شرح عمدة الأحكام [50]


الحلقة مفرغة

تعريف الرهن وبيان الحكمة من مشروعيته

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الرهن وغيره:

عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد)].

هذا الباب عقده المصنف لأحاديث تتعلق بموضوعات من البيوع ونحوه، وبدأ بهذا الحديث الذي يتعلق بالرهن، والرهن معروف ذكره الله تعالى في القرآن فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وقرأها بعضهم: (فرهن مقبوضة) أي: جمع رهن، وكل شيء يمسك لأجل حق من الحقوق يسمى رهناً، ومنه قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرهونة بكسبها.

والإنسان قد يحتاج إلى سلعة يشتريها وليس معه ثمنها، وصاحبها لا يريد أن يفرط في دراهمه أو في قيمة سلعته، فيقول له: أطلب منك رهناً أتوثق به أنك تُسلِّم الدين إذا حل، أو إذا وجدته، فالرهن: وثيقة يمكن أخذ المال أو ثمن المبيع منها أو من ثمنها، فالراهن أعطى هذه السلعة للمرتهن ليتوثق من حقه، فكلاهما منتفع، والراهن قد يصعب عليه أن يجد الثمن أو يجد من يقرضه، أو يجد من يبيعه بمؤجل بدون رهن، والمرتهن قد لا يثق به، فيقول: من المصلحة أني أعطيه هذه السلعة بثمن غائب وأقبض السلعة الأخرى وثيقةً إذا حل الدين؛ إما أن يوفيني وإما أن أبيعها وأقبض دراهمي من ثمنها، هذا هو الأصل.

ولا شك أن الله تعالى شرعه للتوسعة على الطرفين، فالراهن يتوسع حيث إنه قد لا يجد الثمن الآن، ولكن يمكن أن يجده بعد شهر أو بعد شهرين أو بعد سنة، كأن يأتيه من كسب له أو يأتيه من حق له أو يأتيه من حرفة أو من دين أو من مال أو نحو ذلك، فيطلب هذا المال، أو يطلب -مثلاً- طعاماً لأهله، أو كسوة ضرورية لأهله، أو طعاماً لضيف نزل به، أو بيتاً يستأجره، ولا يحد الأجرة، أو ما أشبه ذلك.

والمرتهن ينتفع أيضاً، حيث يحصل له زيادة في الثمن لأجل التأجيل، فهو يبيعه هذه السلعة مؤجلة لمدة سنة، وقيمتها -مثلاً- نقداً بمائة ولكن يبيعها له بمائة وعشرة؛ لأجل الدين، ولأجل غيبة الثمن، وحينئذٍ ينتفع بزيادة الثمن ويتوثق بهذا الرهن، فإذا باعك إنسان كيساً قيمته مائة، واشتريته منه بمائة وعشرين لمدة سنة، ورهنته سيفك أو درعك، أو رهنته بيتك أو دابتك أو سيارتك ليتوثق بها، وأنت واثق بأنك ستجد قيمة هذا الكيس بعد شهرين أو بعد سنة أو نحو ذلك، فإذا وجدته دفعت له قيمة الكيس وخلصت رهنك، والبائع انتفع بزيادة ماله، وبقبضه لهذا الرهن الذي هو وثيقة.

قبض الرهن

لابد من قبض العين المرهونة، لقوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] والمقبوضة هي: التي يمسكها المرتهن عنده، فيمسك سيفك أو يمسك جملك الذي رهنته أو كيسك أو ما أشبه ذلك؛ لأن في إمساكه توثقاً في حقه، وقد اختلف في هذا الشرط، فبعضهم يقول: يصح بدون قبض، فيصح -مثلاً- أن تقول: هذه السيارة رهن، ولكن استعملها -أيها الراهن- فهي سيارتك، وإذا لم توفني بعتها، أو هذا البيت رهني، وأنت ساكن فيه، إذا حل ديني وما أوفيتني بعته، فنقول: لعل هذا يجوز، ولكن لابد من وثيقة يقبضها، ففي الدار يقبض الحجة أو وثيقة الملكية ويمسكها حتى لا تباع، وفي السيارة يقبض الاستمارة التي لا يمكن أن تباع إلا بها؛ مخافة أن الراهن يبيعها وينتفع بثمنها، ويبطل حق المرتهن، وأما إذا رهنه ولم يقبضه فقد فرط.

فالحاصل: أنه لابد أن يقبض المرتهن شيئاً من الرهن أو يقبض الرهن كله، فيمسك المرتهن السلاح كالدرع والسيف والقوس وكذلك الأسلحة الجديدة مثل المسدس والرشاش أو ما أشبه، كذلك أيضاً السلع الأخرى التي يمكن رهنها، لو رهن عندك ثوباً أو رهن عندك كيساً أو رهن نعلاً له قيمة أو رهن طعاماً يمكن أن ينتفع به فيما بعد أو يباع ولا يخشى فساده؛ صح ذلك.

الأشياء التي يصح فيها الرهن

يصح الرهن في كل شيئ يجوز بيعه، والعبد المكاتب يصح رهنه؛ لأنه يجوز بيعه، وأما الذي لا يجوز بيعه -كالأمة التي استولدها سيدها- فلا يصح رهنه.

وهناك شيء يجوز رهنه ولا يجوز بيعه حالاً، وهو الزرع الأخضر، فالزرع الأخضر يجوز رهنه، ولا يجوز بيعه إلا بشرط القطع؛ وذلك لأن الرهن لا يباع في الحال، بل يتأنى به، فهذا الزرع إذا استحصد يمكن بيعه إذا حل الدين بشرط التبقية، ويكون للمشتري أو للبائع الثمرة أو نحو ذلك.

وهكذا لا يجوز بيع ثمر النخل حتى يبدو صلاحه، ولا يجوز بيعه قبل أن يبدو صلاحه إلا بشرط القطع، ولكن يجوز رهنه، فيجوز أن يقول: رهنتك ثمرة هذه النخلة؛ لأنه يمكن أن يتركها إلى أن تثمر، ثم تباع إذا حل الدين.

فإذا حل الدين فإنه يطالب بوفائه ويقول: أوفني ديني، فإذا لم يوفه قال له: خذ الرهن وبعه وأوفني من ثمنه، فإذا امتنع رفعه إلى الحاكم كقاضي البلد، والحاكم يقول له: بع الرهن واقض دينك من ثمنه، فإذا لم يفعل تولى الحاكم القاضي بيعه وإيفاء الثمن.

حكم الرهن في الحضر

اختلف هل يجوز الرهن في الحضر أو لا يجوز؟

وذلك لأن الآية الكريمة قيدته بالسفر، قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ [البقرة:283]، فقال: بعضهم لا يجوز الرهن في الحضر، ويجوز الكتاب، والكتابة وثيقة تكفي عن الرهن.

والصحيح أنه يجوز في الحضر كما يجوز في السفر، فإن في هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي ورهنه درعاً له)، وفي بعض الروايات: (توفي ودرعه مرهونة عند يهوديٍ بطعام اشتراه لأهله)، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، ولو قلت: لماذا لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من يقرضه؟

فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم محبوب عند الصحابة، ولو طلب منهم أموالهم لأعطوه ولبذلوا له ما في إمكانهم، ولكنه لا يحب أن يضايقهم، ولا يحب أن يكون على أحد منهم شيء من المضايقة أو نحوها، فعدل إلى الشراء من يهودي، وقد يكون ذلك اليهودي من يهود خيبر، أو من يهود فدك أو نحو ذلك، وقد يكون أيضاً من يهود المدينة قبل إجلائهم.

والحاصل: أنه اشترى من هذا اليهودي طعاماً لأهله، ورهنه درعاً، ومعلوم أن هذا كان في المدينة، والمدينة أهلها حضر، ولم يكن على سفر، فدل على أنه -كما يجوز الرهن في السفر- يجوز في الحضر؛ وذلك لوجود العلة، فإن العلة هي الوثيقة، أي: كونه يجعل هذا الدين وثيقة يتوثق بها صاحبها حتى إذا حل وجد ما يؤمِّن له رد ثمنه أو رد دينه إليه.

حكم الوثائق وذكر بعض أنواعها

الوثائق كثيرة، فمنها: الكتابة التي تكتب بين المتبايعين إذا كان البيع مؤجلاً، وقد أمر الله بها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فهي وثيقة، والإشهاد وثيقة، وذلك بأن يُشهد اثنين على أن فلاناً استدان مني كذا وكذا، حتى لا يضيع حقه.

والرهن وثيقة؛ لأنه يتوثق به على ضمان أخذ حقه عند حلوله.

والكفيل أو الضمين وثيقة؛ لأنه إذا عجز عن أخذ حقه من المدين رجع إلى الكفيل أو الضمين وأخذ الحق منه؛ لأن هذا قد تكفل بأداء الحق أو بإحضاره أو نحو ذلك، وبلا شك أن هذا دليل على عناية الشرع بحفظ الحقوق، والنهي عن التساهل في حقوق بني الإنسان، فالناس تأتيهم حاجات، ويحتاج بعضهم إلى بعض، فأحدهم يحتاج إلى من يقرضه، يحتاج إلى من يتصدق عليه، أو ما أشبه ذلك، فما دام أنه تمسه الحاجة ولابد فإنه يأتي بما يضمن أنه يرد على صاحب الحق حقه.

والإنسان البائع قد يربح في بيعه بالثمن الغائب، ولكن يريد أن يتوثق من ثمنه، والمقرض الذي أقرض أخاه ولم يربح عليه، ولكنه نفعه؛ يريد وثيقة يتوثق بها، وهكذا بقية المنافع.

فشرعية هذه الوثائق دليل على أن الشرع الشريف اعتنى بالحقوق، وأمر بأن تقيد وتثبت، ونهى عن الاختلاف والتساهل بحقوق بني الإنسان، وورد الشرع بالتحذير من أخذ حق لمسلم، وأن التساهل في أخذ الحقوق يعتبر اعتداءً على المسلمين، وأن الإنسان إذا استدان ديناً فإذا وثق به أهل الدين فعليه أن يحسن الظن، وأن يوفي بالوعد، وربه يساعده، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الرهن وغيره:

عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد)].

هذا الباب عقده المصنف لأحاديث تتعلق بموضوعات من البيوع ونحوه، وبدأ بهذا الحديث الذي يتعلق بالرهن، والرهن معروف ذكره الله تعالى في القرآن فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وقرأها بعضهم: (فرهن مقبوضة) أي: جمع رهن، وكل شيء يمسك لأجل حق من الحقوق يسمى رهناً، ومنه قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرهونة بكسبها.

والإنسان قد يحتاج إلى سلعة يشتريها وليس معه ثمنها، وصاحبها لا يريد أن يفرط في دراهمه أو في قيمة سلعته، فيقول له: أطلب منك رهناً أتوثق به أنك تُسلِّم الدين إذا حل، أو إذا وجدته، فالرهن: وثيقة يمكن أخذ المال أو ثمن المبيع منها أو من ثمنها، فالراهن أعطى هذه السلعة للمرتهن ليتوثق من حقه، فكلاهما منتفع، والراهن قد يصعب عليه أن يجد الثمن أو يجد من يقرضه، أو يجد من يبيعه بمؤجل بدون رهن، والمرتهن قد لا يثق به، فيقول: من المصلحة أني أعطيه هذه السلعة بثمن غائب وأقبض السلعة الأخرى وثيقةً إذا حل الدين؛ إما أن يوفيني وإما أن أبيعها وأقبض دراهمي من ثمنها، هذا هو الأصل.

ولا شك أن الله تعالى شرعه للتوسعة على الطرفين، فالراهن يتوسع حيث إنه قد لا يجد الثمن الآن، ولكن يمكن أن يجده بعد شهر أو بعد شهرين أو بعد سنة، كأن يأتيه من كسب له أو يأتيه من حق له أو يأتيه من حرفة أو من دين أو من مال أو نحو ذلك، فيطلب هذا المال، أو يطلب -مثلاً- طعاماً لأهله، أو كسوة ضرورية لأهله، أو طعاماً لضيف نزل به، أو بيتاً يستأجره، ولا يحد الأجرة، أو ما أشبه ذلك.

والمرتهن ينتفع أيضاً، حيث يحصل له زيادة في الثمن لأجل التأجيل، فهو يبيعه هذه السلعة مؤجلة لمدة سنة، وقيمتها -مثلاً- نقداً بمائة ولكن يبيعها له بمائة وعشرة؛ لأجل الدين، ولأجل غيبة الثمن، وحينئذٍ ينتفع بزيادة الثمن ويتوثق بهذا الرهن، فإذا باعك إنسان كيساً قيمته مائة، واشتريته منه بمائة وعشرين لمدة سنة، ورهنته سيفك أو درعك، أو رهنته بيتك أو دابتك أو سيارتك ليتوثق بها، وأنت واثق بأنك ستجد قيمة هذا الكيس بعد شهرين أو بعد سنة أو نحو ذلك، فإذا وجدته دفعت له قيمة الكيس وخلصت رهنك، والبائع انتفع بزيادة ماله، وبقبضه لهذا الرهن الذي هو وثيقة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع