شرح كتاب التوحيد [25]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولـمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلك المتنطعون. قالها ثلاثاً ).

باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده.

في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: ( أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله ). فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.

ولهما عنها قالت: ( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذرا ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ). أخرجاه ].

قال رحمه الله تعالى: (ولـمسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً ).

قوله: ( هلك ) يشمل الهلاك المعنوي والهلاك الحسي، وتقدم بيان معنى هذين الهلاكين.

وقوله: ( المتنطعون ) يعني: المتعمقون في الشيء من كلام أو عبادة أو غير ذلك، يعني: التعمق في الشيء سواء كان كلاماً أو عبادة... إلى آخره؛ هذا سبب للهلاك.

قال: ( قالها ثلاثاً ) ثلاث مرات، مبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التبليغ والإعلام.

في هذا الحديث أن الغلو في الصالحين سبب للهلاك؛ إذ إنه من التنطع، كون الإنسان يغلو في صالح من الصالحين هذا تنطع، وإذا كان كذلك فإنه سبب للهلاك، وحينئذٍ يجب على المسلم أن يتركه؛ لكونه سبباً من أسباب الهلاك.

وفيه: أن الغلو في الصالحين من التنطع، والتنطع سبب للهلاك.

قال: (باب ما جاء من التغليظ) يعني: التشديد.

(فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده).

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن فيه ذكر سبب من أسباب الوقوع في الشرك وهو: عبادة الله عز وجل عند قبر رجل صالح؛ لأن كونه يعبد الله عز وجل عند قبر رجل صالح قد يفضي به ذلك إلى الوقوع في الشرك وصرف شيء من أنواع العبادة لهذا الرجل الصالح.

وقوله رحمه الله: (فيمن عبد الله)

عبادة الله عند القبور تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الصلاة، فالصلاة عند القبور محرمة ولا تجوز، ويدل لذلك حديث أبي مرثد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا إلى القبور ).

وأيضاً ما ذكره المؤلف رحمه الله من حديث عائشة وأم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ). والصلاة باطلة لا تصح، فالصلاة عند القبر محرمة ولا تجوز وباطلة ولا تصح للنهي، وهي من أسباب الوقوع في الشرك.

القسم الثاني: الاعتكاف -يعني: إطالة المكث والاعتكاف عند القبر ونحو ذلك- أيضاً حكمه حكم الصلاة، نقول بأن هذا محرم ولا يجوز، وهو من أسباب الوقوع في الشرك.

القسم الثالث: الصدقة وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك؛ فهذا فيه تفصيل:

إن تحرى فعل العبادة في هذا المكان -يعني: قصد فعل العبادة في هذا المكان- واعتقد فضل هذه العبادة فنقول بأن هذا حكمه أنه لا يجوز، وهو بدعة.

والقسم الثاني: أن لا يتحرى فعل العبادة في هذا المكان، وإنما جاء تبعاً أو لكونه طارئاً طرأ عليه أن يقرأ القرآن أو أن يتصدق على شخص فقير وجده عند القبر أو ذكر الله أو سبح ونحو ذلك أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر... إلى آخره، فنقول بأن هذا ليس بدعة، هو كسائر المشروعات.

قال: (عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده).

ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد هو كما تقدم في الباب السابق أن المؤلف ذكر سبباً من أسباب الشرك، وهنا أيضاً ذكر سبباً آخر من أسباب الشرك.

في الصحيح عن عائشة : ( أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة ) الكنيسة: هي متعبد النصارى أو معبد النصارى، وكان هذا الذكر للنبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته عند موته.

( رأتها بأرض الحبشة ) لما هاجرت.

( وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ) (أو): هذه شك من الراوي، و(أولئك) بالكسر والفتح -أولئكَ وأولئكِ- بالكسر خطاب للمرأة.

( الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجداً ) يعني: موضعاً للعبادة.

( وصوروا فيه تلك الصور ) يعني: التي ذكرتها أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

( أولئك شرار الخلق عند الله ) يعني: أن هؤلاء شرار الخلق عند الله عز وجل؛ لكونهم أشركوا بالله عز وجل، كونهم بنوا هذا المسجد للعبادة هذا وقوع في الشرك.

(فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل) قوله: (فهؤلاء) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

(جمعوا بين فتنتين) يعني: بين أمرين منهيين محذورين: (فتنة القبور) بأن اتخذوها مساجد، فبنوا عليها مواضع للعبادة.

(وفتنة التماثيل) كونهم صوروا تلك الصور التي تؤدي إلى الشرك.

تقدم لنا في قوم نوح أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق أسماء رجال صالحين، وأنهم عندما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا أنصاباً وأن يسموها بأسمائهم وأن يصوروها على أشكالهم لكي يتذكروا عبادتهم، فلما طال الزمن أوحى الشيطان إلى من بعدهم بأن من سلفهم كانوا يعبدونها فعبدوها، فهؤلاء جمعوا بين هذين المحذورين: فتنة القبور: الغلو فيها بحيث بنوا عليها هذه المساجد ووضع العبادة، وفتنة التماثيل: أنهم صوروا هذه التماثيل.

مناسبة هذا الحديث لما ترجم به المؤلف رحمه الله على المنع من عبادة الله عند القبور بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بنوا على قبره مسجداً ) فيه المنع من عبادة الله عند القبور؛ لأن ذلك مما يؤدي إلى الشرك، مما يكون وسيلة إلى الشرك وهو من فعل النصارى.

قال رحمه الله تعالى: (ولهما) أي: البخاري ومسلم .

قالت: ( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ) عنها يعني: عن عائشة .

قالت: ( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ) يعني: نزل به ملك الموت لقبض روحه عليه الصلاة والسلام.

( طفق ) يعني: جعل.

( يطرح خميصة له على وجهه ) الخميصة: كساء لها أعلام، يعني: لها خطوط.

( فإذا اغتم ) يعني: احتبس نفسه عن الخروج.

( كشفها ) أبعدها عن وجهه.

( فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى ) اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعاء بالطرد والإبعاد عن رحمة الله.

فقوله: ( لعنة الله على اليهود والنصارى ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالطرد والإبعاد، أن الله يطردهم ويبعدهم عن رحمته.

قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يعني: أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد يعني: مواضع للعبادة.

( يحذر ما صنعوا ) هذا كالتعليل لما سبق، لكي يحذر أن يعبد الله عز وجل عند القبر؛ لأن قصد العبادة عند القبر هو من اتخاذ القبر مسجداً.

( يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره ) يعني: لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم مما صنعوا ولعنه من فعله أبرز قبره، يعني: لدفن النبي صلى الله عليه وسلم خارج بيته.

( غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدم إبراز قبره خشية أن يتخذ قبره مسجداً، أو أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خشوا أن يتخذ قبره مسجداً، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.

قال: (أخرجاه) يعني: أخرجه البخاري ومسلم .

مناسبة الحديث لما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى: أن هذا الحديث فيه المنع من عبادة الله عند القبور؛ لأن ذلك يفضي إلى الشرك، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يعني: أنهم عبدوا الله عز وجل عند قبور أنبيائهم، ومع ذلك لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا وسيلة إلى الوقوع في الشرك.

والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب التوحيد [18] 2633 استماع
شرح كتاب التوحيد [22] 2370 استماع
شرح كتاب التوحيد [10] 2286 استماع
شرح كتاب التوحيد [36] 2244 استماع
شرح كتاب التوحيد [8] 2177 استماع
شرح كتاب التوحيد [19] 2166 استماع
شرح كتاب التوحيد [6] 2043 استماع
شرح كتاب التوحيد [29] 2021 استماع
شرح كتاب التوحيد [7] 1877 استماع
شرح كتاب التوحيد [27] 1823 استماع