حادثة أصحاب الفيل ودلالاتها


الحلقة مفرغة

الحمد لله القوي العزيز، أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [النجم:50-55]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رد أصحاب الفيل وجعل كيدهم في تضليل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله! أوصيكم ونفسي بلزوم تقوى الله، فلباسها خير لباس، وأصحابها في جنات ونهر.

بالتقوى يجعل الله من كل ضيق مخرجاً، ويرزق من حيث لا يحتسب المرزوق، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].

عباد الله! سورة في كتاب الله قليل آيها، كبير حدثها، عظيم مدلولها، تنبئ عن نهاية الظلم وهلاك المتكبرين، لا بسلطان البشر وقوتهم، ولكن بقوة الله وحده، تؤكد أنه لا قوة فوق قوة الله، وأن القوى الظالمة مهما تجبرت وطغت فنهايتها الفناء.

أخرج الحاكم وصحح قصة أصحاب الفيل، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أقبل أصحاب الفيل معهم الفيل، حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لملكهم: ما جاء بكم إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ قال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، فقال عبد المطلب: إن هذا بيت الله تعالى لم يسلط عليه أحداً قال: لا نرجع حتى نهدمه، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب فقام على جبل، فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت، ثم قال:

اللهم إن لكل إله حلالاً فامنع حلالك

لا يغلبن محالهم أبداً محالك

اللهم فإن فعلت فأمر ما بدا لك

فلما انتهى الجيش إلى قريب من الحرم برك الفيل، وحبسه عن مكة، فأبى أن يدخل الحرم، فإذا وجه راجعاً أسرع راجعاً، وإذا وجه على الحرم أبى، وجعل الله كيدهم في تضليل، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر طير صغار بيض أبابيل، لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، في أفواهها حجارة أمثال الحمص سوداء بها نضح حمرة، في منقار كل واحد منها حجر وحجران في رجلين، فأقبلت حتى أظلتهم، فجعلت ترميهم بها، ولا تصيب شيئاً إلا هشمته، فجعل الفيل يعج عجاً، فجعلهم الله كعصف مأكول، لا يقع منها حجر على أحد إلا تفطر مكانه.

وأرسل الله سيلاً فذهب بهم وألقاهم في البحر، وبقي خزف الفيل أخضر محيلاً بعد عام، وكان يقف عليه البعض ينظر إليه وفي فجر ذلك اليوم العظيم الذي رد الله فيه كيد أصحاب الفيل ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

عباد الله! لقد كانت حادثة الفيل تقدمة بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرهاصاً ومقدمة لبعثته، وما سيكون من شأنه في هذا البلد الحرام.

قال ابن القيم رحمه الله: وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيراً من دين أهل مكة إذ ذاك؛ لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصراً لا صنع للبشر فيه، إرهاصاً وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، وتعظيماً للبيت الحرام. اهـ.

وكانت حادثة الفيل آية من آيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ودليلاً على نبوته، كيف وقد نزل عليه الوحي من ربه يخبره عن هذه القصة الواقعة، ويؤكد لأهل مكة ما قد رأوه بأعينهم؟

قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله؛ لأنها كانت توكيداً لأمره، وتمهيداً لشأنه.

عباد الله! تؤكد حادثة الفيل أن القوة جميعاً لله، وأن قوى البشر مهما بلغت تتضاءل أمام قوة الله، كما تكشف الحادثة عن ضعف البشر مهما تجبروا وأتوا من قوة أمام قوة الله عز وجل.

لقد أرعد وأزبد أبرهة وأقسم ليهدمن الكعبة، وليصرفن العرب في الحج إلى الكنيسة القليس التي بناها في صنعاء، وكتب إلى سيده في الحبشة يقول: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم تبنى مثلها، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب.

وحين احتملت الحمية واحداً من العرب، فذهب إلى هذه الكنيسة وأحدث فيها ما أحدث، استشاط أبرهة غضباً، وشكل جيشاً عظيماً تقدمه الفيلة، قال بعض المفسرين: اثنا عشر فيلاً، وزاد من غيظه أنه حين بعث إلى بني كنانة قبيلة الرجل الذي أحدث في الكنيسة يطلب منهم الحج إلى كنيسته قتلت بنو كنانة رسوله، فتجهز النصارى وساروا بقيادة أبرهة بجيش عرمرم، فتسامعت العرب بمخرجه، فعظموا بيت الله، ورأوا قتاله والتصدي له، وإن كانوا أقل منهم شأناً، وتعرضوا له بالحرب، ولكنه أوقع فيهم وانتصر عليهم، حتى بلغ قريباً من مكة، وانتهت دونه الحماية البشرية، ولم تبق إلا قوة الله عز وجل، ولم يبق من ناصر أو معين قادر على دفع الظالمين إلا الله عز وجل.

وأنى لقريش مع ضعفها أن تصمد لجيش حطم من قبلها؟ وكان من عقل عبد المطلب أن يطلب من قومه الخروج من جوار الكعبة؛ إذ لا قبل له بـأبرهة وجيشه، ويقول قولته المشهورة: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، وأن توكل حماية البيت إلى ربه الآمر ببنائه، وقد كان، فجاءت جنود الله تحمل العذاب الأليم لهؤلاء المستكبرين، وكانت النهاية لهؤلاء القوم.

وقد سبقتها قوى حطمت، وقرى أهلكت، وديار أطلالها موحشة تحكى قصتها، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] أي: ما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه وأدلة توحيده وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل:2] أي: في خسارة.

وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3] أي: جماعات متفرقة، تحمل حجارة مطبوخة.

مِنْ سِجِّيلٍ [هود:82]: أي: من طين، فرمتهم وتبعتهم، فصاروا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5] أي: كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها.

اللهم عليك بالظالمين، اللهم أهلكهم كما أهلكت أصحاب الفيل.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

الحمد لله رب العالمين، ناصر دينه، ومعز أولياءه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نصره ربه بالرعب، فما لقيه أحد إلا هابه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.

عباد الله! لا تعني حادثة الفيل أن يتعطل المسلمون عن فعل الأسباب المشروعة لمقارعة الباطل وأهله، فالقرآن واضح بالأخذ بالأسباب، قال الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].

ولكنها تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما انتفش أصحابه، وتؤكد عدم اليأس من نصر الله حين يستضعف المسلمون إذا ما صدقوا مع ربهم.

كما تؤكد عدم الإحباط عند رؤية القوى الكبرى تبطش وتقهر، فربك للظالمين بالمرصاد، وهو يمهل ولا يهمل، وأخذه أليم شديد، وأمور الكون بيده، وهو واهب القوى، والقادر على نزعها لحكم قد يعلم البشر بعضها، وقد يخفى عليهم الكثير منها.

ومن دلالات حادثة أصحاب الفيل: أن الاعتقاد بتخليد قوة مهما بلغت وديمومتها ظن خاطئ يكذبه الواقع، وتشهد بخلافه سنة الكون، فأين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وأين فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]؟ وأين قارون الذي آتاه الله كنوزا عظيمة وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]؟ وأين أصحاب الحربين العالمية الأولى والثانية؟ وأين رءوس الشيوعية وقد أذن الله بسقوط دولتهم؟ كل هؤلاء أهلكوا وبادوا.

عباد الله! ومن دلالات حادثة الفيل: أن العرب لا شيء بدون الإسلام، فلم يكن لهم دور في الأرض أو شأن يذكر، فلم يستطيعوا حماية البيت، ولم يشأ الله أن يحمي بيته المشركون، ولكنه بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، تكون الكعبة قبلته، فعظم العرب هذا البيت المحمي من قبل الله، وزاد ذلك من تقدير العرب لقريش، حتى إذا بعث النبي منهم كانت حادثة الفيل إرهاصاً لمولده وبعثته.

وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور يؤدونه، وأصبحت لهم قوة، حملوا عقيدة إلى البشرية رحمة وبراً بها، ولم يحملوا قومية ولا عصبية، بل حملوا دين الله يعلمونه الناس، لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه.

فعودوا عباد الله إلى ربكم عز وجل، وتمسكوا بدينه، واعلموا أنكم لا شيء بدون دين الله عز وجل، والتمسك بهذه العقيدة التي جاءكم بها نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، تكن النصرة لكم، وأحسنوا الظن بالله عز وجل.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم.

اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في فلسطين، من كيد اليهود وبغيهم، اللهم ارحم ضعفهم، اللهم داو جريحهم، واشف مريضهم، وتقبل شهيدهم، يا أرحم الراحمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.