خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [416]
الحلقة مفرغة
شرح حديث عمر: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء...)
باب في تحريم الخمر.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا) ].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأشربة. والأشربة يراد بها ما كان ممنوعاً وما كان غير ممنوع، والممنوع: الخمر، وغير الممنوع: الماء وغير ذلك من الأشياء التي هي على أصل الإباحة ولم تحرم، وما يتعلق بأحكامها وآدابها وما إلى ذلك، هذا هو المقصود بكتاب الأشربة.
وبدأ بباب في تحريم الخمر، والخمر كما جاء عن عمر رضي الله عنه: ما خامر العقل، أي: غطاه وأزاله، فيكون الإنسان من جملة المجانين أو شبيهاً بالمجانين؛ لأنه كان بعقله فسعى إلى إضاعة عقله وتغطيته بهذا الشراب الخبيث الذي هو أم الخبائث؛ لأنه يفضي إلى الخبائث على اختلاف أنواعها ويؤدي إليها؛ لأنه مع زوال العقل يمكن أن يحصل كل شر بسبب ذلك.
والخمر كانت مستعملة في الجاهلية، وجاء الإسلام فحرمها، وكان تحريمه إياها على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أنه بين أن الخمر فيها منافع وإثم، ولكن الإثم أعظم من النفع، وهذا فيه إشارة إلى تركها.
المرحلة الثانية: جاء المنع من شربها وقت الصلاة، أي: أنه لا يفعل ذلك والصلاة قريبة بحيث يأتي وقت الصلاة وهو في سكره وغيبوبة عقله.
المرحلة الثالثة: بعد ذلك جاء التحريم البات الذي بين أنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمرهم باجتنابها، وأن في ذلك الفلاح، وجاء في الآخر قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] أي: انتهوا عنها، فتركوها وتخلصوا مما كان موجوداً منها، أعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نزل عليهم تحريمها.
والخمر حرمت لما فيها من الأضرار والمفاسد؛ ولهذا تسمى أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا فقد عقله يمكن أن يقع في كل محرم، بل قد يقع في نكاح المحارم.
ثم أيضاً كون الإنسان أعطاه الله عقلاً ثم سعى باختياره إلى أن يزول عقله وأن يكون شبيهاً بالمجانين هذا من أسوأ ما يكون وأفحش ما يكون.
و ابن الوردي له قصيدة لامية في الآداب وهي جميلة، ومنها جزء من بيت يقول فيه:
كيف يسعى في جنون من عقل
أي: كيف أن إنساناً أعطاه الله عقلاً ثم يسعى إلى أن يكون مجنوناً ويعمل بفكره وعقله إلى أن يتخلص من عقله فيكون من جملة المجانين؟! هذا شيء عجيب! فالإنسان العاقل الذي أعطاه الله عقلاً لا يسعى إلى أن يدمر عقله وأن يتخلص من عقله، فيكون من جملة المجانين.
والخمر قد جاء تحريمها كما ذكرت على ثلاث مراحل: آية في سورة البقرة، ثم آية في سورة النساء، ثم آية في سورة المائدة وهي التي فيها التحريم البات الذي قال الله فيه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع ذلك: انتهينا، وكان يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء) ولما نزل قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، وقال في الآخر: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ، قال رضي الله عنه: انتهينا.
وقد أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير) أي: أن هذا هو الغالب فيها، وليس معنى ذلك أنه مقصور على هذه الأشياء، بل يكون من غيرها، ولكن هذا إشارة إلى الغالب الذي كان موجوداً عندهم في ذلك الوقت، إذ إنه لما نزل تحريم الخمر كانت تتخذ من هذه الأشياء.
ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بكلمة تدخل فيها هذه الخمسة وغيرها، حيث عرف الخمر بأنها كل ما يغطي العقل ويخمره ويستره، فما كان كذلك فإنه يقال له خمر، حيث قال: (والخمر ما خامر العقل) أي: كل شيء يغطي العقل ويستره يقال له خمر، سواء كان من هذه الأشياء الخمسة أو من غيرها.
والخمر قيل لها خمر؛ لأنها تغطي العقل وتستره كما يقال للخِمار خمار؛ لأنه يغطي الرأس والوجه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، فالتخمير هو التغطية، فالخمر تغطي العقل وتستره وتحجبه، وتجعل صاحبه يسلب هذه النعمة بشربه ذلك الشيء الذي غطى عقله وصار به من جملة المجانين بعد أن كان من جملة العقلاء.
والخمر فيها أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة، ذكر الله عز وجل جملة منها في آية المائدة في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فهي مشتملة على عدة أمور تدل على تحريم الخمر وعلى وجوب التخلص والابتعاد منها.
قوله: (ثلاث وددت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا إلا وقد عهد إلينا فيها عهداً).
يعني: أتى بشيء فاصل بيِّن لا يكون فيه مجال للاختلاف، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدنيا إلا وقد بين للناس أمور دينهم، وكان مما بينه ما هو واضح لكل أحد، ومنه ما يعلم بالاستنباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما غادر هذه الحياة إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، كما قال الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه تمنى أن يكون هناك شيء فاصل في ثلاث: الجد والكلالة وأبواب من الربا، والمقصود بالجد: أبو الأب، وذلك فيما يتعلق بالإرث بينه وبين الإخوة هل يقاسمهم أو يحجبهم؟ أي: هل هو أب فيحجب أو بمنزلة الأخ فيشارك؟ وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وكان رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه أنه يحجب الإخوة؛ لأنه بمنزلة الأب، وعمر رضي الله عنه اختلف رأيه في هذه المسألة وجاء عنه أنه يشارك الإخوة، ولكن قول الصديق رضي الله عنه هو الواضح الجلي، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، يدل على أن الجد أولى من غيره؛ لأنه أولى من الإخوة، ولا يقال: إن الإخوة أولى منه، ولا إنهم مثله؛ لأن الجد هو في النسب من الأصول الوارثين، وأما الإخوة فهم حواش وهم كلالة يحيطون بالإنسان، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، وأما الجد فهو أصل من أصوله وهو سبب وجوده، وهو بمنزلة الأب، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض) نص في أن الجد مقدم على الإخوة؛ ومقدم على غيره؛ لأنه بمنزلة الأب.
وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين بمسائل في الفرائض وفي غيرها، ومن ذلك مسألة الجد والإخوة، وأورد أن الجد يحجب الإخوة، وذكر عشرين وجهاً كلها تدل على تقديم الجد على الإخوة، وأنه يحجبهم، وأنهم لا يشاركونه، بل هو مقدم عليهم.
إذاً: ما يتعلق بالنسبة للجد قد وجد من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أولى من غيره في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، هذا هو الذي يورث كلالة، أي: ليس له والد وليس له ولد، ومعلوم أن الولد جاء ذكره في القرآن، والوالد لم يذكر، ولكن حصل الإجماع على أن الأب يحجب الإخوة، وأنهم لا يرثون، ويكون مثله الجد تماماً؛ لأنه بمنزلته ويقوم مقامه عند فقده، والمقصود بالكلالة التي فيها الاختلاف هم الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، أما الإخوة لأم فأمرهم واضح؛ لأنهم أصحاب فروض يرثون حيث لا أصول ولا فروع، يعني: حيث يكون الميت ليس له أب ولا جد، وكذلك ليس له ابن ولا بنت، فإنهم لا يرثون مع وجود الأصل الوارث والفرع الوارث، وإنما الكلام في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب؛ لأنهم هم الذين جاء ذكرهم في آخر سورة النساء في قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176] يعني: إن لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا بالإجماع، ومعلوم أن الوالد يكون أباً ويكون جداً.
إذاً: الكلالة من ليس له والد ولا ولد.
وقوله: (وأبواب من الربا) قيل: إن هذا إنما هو في ربا الفضل، وأما ربا النسيئة فهذا أمره واضح، فربا الفضل هو الذي فيه إشكال.
الحاصل: أن عمر رضي الله عنه تمنى أن يكون هناك نصوص واضحة لا مجال للاجتهاد فيها، وليس فيها خفاء، والاستنباط منها لا يكون خفياً، هذا هو الذي تمناه، ولكن لا يقال: إن الشريعة لم تأت ببيان هذه المسائل، بل جاءت ببيانها ولكنها فيها خفاء وفيها مجال للاجتهاد، كشأن كثير من المسائل التي تأتي والاجتهاد له مجال فيها.
تراجم رجال إسناد حديث عمر (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء...)
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ].
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو حيان ].
يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و يحيى بن سعيد أبو حيان بن حيان هذا في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهناك من رجال الكتب الستة ممن يقال له: يحيى بن سعيد أربعة: اثنان في طبقة واثنان في طبقة، فالطبقة المتقدمة هي في صغار التابعين: يحيى بن سعيد الأنصاري ، ويحيى بن سعيد أبو حيان هذا، وفي الطبقة المتأخرة: يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن سعيد الأموي .
[ حدثني الشعبي ].
عامر بن شراحيل الشعبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عمر ].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ عن عمر ].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث: (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا...)
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت آية البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]) وهذا فيه الإشارة إلى أنه كان ينبغي بمجرد سماع هذا الكلام أن تترك؛ لأن الإثم والضرر أكبر، وذلك لما يحصل من زوال العقل وما يترتب عليه من الأضرار والمنافع.
وكونهم كان يستفيدون منها في البيع والشراء والتجارة هذه من منافعها، ثم نزلت آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقربن الصلاة سكران) يعني: لا يشرب في الوقت الذي يكون قريباً من الصلاة حتى لا يأتي وقت الصلاة وهو سكران.
ثم بعد ذلك نزلت آية المائدة التي فيها الحد الفاصل والحكم الفاصل في تحريمها، وأنها محرمة، وأن الأمر قد استقر وانتهى في بيان حرمتها، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها، ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بادروا إلى تركها وإلى التخلص مما كان بأيديهم منها فكانوا يهريقونها ويتلفونها امتثالاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفي هذا بيان أن الخمر حصل تحريمها على هذه المراحل الثلاث، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه كلما تنزل آية لم يكن التحريم فيها باتاً يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً) ولما نزلت آية المائدة وفي أخرها فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ، قال رضي الله عنه: (انتهينا، انتهينا). فكان من شأن الصحابة أن أهراقوا ما كان بأيديهم من الخمر وكفوا عن شربها فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وفي هذه الآية الكريمة بيان حرمة الخمر والابتعاد عنها من سبعة وجوه: قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، فأخبر بأنها رجس، فقيل: نجس، وقيل: خبث، وهذا يدل على تحريمها حيث إنها وصفت بهذا الوصف.
ثم قال: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فوصفها بأنها من عمل الشيطان، وهذا يدل على تركها والتخلص منها.
ثم قال: فَاجْتَنِبُوهُ ، والاجتناب يدل على أن يكون الإنسان بعيداً منها، وأن تكون في جانب وهو في جانب بحيث لا يكون هناك تقارب بينه وبينها، بل يكون بعيداً منها.
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وهذا فيه أن تركها فيه الفلاح وأنهم نهوا ليكون لهم الفلاح في ذلك.
ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ والميسر [المائدة:91]، وهذا فيه أن حصول العداوة والبغضاء بين الناس هو بسبب شرب الخمر، فهذان أمران يدلان على وجوب تركها.
ثم قال: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ ، وهذا فيه أن الخمر فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما أمران.
ثم قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ أي: انتهوا.
فهذه أمور سبعة كلها تدل على الامتناع عن الخمر وعلى أن هذه الآية جاءت حداً فاصلاً بحكمها، وأنه لا يجوز تعاطيها ولا قربانها، بل الواجب هو اجتنابها والابتعاد عنها؛ لأن في ذلك الفلاح والانتهاء من الشر والابتعاد عنه.
وقوله: (فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران) يعني: أنه كان عند إقامة الصلاة يقول: (لا يقرب الصلاة سكران).
والسكران كما هو معلوم فاقد العقل فلا يخاطب، وهو قبل أن يبدأ الشرب وقبل السكر كان عنده إدراك، وأما مع السكر فليس عنده عقل بل هو من جملة المجانين، ولكن المقصود من ذلك من كان في مبادئ السكر، حيث لم يحصل تغطية عقله، أو أنه قد شرب وهو يعلم من نفسه أنه في هذه المدة أو في هذه الفترة يكون متصفاً بهذا الوصف الذي هو السكر.
تراجم رجال إسناد حديث (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا...)
عباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ أخبرنا إسماعيل يعني: ابن جعفر ].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن إسرائيل ].
إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي إسحاق ].
أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عمرو بن شرحبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ عن عمر بن الخطاب ].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد مر ذكره.
شرح حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر...)
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: أنه دعاه رجل من الأنصار هو وعبد الرحمن بن عوف قبل أن تحرم الخمر فشربوا، وأنه جاء وقت المغرب فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه حصل منه تخليط في القراءة بسبب شرب الخمر فنزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43].
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر...)
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا يحيى ].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سفيان ].
سفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عطاء بن السائب ].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري مقروناً وأصحاب السنن، ولكن الراوي عنه سفيان الثوري ، وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط فسماعه صحيح؛ لأن عطاء بن السائب سمع منه سبعة قبل الاختلاط فروايتهم صحيحة وهم: سفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج ، وزهير بن معاوية ، وزائدة بن قدامة ، وحماد بن زيد ، والأعمش ، وأيوب السختياني .
[ عن أبي عبد الرحمن السلمي ].
أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن علي بن أبي طالب ].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
شرح أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية التي في البقرة، والآية التي في النساء نسختهما الآية التي في المائدة وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ، ومعلوم أن تحريم الخمر جاء على مراحل: الأولى: الإشارة إلى المصالح والمفاسد، وأن المفاسد أعظم.
الثانية: التحريم في وقت ما، ومعنى ذلك: أن الحل كان موجوداً؛ لأنه لم يكن التحريم تحريماً عاماً.
فالمرحلة الأولى لم يكن فيها التحريم، وإنما كان فيها الإشارة إلى أن هذا فيه ضرر وفيه منافع ولكن الضرر أكبر.
المرحلة الثالثة: التحريم البات في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، ثم قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ أي: لأنه تحريم بات، وأنه لا يجوز استعمالها في أي حال من الأحوال، بل يجب التخلص منها وعدم شرب شيء منها أصلاً؛ لأنه جاء فيها التحريم الواضح الجلي الذي لا إشكال فيه، وأما قبل ذلك فقد كان تحريماً مؤقتاً يتعلق بقربان الصلاة، وقبل ذلك كانت هناك الإشارة إلى المفاسد والمضار، ولكن لم يكن هناك ذكر التحريم، ولذا بقي استعمال الخمر سائغاً في هاتين الآيتين، ثم جاء التحريم البات في آية المائدة.
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج له أبو داود .
[ حدثنا علي بن حسين ].
على بن حسين بن واقد صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
أبوه ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن يزيد النحوي ].
يزيد بن أبي سعيد النحوي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[ عن عكرمة ].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث أنس: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الأشربة.
باب في تحريم الخمر.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا) ].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأشربة. والأشربة يراد بها ما كان ممنوعاً وما كان غير ممنوع، والممنوع: الخمر، وغير الممنوع: الماء وغير ذلك من الأشياء التي هي على أصل الإباحة ولم تحرم، وما يتعلق بأحكامها وآدابها وما إلى ذلك، هذا هو المقصود بكتاب الأشربة.
وبدأ بباب في تحريم الخمر، والخمر كما جاء عن عمر رضي الله عنه: ما خامر العقل، أي: غطاه وأزاله، فيكون الإنسان من جملة المجانين أو شبيهاً بالمجانين؛ لأنه كان بعقله فسعى إلى إضاعة عقله وتغطيته بهذا الشراب الخبيث الذي هو أم الخبائث؛ لأنه يفضي إلى الخبائث على اختلاف أنواعها ويؤدي إليها؛ لأنه مع زوال العقل يمكن أن يحصل كل شر بسبب ذلك.
والخمر كانت مستعملة في الجاهلية، وجاء الإسلام فحرمها، وكان تحريمه إياها على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أنه بين أن الخمر فيها منافع وإثم، ولكن الإثم أعظم من النفع، وهذا فيه إشارة إلى تركها.
المرحلة الثانية: جاء المنع من شربها وقت الصلاة، أي: أنه لا يفعل ذلك والصلاة قريبة بحيث يأتي وقت الصلاة وهو في سكره وغيبوبة عقله.
المرحلة الثالثة: بعد ذلك جاء التحريم البات الذي بين أنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمرهم باجتنابها، وأن في ذلك الفلاح، وجاء في الآخر قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] أي: انتهوا عنها، فتركوها وتخلصوا مما كان موجوداً منها، أعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نزل عليهم تحريمها.
والخمر حرمت لما فيها من الأضرار والمفاسد؛ ولهذا تسمى أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا فقد عقله يمكن أن يقع في كل محرم، بل قد يقع في نكاح المحارم.
ثم أيضاً كون الإنسان أعطاه الله عقلاً ثم سعى باختياره إلى أن يزول عقله وأن يكون شبيهاً بالمجانين هذا من أسوأ ما يكون وأفحش ما يكون.
و ابن الوردي له قصيدة لامية في الآداب وهي جميلة، ومنها جزء من بيت يقول فيه:
كيف يسعى في جنون من عقل
أي: كيف أن إنساناً أعطاه الله عقلاً ثم يسعى إلى أن يكون مجنوناً ويعمل بفكره وعقله إلى أن يتخلص من عقله فيكون من جملة المجانين؟! هذا شيء عجيب! فالإنسان العاقل الذي أعطاه الله عقلاً لا يسعى إلى أن يدمر عقله وأن يتخلص من عقله، فيكون من جملة المجانين.
والخمر قد جاء تحريمها كما ذكرت على ثلاث مراحل: آية في سورة البقرة، ثم آية في سورة النساء، ثم آية في سورة المائدة وهي التي فيها التحريم البات الذي قال الله فيه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع ذلك: انتهينا، وكان يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء) ولما نزل قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، وقال في الآخر: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ، قال رضي الله عنه: انتهينا.
وقد أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير) أي: أن هذا هو الغالب فيها، وليس معنى ذلك أنه مقصور على هذه الأشياء، بل يكون من غيرها، ولكن هذا إشارة إلى الغالب الذي كان موجوداً عندهم في ذلك الوقت، إذ إنه لما نزل تحريم الخمر كانت تتخذ من هذه الأشياء.
ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بكلمة تدخل فيها هذه الخمسة وغيرها، حيث عرف الخمر بأنها كل ما يغطي العقل ويخمره ويستره، فما كان كذلك فإنه يقال له خمر، حيث قال: (والخمر ما خامر العقل) أي: كل شيء يغطي العقل ويستره يقال له خمر، سواء كان من هذه الأشياء الخمسة أو من غيرها.
والخمر قيل لها خمر؛ لأنها تغطي العقل وتستره كما يقال للخِمار خمار؛ لأنه يغطي الرأس والوجه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، فالتخمير هو التغطية، فالخمر تغطي العقل وتستره وتحجبه، وتجعل صاحبه يسلب هذه النعمة بشربه ذلك الشيء الذي غطى عقله وصار به من جملة المجانين بعد أن كان من جملة العقلاء.
والخمر فيها أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة، ذكر الله عز وجل جملة منها في آية المائدة في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فهي مشتملة على عدة أمور تدل على تحريم الخمر وعلى وجوب التخلص والابتعاد منها.
قوله: (ثلاث وددت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا إلا وقد عهد إلينا فيها عهداً).
يعني: أتى بشيء فاصل بيِّن لا يكون فيه مجال للاختلاف، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدنيا إلا وقد بين للناس أمور دينهم، وكان مما بينه ما هو واضح لكل أحد، ومنه ما يعلم بالاستنباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما غادر هذه الحياة إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، كما قال الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه تمنى أن يكون هناك شيء فاصل في ثلاث: الجد والكلالة وأبواب من الربا، والمقصود بالجد: أبو الأب، وذلك فيما يتعلق بالإرث بينه وبين الإخوة هل يقاسمهم أو يحجبهم؟ أي: هل هو أب فيحجب أو بمنزلة الأخ فيشارك؟ وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وكان رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه أنه يحجب الإخوة؛ لأنه بمنزلة الأب، وعمر رضي الله عنه اختلف رأيه في هذه المسألة وجاء عنه أنه يشارك الإخوة، ولكن قول الصديق رضي الله عنه هو الواضح الجلي، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، يدل على أن الجد أولى من غيره؛ لأنه أولى من الإخوة، ولا يقال: إن الإخوة أولى منه، ولا إنهم مثله؛ لأن الجد هو في النسب من الأصول الوارثين، وأما الإخوة فهم حواش وهم كلالة يحيطون بالإنسان، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، وأما الجد فهو أصل من أصوله وهو سبب وجوده، وهو بمنزلة الأب، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض) نص في أن الجد مقدم على الإخوة؛ ومقدم على غيره؛ لأنه بمنزلة الأب.
وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين بمسائل في الفرائض وفي غيرها، ومن ذلك مسألة الجد والإخوة، وأورد أن الجد يحجب الإخوة، وذكر عشرين وجهاً كلها تدل على تقديم الجد على الإخوة، وأنه يحجبهم، وأنهم لا يشاركونه، بل هو مقدم عليهم.
إذاً: ما يتعلق بالنسبة للجد قد وجد من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أولى من غيره في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، هذا هو الذي يورث كلالة، أي: ليس له والد وليس له ولد، ومعلوم أن الولد جاء ذكره في القرآن، والوالد لم يذكر، ولكن حصل الإجماع على أن الأب يحجب الإخوة، وأنهم لا يرثون، ويكون مثله الجد تماماً؛ لأنه بمنزلته ويقوم مقامه عند فقده، والمقصود بالكلالة التي فيها الاختلاف هم الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، أما الإخوة لأم فأمرهم واضح؛ لأنهم أصحاب فروض يرثون حيث لا أصول ولا فروع، يعني: حيث يكون الميت ليس له أب ولا جد، وكذلك ليس له ابن ولا بنت، فإنهم لا يرثون مع وجود الأصل الوارث والفرع الوارث، وإنما الكلام في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب؛ لأنهم هم الذين جاء ذكرهم في آخر سورة النساء في قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176] يعني: إن لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا بالإجماع، ومعلوم أن الوالد يكون أباً ويكون جداً.
إذاً: الكلالة من ليس له والد ولا ولد.
وقوله: (وأبواب من الربا) قيل: إن هذا إنما هو في ربا الفضل، وأما ربا النسيئة فهذا أمره واضح، فربا الفضل هو الذي فيه إشكال.
الحاصل: أن عمر رضي الله عنه تمنى أن يكون هناك نصوص واضحة لا مجال للاجتهاد فيها، وليس فيها خفاء، والاستنباط منها لا يكون خفياً، هذا هو الذي تمناه، ولكن لا يقال: إن الشريعة لم تأت ببيان هذه المسائل، بل جاءت ببيانها ولكنها فيها خفاء وفيها مجال للاجتهاد، كشأن كثير من المسائل التي تأتي والاجتهاد له مجال فيها.
قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ].
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو حيان ].
يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و يحيى بن سعيد أبو حيان بن حيان هذا في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهناك من رجال الكتب الستة ممن يقال له: يحيى بن سعيد أربعة: اثنان في طبقة واثنان في طبقة، فالطبقة المتقدمة هي في صغار التابعين: يحيى بن سعيد الأنصاري ، ويحيى بن سعيد أبو حيان هذا، وفي الطبقة المتأخرة: يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن سعيد الأموي .
[ حدثني الشعبي ].
عامر بن شراحيل الشعبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عمر ].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ عن عمر ].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما نزل تحريم الخمر قال
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت آية البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]) وهذا فيه الإشارة إلى أنه كان ينبغي بمجرد سماع هذا الكلام أن تترك؛ لأن الإثم والضرر أكبر، وذلك لما يحصل من زوال العقل وما يترتب عليه من الأضرار والمنافع.
وكونهم كان يستفيدون منها في البيع والشراء والتجارة هذه من منافعها، ثم نزلت آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقربن الصلاة سكران) يعني: لا يشرب في الوقت الذي يكون قريباً من الصلاة حتى لا يأتي وقت الصلاة وهو سكران.
ثم بعد ذلك نزلت آية المائدة التي فيها الحد الفاصل والحكم الفاصل في تحريمها، وأنها محرمة، وأن الأمر قد استقر وانتهى في بيان حرمتها، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها، ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بادروا إلى تركها وإلى التخلص مما كان بأيديهم منها فكانوا يهريقونها ويتلفونها امتثالاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفي هذا بيان أن الخمر حصل تحريمها على هذه المراحل الثلاث، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه كلما تنزل آية لم يكن التحريم فيها باتاً يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً) ولما نزلت آية المائدة وفي أخرها فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ، قال رضي الله عنه: (انتهينا، انتهينا). فكان من شأن الصحابة أن أهراقوا ما كان بأيديهم من الخمر وكفوا عن شربها فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وفي هذه الآية الكريمة بيان حرمة الخمر والابتعاد عنها من سبعة وجوه: قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، فأخبر بأنها رجس، فقيل: نجس، وقيل: خبث، وهذا يدل على تحريمها حيث إنها وصفت بهذا الوصف.
ثم قال: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فوصفها بأنها من عمل الشيطان، وهذا يدل على تركها والتخلص منها.
ثم قال: فَاجْتَنِبُوهُ ، والاجتناب يدل على أن يكون الإنسان بعيداً منها، وأن تكون في جانب وهو في جانب بحيث لا يكون هناك تقارب بينه وبينها، بل يكون بعيداً منها.
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وهذا فيه أن تركها فيه الفلاح وأنهم نهوا ليكون لهم الفلاح في ذلك.
ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ والميسر [المائدة:91]، وهذا فيه أن حصول العداوة والبغضاء بين الناس هو بسبب شرب الخمر، فهذان أمران يدلان على وجوب تركها.
ثم قال: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ ، وهذا فيه أن الخمر فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما أمران.
ثم قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ أي: انتهوا.
فهذه أمور سبعة كلها تدل على الامتناع عن الخمر وعلى أن هذه الآية جاءت حداً فاصلاً بحكمها، وأنه لا يجوز تعاطيها ولا قربانها، بل الواجب هو اجتنابها والابتعاد عنها؛ لأن في ذلك الفلاح والانتهاء من الشر والابتعاد عنه.
وقوله: (فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران) يعني: أنه كان عند إقامة الصلاة يقول: (لا يقرب الصلاة سكران).
والسكران كما هو معلوم فاقد العقل فلا يخاطب، وهو قبل أن يبدأ الشرب وقبل السكر كان عنده إدراك، وأما مع السكر فليس عنده عقل بل هو من جملة المجانين، ولكن المقصود من ذلك من كان في مبادئ السكر، حيث لم يحصل تغطية عقله، أو أنه قد شرب وهو يعلم من نفسه أنه في هذه المدة أو في هذه الفترة يكون متصفاً بهذا الوصف الذي هو السكر.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2891 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2845 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2837 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2732 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2704 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2695 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2689 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2681 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2656 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2652 استماع |