شرح سنن أبي داود [400]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (الشفعة في كل شيء ربعة أو حائط...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الشفعة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه؛ فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الشفعة, والشفعة هي استحقاق الشريك حصة شريكه إذا باعها على رجل آخر، فإنه يستحق انتزاعها بالقيمة التي باعها شريكه على غيره؛ وذلك من أجل رفع الضرر، فقد يحصل في اختلاف الشركاء من يكون سيء المعاملة فيترتب على ذلك ضرر، وقد يشتري بعض الناس حصة شريك مشاعة من أجل أن يضار غيره، فشرعت الشفعة من أجل ذلك، فيمكن أحد الشريكين أن ينتزع حصة شريكه التي باعها على رجل آخر بالقيمة التي اتفق عليها.

فالشفعة حق أعطي للشريك، وهذا فيما إذا كان مشاعاً ولم يتميز نصيب كل منهما، وأما إذا تميز وقسمت الأرض التي بين الشريكين وعرف كل حدوده وأرضه فإنه في هذه الحالة لا شفعة؛ لأن الاشتراك قد ذهب وصار نصيب كل واحد معلوماً متميزاً ولا يقال: إنه شريك، فإذا قسمت الأرض ووضعت الحدود وصرفت الطرق فعند ذلك لا شفعة.

ويستحق الشريك الشفعة بالسعر الذي اشترى به المشتري، وقد جاء في أكثر الأحاديث التي جاءت في الشفعة أنه: (إذا وضعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)، فهذا يكون في العقار والأراضي، فبعض أهل العلم قصر الحكم في ذلك على الأراضي؛ لأنه جاء فيها ذكر التقسيم والحدود والطرق، وبعض أهل العلم عمم الحكم حتى في المنقولات التي يكون فيها الاشتراك؛ لأن الضرر الذي يكون في الثابت غير المنقول يكون أيضاً في المنقول، كشخصين لهما سيارة يعملان عليها بالأجرة، ثم إن أحد الشريكين باع حصته، فبعض أهل العلم قال: لا شفعة فيها؛ لأن الأحاديث التي وردت إنما وردت في الطرق والأراضي والعقار التي لم تقسم ولم يعرف كل واحد منهما نصيبه، لكن قد جاء ما يدل على العموم كما في حديث عن جابر رضي الله عنه: (الشفعة في كل شيء) عند الطحاوي وذكره الحافظ في البلوغ، وقال: إن رجال إسناده ثقات، وهو يدل على عموم الحكم في الثابت والمنقول؛ لأن المحذور يكون في الاشتراك في الأرض، وكونه يأتينا شريك جديد، ومثله إذا كانوا شركاء في سيارة أو دابة، فإن المحذور الذي يكون في الأرض موجود في مثل المنقولات، وعلى هذا فالشفعة ثابتة في كل شيء، سواء في الثابت أو المنقول.

وأورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه قال: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط) يعني: منزل أو بستان، (لا يصلح أن يبيعه حتى يؤذن شريكه) أي: ينبغي على الشريك أن يخبر شريكه، فلا يبيعه بدون علمه، وإنما يخبره بأنه سيبيع، فإذا كان يريد أن يشتريها اشتراها، فمن حسن المعاملة، ومن الأخلاق الكريمة، ومن حسن معاملة الشريك لشريكه أنه عندما يريد أن يبيع أن يخبره؛ حتى يكون على علم، وإن باع فإن الشريك له الحق في أن ينتزع حصة الشريك من شريكه الذي انتقلت إليه، (لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه) فإن باع فهو أحق به أي: الشريك الذي لم يبع أحق بحصة الشريك البائع، (حتى يؤذنه)، فإذا علم بأن البيع قد تم وحصلت الشفعة بعد علمه مباشرة فإنها تنفذ، وأما إذا علم وترك ثم أراد أن يشفع فيما بعد فإن ذلك لا يمكنه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فإنه يمكن الشريك الذي لم يبع أن يأتي في أي لحظة بعد أن تمضي مدة طويلة إلى المشتري الذي اشترى من شريكه فيقول له: أنا شفعت، فالشفعة مقيدة بالعلم، وعند بلوغ الخبر إليه بأن البيع قد تم فإن ترك الشفعة، أو لم يذكر أنه شفع، أو لم يخبر بأنه شفع، أو يشهد على أنه شفع وأنه قد أعلمه، ولكنه ترك حتى مضت مدة فيسقط حقه في الشفعة؛ لأن إعطاءه الفرصة بدون تحديد لا شك أن فيه مضرة على المشتري الذي اشترى من شريكه.

تراجم رجال إسناد حديث (الشفعة في كل شيء ربعة أو حائط...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ].

هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن جريج ].

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الزبير ].

هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر ].

جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم الشريك إذا رفع السعر بالاتفاق مع المشتري ليضر شريكه

معلوم أن الشفعة قد تحصل وقد لا تحصل فليست محققة؛ لأن الشريك قد لا يشفع، فكونه يصير مقصوداً من أجل الإضرار بالشريك والشريك يعلم أن الشريك يرغب في ذلك فلا شك أن هذا لا يسوغ ولا يجوز، وكونه يؤخذ بالشيء الذي تم به البيع فإنه يؤخذ بذلك، وإذا كان قد زاد في السعر وحصل إضرار فإن الذي حصل منه ذلك الإضرار آثم، وصنيعه يشبه صنيع النجش وهو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها، فإنه يكون آثماً والبيع صحيح.

شرح حديث (...فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) ].

أورد أبو داود حديث جابر من طريق أخرى، وفيه قال: (إنما جعل رسول الله الشفعة في كل ما لم يقسم) يعني: في الشيء المشاع، وأما ما قد قسم وعرف كلّ نصيبه فلا شفعة فيه؛ لأنه لا اشتراك إذا حصلت القسمة وعرف كلّ نصيبه، فقد انتهت الشركة فلا شفعة، إلا أن يكون هناك شيء مشترك بينهما كالطريق كما سيأتي في الحديث، فإن الاشتراك في الطريق أيضاً يترتب عليه استحقاق الشفعة مادام أن القسمة ما وجدت، فوجود طريق مشترك يدخل على المحلين وعلى القطعتين، فهذا الاشتراك الذي في الطريق يفيد حصول الشفعة؛ لأن الضرر يحصل أيضاً في الدخول والخروج وبالاشتراك في الطريق الذي هو خاص بهما، فإذا لم يوجد شيء يربط بينهما، وكل استقل بنصيبه وليس هناك اشتراك في الأرض ولا في الطريق فلا شفعة.

فقوله: (إنما جعل رسول الله الشفعة في كل ما لم يقسم)؛ لأن الشريكين حقهما مشاع، وكل واحد حقه غير متميز، وكل جزء من الأرض لكل منهما فيه نصيب حتى تقسم ويعرف أن هذا لهذا وهذا لهذا. (فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، أي: عند ذلك تزول الشركة، والأحاديث التي وردت في الشفعة إنما هي فيما يقسم من العقار، وجاء في حديث جابر : (الشفعة في كل شيء)، وهذا عام يشمل العقار وغير العقار, وهذا مثال للقاعدة المشهورة التي يقولون فيها: الحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام؛ لأن (الشفعة في كل شيء) عام يشمل العقار وغير العقار، وقد جاءت نصوص خاصة في العقار لا تخصص العام، بل العام باق على عمومه، وإنما الذي حصل هو أن ذلك الخاص جاء مرتين، مرة داخل تحت اللفظ العام، ومرة منصوص عليه على سبيل الاستقلال، فمن القواعد التي يذكرها الفقهاء: أن الحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام، فحديث جابر عند الطحاوي : (الشفعة في كل شيء) يدخل فيها المنقول والعقار، ثم جاءت نصوص خاصة بالعقار، فهذه النصوص الخاصة في العقار لا تخصص العام ويقال: إن الحكم مقصور عليها، بل الحكم على العموم، يكون هذا الذي نص عليه بخصوصه ليس مخصصاً، وإنما هو بعض أجزاء العام فيكون منصوصاً عليه مرة على سبيل الاستقلال، ومرة على سبيل الاندراج تحت اللفظ العام.

تراجم رجال إسناد حديث (...فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ].

عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا معمر ].

معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ].

أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر ].

جابر رضي الله عنه مر ذكره.

شرح حديث (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها) وتراجم رجال إسناده

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الحسن بن ربيع حدثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعاً, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مثل حديث جابر في أن الشفعة فيما لم يقسم، وأنه إذا قسمت الأرض وحدت وكل عرف حدوده وتميز حقه عن حق صاحبه فإنه لا شفعة.

قوله: [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الحسن بن الربيع ].

الحسن بن الربيع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا ابن إدريس ].

هو عبد الله بن إدريس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب ].

سعيد بن المسيب ثقة، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ أو عنهما جميعاً ].

وهذا لا يؤثر، وواحد منهما يكفي.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.

شرح حديث (الجار أحق بسقبه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة سمع عمرو بن الشريد سمع أبا رافع رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه) ].

أورد أبو داود حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بسقبه)، هذا الحديث يوردونه في كتاب الشفعة، ومن العلماء من قال بشفعة الجار، ومنهم من قال: إنه لا يكون له شفعة إلا إذا كان هناك اشتراك في أمر آخر غير الأرض، وهو الطريق أو مسيل الماء يكون لهما جميعاً، أو غير ذلك من الأمور المشتركة التي يحصل النزاع فيها لو بقيت، فقيل: إن المراد (بسقبه) بره وإحسانه، وأن الجار يحسن إلى جاره، وعلى هذا يكون لا علاقة له بالشفعة، ومنهم من يقول: إن المراد بذلك الشفعة، ولكن الأحاديث التي وردت في أنه: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) تدل على أنه لا شفعة، اللهم إلا أن يكون هناك اشتراك في أمر آخر غير الاشتراك في الأرض، ويحصل بسببه الخلاف والنزاع، فعند ذلك تصير الشفعة لا من أجل الجوار, ولكن من أجل الاشتراك في مثل الطريق الذي سيأتي ذكره في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(الجار أحق بسقبه)، يعني: حصول الشفعة، وفسر بأن المقصود به البر والإحسان، وأن الجار أحق بإحسان جاره وببره ومعروفه، ومعلوم أنه قد جاءت السنة في نصوص كثيرة في الحث على الإحسان إلى الجار، وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

تراجم رجال إسناد حديث (الجار أحق بسقبه)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ].

عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا سفيان ].

هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إبراهيم بن ميسرة ].

إبراهيم بن ميسرة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمرو بن الشريد ].

عمرو بن الشريد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي فقد أخرج له في الشمائل.

[ عن أبي رافع ].

أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

ولو كان الجزء المشترك بين القطعتين هو سور واحد فلا يحق للجار أن يشفع، مادام وضعت الحدود فيوضع جدار آخر في الوسط، ويفصل حق هذا من هذا.

شرح حديث (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض) ].

أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض) يعني فيما يتعلق بالشفعة، وإذا كان كل شيء متميز فالأمر كما جاء في الأحاديث السابقة: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة), ولكنه يكون من مكارم الأخلاق، فكون الجار يعرض على جاره ويخبره حتى ولو كان ليس له شفعة من أجل أنه إذا أراد أن يتوسع في هذه الأرض المجاورة أو في هذا البيت المجاور له، ولعله يستفيد منه، فهذا من الأمور الطيبة التي ينبغي أن تكون بين الجيران.

تراجم رجال إسناد حديث (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)

قوله: [ حدثنا أبو الوليد الطيالسي ].

أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا شعبة ].

شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن قتادة ].

قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الحسن ].

الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سمرة ].

سمرة رضي الله عنه، وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

والحديث من رواية الحسن عن سمرة ، ولكنه موافق للحديث الذي مر: (الجار أحق بسقبه).

شرح حديث (الجار أحق بشفعة جاره)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) ].

وهذا حديث جابر رضي الله عنه أن: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها ولو كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً).

قوله: (إذا كان طريقهما واحداً) فيه بيان أن الشفعة تكون مع الجوار ومع تميز حق كل واحد منهما؛ وذلك لحصول الاشتراك في الطريق؛ لأن الاشتراك في الطريق أيضاً يؤدي إلى الخصومات والمنازعات، كما كان يؤدي الاشتراك في الأرض المشاعة إلى ذلك، فالشيء المشاع هو المشترك بين الجارين، والطريق لهما جميعاً فهذا يعطي حق الشفعة، فالذي تثبت فيه الشفعة للجار هو الشيء الذي يشتركان فيه ويؤدي إلى الخصومات والنزاع لو جاء شخص جديد، وأما إذا كان متميزاً وليس هناك اشتراك لا في طريق ولا في غير طريق فإن الشفعة لا تثبت، وقد مر في الأحاديث: (فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة).

قوله: (ينتظر بها وإن كان غائباً) معناه أن حقه ثابت ولو كان غائباً بحيث إنه إذا جاء أو علم فإن له حق الشفعة ولو ما مضى عليها وقت، والمهم أنه من حين يعلم فعليه أن يشفع إن كان يريد الشفعة.

وأما إذا لم يعلم الشريك أن شريكه قد باع، وكان قد باع منذ فترة طويلة، فإن له أن يشفع حتى ولو كان في ذلك ضرر على المشتري، وأما إذا علم فليس له حق، وأما إذا وجد بنيان فقد يكون هذا سبباً في عدم الرغبة في الشفعة، ولكن الآن كما هو معلوم سهولة الاتصالات تبسط الأمر، ويمكن أن يعلم الإنسان أو يتصل به، فإن شفع فالحمد لله، وإن لم يشفع بقيت البيعة لمن هي له.

والمشتري قبل أن يتصرف حتى لا يقع في محذور ويقع اختلاف يتصل بالشخص ويقول: إني اشتريت فإن شفع انتهى، وإن لم يشفع بقي البيع على ما هو عليه.

تراجم رجال إسناد حديث (الجار أحق بشفعة جاره)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم ].

هشيم بن بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا عبد الملك ].

عبد الملك بن أبي سليمان صدوق له أوهام أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن عطاء عن جابر ].

عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجابر مر ذكره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الشفعة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه؛ فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الشفعة, والشفعة هي استحقاق الشريك حصة شريكه إذا باعها على رجل آخر، فإنه يستحق انتزاعها بالقيمة التي باعها شريكه على غيره؛ وذلك من أجل رفع الضرر، فقد يحصل في اختلاف الشركاء من يكون سيء المعاملة فيترتب على ذلك ضرر، وقد يشتري بعض الناس حصة شريك مشاعة من أجل أن يضار غيره، فشرعت الشفعة من أجل ذلك، فيمكن أحد الشريكين أن ينتزع حصة شريكه التي باعها على رجل آخر بالقيمة التي اتفق عليها.

فالشفعة حق أعطي للشريك، وهذا فيما إذا كان مشاعاً ولم يتميز نصيب كل منهما، وأما إذا تميز وقسمت الأرض التي بين الشريكين وعرف كل حدوده وأرضه فإنه في هذه الحالة لا شفعة؛ لأن الاشتراك قد ذهب وصار نصيب كل واحد معلوماً متميزاً ولا يقال: إنه شريك، فإذا قسمت الأرض ووضعت الحدود وصرفت الطرق فعند ذلك لا شفعة.

ويستحق الشريك الشفعة بالسعر الذي اشترى به المشتري، وقد جاء في أكثر الأحاديث التي جاءت في الشفعة أنه: (إذا وضعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)، فهذا يكون في العقار والأراضي، فبعض أهل العلم قصر الحكم في ذلك على الأراضي؛ لأنه جاء فيها ذكر التقسيم والحدود والطرق، وبعض أهل العلم عمم الحكم حتى في المنقولات التي يكون فيها الاشتراك؛ لأن الضرر الذي يكون في الثابت غير المنقول يكون أيضاً في المنقول، كشخصين لهما سيارة يعملان عليها بالأجرة، ثم إن أحد الشريكين باع حصته، فبعض أهل العلم قال: لا شفعة فيها؛ لأن الأحاديث التي وردت إنما وردت في الطرق والأراضي والعقار التي لم تقسم ولم يعرف كل واحد منهما نصيبه، لكن قد جاء ما يدل على العموم كما في حديث عن جابر رضي الله عنه: (الشفعة في كل شيء) عند الطحاوي وذكره الحافظ في البلوغ، وقال: إن رجال إسناده ثقات، وهو يدل على عموم الحكم في الثابت والمنقول؛ لأن المحذور يكون في الاشتراك في الأرض، وكونه يأتينا شريك جديد، ومثله إذا كانوا شركاء في سيارة أو دابة، فإن المحذور الذي يكون في الأرض موجود في مثل المنقولات، وعلى هذا فالشفعة ثابتة في كل شيء، سواء في الثابت أو المنقول.

وأورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه قال: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط) يعني: منزل أو بستان، (لا يصلح أن يبيعه حتى يؤذن شريكه) أي: ينبغي على الشريك أن يخبر شريكه، فلا يبيعه بدون علمه، وإنما يخبره بأنه سيبيع، فإذا كان يريد أن يشتريها اشتراها، فمن حسن المعاملة، ومن الأخلاق الكريمة، ومن حسن معاملة الشريك لشريكه أنه عندما يريد أن يبيع أن يخبره؛ حتى يكون على علم، وإن باع فإن الشريك له الحق في أن ينتزع حصة الشريك من شريكه الذي انتقلت إليه، (لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه) فإن باع فهو أحق به أي: الشريك الذي لم يبع أحق بحصة الشريك البائع، (حتى يؤذنه)، فإذا علم بأن البيع قد تم وحصلت الشفعة بعد علمه مباشرة فإنها تنفذ، وأما إذا علم وترك ثم أراد أن يشفع فيما بعد فإن ذلك لا يمكنه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فإنه يمكن الشريك الذي لم يبع أن يأتي في أي لحظة بعد أن تمضي مدة طويلة إلى المشتري الذي اشترى من شريكه فيقول له: أنا شفعت، فالشفعة مقيدة بالعلم، وعند بلوغ الخبر إليه بأن البيع قد تم فإن ترك الشفعة، أو لم يذكر أنه شفع، أو لم يخبر بأنه شفع، أو يشهد على أنه شفع وأنه قد أعلمه، ولكنه ترك حتى مضت مدة فيسقط حقه في الشفعة؛ لأن إعطاءه الفرصة بدون تحديد لا شك أن فيه مضرة على المشتري الذي اشترى من شريكه.

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ].

هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن جريج ].

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الزبير ].

هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر ].

جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

معلوم أن الشفعة قد تحصل وقد لا تحصل فليست محققة؛ لأن الشريك قد لا يشفع، فكونه يصير مقصوداً من أجل الإضرار بالشريك والشريك يعلم أن الشريك يرغب في ذلك فلا شك أن هذا لا يسوغ ولا يجوز، وكونه يؤخذ بالشيء الذي تم به البيع فإنه يؤخذ بذلك، وإذا كان قد زاد في السعر وحصل إضرار فإن الذي حصل منه ذلك الإضرار آثم، وصنيعه يشبه صنيع النجش وهو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها، فإنه يكون آثماً والبيع صحيح.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2893 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2845 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2838 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2734 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2707 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2697 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2657 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2652 استماع