وقفات مع سورة (ق)


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة وموعظة للمؤمنين، وشفاءً لما في صدور العالمين، أحمده تعالى على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وبصر به من الغواية، وذكر به من الغفلة، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الذي كان خلقه القرآن، صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على ما هداكم للإسلام، وجعلكم من أهل القرآن، الآية الظاهرة، كتاب الهدى وسر السعادة، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، إن سعادة البشرية وصلاح البلاد والعباد، مرهون باتباع هذا الكتاب؛ فإنه كان للمسلمين قائداً وإماماً، فحصلت لهم سعادة الدارين ونجاة الحياتين.

ولو وقف المسلمون اليوم تحت راية القرآن، وتفيئوا ظلال دوحة الفرقان، لتبوءوا مكانة العز والشرف، ولو أنهم حافظوا عليه وعملوا بما فيه لأضاءت لهم المسالك، وتفتحت لهم المدارك، ولو أنهم تدبروا ووقفوا عند آياته؛ فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، لحققوا السعادة في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

وقد أنكر الله عز وجل على الذين أعرضوا عن كتابه فلا يتعظون ولا يتدبرون، قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كثرة موعظة الناس بهذا القرآن.

ومن ذلك: سنته صلى الله عليه وسلم في قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة، فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس).

وعملاً بهذه السنة سيكون لنا وقفات عند هذه السورة، فإنها سورة عظيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في خطبة الجمعة، ويقرأ بها في صلاة الفجر، وفي الأعياد والاستسقاء؛ لما لها من الشأن والمكانة.

إنها سورة عظيمة شديدة الوقع بأسلوبها وحقائقها، تأخذ بمجامع القلوب، وتهز النفوس هزاً، وتثير فيها الخوف من الله، وتوقظها من الغفلة.

عباد الله! لقد ابتدأ الله عز وجل هذه السورة بالإنكار على المكذبين المنكرين لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين للبعث والحساب بقولهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3]، فبين الله سبحانه أنهم لما كذبوا بالحق التبس عليهم الأمر فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] أي: في أمر مختلط، قد اختلفت عليهم الحقائق، وعميت عليهم السبل، وهكذا كل من حاد عن الحق تتقاذفه الأهواء، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك.

لقد جاء أول هذه السورة ليعالج قضية البعث وإنكار الكفار له، بأسلوب يذيب القلوب ويرققها، ويقيم الحجة على المعاندين، ويلفت أنظارهم إلى بديع خلق الله في الأرض والسموات والجبال والمطر والنبات، وأن هذه الأشياء من أعظم الأدلة الدالة على البعث كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، قال سبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:6-11]، فالله عز وجل الذي خلق السموات والأرض، وأحيا الأرض الميتة، وبدأ الخلق أول مرة، قادر على الإعادة.

ثم يُذكر الله عز وجل القلوب بمصارع الغابرين، وأحوال المكذبين الذين كذبوا الرسل والبعث، الذين حق عليهم وعيد الله بعذابه ونكاله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ [ق:12] إلى أن قال سبحانه: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] فهذا جزاء من عصى وتكبر، ولم يسلم لأمر الله عز وجل.

ثم يذكَّر الله عز وجل الإنسان بخلق الله له، وعلمه به، وقربه منه، وأنه سبحانه يعلم وساوس النفس وخلجات الضمير، فضلاً عن الظاهر المبين، قال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وفي هذا رقابة الله عز وجل على خلقه، وأنه مطلع على أعمالهم سامع لأقوالهم.

وقد أوكل الله عز وجل بكل إنسان ملكين يتلقيان أقواله وأعماله، فكل لفظة وكل كلمة مدونة عليه مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وهذا من أعظم الطرق إلى التوبة إذا استحضر الإنسان رقابة الله عز وجل، ورقابة الملكين عليه، فإنه بهذا يحيا قلبه، ويخاف من ربه.

ثم يُذكر سبحانه ابن آدم بالموت وسكراته، ثم مشهد الحساب وعرض الصحف، ثم مشهد جهنم -أعاذنا الله منها- قال الله سبحانه: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19] أي: شدة الموت وغمرته، إنها سكرة فراق الأهل والمال والمنصب، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أي: تهرب منه، ولكن لا مفر من الموت ولا مهرب، سنة كونية قدرية واقعة لا محالة.

ومن سكرة الموت إلى وهلة الحشر وهول الحساب، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:20-21] مع كل نفس ملكان، أحدهما يسوقها إلى المحشر، والآخر يشهد عليها.

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] كشفنا عنك غفلتك فبصرك اليوم قوي شديد.

ثم يذكر الله عز وجل بعد ذلك بحال السعداء والأشقياء، يقول سبحانه: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، يحضر الملائكة كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ [ق:24-25] أي: شاك في وعد الله ووعيده، فيقذفون مع كثرتهم في جهنم تباعاً، فتفتتهم ركاماً، ثم تنادى جهنم: هل امتلأت واكتفيت؟ ولكنها تجيب جواباً يروع القلوب، ويهز النفوس: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] أي: أنها تطلب المزيد من الجن والإنس.

فيا له من هول شديد يبعث أهل القلوب الحية على الأخذ بأسباب الوقاية منها!

ثم يذكر الله عز وجل حال السعداء: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35].

هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ [ق:32] أي: راجع وتائب إلى الله عز وجل، حَفِيظً [ق:32] أي: حافظ لأمر الله عز وجل وقائم به، حافظ لما نهاه الله عز وجل عنه، فعاقبته عاقبة السلام: ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ *(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:34-35] وهو النظر إلى وجه الرب عز وجل.

ثم تختم السورة بتأكيد ما سبق، ولكن بأسلوب جديد ليكون أكثر وقعاً وأشد تركيزاً، فتذكر مصارع الهالكين، وفيها الإشارة إلى بعض الحقائق الكونية، وفيها التذكير بحقيقة البعث والنشور، وفيها التذكير بوظيفة العبد في هذه الدنيا، وأن عليه أن يعبد الله عز وجل، وأن يكثر من تسبيحه ليلاً ونهاراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:37-45].

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، الذين يحلون حلاله، ويحرمون حرامه.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

عباد الله! ما سبق وقفات سريعة في سورة من أعظم سور القرآن، فأين القلوب التي تعي كلام الله وتتدبر آياته؟ أين الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]؟

والعجب كل العجب أن تكون القلوب -وهي مضغ من لحم ودم- أقسى من الجبال الرواسي والحجارة القاسية.

ألم يقل الله سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].

فما بال القلوب يا عباد الله لا تلين ولا تخشع عند سماع آيات كتابه؟! إنها دعوة للمسلمين جميعاً، ولا سيما حملة كتاب الله، أن يتدبروا كتاب الله، وأن يستلهموا ما فيه من العبر والعظات، وأن يقفوا عند عجائبه، فتتحرك به قلوبهم، يجب أن تربى الأجيال، وأن تنشأ الأسر على هذا المنهج السليم، تأسياً بسلف هذه الأمة رضي الله تعالى عنهم، بإخلاص واحتساب، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: لا تهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

أعيدوا لكتاب الله حقه، لقد كان بعض السلف يقوم الليل كله بآية واحدة من كتاب الله، يكررها ويبكي من خشية الله حتى الصباح.

فأين نحن من هذا المنهج السديد؟! أما الشاردون عن القرآن الغافلون عنه، اللاهون في أمور دنياهم، فليتقوا الله وليعودوا إليه ليرتووا وينهلوا من معينه، فهو علاج أمراض القلوب، وجلاء صداها بإذن الله.

لابد من التذكير لما لهذا الكتاب من المكانة، وما يجب على الطلاب والمدرسين وأولياء الأمور من مسئولية تجاهه؛ تلاوة وتدبراً وتطبيقاً وتربية، ليعمل الجميع قدر جهدهم على أن يكون لكتاب الله النصيب الأكبر والحظ الأوفر من الأوقات، ففي ذلك الفضل العظيم والخير العميم.

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام.

اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، اللهم احفظ المسلمين في فلسطين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم عليك بأعدائهم من اليهود الظالمين الغاصبين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، يا قوي يا عزيز!

اللهم فك أسر المأسورين، اللهم ردهم إلى أهليهم سالمين غانمين، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، وزيادة لحسناتهم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.