شرح كتاب التوحيد [26]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولــمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ( إني أبرأ الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ).

فقد نهى عنه وهو في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله، والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: ( خشي أن يتخذ مسجداً ). فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).

ولـأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ). ورواه أبو حاتم في صحيحه ].

تقدم لنا أن من أسباب الشرك هو عبادة الله عز وجل عند القبور، وتقدم لنا أن عبادة الله عز وجل عند القبور لا تخلو من ثلاثة أقسام، وبينا حكم كل قسم.

قال: ولــمسلم عن جندب بن عبد الله قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ) يعني: بخمس ليال، وقيل: خمس سنين.

( وهو يقول: إني أبرأ ) أي: أمتنع وأنكر.

( إلى الله أن يكون لي منكم خليلاً ) الخليل: هو المحبوب غاية المحبة الذي تخللت محبته القلب.

( ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذ أبا بكر خليلاً ) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبرأ من أن يكون له خليل من هذه الأمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اتخذه خليلاً كما أنه اتخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلاً.

قال: ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ) يعني: مواضع للعبادة.

( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ) يعني: مواضع للعبادة.

( فإني أنهاكم عن ذلك ) في هذا أن من أسباب الشرك هي عبادة الله عز وجل عند القبور، وسواء كان هذا القبر لرجل صالح أو كان غير صالح، المهم أن نفهم أن عبادة الله عز وجل وتحري العبادة -قصدها- عند القبر أنه سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وهو شاهد لما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى، وأن اتخاذ القبور مساجد إنما هو فعل أهل الكتاب، ونحن قد نهينا عن أن نسلك مسالكهم وأن نتبع سننهم.

قال رحمه الله تعالى: (فقد نهى عنه) هذا الكلام من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال: (فقد نهى عنه وهو في آخر حياته) كما في حديث جندب رضي الله تعالى عنه.

(ثم إنه لعن وهو في السياق) يعني: في سياق الموت، كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

(من فعله، والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد) يعني: فعل الصلاة عند القبر من اتخاذ القبر مسجدا، يعني: اتخاذ القبر مسجدا له معنيان:

المعنى الأول: معنى عام، وهو تحري العبادة عند القبور؛ فهذا من اتخاذها مساجد.

ومعنىً خاص: وهو بناء المسجد على القبر، وكلا الأمرين سبب من أسباب الوقوع في الشرك.

قال: (وهو معنى قولها: ( خشي أن يتخذ مسجداً ). فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً).

فهل مقصود نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد: المعنى العام أم المعنى الخاص؟

كلام شيخ الإسلام هنا أراد أن يبين لك أنه المعنى العام، وأن قصد العبادة عند القبور أنها من اتخاذ القبور مساجد التي تكون سبباً من أسباب الوقوع في الشرك، بدليل أن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، قطعاً الصحابة ما كانوا سيبنون مسجداً، فدل على أن المقصود بذلك: هو المعنى العام، وأن قصد العبادة عند القبور أنه من اتخاذ القبر مسجداً.

قال: (وكل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فالأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها، وهذا بالمعنى العام وليس بالمعنى الخاص، أما المعنى الخاص فالمسجد: هو الموضع المبني المهيأ لإقامة الصلوات.

قال رحمه الله تعالى: (ولـأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ( إن من شرار الناس ) من: هذه تبعيضية.

( من تدركهم الساعة ) ساعة القيامة.

( وهم أحياء ).

فقوله عليه الصلاة والسلام: ( من تدركهم الساعة ) يحتمل أن المراد تقوم عليهم الساعة حقيقة، ويحتمل أن المراد: يدركون علامات الساعة ومقدماتها، يعني: يدركون مقدمات الساعة وعلاماتها، كخروج الدابة، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها.

فإن قلت: كيف الجمع بين هذا الحديث وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله

الجواب: إما أن نقول بأن (من) هذه تبعيضية، يعني: أن من شرار الناس، ولا يشمل جميع الناس.

أو نقول بأن المؤمنين يقبضون، الذين يكونون على الحق يقبضون قبل قيام الساعة.

قال رحمه الله: ( والذين يتخذون القبور مساجد ) معنى ذلك يتخذونها بالمعنى العام، أي: أنهم يقصدونها لأداء العبادة، أو أن المعنى يشمل الأمرين: المعنى الخاص -بناء المساجد عليها- أو المعنى العام، وهو قصدها للعبادة.

وفي هذا أن عبادة الله عز وجل عند القبر سواء كان لصالح أو لغير صالح هو من اتخاذ القبر مسجداً، وأنه سبب من أسباب الوقوع في الشرك.

وقوله: ( شرار الناس )، جمع شر، وأفعل تفضيل، يعني: أصحاب شر.

قال: (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله).

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أراد المؤلف رحمه الله تعالى أيضاً أن يبين سبباً آخر من أسباب الوقوع في الشرك، فمن أسباب الوقوع في الشرك: الغلو في قبور الصالحين، كما أن من أسباب الشرك كما تقدم عبادة الله عز وجل عند القبور أو عند قبر رجل صالح.

وكذلك من أسباب الشرك: الغلو في الصالحين، كذلك السبب الثالث: الغلو في القبور، الغلو في القبور، وسيذكر أيضاً المؤلف رحمه الله باباً للتصوير، وأن التصوير أيضاً سبب من أسباب الشرك، وتقدم لنا تعريف الغلو.

ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن الباب الذي قبله في بيان سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وهذا الباب أيضاً في بيان سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وهو الغلو في قبور الصالحين. وتقدم لنا تفسير الغلو، وتقدم لنا أيضاً تفسير الصالحين، وأن الصالحين جمع صالح، وهو من قام بحق الله أو من قام بحق عباد الله.

قال: ( يصيرها أوثاناً ) الأوثان: جمع وثن، وهو كل ما عبد من دون الله عز وجل، تقدم لنا الفرق بين الوثن وبين الصنم.

قال: ( تعبد من دون الله ) يعني: سوى الله عز وجل.

ونفهم أن القبور من المواضع التي يتبرك بها، والبركة في القبور بركتان:

البركة الأولى: بركة مشروعة، وهي انتفاع الزائر والمزور، أما الزائر فينتفع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة ). فالزائر ينتفع بتذكر الآخرة، وأنه سيكون عما قريب جثة هامدة مرتهن بعمله كصاحب هذا القبر، فينتفع الزائر بالتذكر، والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم... إلى آخره.

والمزور -صاحب القبر- ينتفع بالدعاء، بزيارته والدعاء له.

هذه هي الزيارة الشرعية، وهذه هي البركة الشرعية.

القسم الثاني: بركة بدعية، وزيارة بدعية، وهذه الزيارة البدعية تتضمن صوراً، من هذه الصور: الذهاب إلى القبور والصلاة عندها، ومن هذه الصور: الاعتكاف يعني: إطالة الإقامة عندها.

ومن هذه الصور:

أن يتحرى أن يتصدق عند القبر، أو أن يقرأ عند القبر، أو أن يذكر الله عز وجل عند القبر معتقداً فضيلة هذه العبادة، هذه كلها من الزيارة البدعية ومن البركات البدعية.

ومن صور ذلك: أن يتمسح بصاحب القبر ونحو ذلك، ومن صور ذلك أيضاً: ما قد يكون شركاً أكبر، كدعاء أصحاب القبور والذبح لها والاستغاثة وسؤالها تفريج الكربات ونحو ذلك، هذا كله شرك أكبر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم.