نداءات الرحمن لأهل الإيمان 59


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارضَ عنا كما رضيت عنهم. اللهم آمين.

قبل الشروع في النداء السابع والخمسين أذكر أو أُذكر الأبناء والإخوان بما سبق في النداء السادس والخمسين. ‏

ما تقام به الصلاة

قال: [ وما تقام به الصلاة هو:

أولاً: الطهارة الكاملة برفع الحدث بالوضوء إن كان أصغر، وبالغسل إن كان أكبر، وطهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه العبد من النجاسات كالبول والعذرة والدم ] وقد قال في هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الحج:77-78]. فإقام الصلاة فرض، فسيدنا نادانا وأمرنا بإقام الصلاة، وإقام الصلاة ينبغي أن تؤدى بهذه الأركان، وأول هذه الأركان: الطهارة، فمن لم يتطهر في صلاته فوالله ما أقامها، ولا يقال فيه: أقام الصلاة، بل لا بد وأن يتطهر من الأحداث الصغرى والكبرى ومن النجاسات، والحدث الأصغر يوجب الوضوء، والأكبر يوجب الغسل، فمن كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر فيجب أن يتطهر منه.

وأن يكون البدن الذي يصلي به طاهراً، فلا يحل له أن يصلي وفي بدنه نجاسة، لا في فخذه ولا في يده ولا في قدمه، ولا في المكان الذي يصلي فيه، فالمكان الذي يناجي فيه الله ويتكلم فيه مع الله ويتصل به يجب أن يكون طاهراً. وكذلك الثوب الذي يرتديه ويلبسه، وسواء كان عمامة أو كان قميصاً أو سروالاً فيجب أن يكون طاهراً، وكذلك تكون الطهارة من النجاسات التي هي في الغالب الخرء والبول والدم، فمن لم يتطهر لم يقم الصلاة.

[ ثانياً: أن تؤدى في أوقاتها المعلومة، فلا تقدم ولا تؤخر إلا لعلة سفر أو مرض ] فالمسافر قد يجمع بين الظهر والعصر، فيصليهما في وقت الظهر إن شاء أو في وقت العصر إن شاء، ويجمع بين المغرب والعشاء، فيصلي المغرب والعشاء في أول الوقت بعد غروب الشمس، أو يؤخرهما إلى نصف الليل للضرورة، وكذلك المريض؛ لأنه يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة في وقتها، فأذن له أن يجمع بين الصلاتين في وقت واحد.

ولا يقال: فلان أقام الصلاة أو هو مقيم الصلاة إلا إذا أداها في أوقاتها المحددة لها، ولم يؤخرها أو يقدمها إلا لعلة مرض أو سفر.

[ ثالثاً: أن تؤدى في جماعة المؤمنين، لا انفرادياً إلا في ضرورة قصوى ] والضرورة القصوى كأن تكون حارساً على مال، ولا تستطيع أن تصلي مع جماعة، أو تكون مريضاً لا تقوى على أن تخرج إلى المسجد، أو أن تكون ممرضاً تعالج هذا المريض وتقوم عليه، ولا تستطيع تركه، أو كأن تكون خائفاً من المجرمين واللصوص إذا كان هناك فوضى وهبوط، ولا تستطيع أن تخرج من بيتك؛ حتى لا تغتال. فهذه الحالات هي حالات الضرورة القصوى، وفيها يعفى عن المؤمن إذا صلى في بيته مع امرأته وأولاده، وأما مع القدرة وعدم الخوف فلا يصلين إلا في جماعة المسلمين في بيوت الله، أو في الجماعة في البر أو في البحر، والمهم ألا يصلي منفرداً؛ لأن الشيطان يستغله، ويفسد عليه قلبه، ولا يستفيد من صلاته.

[ رابعاً: الإتيان بأركانها، وهي: قراءة الفاتحة في كل ركعة ] فيجب على المصلي أن يحسن قراءتها، ويجب عليه أن يحفظها، ولو أقام الأيام والليالي مع من يعلمه حتى يحفظها؛ لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة في كل ركعة.

وثاني الأركان: [ والطمأنينة في الركوع والرفع منه ] والطمأنينة والسكون خلاف العجلة والخفة والسرعة، فإذا ركع وقال: الله أكبر فيسبح على الأقل ثلاث مرات، قائلاً: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، هذا أقل شيء، أو يسبح سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة. ولا ينسى ذاك الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه في قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]. فهذه السورة نعت للمؤمنين ولرسول حياة نبيهم، وبكى أبو بكر ، ومن ثم ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة إلا كان يقول فيها وهو راكع بعد سبحان ربي العظيم: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك؛ امتثالاً لقول الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]. فاحفظوا هذا وطبقوه، وخاصة الذين بدا الشيب في وجوههم وفي رءوسهم، فهم على سفر. فليقولوا: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك في كل ركعة بعد التسبيح. هذا الذي أرشد الله تعالى نبيه إليه، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع أنه أول من يدخل الجنة. ونحن أحق بهذا

والطمأنينة تكون في الركوع [ وفي السجود ] فإذا سجدت فسبح: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وأقل شيء ثلاث مرات، ولا تسرقها بحيث لا يفهم منها حرف واحد، وهذا هو الذي يعمله بنا هذا العدو الشيطان، وستسمعون في هذا النداء عن الشيطان.

وإذا سبحت سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فادع الله بما شئت، وسله من خير الدنيا والآخرة، إلا الإثم وقطيعة الرحم فقط لا تطلبهما، ولك أن تسأل الله الثوم والبصل، فإذا قالت أم الأولاد: جئنا بثوم وأنت ليس عندك قرشاً فافزع إلى الله، وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون الله في سجودهم البصل والثوم، وكانوا لا يسرقون ولا يكذبون، ولا يخلفون وعودهم ولا ينكثون عهودهم، ونحن نأكل الخبز والعسل، وما كفانا ذلك، بل نكذب ونخون، ونسرق ونورد الباطل، ونبيع الحرام، وأعوذ بالله منا إن لم يتداركنا الله بلطفه.

قال: [ والجلوس ] كذلك، فإذا جلس فعلى الأقل يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، رب اغفر لي وعافني واهدني وارزقني، وليس بمجرد أن يجلس يعود إلى السجود أو ينهض إلى القيام. بل يطمئن في الجلوس ويعتدل فيه، ويقول: رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني، ويقوم أو يسجد [ مع اعتدال الأعضاء في ذلك كله ] هذه هي الأركان، وإذا سقط ركن البيت لم يبق السقف والمنزل، بل يتهدم، وإذا سقط ركن الصلاة بطلت، يعني: لم يعد فيها أجر. فمعنى بطلت: أنهها لا تولد النور، ولا تولد الحسنات التي تزكو بها النفس البشرية، إذ الصلاة عبارة عن مولد الطاقة، ولا يوجد عبادة أكثر من الصلاة توليداً للنور، فإن اختل أداؤها هبطت، ولن تولد حسنة واحدة، وأكثر المسلمين لم يعلموا هذا، فلهذا المهم عندهم أن يصلوا، في حين أن المهم أن تنتج صلاتك نوراً لك، وهذا النور ما إن يستقر في القلب حتى تسطع أشعته على البصر وعلى الأذن وعلى اللسان، وعلى سائر الأركان، فلا يستطع صاحبه أن يمد يده إلى حرام؛ بسبب ذلك التأثير النوراني في القلب.

[ خامساً: مراعاة سننها وآدابها ] فلابد من أن تأتي بالسنن والآداب ما أمكنك ذلك [ حتى تصبح ] الصلاة [ قادرة على إنتاج الطهر والصفاء للروح. هذا معنى ] قوله تعالى: [ إقام الصلاة وأن يؤتوا الزكاة ويعتصموا بالله، بمعنى: يتمسكوا بدينه الإسلام، وما حواه من الشرائع والأحكام، وآداب وأخلاق؛ إذ هو سبحانه وتعالى مولاهم، والمولى يجب أن يحب ويعظم ويطاع، فهو حينئذ نعم المولى لهم ونعم النصير ] فالله نعم السيد، ونعم المولى ونعم النصير [ لأنهم أحبوه وعظموه وأطاعوه ].

عدد سجدات القرآن

أخيراً: [ تنبيه ] وقد وقفنا عند هذه بالأمس لما أذن الأذان [ القارئ لهذا النداء ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] [ ولما سبقه من آيات إذا كان متطهراً ] متوضئاً [ إذا قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ خر ساجداً مسبحاً ] فهنا يشرع السجود، فيخر ساجداً، سواء كان قائماً أو قاعداً، ويضع جبهته وأنفه على الأرض ويذكر الله ويسبحه بما ورد [ ثم يرفع رأسه مكبراً، ويواصل قراءته لما بقي من الآيات، إذ هذه سجدة من سجدات القرآن، إلا أن هذه السجدة مختلف في مشروعيتها ] بين أهل العلم والقرآن، فمنهم من يراها، ومنهم من يقول: لا، هذا ليس موطن سجود [ ولم يُجْمَع عليها كما أجمعوا على سجدة الأعراف، والرعد، ومريم، وأولى الحج ] وهذه ثانية الحج، وأولى الحج يسجد فيها إجماعاً [ والفرقان، والنمل، والسجدة، وفصلت، والانشقاق، والعلق، واختلف أيضاً في سجدة ص ] لأن تلك السجدة سجدها داود عليه السلام، ونحن نسجد كما سجد، فنحن نأتسي بالصالحين ونقتدي بهم، فسجد داود وغفر له وقُبِلَ، فنحن نسجد [ والنجم ] وهذه أيضاً وإن لم يجمع عليها إلا أننا لا نحرم أنفسنا من أن نخر ساجدين لربنا؛ إذ ليس هناك مانع.

وها نحن الآن قد عرفنا السجدات، فأول سجدة في سورة الأعراف، وهي في نهايتها، وثاني سجدة في الرعد، وثالث سجدة في النحل، ورابع سجدة في الإسراء، ثم في مريم، ثم في الحج أولى الحج، ثم هذه الثانية التي لم يُجمع عليها، ثم الفرقان، ثم النمل، ثم السجدة الم [السجدة:1]، ثم ص، وقلنا: إنها مختلف فيها، ونحن نسجد، ثم فصلت، ثم النجم، ثم الانشقاق، أي: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، ثم العلق، أي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].

وصاحب هذه النداءات لما يقرأ يحفظ هذا، ويعرف مواضع سجدات القرآن، فقد اختلف في سجدتين فقط، ولو لم يسجدهما أحدنا فلا بأس عليه ولا شيء، وكذلك السجدة الثانية من سورة الحج، وهي هذه في هذا النداء الذي درسناه أمس.

وسبب سجدة ص أن داود عليه السلام وقع له الذي وقع، فخر راكعاً وأناب، قال تعالى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25].

كيفية صلاة الجنازة

في هامش النداءات أيضاً صلاة الجنازة، ولم نجد لها موطناً إلا هنا.

صلاة الجنازة هي الصلاة على الميت المسلم، وأما المسلم الحي فلا يصلى عليه، وكذلك الكافر الميت لا يصلى عليه، فصلاة الجنازة على المسلم الميت فقط. وليس فيها ركوع ولا سجود.

ومن الحكايات التي حدثت عند طلبنا العلم وخذوها: أن أهل قرية مات أحدهم، فقدموا شخصاً يحفظ القرآن يصلي عليه، فصلى أربع ركعات بالركوع والسجود، فقيل له في ذلك، فقال لهم: اسكتوا، هذا بالركوع والسجود واللهم اغفر له؛ لأن هذا ذنوبه لا يحدها حد، فلا تلومونني على أنني صليت بالركوع والسجود، فهذا ذنوبه عظام، فاستطاع أن يخرج من المأزق واللوم والعتاب. وهذا من ثمار الجهل؛ لأنه ما سأل ولا تعلم، ويوجد في العالم الإسلامي قرى لا يصلون على الميت ولا يعرفون كيفية ذلك.

فصلاة الجنازة ليس ركوع فيها ولا سجود؛ إذ هي الدعاء للميت لا غير.

والآن نحفظكم إياها عملياً؛ لأنه قد يوجد من لا يعرف كيف يصليها، فكيفيتها هي: أن يوضع الميت على سرير، ولا يشترط أن يكون من حديد أو ذهب، بل حتى من خشب أو شعر، ويقف الإمام وراءه، والناس وراء الإمام، وهم على طهارة، والذي ليس بمتطهر لا يصلي صلاة الجنازة، ثم يكبر الإمام قائلاً: الله أكبر، ويكبر الناس وراءه، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكبر الناس وراءه، ثم يكبر، ويدعو للميت بالمغفرة والرحمة، ويكبر الناس وراءه، ويدعون للميت، ثم يكبر ويسلم، ويكبر الناس وراءه ويسلمون.

وهنا لطيفة يمكن لطلبة العلم أن يستفيدون منها، فمن أهل العلم من لم يكن يقرأ الفاتحة كـأبي هريرة ، وإنما يحمد الله تعالى ويثني عليه، فيقول: الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيي الموتى، له العظمة والكبرياء، والملك والقدرة والثناء، وهو على كل شيء قدير، الله أكبر؛ لأن المقصود أن نتوسل إلى الله بحمده وثنائه ونصلي على نبيه، ثم ندعو لأخينا بالمغفرة والرحمة. فسر الصلاة على الميت هو التوسل إلى الله ليغفر له ويرحمه، وأنت تبدأ بتوسلك بحمد الله والثناء عليه وتمجيده وتملقه، ثم تصلي على نبيه، ثم تقول: اللهم اغفر لفلان وارحمه.

ولكن قراءة الفاتحة أكثر أجراً، وأعظم تحميداً وتمجيداً وثناء، فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] حمد وثناء وتمجيد، ثم قولك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تملق وتزلف. فمن قرأ الفاتحة كان أكثر أجراً ممن اكتفى بالحمد والثناء على الله، والكل جائز وواسع.

ويقف الإمام - على خلاف في القضية- إذا كان رجلاً عند رأسه أو كتفه، وإذا كانت امرأة وقف في وسطها، والمسألة فيها ما فيها، وكله خير. فالمرأة يقف في وسطها، والرجل يقف عند منكبه أو رأسه على وجه الاستحباب. فهذه ليست بأركان.

فصلاة الجنازة معناها الدعاء للميت، وندعو الله بأن نتوسل إليه بحمده والثناء عليه وتمجيده، والصلاة على نبيه، ثم نقول: اللهم اغفر لميتنا وارحمه. وعدد التكبيرات في صلاة الجنازة أربع، وإن كبر خمساً فقد كبر من هو أفضل خمساً، وكلاهما جائز. والمهم أنه في التكبيرة الأولى يحمد الله ويثني عليه ويمجده بقراءة الفاتحة أو بلفظ آخر، وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة أن يدعو الله عز وجل، ويخلص في الدعاء، ولا يدعو للآخرين، بل يدعو لنفسه وللميت فقط، وبعد الرابعة إن شاء دعا للمؤمنين عامة، وإن شاء سلم، والسلام تسليمة واحدة: السلام عليكم.

رفع اليدين وارد عن ابن عمر ، وقال به أحمد والشافعي وعلماء أئمة، وهو خير، فرفعك يديك لله أحسن، ولا نتعصب للمذهب ونقول: لا، نحن مالكية، لا نرضى بهذا، فهذا ليس عندنا أبداً، فنحن لا نتعصب لمذهب حنبلي ولا مالكي ولا شافعي ولا غير ذلك، بل نبحث عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي هو أرجح وعليه أكثر العلماء والأئمة وهكذا، ولا نفتح باب الخلاف والفرقة.

هذا نداء أمس، والنداء كان طويلاً، ولم نستوعبه كما ينبغي.

قال: [ وما تقام به الصلاة هو:

أولاً: الطهارة الكاملة برفع الحدث بالوضوء إن كان أصغر، وبالغسل إن كان أكبر، وطهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه العبد من النجاسات كالبول والعذرة والدم ] وقد قال في هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الحج:77-78]. فإقام الصلاة فرض، فسيدنا نادانا وأمرنا بإقام الصلاة، وإقام الصلاة ينبغي أن تؤدى بهذه الأركان، وأول هذه الأركان: الطهارة، فمن لم يتطهر في صلاته فوالله ما أقامها، ولا يقال فيه: أقام الصلاة، بل لا بد وأن يتطهر من الأحداث الصغرى والكبرى ومن النجاسات، والحدث الأصغر يوجب الوضوء، والأكبر يوجب الغسل، فمن كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر فيجب أن يتطهر منه.

وأن يكون البدن الذي يصلي به طاهراً، فلا يحل له أن يصلي وفي بدنه نجاسة، لا في فخذه ولا في يده ولا في قدمه، ولا في المكان الذي يصلي فيه، فالمكان الذي يناجي فيه الله ويتكلم فيه مع الله ويتصل به يجب أن يكون طاهراً. وكذلك الثوب الذي يرتديه ويلبسه، وسواء كان عمامة أو كان قميصاً أو سروالاً فيجب أن يكون طاهراً، وكذلك تكون الطهارة من النجاسات التي هي في الغالب الخرء والبول والدم، فمن لم يتطهر لم يقم الصلاة.

[ ثانياً: أن تؤدى في أوقاتها المعلومة، فلا تقدم ولا تؤخر إلا لعلة سفر أو مرض ] فالمسافر قد يجمع بين الظهر والعصر، فيصليهما في وقت الظهر إن شاء أو في وقت العصر إن شاء، ويجمع بين المغرب والعشاء، فيصلي المغرب والعشاء في أول الوقت بعد غروب الشمس، أو يؤخرهما إلى نصف الليل للضرورة، وكذلك المريض؛ لأنه يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة في وقتها، فأذن له أن يجمع بين الصلاتين في وقت واحد.

ولا يقال: فلان أقام الصلاة أو هو مقيم الصلاة إلا إذا أداها في أوقاتها المحددة لها، ولم يؤخرها أو يقدمها إلا لعلة مرض أو سفر.

[ ثالثاً: أن تؤدى في جماعة المؤمنين، لا انفرادياً إلا في ضرورة قصوى ] والضرورة القصوى كأن تكون حارساً على مال، ولا تستطيع أن تصلي مع جماعة، أو تكون مريضاً لا تقوى على أن تخرج إلى المسجد، أو أن تكون ممرضاً تعالج هذا المريض وتقوم عليه، ولا تستطيع تركه، أو كأن تكون خائفاً من المجرمين واللصوص إذا كان هناك فوضى وهبوط، ولا تستطيع أن تخرج من بيتك؛ حتى لا تغتال. فهذه الحالات هي حالات الضرورة القصوى، وفيها يعفى عن المؤمن إذا صلى في بيته مع امرأته وأولاده، وأما مع القدرة وعدم الخوف فلا يصلين إلا في جماعة المسلمين في بيوت الله، أو في الجماعة في البر أو في البحر، والمهم ألا يصلي منفرداً؛ لأن الشيطان يستغله، ويفسد عليه قلبه، ولا يستفيد من صلاته.

[ رابعاً: الإتيان بأركانها، وهي: قراءة الفاتحة في كل ركعة ] فيجب على المصلي أن يحسن قراءتها، ويجب عليه أن يحفظها، ولو أقام الأيام والليالي مع من يعلمه حتى يحفظها؛ لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة في كل ركعة.

وثاني الأركان: [ والطمأنينة في الركوع والرفع منه ] والطمأنينة والسكون خلاف العجلة والخفة والسرعة، فإذا ركع وقال: الله أكبر فيسبح على الأقل ثلاث مرات، قائلاً: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، هذا أقل شيء، أو يسبح سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة. ولا ينسى ذاك الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه في قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]. فهذه السورة نعت للمؤمنين ولرسول حياة نبيهم، وبكى أبو بكر ، ومن ثم ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة إلا كان يقول فيها وهو راكع بعد سبحان ربي العظيم: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك؛ امتثالاً لقول الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]. فاحفظوا هذا وطبقوه، وخاصة الذين بدا الشيب في وجوههم وفي رءوسهم، فهم على سفر. فليقولوا: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك في كل ركعة بعد التسبيح. هذا الذي أرشد الله تعالى نبيه إليه، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع أنه أول من يدخل الجنة. ونحن أحق بهذا

والطمأنينة تكون في الركوع [ وفي السجود ] فإذا سجدت فسبح: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وأقل شيء ثلاث مرات، ولا تسرقها بحيث لا يفهم منها حرف واحد، وهذا هو الذي يعمله بنا هذا العدو الشيطان، وستسمعون في هذا النداء عن الشيطان.

وإذا سبحت سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فادع الله بما شئت، وسله من خير الدنيا والآخرة، إلا الإثم وقطيعة الرحم فقط لا تطلبهما، ولك أن تسأل الله الثوم والبصل، فإذا قالت أم الأولاد: جئنا بثوم وأنت ليس عندك قرشاً فافزع إلى الله، وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون الله في سجودهم البصل والثوم، وكانوا لا يسرقون ولا يكذبون، ولا يخلفون وعودهم ولا ينكثون عهودهم، ونحن نأكل الخبز والعسل، وما كفانا ذلك، بل نكذب ونخون، ونسرق ونورد الباطل، ونبيع الحرام، وأعوذ بالله منا إن لم يتداركنا الله بلطفه.

قال: [ والجلوس ] كذلك، فإذا جلس فعلى الأقل يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، رب اغفر لي وعافني واهدني وارزقني، وليس بمجرد أن يجلس يعود إلى السجود أو ينهض إلى القيام. بل يطمئن في الجلوس ويعتدل فيه، ويقول: رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني، ويقوم أو يسجد [ مع اعتدال الأعضاء في ذلك كله ] هذه هي الأركان، وإذا سقط ركن البيت لم يبق السقف والمنزل، بل يتهدم، وإذا سقط ركن الصلاة بطلت، يعني: لم يعد فيها أجر. فمعنى بطلت: أنهها لا تولد النور، ولا تولد الحسنات التي تزكو بها النفس البشرية، إذ الصلاة عبارة عن مولد الطاقة، ولا يوجد عبادة أكثر من الصلاة توليداً للنور، فإن اختل أداؤها هبطت، ولن تولد حسنة واحدة، وأكثر المسلمين لم يعلموا هذا، فلهذا المهم عندهم أن يصلوا، في حين أن المهم أن تنتج صلاتك نوراً لك، وهذا النور ما إن يستقر في القلب حتى تسطع أشعته على البصر وعلى الأذن وعلى اللسان، وعلى سائر الأركان، فلا يستطع صاحبه أن يمد يده إلى حرام؛ بسبب ذلك التأثير النوراني في القلب.

[ خامساً: مراعاة سننها وآدابها ] فلابد من أن تأتي بالسنن والآداب ما أمكنك ذلك [ حتى تصبح ] الصلاة [ قادرة على إنتاج الطهر والصفاء للروح. هذا معنى ] قوله تعالى: [ إقام الصلاة وأن يؤتوا الزكاة ويعتصموا بالله، بمعنى: يتمسكوا بدينه الإسلام، وما حواه من الشرائع والأحكام، وآداب وأخلاق؛ إذ هو سبحانه وتعالى مولاهم، والمولى يجب أن يحب ويعظم ويطاع، فهو حينئذ نعم المولى لهم ونعم النصير ] فالله نعم السيد، ونعم المولى ونعم النصير [ لأنهم أحبوه وعظموه وأطاعوه ].