شرح عمدة الأحكام [17]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [باب المرور بين يدي المصلي:

عن أبي جهيم عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يدي المصلي)، قال أبو النضر : لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة؟ رواه البخاري .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان).

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان -وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين بعض الصف، فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليّ، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).

الحكمة من النهي عن المرور بين يدي المصلي

هذه الأحاديث تتعلق بالمرور بين يدي المصلي، وفيها ما يدل على أنه ذنب وأنه كبيرة من الكبائر؛ وذلك لأن المصلي عندما يكبر فإنه يشتغل بمناجاة ربه، ويقبل على صلاته بقلبه، وينظر إلى موضع سجوده، ويفرغ لذلك باله، ويتأمل فيما يقوله وفيما يفعله؛ فلأجل ذلك يندب أن يكون حاضر القلب خاشعاً ذليلاً مقبلاً على عبادته، مبتعداً عن كل شيء يشغله عن العبادة.

ولأجل هذا نهي أن يستقبل أشياء تصرف قلبه عن العبادة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي مرة وأمامه ستر -يعني: كساء- فيه شيء من النقوش فقال لـعائشة : أنيطي عني قرامك، فإني إذا نظرته ذكرت الدنيا) يعني: إذا نظرت ذلك القرام وما فيه من تلك النقوش ونحوها تذكرت الدنيا.

ومرة صلى وعليه حلة أو كساء، فلما صلى وانصرف قال لبعض أصحابه: (اذهبوا بسترتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم ؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فجعل العلة أنها ألهته عن صلاته، يعني: كأنه نظر إليها فاشتغل قلبه بها، ومطلوب من المصلي أن لا يشغل قلبه بغير ما هو فيه، حتى يكتب له أجر صلاته كاملة.

حقيقة الوقوف واستشعار إثم المرور بين يدي المصلي

في الحديث: أن الذي يمر بين يدي المصلي عليه إثم، وهذا الإثم لم يصرح به، ولكنه دل عليه بكونه لو وقف هذه المدة لكان خيراً له من المرور بين يدي المصلي.

لم يحفظ الراوي تحديد المدة إلا أنها أربعون، يقول: (لو يعلم ما عليه من الإثم)، يعني: ما عليه من الوزر وما عليه من الذنب، (لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه)لم يقل: أربعين سنة أو أربعين شهراً أو أربعين يوماً، قد تكون واحدة منها، كيف لو وقف أربعين يوماً ماذا تكون حالته؟! كأنه يقول: لو علم أنه يأثم هذا الإثم الكبير لآثر أن يقف في مكانه أربعين يوماً؛ ينتظر فراغ هذا المصلي، بل لو وقف أربعين ساعة لتحسر من ذلك!

ليته يقف ولو أربعين دقيقة.. ليته يقف ولو عشر دقائق حتى يفرغ هذا المصلي، ليته يقف ولو أقل من ذلك بقدر ما يفرغ المصلي من صلاته، وبكل حال فعلى الداعية أن يخبر من يريد المرور بين يدي المصلي أن عليه إثماً وأن وقوفه أفضل له، قل له: قف بضع دقائق حتى يفرغ أخوك من صلاته، وذلك لا يفوت عليك شيئاً ولا تمر بينه وبين سترته، ولا تمر بين يديه فتشغل قلبه، وتقطع عليه تفكيره، وتقطع عليه إقباله على ربه، دعه يكمل صلاته وانتظر قليلاً، فإما أن تصلي كما يصلي حتى تفرغ مع فراغه، وإما أن تنتظر حتى ينتهي من صلاته، هؤلاء الذين يتخللون الصفوف كثيراً ويمرون بين يدي المصلي، ساعة ما ينصرف أحدهم من صلاته، أو ساعة ما يفرغ من راتبته، يتسلل أمام من يتم صلاته كمسبوق، أو من قد شرع في النافلة، فيمر بينه وبين موضع سجوده، وبينه وبين موضع سترته، فيلحقه هذا الإثم الكبير الذي ذكر في هذه الأحاديث، ولو علم مبلغ هذا الإثم وعلم مقداره لآثر الوقوف، ولفضل أن يقف أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، ولكنه لم يتصور.

فالحاصل أن عليه إثماً كبيراً؛ ولذلك يكون هذا المرور كبيرة من كبائر الذنوب التي يعاقب عليها، ولا تكفر مع الصغائر، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، وقد ذكر العلماء تعريف الكبيرة فقالوا: الكبيرة ما ورد فيها وعيد، وهذا الفعل قد ورد فيه وعيد، والوعيد إما أن يكون وعيداً بلعنة، أو وعيداً بغضب، أو وعيداً بعذاب، أو وعيداً بنفي إيمان، أو وعيداً بإثم، أو ما أشبه ذلك، فهذا ورد فيه هذا الوعيد الذي هو إثم، فيكون بذلك من كبائر الذنوب.

حكم السترة وتشبيه المار بين يدي المصلي بالشيطان فيدفع

المطلوب من المصلي أن يضع أمامه سترة تستره، حتى إذا مر الناس وراء السترة لم يردهم ولم يضروه، ومطلوب منه أن ينظر إلى موضع جبهته، وإذا لم يتيسر له سترة فليقترب من الحائط الذي أمامه، وإذا اتخذ سترة دنا منها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين) يعني: معه الشيطان.

ووقع ذلك أيضاً في حديث أبي سعيد الذي ذكر في هذا الباب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا كبر في الصلاة أن يتخذ له شيئاً يستره، فإذا أراد أحد أن يمر بين يديه فعليه أن يدفعه بقوة، ولو أدى ذلك الدفع إلى أنه يسقط ولو أدى إلى قتاله، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) أو: (فإن معه القرين)، والقرين هو الشيطان، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38] يعني: أن الشيطان هو الذي يدفعه إلى أن يمر، فلذلك شبهه بأنه شيطان، فقال: (إنما هو شيطان) لو قيل لهذا المار: إنك شيطان، أو إن معك شيطاناً لغضب، والنص وارد بأن معه الشيطان الذي يدفعه حتى يخل بصلاة المصلين وحتى ينقصها.

المقاتلة المأمور بها لمن يمر أمام المصلي هي المضاربة

علينا أن ننبه هؤلاء الذين يمرون بين يدي المصلي ونأخذ على أيديهم، وقد ابتلي هؤلاء بعدم صبرهم وبكثرة مرورهم، فيكون سبباً في وقوعهم في هذا الإثم، والناس قد غفلوا عنهم، فلا ينكر أحد على من يمر بين يديه، بل يتركه يمر بين يديه ولا ويبالي، وكأنه لن يمتثل هذا الحديث.

أنت مأمور بأن تدفعه ما استطعت؛ حتى لا ينقص عليك صلاتك، ومأمور بأن تخبره بأنه شيطان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال العلماء: لو قدر أنك دفعته بقوة فسقط فحصل له عيب أو انكسر منه عضو فلا إثم عليك؛ وذلك لأنك مأمور بهذا الدفع، فحتى لو حصل له تلف لن يكون عليك بأس؛ لأنك مأمور بأن تقاتله.

والمقاتلة: هي المضاربة فقوله: (فليقاتله) يعني: فليضاربه، فيفعل المصلي ذلك ولو مشى قليلاً أو تحرك قليلاً؛ فكل ذلك لأجل إنكار المنكر، وللزجر عن اقتراف هذا الفعل الذي يخل بالصلاة وينقصها.

هذه الأحاديث تتعلق بالمرور بين يدي المصلي، وفيها ما يدل على أنه ذنب وأنه كبيرة من الكبائر؛ وذلك لأن المصلي عندما يكبر فإنه يشتغل بمناجاة ربه، ويقبل على صلاته بقلبه، وينظر إلى موضع سجوده، ويفرغ لذلك باله، ويتأمل فيما يقوله وفيما يفعله؛ فلأجل ذلك يندب أن يكون حاضر القلب خاشعاً ذليلاً مقبلاً على عبادته، مبتعداً عن كل شيء يشغله عن العبادة.

ولأجل هذا نهي أن يستقبل أشياء تصرف قلبه عن العبادة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي مرة وأمامه ستر -يعني: كساء- فيه شيء من النقوش فقال لـعائشة : أنيطي عني قرامك، فإني إذا نظرته ذكرت الدنيا) يعني: إذا نظرت ذلك القرام وما فيه من تلك النقوش ونحوها تذكرت الدنيا.

ومرة صلى وعليه حلة أو كساء، فلما صلى وانصرف قال لبعض أصحابه: (اذهبوا بسترتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم ؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فجعل العلة أنها ألهته عن صلاته، يعني: كأنه نظر إليها فاشتغل قلبه بها، ومطلوب من المصلي أن لا يشغل قلبه بغير ما هو فيه، حتى يكتب له أجر صلاته كاملة.