شرح كتاب التوحيد [37]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18].. الآية.

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].. الآية.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ( إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ).

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس )، رواه ابن حبان في صحيحه].

قال رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175])، هذا الباب يعبر عنه بباب الخوف.

ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، فإن الخوف عبادة من أجل العبادات وأفضل القربات التي يجب صرفها لله عز وجل، وصرف هذه العبادة لغير الله عز وجل شرك، ولهذا سيأتينا عند الكلام على أقسام التوحيد، أن من أقسام الخوف ما يكون شركاً أكبر، ومنه ما يكون شركاً أصغر، ومنه ما يكون بدعياً، كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ لأن المؤلف رحمه الله تعالى تكلم عن باب المحبة، ثم بعد ذلك تكلم عن الخوف، وذلك أن العبادة تقوم على أمرين: على الخوف، والمحبة، ففي المحبة امتثال الأوامر، وفي الخوف اجتناب النواهي، فالمناسبة ظاهرة بين البابين.

قال رحمه الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:175]، إنما: هذه أداة حصر، والشيطان: علم على إبليس، أعاذنا الله من شره، والحصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما سواه.

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، يعني: يخوفكم بأوليائه، ويوهمكم بأنهم ذوو قوة وبأس.

فَلا تَخَافُوهُمْ [آل عمران:175]، يعني: لا تخافوا أولياء الشيطان، وإنما خافوا من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق أن يخاف منه.

وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، (إن): شرطية، إن كنتم مؤمنين فخافوني، فالله سبحانه وتعالى اشترط للإيمان أن يكون الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأن لا يُخاف أولياء الشيطان.

الشاهد من هذه الآية لما ترجم به المؤلف رحمه الله: قوله: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فإن الله سبحانه وتعالى اشترط للإيمان أن يكون الخوف منه سبحانه وتعالى.

وكذلك أنه لا يُخاف غيره سبحانه وتعالى، وإنما الخوف له سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].

وَمِنَ النَّاسِ [العنكبوت:10]، (من) هذه تبعيضية، يعني: بعض الناس.

مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [العنكبوت:10]، يعني: يدعي الإيمان بلسانه.

فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10]، يعني: أوذي من أجل الله، أوذي من أجل إيمانه، أوذي من أجل عمله الصالح.

جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ [العنكبوت:10]، يعني: جعل أذاهم ونيلهم منه مما يكره وما يحصل له منهم كعذاب الله، بمعنى: أنه فرّ من أذاهم إلى الارتداد عن دينه، فرّ فوقع في عذاب الله عز وجل.

فقوله: كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، يعني: ما يناله من الأذى بسبب تمسكه بدينه كعذاب الله الذي يناله بسبب ردته، ففر من أذى الناس إلى الوقوع بعذاب الله عز وجل فارتد عن دينه، يعني: فرّ من ألم أذى الناس إلى ألم عذاب الله، فوقع في الردة. نسأل الله السلامة!

وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:10]، هذا تمام الآية.

الشاهد من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى ذم من هذه صفته، الذي يخاف من الناس، ويخاف من أذاهم، فيخاف من غير الله عز وجل بسبب الإيمان، فذمه الله عز وجل على هذا العمل، فالواجب عليه أن يصبر، فالخوف من الناس بسبب الإيمان من جملة الخوف من غير الله عز وجل، فهذا مذموم، يعني: كونه يخاف من الناس وأنه سيحصل له أذى بسبب إيمانه هذا الخوف خوف مذموم؛ لأنه خوف من غير الله عز وجل.

قال رحمه الله: (وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]).

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:18]، يعني: آمن بالله وأقام الصلاة وجمع بين الكمالات العلمية والعملية، العلمية بالإيمان، والعملية بالصلاة، وآتى الزكاة.

وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]، الخشية هي الخوف المقرون بالعلم.

الشاهد من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]، فالله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يخافون من الله سبحانه وتعالى وحده، ووصفهم بأنهم عمار المساجد، هم الذين يعمرون المساجد بالعبادة والطاعة، فدل ذلك على أن الخوف من الله عز وجل هو الخوف المأمور به.

وكما تقدم لنا أن الله سبحانه وتعالى إذا أثنى على عبد في القرآن بخير فإنه يطلب منا أمران: محبته، والتأسي به في هذه الخصلة التي استحق بها الثناء بالخير من الله سبحانه وتعالى.

وقال الله عز وجل في تمام الآية: فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، يعني: المتصفون بهذه الصفات أولئك هم المهتدون، و(عسى) كما يقول العلماء من الله واجبة، فالذين يتصفون بهذه الصفات هم المهتدون، فدل ذلك على الأمر بالخوف من الله عز وجل وحده دونما سواه، وأنه يجب صرف هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، وإخلاص الخشية له سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله تعالى: (وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ( إن من ضعف اليقين ) )، الضعف ضد القوة والصحة.

( أن ترضي الناس بسخط الله )، يعني: أن تؤثر رضا الناس على رضا الله عز وجل.

( وأن تحمدهم على رزق الله )، يعني: أن تشكرهم وأن تثني عليهم على رزق الله، يعني: هو من رزق الله وعطائه، فما وصل إليك على أيديهم إنما هو من الله سبحانه وتعالى، فالواجب أن تثني وأن تحمد وأن تشكر الله عز وجل، وتضيف النعم إلى الله عز وجل، وأنك لا تنسى المنعم والمتفضل الحقيقي الذي هو الله عز وجل.

وسيأتينا إن شاء الله باب مستقل بوب له المؤلف رحمه الله في ما يتعلق بإضافة النعم إلى غير الله عز وجل، ومتى تكون شركاً ومتى لا تكون شركاً.

قال: ( وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله )، يعني: إذا طلبت منهم شيئاً فمنعوك ذممتهم على ذلك، فكونك تقوم بذمهم الله عز وجل لم يقدر هذا، فهذا من ضعف اليقين.

( إن رزق الله )، يعني: عطاء الله، وهذه الجملة تعليل لما سبق.

( لا يجره )، يعني: لا يأتي به.

( حرص حريص )، الحرص: هو شدة الطلب.

( ولا يرده كراهية كاره )، يعني: رزق الله عز وجل لا يرده حسد حاسد، فهذا تعليل لما تقدم.

والشاهد من هذا قوله: ( أن ترضي الناس بسخط الله )، وأن هذا من ضعف اليقين، وهذا يدل على عدم تعلق القلب بالله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر، وعلى عدم خوفه وخشيته، فلو كان يخاف الله ويخشاه ما أرضى الناس بسخط الله عز وجل، بل يسخط الناس برضا الله عز وجل، فدل ذلك على أنه مذموم، وأن الواجب ضده: أن تسخط الناس برضا الله، وأن تخاف الله عز وجل، فدل ذلك على وجوب الخوف من الله سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب التوحيد [18] 2633 استماع
شرح كتاب التوحيد [22] 2370 استماع
شرح كتاب التوحيد [10] 2286 استماع
شرح كتاب التوحيد [36] 2244 استماع
شرح كتاب التوحيد [8] 2178 استماع
شرح كتاب التوحيد [19] 2167 استماع
شرح كتاب التوحيد [6] 2043 استماع
شرح كتاب التوحيد [29] 2021 استماع
شرح كتاب التوحيد [7] 1877 استماع
شرح كتاب التوحيد [27] 1825 استماع