شرح سنن أبي داود [515]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في لزوم السنة.

حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في لزوم السنة]، أي: ملازمتها والثبات عليها والأخذ بها، وعدم التهاون والتفريط بشيء منها.

أورد أبو داود رحمه الله حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إني أوتيت الكتاب) أي: القرآن، فهو كتاب الله عز وجل المتعبد بتلاوته، والعمل به.

(ومثله معه): وهي السنة، ومن المعلوم أن كلاً من الكتاب والسنة وحي من الله عز وجل، وأن كل ما يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام فهو من عند الله، سواء كان قرآناً أو سنة، وليس الوحي مقصوراً على القرآن بل السنة هي أيضاً وحي؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء أو كل ذنب -إلى أن قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) أي: نزل عليه جبريل واستثنى الدين، فقوله (سارني به جبريل آنفاً) هذا يدل على أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل.

فالقرآن وحي والسنة كذلك، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فمتعبد بالعمل بها ولا يتعبد بتلاوتها كما يتعبد بتلاوة القرآن، فالقرآن يقرأ به في الصلاة ويقرأ به في جميع الأوقات، والسنة ليست كذلك، ولكن حكمهما من حيث العمل، فالكل يجب اتباعه والعمل بما جاء فيه.

ومن لم يؤمن بالسنة لن يؤمن بالكتاب، ومن كفر بالسنة فهو كافر بالقرآن، إذ الله سبحانه يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فالمنكِر للسنة هو منكر للقرآن، والمكذب بالسنة مكذب بالقرآن، والكتاب والسنة متلازمان، فكل منهما يجب العمل والأخذ به، ولا يمكن أن يقال: إنه يمكن أن يستغني الإنسان بالقرآن عن السنة، ولو كان الأمر كذلك لما استطاع الناس أن يصلوا، ولما استطاعوا أن يزكوا، فالصلاة لم تُعرف أوقاتها ولا ركعاتها ولا هيئاتها وكيفياتها إلا بالسنة، فلا يوجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات، ولا أن العصر أربع ركعات، ولا أن المغرب ثلاث ركعات، ولا أن الفجر ركعتان، والعشاء أربع ركعات، فهذا لا وجود له في القرآن، فالإنسان الذي يقول: إنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، نقول له: كيف ستؤدي الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده في اليوم والليلة خمس مرات؟ فهذا لا تحصل معرفته إلا عن طريق السنة، وكذلك بالنسبة للزكاة، فلا يوجد في القرآن مقادير الأنصبة، ولا المقدار الذي يخرج في الزكاة،..وهكذا، فالسنة موضحة للقرآن، وشارحة له، ودالة عليه، ومبينة له، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله الكتاب والسنة، فهما وحي من الله عز وجل أوحاه إلى رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه).

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم في هذا القرآن من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)] أي: أنه يقتصر على ما في القرآن، فما كان في القرآن حلالاً فهو حلال، وما كان في القرآن حراماً فهو حرام، وأما السنة فليست كذلك، ولهذا فإن السيوطي رحمه الله لما ألف كتابه: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ذكر في مقدمته ومطلعه: أن سبب تأليفه للكتاب هو أن رافضياً زنديقاً قال: إنما يؤخذ بالقرآن دون السنة، وكان فيما قاله السيوطي : اعلموا رحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، وإن من الآراء كهيئة الخلاء لا تذكر إلا عند الضرورة، أي: أنها آراء يضطر الإنسان إلى ذكرها وهي قبيحة وخبيثة وسيئة، ولكن الضرورة ألجأت إلى ذلك، وكان الإنسان يحب أن ينزه لسانه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام، وكان الأمر الذي ألف كتابه السابق من أجله هو أن رافضياً زنديقاً قال: كذا وكذا..، ثم بين ما جاء من النصوص في الاحتجاج بالسنة، وما جاء عن سلف هذه الأمة في الاحتجاج بالسنة، وأنه يحتج بها مثلما يحتج بالقرآن، ويعمل بها مثلما يعمل بالقرآن، ومن المعلوم أن المكذب بها مكذب بالقرآن؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، كلمة (رجل) هنا ليس لها مفهوم، فالمرأة مثل الرجل في ذلك، ولكن ذكر الرجال على سبيل التغليب؛ لأن الخطاب لا يكون إلا معهم في الغالب، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء، إلا أن يأتي شيء يدل على تخصيص أحدهما دون الآخر، فذكر (الرجل) هنا لا مفهوم له، بمعنى: أن النساء قد يحصل منهن ذلك، ولهذا يأتي في كثير من النصوص التنصيص على الرجال في أمور يشترك فيها الرجال والنساء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذا يدخل فيه المرأة التي كان من عادتها أن تصوم الإثنين والخميس، ثم وافق الإثنين أو الخميس يوم الثلاثين، وكذلك قوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، فكذلك لو وجد متاعه عند امرأة قد أفلست فإنه أحق به، فذكر الرجل هذا لا مفهوم له، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام.

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، وهذا يدل على التنعم، وقوله: (على أريكته) أي: سريره، فيقول مثل هذا الكلام دون أن يتعب نفسه في الاشتغال بالعلم وتحصيله، وإنما يقول مثل هذا الكلام الجائر والقبيح لجهله، فيقول: (عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال أحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه) أي: يقتصرون على ذلك ولا يلتفتون إلى السنة.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أمور ليست في القرآن، وإنما هي في السنة، فقال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي)، فهذا في السنة وليس في القرآن، والواجب الأخذ به كما يؤخذ بما جاء في القرآن، والأخذ به داخل تحت قوله سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

قوله: [(ولا كل ذي ناب من السبع)]، وذلك محرم أيضاً، وهو لا يوجد في القرآن، وإنما يوجد في السنة.

قوله: [(ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)]، أي: إذا تركها واستغنى عنها، والتنصيص على المعاهد لا يعني أن الحكم يختص به، فإذا كان هذا في حق المعاهد الذي بقي في بلاد المسلمين فالمسلم من باب أولى، وقد جاءت النصوص عامة في ذلك، فلا يحل للإنسان أن يتملك اللقطة في الحال إلا إذا عرف أن صاحبها قد تركها مستغنياً عنها، أو كانت من الأشياء التافهة التي لا يؤبه ولا يهتم بها، وإلا فإن الأصل هو التعريف لها.

قولهه: [(ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه)] أي: أن يعطوه القرى، وهو الضيافة، قال: (فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)، أي: أن يأخذ من مالهم بمثل الشيء الذي يستحقه عليهم، وقيل: إن هذا إنما هو في حق المضطر إلى ذلك، وأنه لو لم يحصل منه ذلك فإنه سيعود على نفسه بالضرر، أو يعرض نفسه للهلاك، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يفعل مثل هذا الفعل، وقال بعض أهل العلم: إن هذا منسوخ.

تراجم رجال إسناد حديث (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته...)

وجوب العمل بالسنة

في هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة أن يعرض الحديث على الكتاب؛ لأنه حكم مستقل، فإذا وجد حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل به دون أن ينظر هل معناه موجود في الكتاب أو لا، وهل يشهد له الكتاب أو لا، نعم هناك أحاديث لها شواهد في الكتاب لكن لا يقال: إن الحكم لا يثبت بها إلا بوجود هذه الشواهد في القرآن، فإن السنة أصل بنفسها، وهي أصل مستقل يؤخذ بما فيها وإن لم يكن ذلك موجوداً في الكتاب، وكما قلت آنفاً فإن في السنة أحكاماً لا بد للناس منها، وهي لا توجد في الكتاب، مثل عدد ركعات الصلوات، والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ومع ذلك فكيفيتها جاء بيانها في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد بيانها وتفصيلها في القرآن.

وبعض أهل العلم يقول: لا ينبغي أن يقال: إن السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن، وإنما السنة مع القرآن في مرتبة واحدة، وهذا من حيث الاحتجاج والعمل بهما، فكلاهما يتعين الأخذ به، لكن -كما هو معلوم- أن القرآن كله متواتر، وأما السنة ففيها المتواتر وفيها الآحاد.

وقد جاء في حديث معاذ المشهور أنه يبحث في القرآن، فإن لم يوجد ففي السنة، فإن لم يوجد فيجتهد برأيه، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، ولكن يوجد له شاهد يدل عليه في (سنن النسائي )، وقد سبق أن مر بنا، وهو في باب الحكم بما قضى به أهل العلم، وقد جاء فيه أنه يبحث في الكتاب، ثم يبحث في السنة، ثم يقضي بما قضى به أهل العلم، فهذا يدل على أنه يبحث في القرآن أولاً، ثم يبحث في السنة، لكن إذا وجد حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتعين العمل به، ومن المعلوم أن الإنسان يبحث في القرآن أولاً، فإذا كان الحكم موجوداً في القرآن فالأمر واضح، ولا يحتاج معه إلى شيء آخر، وإن جاء في السنة شيء يوافقه ويؤيده ويدل عليه، فإنهما يكونان متفقين على إثبات ذلك الحكم؛ ولهذا يقولون في بعض المسائل: وهذا الحكم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فكذا وأما السنة فكذا، وأما أن يغفل الإنسان عن الدليل الذي في القرآن ويذهب للبحث عنه في السنة فهذا قصور، وهذا مثل الإنسان الذي تجده يبحث عن حديث في كتب غير مشهورة، أو كتب غير معروفة بالصحة ويغفل ما هو موجود في الصحيحين، فإنهم يقولون في مثل هذا: أبعد النجعة، وهذه عبارة عند المحدثين والعلماء في مثل هذا، وكذلك لو أخذه من غير الصحيحين فإنه يقال عنه: أبعد النجعة، أي: أنه ذهب بعيداً، وترك الشيء الذي كان يمكنه أن يكتفي به عن غيره، فإذا كان الحديث موجوداً في الصحيحين فلا يحتاج إلى أن يبحث عنه في غير الصحيحين، إلا إذا كان ذلك من ناحية إثبات كثرة المصادر، وكثرة الطرق، وكثرة المخارج، وأما من ناحية الاكتفاء فما جاء في الصحيحين يكفي، وكون الإنسان يعزو شيئاً إلى السنن وهو موجود في الصحيحين فهذا قصور.

شرح حديث (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي قالا: حدثنا سفيان عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ].

أورد المصنف حديث أبي رافع وهو بمعنى حديث المقدام بن معد يكرب المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ألفين -أي: لا أجد- أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه من الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه) أي: أننا نقتصر على ما جاء في الكتاب، ولا نأخذ شيئاً لم يأت في الكتاب، وهذا باطل ومخالف للحق.

تراجم رجال إسناد حديث (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)

قوله: [ حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ وعبد الله بن محمد النفيلي ].

عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا سفيان ].

سفيان هو ابن عيينة المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي النضر ].

أبو النضر هو سالم المدني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبيد الله بن أبي رافع ].

عبيد الله بن أبي رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

أبوه هو أبو رافع رضي الله تعالى عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إبراهيم بن سعد ح وحدثنا محمد بن عيسى حدثنا عبد الله بن جعفر المخرمي وإبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد).

قال ابن عيسى : قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد) ].

أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد) أي: من أحدث في دين الله عز وجل شيئاً ليس من الدين، وإنما هو من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن ما أحدثه محدث فهو مردود عليه، وأن الأخذ به حرام، وهو من الأخذ بالباطل، وعمل بما هو محدث في الدين وليس منه، وهذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، فإن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فإنه رد، أي: مردود عليه، وإنما يكون الأخذ بما جاء في الكتاب والسنة.

وهذا الحديث موجود في الصحيحين بلفظ: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وجاء عند مسلم بلفظ آخر أعم من هذا اللفظ، وهو: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فهذا من أفراد مسلم ، وهو أعم من الجملة الأولى؛ لأن الجملة الأولى فيها إحداث، وأما الثانية ففيها عمل، والعمل يدخل فيه ما كان محدثاً أو ما كان متابعاً لمحدث، أي: أن يكون هو المحدث لتلك البدعة، أو أن يكون سبقه غيره إلى إحداثها ولكنه عمل بها واتبع ذلك المبتدع الذي ابتدعها.

وقوله: (رد) بمعنى: مردود عليه، فلا يقبل منه، ولا ينفع صاحبه عند الله عز وجل كونه يتعبد بالبدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

وحديث عائشة هذا يدل على تحريم كل ما أحدث في دين الله مما ليس له أصل فيه، وأما ما كان له أصل فيه، أو تدل عليه نصوص شرعية، أو تدل عليه القواعد العامة فهذا لا يقال: إنه محدث، وإنما يعول على ذلك الأصل الذي أخذ منه، وأما إذا أحدث عبادة، أو أحدث شيئاً ينسب إلى الدين وهو ليس منه فهذا هو الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في حديث العرباض بن سارية ، حيث رغب في السنن، وحذر من البدع.

ويؤخذ من هذا الحديث أن الأصل في النهي أنه يقتضي الفساد.

تراجم رجال إسناد حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)

قوله: [ حدثنا محمد بن الصباح البزاز ].

محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا إبراهيم بن سعد ].

إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا محمد بن عيسى ].

(ح) معناها التحول من إسناد إلى إسناد آخر، ومحمد بن عيسى هو الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في (الشمائل) والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا عبد الله بن جعفر ].

هو عبد الله بن جعفر المخرمي ، وهو ليس به بأس، وذلك بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ وإبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم ].

سعد بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن القاسم بن محمد ].

هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

وهي عمته عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ قال ابن عيسى : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد) ].

أي: أن هذا اللفظ جاء في رواية محمد بن عيسى الطباع وهو قوله: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد) أي: من عمل.

شرح حديث (... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد قال: حدثني خالد بن معدان حدثني قال: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: (أتينا العرباض بن سارية رضي الله عنه -وهو ممن نزل فيه وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ [التوبة:92]- فسلمنا وقلنا أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ].

أورد أبو داود حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، وهو ممن نزل فيه وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92] أي: أنه كان من أهل الحاجة، ومن الفقراء الذين كانوا يحرصون على أن يخرجوا للجهاد، ولكن لم يكن معهم ظهور يركبونها، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فاعتذر لهم؛ لأنه لم يجد ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع؛ لأنهم لم يتمكنوا من المجاهدة مع الناس.

قوله: [ أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين ] أي: جاءوا لزيارته وعيادته والاستفادة من علمه، فحدثهم بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) يعني: حصل التأثر لقلوبهم وعيونهم، فعيونهم بكت، وقلوبهم وجلت، (فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كأنها موعظة مودع) أي: أنهم خشوا أن تكون نهايته قد قربت، فطلبوا منه أن يعهد إليهم، فالإنسان إذا أراد أن يسافر يبين ما يحتاج إلى أن يفعله أهله من ورائه، فيبين لهم ما يريد أن يفعلوه في حال غيبته، فأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، وتقوى الله عز وجل هي أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقية منه، وذلك يكون بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فهذه هي التقوى بالمعنى الشرعي، وأما معناها اللغوي فهو أوسع من الشرعي، وهو أن يجعل الإنسان بينه وبين أي شيء مخوف وقاية تقيه منه، فكل ما تخافه فإنك تجعل بينك وبينه وقاية، فالبرد مخوف فتجعل بينك وبينه وقاية بلبس الألبسة التي تقيك منه، والشوك والحصى والرمضاء في الأرض مخوف، فتلبس النعال والخفاف، وكذلك تتخذ البيت من أجل أن تتقي الشمس والبرد.. وهكذا.

الكلام في مسألة تولية العبد ولاية عامة

ثم أمر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالسمع والطاعة لمن ولاه الله الأمر، فقال: (وإن عبداً) أي: وإن كان الذي تولى عليكم عبداً، وهذا مما حذف فيه كان واسمها وبقي خبرها، ومثال ذلك أيضاً: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا مما حذف فيه كان واسمها، وهذا فيه الإرشاد إلى السمع والطاعة لمن تولى ولو كان عبداً، ومن المعلوم أن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز للعبد أن يتولى، وإنما يكون ولي الأمر حراً لا عبداً؛ لأن العبد منافعه مملوكة لسيده، ومن شأن الذي يتولى أن يكون متصرفاً بمنافعه، وأن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره، وقد أجاب العلماء على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة للمتولي وإن كان عبداً بأربعة أجوبة، أحدها: أن المقصود من ذلك أن يولي ولي الأمر عبداً على ناحية أو على قرية أو على مدينة أو على جماعة، فتكون ولايته خاصة، وتكون صادرة من ولي الأمر، فإذا ولى ولي الأمر عبداً على جماعة سواء كانوا في سفر أو كانوا في حضر فعلى أولئك الذين وُلي عليهم أن يسمعوا ويطيعوا له، وقيل في معناه: أن الشيء يذكر -وإن كان لا يحصل- من باب الإشارة إلى تحتم ولزوم ذلك الشيء لو حصل، مع أنه لا يحصل، ولهذا نظائر وأمثلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] مع أنه لا يشرك ولا يحبط عمله، وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة)، والمسجد -كما هو معلوم- لا يكون بهذا المقدار ولا بهذا الحجم، وإنما هذا على سبيل المبالغة، وقال بعض أهل العلم: إن ذلك يكون بالمشاركة، أي: ولو كانت مشاركته بشيء يسير، فيكون بناء المسجد من قبله وقبل غيره، فالمقصود أن الله تعالى يأجره على ذلك وإن كان المسجد صغيراً، وغير ذلك من الأمثلة.

وقيل: إن المقصود به أنه يكون في حال توليته حراً، ولكنه كان عبداً فيما مضى، وذلك مثل عبد طرأ عليه عتق، فيقال له عبد باعتبار ما كان، لا باعتبار الحال، وذلك مثل قول الله عز وجل: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2] وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، مع أنهم لا تدفع إليهم الأموال إلا بعد البلوغ وليس قبل البلوغ، وهم يتامى قبل أن يبلغوا وأما بعده فلا، وقيل لهم يتامى حال إعطائهم باعتبار ما كان؛ لأنه في حال يتمهم لا تدفع لهم الأموال، لأنه تعالى قال وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أي: إذا بلغ وصار رشيداً في إنفاق المال وتدبيره وعدم تضييعه وإتلافه بالسفه.

وقيل: إن المقصود من ذلك: أنه إذا تغلب وقهر الناس وصار عنده قوة وشوكة، واستتب له الأمن فإنه يُسمع له ويطاع.

وهذه الأجوبة الأربعة أجاب بها أهل العلم على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة لمن تولى إذا كان عبداً، وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يولى العبد، فالتوفيق إذن بين ما جاء في النصوص وبين الإجماع المنعقد هو أن الحديث يفسر بأحد هذه التفسيرات.

قوله: [(وإن عبداً حبشياً)]، أي: وإن كان المتولي عليك عبداً حبشياً.

الإخبار بحدوث الاختلاف في النحل والعقائد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

قوله: [(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)]، وهذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر سيقع، وهو من دلائل نبوته؛ لأنه يخبر عن الأمور الماضية فتكون واقعة طبقاً لما أخبر به، ويخبر عن الأمور مستقبلة فتقع طبقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أنه سيوجد الاختلاف، ومع وجوده فإنه يكون كثيراً، وهذا الاختلاف -كما هو معلوم- إنما يكون في النحل والعقائد، وفي الاتجاهات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل البدع المختلفة التي حصلت في الأمة من التجهم والاعتزال والرفض، وغير ذلك من البدع التي حصلت بعد ذلك طبقاً لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وبعد هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من وجود الاختلاف كأن قائلاً يقول: وما هو طريق السلامة والنجاة من هذه الاختلافات؟ لذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك دون أن يسأل عنه؛ لأنه في ظل وجود هذا الاختلاف لابد من سلوك طريق مستقيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إخباره بهذا الاختلاف أرشد إلى طريق السلامة والنجاة، فقال: (فعليكم) و(وإياكم)، فرغّب ورهّب.. رغب في السنن، ورهب من البدع، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى السنن ورغب فيها، ثم حذر من البدع المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إرشاد النبي لأمته إلى اتباع السنة واجتناب البدعة عند ظهور الاختلاف

قوله: [(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)]، وهذا هو الذي رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو اتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهذا يدل على أن طريق العصمة والسلامة والنجاة عند هذا الاختلاف أن يكون الإنسان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر و

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في لزوم السنة.

حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في لزوم السنة]، أي: ملازمتها والثبات عليها والأخذ بها، وعدم التهاون والتفريط بشيء منها.

أورد أبو داود رحمه الله حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إني أوتيت الكتاب) أي: القرآن، فهو كتاب الله عز وجل المتعبد بتلاوته، والعمل به.

(ومثله معه): وهي السنة، ومن المعلوم أن كلاً من الكتاب والسنة وحي من الله عز وجل، وأن كل ما يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام فهو من عند الله، سواء كان قرآناً أو سنة، وليس الوحي مقصوراً على القرآن بل السنة هي أيضاً وحي؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء أو كل ذنب -إلى أن قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) أي: نزل عليه جبريل واستثنى الدين، فقوله (سارني به جبريل آنفاً) هذا يدل على أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل.

فالقرآن وحي والسنة كذلك، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فمتعبد بالعمل بها ولا يتعبد بتلاوتها كما يتعبد بتلاوة القرآن، فالقرآن يقرأ به في الصلاة ويقرأ به في جميع الأوقات، والسنة ليست كذلك، ولكن حكمهما من حيث العمل، فالكل يجب اتباعه والعمل بما جاء فيه.

ومن لم يؤمن بالسنة لن يؤمن بالكتاب، ومن كفر بالسنة فهو كافر بالقرآن، إذ الله سبحانه يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فالمنكِر للسنة هو منكر للقرآن، والمكذب بالسنة مكذب بالقرآن، والكتاب والسنة متلازمان، فكل منهما يجب العمل والأخذ به، ولا يمكن أن يقال: إنه يمكن أن يستغني الإنسان بالقرآن عن السنة، ولو كان الأمر كذلك لما استطاع الناس أن يصلوا، ولما استطاعوا أن يزكوا، فالصلاة لم تُعرف أوقاتها ولا ركعاتها ولا هيئاتها وكيفياتها إلا بالسنة، فلا يوجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات، ولا أن العصر أربع ركعات، ولا أن المغرب ثلاث ركعات، ولا أن الفجر ركعتان، والعشاء أربع ركعات، فهذا لا وجود له في القرآن، فالإنسان الذي يقول: إنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، نقول له: كيف ستؤدي الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده في اليوم والليلة خمس مرات؟ فهذا لا تحصل معرفته إلا عن طريق السنة، وكذلك بالنسبة للزكاة، فلا يوجد في القرآن مقادير الأنصبة، ولا المقدار الذي يخرج في الزكاة،..وهكذا، فالسنة موضحة للقرآن، وشارحة له، ودالة عليه، ومبينة له، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله الكتاب والسنة، فهما وحي من الله عز وجل أوحاه إلى رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه).

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم في هذا القرآن من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)] أي: أنه يقتصر على ما في القرآن، فما كان في القرآن حلالاً فهو حلال، وما كان في القرآن حراماً فهو حرام، وأما السنة فليست كذلك، ولهذا فإن السيوطي رحمه الله لما ألف كتابه: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ذكر في مقدمته ومطلعه: أن سبب تأليفه للكتاب هو أن رافضياً زنديقاً قال: إنما يؤخذ بالقرآن دون السنة، وكان فيما قاله السيوطي : اعلموا رحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، وإن من الآراء كهيئة الخلاء لا تذكر إلا عند الضرورة، أي: أنها آراء يضطر الإنسان إلى ذكرها وهي قبيحة وخبيثة وسيئة، ولكن الضرورة ألجأت إلى ذلك، وكان الإنسان يحب أن ينزه لسانه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام، وكان الأمر الذي ألف كتابه السابق من أجله هو أن رافضياً زنديقاً قال: كذا وكذا..، ثم بين ما جاء من النصوص في الاحتجاج بالسنة، وما جاء عن سلف هذه الأمة في الاحتجاج بالسنة، وأنه يحتج بها مثلما يحتج بالقرآن، ويعمل بها مثلما يعمل بالقرآن، ومن المعلوم أن المكذب بها مكذب بالقرآن؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، كلمة (رجل) هنا ليس لها مفهوم، فالمرأة مثل الرجل في ذلك، ولكن ذكر الرجال على سبيل التغليب؛ لأن الخطاب لا يكون إلا معهم في الغالب، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء، إلا أن يأتي شيء يدل على تخصيص أحدهما دون الآخر، فذكر (الرجل) هنا لا مفهوم له، بمعنى: أن النساء قد يحصل منهن ذلك، ولهذا يأتي في كثير من النصوص التنصيص على الرجال في أمور يشترك فيها الرجال والنساء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذا يدخل فيه المرأة التي كان من عادتها أن تصوم الإثنين والخميس، ثم وافق الإثنين أو الخميس يوم الثلاثين، وكذلك قوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، فكذلك لو وجد متاعه عند امرأة قد أفلست فإنه أحق به، فذكر الرجل هذا لا مفهوم له، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام.

قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، وهذا يدل على التنعم، وقوله: (على أريكته) أي: سريره، فيقول مثل هذا الكلام دون أن يتعب نفسه في الاشتغال بالعلم وتحصيله، وإنما يقول مثل هذا الكلام الجائر والقبيح لجهله، فيقول: (عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال أحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه) أي: يقتصرون على ذلك ولا يلتفتون إلى السنة.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أمور ليست في القرآن، وإنما هي في السنة، فقال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي)، فهذا في السنة وليس في القرآن، والواجب الأخذ به كما يؤخذ بما جاء في القرآن، والأخذ به داخل تحت قوله سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

قوله: [(ولا كل ذي ناب من السبع)]، وذلك محرم أيضاً، وهو لا يوجد في القرآن، وإنما يوجد في السنة.

قوله: [(ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)]، أي: إذا تركها واستغنى عنها، والتنصيص على المعاهد لا يعني أن الحكم يختص به، فإذا كان هذا في حق المعاهد الذي بقي في بلاد المسلمين فالمسلم من باب أولى، وقد جاءت النصوص عامة في ذلك، فلا يحل للإنسان أن يتملك اللقطة في الحال إلا إذا عرف أن صاحبها قد تركها مستغنياً عنها، أو كانت من الأشياء التافهة التي لا يؤبه ولا يهتم بها، وإلا فإن الأصل هو التعريف لها.

قولهه: [(ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه)] أي: أن يعطوه القرى، وهو الضيافة، قال: (فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)، أي: أن يأخذ من مالهم بمثل الشيء الذي يستحقه عليهم، وقيل: إن هذا إنما هو في حق المضطر إلى ذلك، وأنه لو لم يحصل منه ذلك فإنه سيعود على نفسه بالضرر، أو يعرض نفسه للهلاك، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يفعل مثل هذا الفعل، وقال بعض أهل العلم: إن هذا منسوخ.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2651 استماع