخزرج، وهذه غيرته.

وذكروا أن رجلاً من الصحابة وجد مع امرأته رجلاً، ولما وجدهما في الفراش سل سيفه وضربهما وهو لا يشعر بما حصل منه ولا يدري، وكانت ضربته قد قطعتهما نصفين، وجاء حتى وقف إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقالوا له: ما فعلت؟ فقال: لا أدري، إلا أني رأيت شيئاً وضربته ولا أدري كيف ضربته، فذهبوا وإذا هو قد قدَّهما نصفين، ولا شك أن ذلك كله من الغَيرة على محارم الله تعالى، والإنسان تحمله هذه الغَيرة على ألَّا يأتي أية فاحشة، ولا أن يقرها في أهله؛ مخافة أن يفسد المجتمع بمثل إقرار وانتشار هذه الفواحش، ومتى أقيمت الحدود على مثل هؤلاء الزناة وقُمعوا واضطُهدوا وأُذلُّوا؛ قلت الفواحش، وذلَّ أهلها، وإذا تُسُوهل بهذه الحدود وتُرك أهلها يفعلون هذه الجرائم خُشي أن يفسد المجتمع وأن تنتشر العقوبات، وأن تنزل الآفات والأمراض والعاهات التي لم تكن في سلف من أسلاف الأمم، كما ورد ذلك في الحديث: (ما ظهر الزنا في قوم حتى أعلنوه إلا ابتلوا بالعقوبات والأمراض التي لم تكن فيمن قبلهم).

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه)، قال ابن شهاب : فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه).

الرجل هو: ماعز بن مالك ، وروى قصته جابر بن سمرة ، وعبد الله بن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وبريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهم].

هذا الحديث في رجم الزاني، وقد ذكر الله تعالى الزنا في أول الأمر فقال تعالى: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [النساء:15]، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، فهذا يعتبر إيضاحاً لهذه الآية؛ حيث أمر الله بإمساكهن بالبيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وأمر بإيذاء الرجل بقوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] فأمر في الأول بإيذائهما إلى أن يتوبا، وبعد ذلك نزل الحد في قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، فذكر الله حد الزنا أنه جلد مائة، وأن هذا الجلد يكون شديداً بلا رأفة ولا رحمة، وأنه يكون معلناً أمام طائفة من المؤمنين، ثم جاءت السنة بأنه إذا كان ثيباً -يعني: قد تزوج- فإنه يرجم ولا يرحم، بل يرجم بالحجارة إلى أن يموت، فتكون الآية في البكر الذي لم يتزوج، فإنه يجلد مائة جلدة رجلاً كان أو امرأة، أما إذا كان قد تزوج فإن حده الرجم.

وهذا الرجل الذي في هذه القصة هو ماعز الأسلمي ، حصل منه الزنا، وكان قد تزوج، فلما حصل منه الزنا الصريح خاف على نفسه من هذا الذنب، فقالوا له: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سوف يطهرك، فجاء واعترف هذا الاعتراف، فنادى: يا رسول الله! إني قد زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كرر ذلك، ثم كرره ثالثة ثم رابعة، ولما اعترف أربع مرات كان هذا بمنزلة أربعة شهود المقصودين في قوله: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15] فأقر على نفسه أربع مرات، فكان هذا سبباً في ثبوت الحد عليه، وثبوت الفعل هو الذي يوجب إقامة الحد، ولا شك أن هذا دليل على خوف السلف رحمهم الله من معرة الذنب، فعلم أن هذا الذنب ذنب كبير، وأنه من عظائم الإثم، لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، فعرف أن هذا ذنب كبير، وخاف أن يوبقه ذنبه، وخاف أن يهلك بسبب ذلك، فعند ذلك احتاج إلى أن يطهر، فجاء واعترف هذا الاعتراف، وكرر ذلك.

ولما اعترف سأله النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت: (أبك جنون؟) أي: هل أنت ناقص العقل أو فاقده؟ ولكنه اعترف بأنه كامل العقل، وأنه كامل الإدراك، وليس في عقله نقص ولا خلل، فكان في ذلك ما يدل على حرصه على أن يطهر من هذا الذنب؛ لأنه كأنه قال: ماذا تريد من هذا الاعتراف؟ قال: أريد أن تطهرني، فأقيم عليه الحد وهو الرجم، بعد ما تثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه استفصل منه وقال: (لعلك قبلت، أو لمست، أو غمزت -يعني: أنك فعلت مقدمات الزنا ولم تفعل الزنا- فقال: لا، فقال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً)، فلما اعترف بذلك أمر صلى الله عليه وسلم بأن يرجم.

وذكروا أنه رجم في المصلى، والمصلى كان قرب المقابر، وهو مكان متسع كانوا يصلون فيه على الجنائز، ثم لما بدءوا يرجمونه أذلقته الحجارة وأحس بحرها فهرب، فتبعوه حتى أدركوه بالحرة الشرقية، فرجموه حتى مات.

والرواية التي فيها أنه قال لما هرب: (هلا تركتموه؟) يقال: إنها لم تثبت، وعلى تقدير ثبوتها أراد بذلك أن يتثبت منه، وبكل حال فالحق قد ثبت عليه، والحد قد وجب عليه باعترافه أربع مرات بأنه زنا، واعترافه بأنه ليس به جنون، واعترافه بأنه محصن، واعترافه بأن الزنا وقع منه حقيقة وليس مقدمات الزنا، ولما ثبت ذلك عنه لم يكن بد من إقامة الحد.

الحكمة من شرعية الحدود

الحدود جعلها الله تعالى تطهيراً للعباد، وإقامتها فيه مصلحة كبيرة، وهذه المصلحة هي أمن الناس على محارمهم، وأمنهم على دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم وعلى أديانهم.

والعقوبة في الزنا هي: إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير محصن يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة عن بلده، والحكمة في ذلك:

أولاً: الزجر عن هذا الذنب الكبير، والتحذير من سوء مغبته، فإنه من أكبر الذنوب.

ثانياً: الحرص على حفظ أعراض الناس وحفظ أنسابهم؛ لأنه إذا فشا الزنا اختلطت الأنساب، وفسدت الأعراض، وذهبت الغيرة والحماسة، والإنسان مأمور بأن يكون غيوراً على محارمه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك وكان يقر الخنا في أهله لقب بالديوث، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديوث)، وهو الذي يقر الخنا في أهله.

وإذا كان هناك من يقيم الحدود ومن يأخذ الحقوق أمن الناس، وأمنت البلاد واطمأنت، وأمن الناس على محارمهم، وصار المذنب أو العاصي يخاف على نفسه من مثل هذه العقوبة، ويفكر ويقول: ما فائدة من هذا الذنب الذي أقترفه؟ أصبر على نفسي وأصبر على قمع شهوتي ولا أتعرض للعذاب، ولا أتعرض للأذى، ولا أعرض نفسي لأن أقتل قتلاً شنيعاً، ونحو ذلك.

قالوا: الحكمة في شرعية الرجم أنه لما عدل عن الحلال، وتلذذ جسمه كله بهذا الحرام الذي هو فعل هذه الفاحشة ناسب أن يُرجم، وأن يُؤلم جسده كله.

وأما كيفية الرجم فقيل: إنه يحفر له حفرة قدر ذراع أو نحوه، ثم يوقف فيها، وتربط يده من خلفه، ثم يأخذون حجارة ملء الكف، ثم يقذفونه بها، ويرمونه مع رأسه ومع بطنه ومع ظهره ومع عضديه ومع فخذيه، إلى أن تذلقه الحجارة وينصرع ويموت.

الصلاة على من رجم في الزنا

في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لذلك الرجل الذي هو ماعز الأسلمي، وأنه صلى عليه.

لا رجم على العبد

العقوبة بالرجم تختص بالحر، أما العبد فإنه لا رجم عليه، وما ذاك إلا أن قتله فيه إذهاب لماليته، وماليته لسيده، فهو مملوك للسيد، والسيد لم يذنب حتى يفوّت عليه ماليته وما يملكه، فلأجل ذلك يقتصر على جلده، فيجلد خمسين جلدة، ويكون الذي يتولى إقامة الحد عليه هو سيده.

فائدة إقامة الحدود

إقامة الحدود في البلاد سبب للأمن والطمأنينة، وقد ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً)، ومعلوم انتفاعهم من المطر، لكن الفائدة قد تكون دنيوية، وأما إقامة الحد ففيه إظهار أوامر الله، وتطبيق شرعه، والعمل بسنة نبيه، وفيه عقوبة المجرم على جريمته، وزجره وزجر أمثاله عن هذه الجرائم والذنوب الشنيعة، ولا شك أنها مصلحة دينية تتعلق بالعباد، وتتعلق بالبلاد، وتتعلق بالمحارم، فكان فيها هذا الخير، فكلما أقيمت الحدود كان ذلك سبباً للأمن والطمأنينة.

وفي هذه الأزمنة كثير من البلاد التي تنتمي للإسلام عطلت فيها الحدود، بل أبيح فيها الزنا إذا كان برضا من الرجل والمرأة، فإذا تراضيا فليس عليهما جناح، ولا يقام عليهما حد، ولو كانت المرأة مزوجة، واختارت خليلاً لها وحبيباً، ولو كان لها أب لا يرضى ما دام أنها رضيت بذلك!! ولا شك أن هذا إباحة للحرام، وتغيير للفطر، ومخالفة للشرائع، وإذهاب للحماس والغيرة، وتعطيل لحدود الله تعالى، وسبب في ظهور الفواحش والمحبة لها، وقد توعد الله على ذلك بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] ومن أعظم الفواحش فاحشة الزنا، وفاحشة اللواط ومقدماتها؛ لأن هذه الفاحشة من أشنع الفواحش، فالذين يحبونها توعدهم الله بقوله: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، فإذا عرف المسلم حكمة الله تعالى في أوامره ونواهيه، فعليه أن يحرص على تطبيق تلك الأحكام.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2328 استماع