شرح عمدة الأحكام [30]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[كتاب الصيام.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) .

وعن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة. قال أنس : قلت لـزيد : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)].

هذا كتاب الصيام، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، فجعل صوم رمضان من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى في السنة الثانية من الهجرة، أي: بعد الهجرة بسنة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى في شهر ربيع الأول، ولم يفرض تلك السنة، ولما دخلت السنة الثانية صام يوم عاشوراء تطوعاً أو فرضاً كما قاله بعض العلماء، وفي تلك السنة نزل صوم رمضان، فرضه الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] إلى قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] يعني: من حضر الشهر وأدركه فليصمه، فأصبحت هذه الآية قد حددت الصيام الذي فرضه الله، وأنه صوم شهر رمضان، فهذا هو دليل الصيام.

ولا شك أن الله تعالى ما فرضه إلا ليختبر عباده، وذلك أن هذا الصيام فيه شيء من الجهد، ففيه الجوع وفيه الظمأ والنصب، وفيه أن الناس قد يتعبون في طلب الأعمال والحرف وهم صيام، فيشق عليهم فيتحملون ذلك، فالله تعالى اختبر فضل العباد وامتثالهم لأوامره ليظهر من يطيع ومن يعصي، فإذا تقبل العبد ذلك بتقبل حسن وبرغبة كاملة دل ذلك على قوة يقينه وعلى تقبله للشريعة الإسلامية، وعلى تحمله لما أمر به، بل المؤمن يفرح بذلك ويسر؛ لأنه عبادة وطاعة، وكل عبادة يحبها الله فالعبد يحبها.

ولا أحب أن أطيل في المقدمة؛ لأن العلماء قد أطالوا في ذلك، ومن أراد التوسع في أحكام الصيام فليراجع الكتب التي تُقرأ دائماً في كل رمضان، وهي ميسرة ومبسطة والحمد لله.

ونأتي إلى هذه الأحاديث.

النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين وحكمته

الحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) .

والحكمة في ذلك أن يتميز رمضان، وأن تكون أيامه متميزة لها أول ولها آخر، فأولها اليوم الأول من شهر رمضان، فلا يصوم اليوم الذي قبله، ولا اليومين الذين قبله، وآخرها اليوم الثلاثون أو التاسع والعشرون إن كان ناقصاً، فلا يصوم اليوم الذي بعده وهو يوم العيد، فيكون رمضان متميزاً؛ لأنه الفرض وما عداه فهو نفل، والنفل يتميز عن الفرض، وذلك بحكمه وبصفته، هكذا قال العلماء.

وقد ورد -أيضاً- حديث في السنن فيه أكثر من ذلك، فيه قوله: (إذا انتصف شهر شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)، وهذا الحديث كأنه لم يثبت عند بعضهم، وذكر بعضهم أن فيه ضعفاً، ولكن إسناده على شرط مسلم ، فهو صحيح من حيث السند، ولكنه غريب من حيث المتن، وقد تكلم العلماء على حكم الصيام قبل رمضان -أي: من آخر شعبان- وأوضحوا أنه لا بأس به، وقد استدل على ذلك بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً) تعني أنه يكثر من صيام أيام شعبان، وإنما يفطر منه أياماً قليلة، ولعل ذلك ليقوى على استقبال شهر رمضان؛ فإن الإكثار من صوم شعبان يقوي على شهر رمضان.

وروي -أيضاً- في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر -يعني: شعبان-؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت فصم يومين)، وسرر الشهر: آخره. فدل على أنه يجوز الصوم من آخره، كاليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين أو نحو ذلك، فأفاد أنه لا بأس أن يصام في آخر شعبان كما يصام في أوله.

فمفاد هذا الحديث والحكمة فيه أن لا يتقدم رمضان بيوم أو يومين حتى يتميز رمضان، ورخص في ذلك لصاحب العادة التي يصومها، مثاله: إذا كنت تصوم كل اثنين أو كل خميس، فوافق أن آخر شعبان يوم الإثنين أو يوم الخميس، فلك أن تصوم ذلك؛ لأن هذا صيام لسبب، ولا بأس بالصيام لسبب، ومثلوا -أيضاً- بمن اعتاد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً من دهره كله، كما التزم بذلك بعض الصحابة، وهو صيام داود كما سيأتي.

فإذا وافق أن اليوم الذي يصومه هو آخر شعبان فلا بأس أن يصومه بهذا النية، أعني أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيصوم اليوم التاسع والعشرين وهو آخر شعبان -مثلاً- أو يفطر التاسع والعشرين ويصوم الثلاثين إذا كان شعبان كاملاً، وعلى كل حال فلا بأس إذا كان له عادة.

وهكذا لو كان عليه أيام قضاء، فلو أن إنساناً أفطر من رمضان، أو امرأة أفطرت من نفاس أو حيض ولم يتيسر لها الصيام إلا في شعبان أو في آخر شعبان وجب حينئذ وتحتم، وقد ذكرت عائشة أنها أحياناً لا يتيسر لها صيام أيام القضاء إلا في شعبان أو في آخر شعبان، فدل على أنه لا بأس، فلو أن إنساناً -مثلاً- عليه خمسة أيام من رمضان الماضي وفرط فيها، ولم يتفرغ إلا في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من شعبان تحتم عليه أن يصوم الخمسة الباقية؛ لأنها من تمام فرضه للعام الماضي؛ لأنه إذا فرط حتى جاءه رمضان الثاني اعتبر مفرطاً، وألزم بالكفارة مع القضاء، والكفارة صيام أيامه التي ترك وإطعام مساكين بعدد أيامه.

فلو قدر -مثلاً- أنك أفطرت خمسة أيام من رمضان، ثم تفارطت الأيام وتتابعت الأشهر وأنت ما صمت، فجاءك رمضان الثاني وأنت ما صمت، فصمت رمضان الثاني والخمسة باقية عليك من الأول فماذا تفعل؟ عليك صيامها بعد رمضان، وعليك إطعام خمسة مساكين جزاءً لتفريطك وتأخيرك.

فنقول: يجوز لمن عليه صيام واجب أن يصوم آخر شعبان، ولو كان اليوم الذي يليه رمضان، وهكذا لو نذر أياماً وافق أنها آخر شعبان فإنه يصومها؛ لأن صيام النذر واجب.

ابتداء وقت وجوب الصيام

أما متى يبدأ في صيام رمضان فالصحيح أنه يجب إذا رأى الناس الهلال أو أكملوا شعبان ثلاثين يوماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم لشعبان، فيأمر الناس بأن يهتموا به ليروه وينظروا في دخوله، فإذا دخل شعبان أخذ يعد الأيام، وأمر أصحابه بأن يعدوها، فإذا مضى تسعة وعشرون عند ذلك نظروا، فإن رأوه في ليلة الثلاثين صاموا وصار الشهر ناقصاً -أعني: شعبان-، فإن لم يروه أو كان هناك غيم أو قتر أصبحوا مفطرين وأتموا شعبان ثلاثين يوماً، فهذه هي العادة التي أمر بها عليه الصلاة والسلام.

لكن بعض العلماء أخذ من هذا الحديث معنى، فهذا الحديث يقول: (فإن غُم عليكم فاقدروا له)، فقوله:(إن غم عليكم) يعني: إن كانت ليلة الثلاثين فيها غيم ولم تروه ولم تتمكنوا من رؤيته فإنكم تصومون. هكذا قال بعضهم، قال: (اقدروا له) أي: ضيقوا له.

وكان ابن عمر -الذي هو راوي الحديث- إذا كانت ليلة الثلاثين أرسل من ينظر، فإن رأوه أصبح صائماً يوم الثلاثين، فإن لم يروه وكانت السماء صحواً أصبح مفطراً؛ لأنه تحقق أنه لم يثبت، ولو ثبت لرأوه، فإن كان هناك غيم أو قتر قد حال بينهم وبين رؤيته أصبح صائماً، وحمل ذلك على أن قوله: (اقدروا له) يعني: ضيقوا له واجعلوه أضيق شيء. والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين، هكذا عمل ابن عمر ، فكأنه يصوم اليوم الثلاثين إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم أو قتر.

ولكن الجمهور على أنه لا يصام ذلك اليوم -الذي هو يوم الثلاثين- إذا كان في السماء قتر أو غيم، بل يصبحون مفطرين؛ لأنه لابد أن يكون الصيام عن رؤية أو عن يقين بدخول الشهر، وذلك يتوقف على إتمام شهر شعبان ثلاثين يوماً.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام الشك، فقال سلمان : (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، واليوم الذي يشك فيه هو اليوم الذي لا يدرى هل هو من شعبان أو من رمضان، فيفطرونه حتى يتحققوا أنهم لم يصوموا شيئاً إلا رمضان، حتى يكون رمضان متميزاً ليس فيه ما يخلطه بغيره، هكذا أمر في هذا الحديث، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، ثم قال مرة: (وهكذا وهكذا وهكذا) يعني: مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين. ثم قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكلموا العدة) أي: فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً.

هكذا أمرنا، فعلينا أن نفطر شعبان حتى نرى الهلال، أو نكمل ثلاثين يوماً إذا لم نره.

وهكذا رمضان، فنصوم إلى أن نرى هلال شوال، أو نكمل شهر رمضان ثلاثين يوماً، هذه هي السنة.

أما الصيام فمعروف أنه الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وهذه مدة يوم الصيام.

السحور وبركته

في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يتسحروا في آخر الليل، والسحور: هو الأكلة قبيل الإمساك. فقال في هذا الحديث: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) ، وقد أمر أمته في عدة من الأحاديث أن يتسحروا ولو بتمرة أو بمذقة لبن أو نحو ذلك حتى يتم الامتثال.

وأما البركة التي في السحور فيقول بعضهم: إن الذي يتسحر يبارك له في عمله، فيوفق بأن يعمل أعمالاً صالحةً كثيرة في ذلك اليوم، بحيث إنه لا يعوقه الصيام عن الصلوات، ولا يعوقه عن الأذكار، ولا عن القراءة ولا عن الأدعية، ولا يعوقه الصيام ولا يقعده عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله والتعليم لشرع الله تعالى، وأيضاً لا يعوقه الصيام عن عمله وحرفته وكسبه الذي يكتسب به لنفسه ولولده إذا كان صاحب عمل، بخلاف ما إذا أجهده الصيام لقلة أكله ولكونه ما عهد الأكل إلا في أول الليل، فإنه إذا أصبح أصبح مثقلاً وأصبح متعباً، فلا يستطيع مواصلة عمل، ولا يستطيع أن يقوم بعمل دنيوي، ولا يستطيع أن يقوم بعمل ديني من الأعمال الصالحة التي ندب إليها، فلأجل ذلك رغب في أكلة السحور.

وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ترك السحور لما كان يواصل، فدل على أنه ليس بفرض، بل الأمر في قوله: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) الأمر للإرشاد، ولأجل ذلك علله بالبركة التي هي كثرة الخير، فأفاد أنه ليس بفرض، ولو كان فرضاً ما تركه لما واصل بأصحابه.

والوصال -كما سيأتي- هو ألا يأكل بين اليومين، أن يصل يوماً بيوم، فيأتيه الليل فلا يفطر ولا يأكل فيه حتى يصله باليوم الذي بعده، فيصوم -مثلاً- ستاً وثلاثين ساعة، يومين بينهما ليلة، هذا هو الوصال.

وقيل: أن يصل الليل باليوم فلا يفطر إلا عند السحر؛ لأنه ورد في حديث: (من كان مواصلاً فليواصل إلى السحر)، ولما واصل يومين أو أياماً دل ذلك على أن السحور ليس بفرض، ولكنه سنة وفضيلة، وعلى كل حال فهو من الأعمال التي رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وقت السحور المستحب

في الحديث الأخير أنه بين وقت السحور، والسَحور هو الفعل، والسُحور هو الأكل، يقولون: إنه إذا قال: تسحرت سُحوراً فالمعنى: أكلت طعاماً. وإذا قيل: السَحور مرغب فيه فالمراد به الفعل، فهنا بين وقت التسحر وهو آخر الليل، وذلك أنه مشتق من السحر، والسحر هو آخر الليل، وجمعه أسحار، قال تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] يعني: في آخر الليل. وقال تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34] يعني: في آخر الليل. فالأكل في ذلك الوقت بنية الصيام يسمى سحوراً، وهو الذي ورد الترغيب فيه والحث عليه في هذه الأحاديث، ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أكل قبيل الأذان، فلم يكن بين فراغه من الأكل وأذان الصلاة إلا قدر خمسين آية، أي: قدر قراءة خمسين آية. يقول زيد : (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس لـزيد : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني قراءة خمسين آية من معتاد القراءة، قراءة مجودة ولكن ليس فيها تمطيط ولا مد طويل، وقراءة لآيات متوسطة ليست آيات طويلة جداً، ولا آيات قصيرة كالآيات التي من آخر القرآن، بل الآيات المتوسطة التي من الجزء الثالث -أي: جزء (قد سمع الله) وما بعده-، فهذا متوسط الآيات، أو من أوائل سورة البقرة، قراءة خمسين آية لا تستغرق -مثلاً- بالقراءة المتوسطة عشر دقائق أو نحوها، فقد يستغرق عشراً وقد لا يستغرقها، فهذا دليل على أنه كان يؤخر السحور.

وقد ورد -أيضاً- الترغيب في تأخير السحور في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور)، فهذا دليل على تأخيره، يعني أنه يكون حقاً سحوراً، ولعل الحكمة في تأخيره أن يكون أقرب إلى الإمساك، فإنه إذا كان السحور في وسط الليل لم يكن اسمه سحوراً، وأيضاً لم يبق أثره في النهار، بخلاف ما إذا كان قرب الإمساك فإنه يبقى أثر الأكل، ولا يحس بالجوع إلا بعد مضي مدة لكونه حديث عهد بأكل وبشرب.

فالحاصل أن الشرع الشريف جاء بالترغيب في العبادة، والترغيب فيما يحبب العبد إليها والتنفير مما يثقلها، فلما كان الصيام بدون سحور قد يثقل العبادة على العباد أمرهم بالسحور حتى يحبها العباد وحتى يألفوها، وحتى يأتوا بها بصدق ورغبة ومحبة.

الحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) .

والحكمة في ذلك أن يتميز رمضان، وأن تكون أيامه متميزة لها أول ولها آخر، فأولها اليوم الأول من شهر رمضان، فلا يصوم اليوم الذي قبله، ولا اليومين الذين قبله، وآخرها اليوم الثلاثون أو التاسع والعشرون إن كان ناقصاً، فلا يصوم اليوم الذي بعده وهو يوم العيد، فيكون رمضان متميزاً؛ لأنه الفرض وما عداه فهو نفل، والنفل يتميز عن الفرض، وذلك بحكمه وبصفته، هكذا قال العلماء.

وقد ورد -أيضاً- حديث في السنن فيه أكثر من ذلك، فيه قوله: (إذا انتصف شهر شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)، وهذا الحديث كأنه لم يثبت عند بعضهم، وذكر بعضهم أن فيه ضعفاً، ولكن إسناده على شرط مسلم ، فهو صحيح من حيث السند، ولكنه غريب من حيث المتن، وقد تكلم العلماء على حكم الصيام قبل رمضان -أي: من آخر شعبان- وأوضحوا أنه لا بأس به، وقد استدل على ذلك بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً) تعني أنه يكثر من صيام أيام شعبان، وإنما يفطر منه أياماً قليلة، ولعل ذلك ليقوى على استقبال شهر رمضان؛ فإن الإكثار من صوم شعبان يقوي على شهر رمضان.

وروي -أيضاً- في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر -يعني: شعبان-؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت فصم يومين)، وسرر الشهر: آخره. فدل على أنه يجوز الصوم من آخره، كاليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين أو نحو ذلك، فأفاد أنه لا بأس أن يصام في آخر شعبان كما يصام في أوله.

فمفاد هذا الحديث والحكمة فيه أن لا يتقدم رمضان بيوم أو يومين حتى يتميز رمضان، ورخص في ذلك لصاحب العادة التي يصومها، مثاله: إذا كنت تصوم كل اثنين أو كل خميس، فوافق أن آخر شعبان يوم الإثنين أو يوم الخميس، فلك أن تصوم ذلك؛ لأن هذا صيام لسبب، ولا بأس بالصيام لسبب، ومثلوا -أيضاً- بمن اعتاد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً من دهره كله، كما التزم بذلك بعض الصحابة، وهو صيام داود كما سيأتي.

فإذا وافق أن اليوم الذي يصومه هو آخر شعبان فلا بأس أن يصومه بهذا النية، أعني أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيصوم اليوم التاسع والعشرين وهو آخر شعبان -مثلاً- أو يفطر التاسع والعشرين ويصوم الثلاثين إذا كان شعبان كاملاً، وعلى كل حال فلا بأس إذا كان له عادة.

وهكذا لو كان عليه أيام قضاء، فلو أن إنساناً أفطر من رمضان، أو امرأة أفطرت من نفاس أو حيض ولم يتيسر لها الصيام إلا في شعبان أو في آخر شعبان وجب حينئذ وتحتم، وقد ذكرت عائشة أنها أحياناً لا يتيسر لها صيام أيام القضاء إلا في شعبان أو في آخر شعبان، فدل على أنه لا بأس، فلو أن إنساناً -مثلاً- عليه خمسة أيام من رمضان الماضي وفرط فيها، ولم يتفرغ إلا في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من شعبان تحتم عليه أن يصوم الخمسة الباقية؛ لأنها من تمام فرضه للعام الماضي؛ لأنه إذا فرط حتى جاءه رمضان الثاني اعتبر مفرطاً، وألزم بالكفارة مع القضاء، والكفارة صيام أيامه التي ترك وإطعام مساكين بعدد أيامه.

فلو قدر -مثلاً- أنك أفطرت خمسة أيام من رمضان، ثم تفارطت الأيام وتتابعت الأشهر وأنت ما صمت، فجاءك رمضان الثاني وأنت ما صمت، فصمت رمضان الثاني والخمسة باقية عليك من الأول فماذا تفعل؟ عليك صيامها بعد رمضان، وعليك إطعام خمسة مساكين جزاءً لتفريطك وتأخيرك.

فنقول: يجوز لمن عليه صيام واجب أن يصوم آخر شعبان، ولو كان اليوم الذي يليه رمضان، وهكذا لو نذر أياماً وافق أنها آخر شعبان فإنه يصومها؛ لأن صيام النذر واجب.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع