آفات اللسان


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي خلق اللسان، وفجَّر منه ينابيع الحكمة والبيان، وهدى إلى الجنان أو إلى دركات الجحيم والنيران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الديان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى للهداية إلى الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه في كل زمان ومكان، وجعلنا وإياكم منهم برحمته ومنه وكرمه إنه هو العظيم الرحمن.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

إخواني في الله: الحمد الله الذي منَّ عليَّ وعليكم بالاجتماع في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمُنَّ علينا جميعاً بأن يكون مجلسنا مجلساً مباركاً مشهوداً بالخير، وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه موجباً للفوز بعظيم رحمته.

أيها الأحبة في الله: إن لله عز وجل على الإنسان نعماً وفضائل عظيمة ومنناً لا يحصيها إلا هو سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم والمنن والفضائل والنوائل: أن خلقه وكان معدوماً، وأعطاه وكان بئيساً محروماً.

من هذه النعم تلك النعمة العظيمة الجليلة الكريمة يوم خلقه؛ يوم براه فصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، يوم تقلب ذلك المخلوق الضعيف المسكين في ظلمات الأرحام تحت منِّه ولطفه ورحمته، فخلقه وسواه، ومنَّ عليه بالخير وأعطاه، فما أعظم خلقته، وما أدق درايته وقدرته.

خلق هذا المخلوق، وجعل في خلقه شواهد وحدانيته، ودلائل عظمته وألوهيته وربوبيته، يوم أطعمه ولا مطعم له سواه، ويوم سقاه ولا يسقي تلك الأحشاء الظامئة أحدٌ سواه.

ثم من هذه النعم تلك الأعضاء التي خلقها وصَّورها وأوجدها وبراها، تلك الأعضاء التي وقف أمامها الأطباء والحكماء، فحارت عقولهم في بديع صنع الله! يوم وقف الأطباء والحكماء أمام أسرار عظمته ودلائل وحدانيته وألوهيته..!

قف أمام ذلك العقل الذي لو أراد الناس أن يدركوا دقائق ما فيه من العلوم المعقدة لحارت في ذلك أفهامهم وعقولهم.

قف أمام العين، فسبحان من قذف فيها نور البصر! ولو سلب ذلك النور ما استطاع أحدٌ في الوجود أن يرده.

قف أمام السمع فلو سلب الله السمع ما استطاعت أطباء الدنيا أن ترده لحظةً واحدةً.

يدٌ سبحان من خلقها وبراها! سبحان من مدَّها وبسطها! جرت فيها الدماء، وصرفت فيها عروقها من الله فاطر السماء، فإن قبضها الله فلا يستطيع أحدٌ سواه أن يبسطها، ولئن بسطها الله فشلت، لن يستطيع أحدٌ لحظةً أن يقبضها، فسبحانه! لا إله إلا هو فتبارك الله رب العالمين.

تقف أمام هذه الشواهد، وأمام هذه الدلائل والعلامات الصادقة التي تدل على أنه الواحد، فلئن تحرك الإنسان بهرتك حركته، ولئن نام مضطجعاً حقيراً ذليلاً بهرتك ذلته، فسبحان الله العظيم! لكي يعلم كل مخلوق أنه تحت أمره وتحت خلقه وقدره وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] خلق هذه المخلوقات لكي يقف الإنسان أمامها فيسبح ويمجد فاطر الكائنات! خلق هذه المخلوقات لكي تمتلئ القلوب بتعظيم فاطر الأرض والسماوات، خلقها وفطرها وبراها، فلا يعقب حكمه، ولا يغير صنعه تبارك الله رب العالمين!

واليوم -أيها الأحبة- نقف أمام عضوٍ خلقه الله، فجعل خلقته دليلاً على وحدانيته .. عضوٌ حقيرٌ صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان .. عضوٌ حقيرٌ إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات.

خلق الله اللسان لكل ناطقٍ من الحيوان، وجعل لكل حيوانٍ لغته، ولكل حيوانٍ منطقه، فعلم جل جلاله وتقدست أسماؤه كلمات النمل في ظلمات الليل وضياء النهار، وسمع أصواتها، وعلم لغاتها، وقضى حوائجها جل جلاله وتقدست أسماؤه.

تقف أمام هذا العضو الحقير، فيستهويك ما فيه من دلائل عظمة الله وشواهد وحدانيته، فلئن أصبحت وسمعت أصوات الطيور، فقل: سبحان الله! ولكل حيوانٍ لغته، ولكل مخلوقٍ عبارته ولهجته، ومع هذا كله لا يختلف عليه صوت من صوت، ولا تشكل عليه عبارة من عبارة، فكلها وسعها سمع الله، وكلها في علم الله عز وجل!

أيها الأحبة في الله: يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية .. وما أكثرها! يقول جل جلاله في كتابه محركاً القلوب للتفكر والاعتبار بهذه الآية من آياته: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]؛ ومن آياته التي دلت على وحدانيته وعظمته وألوهيته وربوبيته اختلاف ألسنتكم وألوانكم، خلق الإنسان، وجعل له هذا اللسان لكي يعبر عما في القلب من أشجانٍ وأحزانٍ، لكي يعبر عما في الجنان من أفراح وأتراح .. خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله.

نثر الناس من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل لكل قومٍ لسانهم، ولكل أمة لهجتهم، فوقف أمام تلك اللهجات وتلك اللغات علماء اللغات فحيرتهم، ووقفوا أمامها حيارى من عظيم صنع الله جل جلاله! حتى إن اللغة الواحدة كلغة العرب -مثلاً- كم فيها من لهجات .. قد تفرقت قبائلهم، فأصبحت لكل قبيلةٍ لهجتها، يشب عليها الصغير ويشيب عليها الكبير، فلا إله إلا الله العليم الخبير!

هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً.

هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران.

هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان.

هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً.

هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران.

ولقد وصَّى الله جل وعلا عباده المؤمنين بأن يتقوه -سبحانه وتعالى- في هذا العضو، وأن ينظر الإنسان إلى نعمة الله جل وعلا يوم أنطقه، فيستحي من الله أن يسمع منه كلمةً لا ترضيه، ويستحي يوم ينظر إلى الأخرس الذي لا يستطيع أن يعبر عن أشجانه وأحزانه، بينما تفضل الله عليه وأكرمه فأنطق لسانه وأفصح بيانه، فيستحي الإنسان من الله جل وعلا يتقي الله في اللسان.

ولذلك وصَّى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتقوه فيما تنطق به الألسنة فقال جل وعلا في كتابه المبين آمراً عباده المؤمنين، وواعداً لهم بعظيم ما يكون من الخير في الدنيا والآخرة إذا اتقوا الله في اللسان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] من اتقى الله في لسانه، فإن الله وعده أن يصلح حاله، وأن يحسن عاقبته ومآله، وأنه يفوز فوزاً عظيماً.

أيها الأحبة في الله: إن لهذا اللسان زلات، وله آفات إذا بلي بها العبد فقد خسر الدنيا والآخرة؛ يوم يصبح الإنسان ويمسي وهو لا يراقب الله ولا يخافه فيما يقوله لسانه يوم يصبح الإنسان ويمسي وقد أطلق للسانه العنان لينتهك حدود الله ويغشى محارمه، ولا يخاف الله في عباده؛ يوم يصبح ذلك اللسان جريئاً على حدود الله ومحارمه، فتخط له في صحائف السيئات زلاته وآفاته! فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.

الكفر بالله

ألا وإن أعظم آفات اللسان التي إذا بلي بها الإنسان خسر دينه ودنياه وآخرته: الكفر بالله، يوم يمسي الإنسان ويصبح وقد نطق لسانه بكلمة تخرجه من الدين والملة -والعياذ بالله- يوم ينطق الكلمة فيهوي بها إلى دركات الجحيم .. يوم ينطق الكلمة فيكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يتبين فيها يكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم القيامة) فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذا البلاء.

ولذلك خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته من زلات اللسان، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام لكي ينتهل من معين الوحي، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أمسك عليك لسانك) أمسك هذا اللسان حتى لا ينطلق في حدود الله ومحارمه.. أمسك هذا اللسان يا معاذ عن عباد الله المؤمنين.. أمسك لسانك عن عباد الله المسلمين حتى تكون مسلماً حقاً فقال له: (أمسك عليك لسانك) وإذا بـمعاذ تهوله تلك الكلمة فقال: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟) هل هذه الكلمات التي يلفظها هذا اللسان مكتوبة في السجلات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك، ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) حصائد الليل والنهار؛ يوم أطلق اللسان في غيبة المسلمين، ويوم أطلقه في عورات عباد الله المؤمنين: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).

وجاءه صحابي يوماً من الأيام يسأله عن الدين والإسلام فقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. فقال صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله، ثم استقم، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخافه عليَّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك هذا)؛ أخاف عليك لسانك، أخاف عليك منطقك وبيانك.

فلذلك كان من أعظم آفات اللسان وأعظم ذنوبه أن يكفر بالله جل وعلا، وقد يكفر الإنسان حينما يقول الكلمة الواحدة فيخرج بها من الدين بالكلية، يوم يقول: لا إله والحياة مادة. أو يقول: إن لله ولداً. فيأتي بشيء إداً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [مريم:90-91] يوم ينادي غير الله ويستغيث بغيره، ويستجير بأحدٍ سواه، فيُكتب عليه أن حرمت عليك الجنة وتبوأت النار؛ وذلك يوم يتعلق بغير الله، فيناديه ويناجيه كما يناجي الله .. جل الله في علاه!

الاستهزاء بالدين وأهله

ومن آفات اللسان التي تخرج من الملة أن يستهزئ العبد بالدين.

يوم يطلق لسانه في معالم هذا الدين لكي يستهزئ ولو بكلمة واحدة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في غزوة تبوك في شدة الحر -وسماها الله عز وجل ساعة العسرة؛ لأنها ساعةٌ شديدةٌ امتحن الله فيها عباده المؤمنين- وخرج معه أصحابه الكرام، وخرج قومٌ لم تسلم لله قلوبهم كما أسلمت ظواهرهم.

فكان من هؤلاء القوم طائفةٌ أرادوا أن يقطعوا طريق السفر لما شعروا بالسآمة والملل، فلما أرادوا أن يتحدثوا بحثوا عن الشيء الذي يتفكهون به .. بحثوا عن الشيء الذي يضحكهم ويسليهم .. فلم يجدوا إلا عباد الله الصالحين، فقال قائلهم: (ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء!) من هم؟ إنهم القراء؛ حفاظ كتاب الله عز وجل، يقولون: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أناس يحبون الدنيا- وأجبن عند اللقاء وأخوف عنده!

فنزل جبريل من أطباق السماوات العلى بتلك الآيات العظيمة من الله جل وعلا يوم سمع أحبابه وأولياءه ينتقصون من هؤلاء الذين لا خير فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]؛ ليس لكم عذر، قد كفرتم وخرجتم من الدين والملة بهذه الكلمات اليسيرة، فصاروا يتعلقون بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (يا رسول الله! كنا نتحدث حديث الركب -كنا نقطع مسافة السفر- وكانت الحجارة تضرب رجل أحدهم فتسيل بالدماء والنبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]) أضاقت عليكم الدنيا فلم تجدوا شيئاً به تفرحون، أو منه تضحكون إلا عباد الله الصالحين؟ وهذه هي عاقبة كل من استهزأ بأولياء الله وعباد الله الصالحين.

فإياك، ثم إياك وأولياء الله! وإياك ثم إياك والراكعين الساجدين، فإن الله يحبهم ويحب من أحبهم، ويعادي من عاداهم، فلا تنطقن بكلمةٍ تستحق بها قول الله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، قال بعض العلماء: إن هؤلاء القراء حفظوا كتاب الله، فكان الاستهزاء بهم استهزاء بدين الله عز وجل، ولذلك قالوا: من استهزأ بالعالم واستخف بالداعية إلى الله فقد استهزأ بالدين، من قال: هذا العالم لا يفهم شيئاً .. هذا العالم يحلل ويحرم من عنده، واستهزأ بالعلماء واستهزأ بآرائهم، واستخف بفتواهم فله نصيبٌ من قول الله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].

إنهم دواوين العلم الذين شرح الله بالقرآن صدورهم، إنهم رجال الدين والإيمان الذين نور الله بالوحي قلوبهم، إنهم رجال الدين الذين حفظوا كلام الله رب العالمين، وحملوا رسالة إله الأولين والآخرين؛ فكانوا ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون.

فاتق الله، اتق الله في العلماء والدعاة والهداة إلى الله، لا يمسَّنك الله بعذاب في كلمة قلتها في عالم أو داعية إلى الله، وكن ذلك الطيب الذي لا ينفح إلا طيباً، ولا يسمع منه إلا الطيب، فإن الله إذا طيب قلب الإنسان طيب لسانه.

كن ذلك الخيِّر الديِّن الذي يخاف الله فيما يقوله وينطق به لسانه، واذكر محاسنهم، وشيَّد بين الناس مآثرهم، وكن حافظاً لعوراتهم داعياً لهم بظهر الغيب، فلك من دعوتك أوفر حظ ونصيب.

ألا وإن من الاستهزاء بالدين الاستهزاء بشرع الله رب العالمين، فإياك أن ينطق لسانك بكلمة في حكمٍ لله جل جلاله، إذا سمعت أن الله أحل أمراً أو حرمه فقل: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لا تقل: كيف هذا؟ لا تقل: لا يصلح هذا. لا تقل: هذا لا يعجبني. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

أسلم لله قلباً وقالباً ولساناً، وليكن منك الرضا والتسليم، فإن الله يقول للنبي الكريم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] يقسم الله جل جلاله هذا القسم العظيم أن لا إيمان لهم حتى يحكموك فيما شجر بينهم، حتى تنصاع وتصبح ذليلاً أمام الكتاب والسنة (حتى يحكموك) فإذا جئت في خصومة بينك وبين جارك أو أخيك، فأول شيء تقوله: ما حكم الله ورسوله فيما بيني وبينك؟ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] وليس وحدها ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [النساء:65] أي: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] هذا هو الإيمان، هذه هي العبودية الحقة لله العظيم الديان، فاتق الله فيما تقول، واتق الله فيما تعتقده فإن الله سائلك عن كل ما يلفظ به لسانك.

الغيبة

ألا وإنَّ للسان آفات، فكما أن لله حقوقاً يزل فيها اللسان، فإن للعباد حقوقاً تزل فيها الألسن، تلك الحقوق التي تهتك بها عورات المسلمين، تلك الحقوق التي تضيع فيها حدود الله رب العالمين، إنها الحقوق التي ينتهكها الإنسان بالكلمة الواحدة في وجه أخيه أو غيبته.

ومن آفات اللسان التي تكون بين الإنسان وأخيه: الغيبة، وهي أن يذكر أخاه بما لا يحب أن يذكره به، قالوا: (يا رسول الله أرأيت لو كان فيه ما قلت؟ قال: إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) فإن كان ما قلت فيه فهي غيبة، وإن لم يكن فيه ذلك فقد بهته وظلمته.

الغيبة يوم يجلس الإنسان في تلك المجالس فيظن أن الله لا يسمعه ولا يراه، فيذكر أخاً من إخوانه، ويذكر عيباً من عيوبه، فيقول: فلان فيه كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، وحينئذٍ تخط هذه الكلمة في صحيفة عمله لكي يلقى الله جل وعلا بذنبه.

ألا وإن الغيبة من آفات اللسان وزلاتها، ومما يجب على كل مسلم أن يخاف الله ويرجوه، ويَسلم منه إخوانه المسلمين عند غيبتهم عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه) أي: المسلم الكامل والمسلم الحق.

ليسلم الناس جميعاً منك، وارض لعل الله يرضى عنك، سلِّم المسلمين من لسانك، فإذا جلست في المجلس وأردت أن تذكر مسلماً فاجعل الجنة والنار بين عينيك .. إذا أردت أن تذكر أخاك المسلم فلا تذكره إلا بخير، ولا تذكر عيوبه، فإن ذكر العيوب هتكٌ لستر الله جل وعلا عليه، ولذلك قال الإمام مالك رحمة الله عليه كلمةً عجيبةً غريبةً! قال رحمه الله: أعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس، فأوجد الناس لهم عيوباً، وأعرف أناساً عندهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم.

أعرف أناساً لا عيوب عندهم -أهل استقامة وطاعة- ولكنهم يتكلمون في عيوب الناس: فلان فيه .. وفلان فيه، يهتكون ستر الله عليهم، فأوجد الناس لهم عيوباً -أي: صارت الناس تظلمهم وتقول: فيهم. وهو ليس فيهم- لأنهم هتكوا ستر الله على عباده، وأعرف أناساً عندهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم، فالكلام في عيوب الناس لا خير فيه.

عليك نفسك فاشتغل بعيوبها ودع عيوب الناس للناس

سل الله العافية، فإن عيَّرت مبتلىً فلعل الله أن يعافيه ويبتليك، ولذلك ذُكر عن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمامٌ من أئمة التابعين وصفحةٌ من صفحات السنة المشرقة والصلاح والعبادة في زمانه، وقد أوصى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن يغسله إذا مات- أنه لما كان في آخر حياته أصابه الدين، فقال: والله إني لأعرف الذنب الذي من أجله بليت بالدين. قالوا: وما ذاك؟ قال: قلت لرجلٍ قبل أربعين عاماً: يا مفلس!!

أذية المسلم لا تفوت؛ إما أن ينتقم الله من المؤذي في الدنيا، أو ينتقم منه في آخر لحظاته من الدنيا، أو ينتقم منه في الآخرة، أو يجمع الله له بين الثلاث النقم والعياذ بالله.

عورات المسلمين عظيمة! ما خلق الله الإنسان لكي يهتك عورات المسلمين: (من ستر مسلماً ستره الله، ومن تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته) وورد في الرواية الأخرى: (ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره).

فاتق الله، لسانك لا تذكر بها عورة مسلم، وخف الله في هذه العورات والعيوب التي في الناس، وقل: يا مسلِّم سلِّم. وقل: الحمد الذي عافاني مما ابتلاهم به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.

اتق الله في عورات المسلمين، ولا تذكر عورة مسلم؛ فإن الله يسترك كما سترتهم، ويعافيك إذا حمدت الله عز وجل على العافية إذا رأيتهم.

وينبغي على المسلم إذا نظر إلى عورة أخيه المسلم أن يسعى في استصلاحها، وألا يشمت بها، فمن كمال إيمان المؤمن أنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن كنت مؤمناً حقاً فلا تتبجح في المجالس وتقول: يفعلون .. ويفعلون .. ولكن هيئ من نفسك ذلك المؤمن الصالح، واحتسب تلك الخطوات التي تشتري بها رحمة الله ولتذهب إلى هذا المبتلى وتلقي في أذنه كلماتٍ ينفعك الله بها في الدنيا والآخرة، فتذكره بالله وتُهدي إليه العيوب، فلعل ذلك أن يكون سبباً في صلاحه.. هذا هو المنبغي على الإنسان، أما أن يجلس بين إخوانه، ويذكر العيوب والمثالب فهذا لا ينبغي.

وقد يكون العبد صالحاً فيذكر فواحش ومنكرات تقع في المجتمع، وهذا لا ينبغي خاصةً إذا شهر بها على وجه لا يترتب عليه المصالح؛ فإن ذلك ضرره أعظم من نفعه، وخطره أعظم من خيره، قال سفيان رحمه الله: إذا سمعتم بالفواحش والمنكرات، فلا تذيعوها فإنها ثلمةٌ في الدين.

إذا سمع الناس أن فلاناً فعل .. وفلاناً فعل قد تقتدي بهم، ولكن حاول ألا تذكر هذه العورات إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة من التحذير، وبيان الخطأ كما هو واجب على العالم، ويجب أن يصحب ذلك إخلاص النية لله جل وعلا والإشفاق، وأن يكون ذلك النصح بأسلوب يدل على حسن قصد صاحبه، فنعم والله من يصنع ذلك! فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين ذلك ويفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه.

فمن حقوق المسلم على أخيه المسلم ألا يذكر عورته، وألا يشهر به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوجه يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام؟) ما قال: يا فلان بن فلان: لمَ فعلت كذا وكذا؟ لا يشهر صلوات ربي وسلامه عليه، إلا إذا وجدت المصلحة المقتضية لذلك، أو غلب على الظن اندراء المفسدة بتشهيره.

ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جاراً جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره، فأمره أن يخرج متاعه عن بيته، فصار كلما مرَّ عليه الناس قالوا له: ما بك؟ ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من مرَّ لعن جاره وسبه وآذاه. فقال له جاره لما رأى ذلك: ارجع إلى بيتك، فلن ترى ولن تسمع مني إلا خيراً).

ألا وإن من أعظم من ينبغي أن يستر هو جارك وأقرب الناس منك، فإن من حق الجار على الجار ألا ترسل لسانك على عورته، ولا تدل على عورته، ولذلك وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، ووصى من قبله كتاب الله الواحد القهار.

وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام على قدميه ومعه رجلٌ يناجيه، فوقف حتى طال موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء صحابي يريد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ وذلك الرجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه المرة تلو المرة، يقول الصحابي: حتى أشفقت على النبي صلى الله عليه وسلم من طول القيام، فلما فرغ الرجل من ذلك المقام ومضى وانصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)؛ حتى ظننت أن الله سيجعل الجار كالابن الذي من النسب يرثك وترثه.

فلا تذكر عورة الجار؛ لأن الجار قريب منك تسمع صيحته وتعلم حاله وتعرف أبناءه وبناته وما يكون غالباً من شأن أهله، فلذلك كان من حقه العظيم أن تستر عورته، ولا تفضح شيئاً من ذلك.

النميمة

كذلك أيضاً من حقوق المسلمين التي تزل بها الألسن، وتحصل بها الآفات: النميمة، وهي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، يوم ينقل ذلك الرجل الذي لا يخاف الله ولا يتقيه تلك الكلمات التي تأجج نار الفتنة والعياذ بالله.

تلك الكلمات التي تفرق بين الأحبة والجماعات.

تلك الكلمات التي تورث البغضاء والعداوات.

تلك الكلمات التي تصطلي بها القلوب بنار الحقد والحسد.

تلك الكلمات التي تورث بين الناس المفاسد حتى تسفك الدماء، وتنتهك حدود الله جل جلاله، ألا وهي المشي بين الناس بالقيل والقال، كقولك: فلان يقول فيك كذا وكذا.

فإياك أن تكون نماماً! ففي الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره عن حال من نقل الكلام فأوقع العداوة بين الناس أنه لا يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) والعياذ بالله! يقول بعض العلماء في هذه الأحاديث المشتملة على الكبائر: الغالب أن صاحبها لا يوفق لحسن الخاتمة حتى يكون من أهل الجنة.

فاتق الله في نقل الأحاديث! المسلم يصلح ولا يفسد؛ إذا علمت أن بين أخٍ وأخٍ عداوة فاتق الله فيما تقوله، قُل الكلام الطيب، حتى إن الإسلام أباح لك أن تقول الكذب لأجل أن تصلح بين هذه القلوب المتفرقة، الإسلام يريد السلامة ويريد اجتماع القلوب، والتآلف والمحبة والتعاطف والتراحم والتكاتف، يريد اجتماع القلوب على طاعة الله جل جلاله، لا يريد الشحناء، ولا البغضاء .. لا يريد تفكك القلوب وحصول الفتن والمحن، واشتعالها واصطلائها بسعير الشيطان وأعوان الشيطان، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله في حقوق إخوانه.

وإذا رأيت إنساناً ينقل إليك كلاماً يوغر صدرك على إخوانك فذكره بالله جل جلاله، وقل: يا فلان! اتق الله فيما تقول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي. دعوا لي أصحابي إني أريد أن أخرج نقي الصدر لهم) فلذلك ينبغي على المسلم الموفق إذا جاءه هذا النمام -ذو الوجهين- الذي يريد أن يفرق ويبدد الجماعة والشمل أن يقول له: يا فلان! اتق الله! وإذا كنت في المجلس فسمعته ينقل حديثاً يوغر صدر السامع على أحد فقل له: اتق الله.

وقد كانت للسلف مواقف جليلة: جاء رجلٌ إلى بعض السلف وقال له: فلان يقول فيك كذا وكذا، فقال له ذلك العالم الجليل: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ الله أكبر! تريد أن تغير قلبي على أخي؟ ما وجدت شيئاً تنقله إلا هذه الكلمات الخبيثة حتى ولو قالها، ما وجد الشيطان وعاءً نتناً ينقل النتن غيرك والعياذ بالله!

وجاء رجل إلى الحسن رحمة الله عليه فقال: فلان يقول فيك كذا وكذا، قال: والله لأغيظن من أمره بذلك، اللهم اغفر لي ولأخي. أي: لأغيظن الشيطان الذي أمره أن يقول فيه. اللهم اغفر لي ولأخي.

هذه صفحاتٌ مشرقةٌ من قلوب تعامل الله علام الغيوب، من يريد الجنة يشتريها بالأعمال الصالحة، وبسلامة الصدر التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها بالجنة، فكان مبشراً بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض، لحديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة) فاستشرفت تلك العيون تنتظر هذا الرجل المبشر بالجنة وهو في الدنيا، فخرج ذلك الرجل الصالح الموفق فسلم ومضى، فتبعه ابن عمرو رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه يريد أن يفوز بالخير الذي فاز به هذا العبد الصالح، فنام معه ثلاثة أيامٍ يريد أن ينظر كيف دخل هذا العبد الجنة، يريد أن يعرف السبيل الذي أوصل هذا العبد إلى دخول الجنة، فبات معه ثلاث ليال، لا يتحرك حركة، ولا يقول كلمة، ولا يفعل فعلاً إلا وعين ابن عمرو تراقب، حرصاً على الخير، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم قلوبهم معلقة بالجنة، أين طريق الجنة؟ أين سبيل الجنة؟ يبيعون أنفسهم لشراء هذه السلعة الغالية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207] من يشري نفسه، أي: يبيعها وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:207] ليس كل الناس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ البقرة:207] فرآه ثلاثة أيام، يقول: فما وجدت منه كثير صلاة ولا صيام، ولا كثير عبادة، ولكن كان إذا تقلب في الليل وهو نائم، ذكر الله، سبح.. حمد.. هلل.. كبر.. قلب معلق بالله جل جلاله، قلب سليم، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذه القلوب.

فلما مضت الثلاث الليالي، ولم ير ابن عمرو عملاً عند هذا الرجل، فقال: يا فلان، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كذا وكذا، فكنت أنت الرجل، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الرجل: [أما إنه ليس عندي كثير صلاة، ولا صيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم].

فلذلك ينبغي للمسلم الموفق أن يكون قلبه بريئاً، فإذا جاءه ذو الوجهين، أو جاءه من لا يخاف الله ويتقيه يريد أن يقطعه عن إخوانه، فليقل له: اتق الله ولا تنقل لي كلام الناس، لا تنقل لي ما يغير قلبي على عباد الله.. فهذه من آفات اللسان.

كثرة السباب واللعان

ومن آفات اللسان: كثرة السباب واللعن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبها لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً يوم القيامة، كثرة السب واللعن تحرم الإنسان الشفاعة والشهادة يوم القيامة -والعياذ بالله- قال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) كلما حصل شيء يقول لعنة، كلما وقع شيء تلفظ بلعنة، فإذا كثرت منه اللعنة فإنه لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً -والعياذ بالله- يوم القيامة.

كثرة الكلام في فضول الدنيا

الثرثرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله كرهها لعباده المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) كره لكم، وإذا كان الشيء يكرهه الله جلَّ وعلا، فحريٌ بالمسلم أن يتقيه ويدعه، مثل كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكانوا يقولون: من دلائل نقص عقل الرجل أو نقص عقل المتكلم، مثل كثرة ثرثرته وحديثه في الدنيا، هذا يدل على نقص عقله؛ لأن العقل يعقل الإنسان عن الكلام في الفضول، فليكن منطق الإنسان منطقاً حكيماً سليماً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك -قال عليه الصلاة والسلام يبين لنا أن الله إذا رزق العبد حفظ لسانه فلم يتكلم إلا فيما يعنيه، كان ذلك من حسن إسلامه- قال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

ألا وإن أعظم آفات اللسان التي إذا بلي بها الإنسان خسر دينه ودنياه وآخرته: الكفر بالله، يوم يمسي الإنسان ويصبح وقد نطق لسانه بكلمة تخرجه من الدين والملة -والعياذ بالله- يوم ينطق الكلمة فيهوي بها إلى دركات الجحيم .. يوم ينطق الكلمة فيكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يتبين فيها يكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم القيامة) فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذا البلاء.

ولذلك خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته من زلات اللسان، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام لكي ينتهل من معين الوحي، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أمسك عليك لسانك) أمسك هذا اللسان حتى لا ينطلق في حدود الله ومحارمه.. أمسك هذا اللسان يا معاذ عن عباد الله المؤمنين.. أمسك لسانك عن عباد الله المسلمين حتى تكون مسلماً حقاً فقال له: (أمسك عليك لسانك) وإذا بـمعاذ تهوله تلك الكلمة فقال: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟) هل هذه الكلمات التي يلفظها هذا اللسان مكتوبة في السجلات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك، ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) حصائد الليل والنهار؛ يوم أطلق اللسان في غيبة المسلمين، ويوم أطلقه في عورات عباد الله المؤمنين: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).

وجاءه صحابي يوماً من الأيام يسأله عن الدين والإسلام فقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. فقال صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله، ثم استقم، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخافه عليَّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك هذا)؛ أخاف عليك لسانك، أخاف عليك منطقك وبيانك.

فلذلك كان من أعظم آفات اللسان وأعظم ذنوبه أن يكفر بالله جل وعلا، وقد يكفر الإنسان حينما يقول الكلمة الواحدة فيخرج بها من الدين بالكلية، يوم يقول: لا إله والحياة مادة. أو يقول: إن لله ولداً. فيأتي بشيء إداً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [مريم:90-91] يوم ينادي غير الله ويستغيث بغيره، ويستجير بأحدٍ سواه، فيُكتب عليه أن حرمت عليك الجنة وتبوأت النار؛ وذلك يوم يتعلق بغير الله، فيناديه ويناجيه كما يناجي الله .. جل الله في علاه!

ومن آفات اللسان التي تخرج من الملة أن يستهزئ العبد بالدين.

يوم يطلق لسانه في معالم هذا الدين لكي يستهزئ ولو بكلمة واحدة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في غزوة تبوك في شدة الحر -وسماها الله عز وجل ساعة العسرة؛ لأنها ساعةٌ شديدةٌ امتحن الله فيها عباده المؤمنين- وخرج معه أصحابه الكرام، وخرج قومٌ لم تسلم لله قلوبهم كما أسلمت ظواهرهم.

فكان من هؤلاء القوم طائفةٌ أرادوا أن يقطعوا طريق السفر لما شعروا بالسآمة والملل، فلما أرادوا أن يتحدثوا بحثوا عن الشيء الذي يتفكهون به .. بحثوا عن الشيء الذي يضحكهم ويسليهم .. فلم يجدوا إلا عباد الله الصالحين، فقال قائلهم: (ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء!) من هم؟ إنهم القراء؛ حفاظ كتاب الله عز وجل، يقولون: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أناس يحبون الدنيا- وأجبن عند اللقاء وأخوف عنده!

فنزل جبريل من أطباق السماوات العلى بتلك الآيات العظيمة من الله جل وعلا يوم سمع أحبابه وأولياءه ينتقصون من هؤلاء الذين لا خير فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]؛ ليس لكم عذر، قد كفرتم وخرجتم من الدين والملة بهذه الكلمات اليسيرة، فصاروا يتعلقون بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (يا رسول الله! كنا نتحدث حديث الركب -كنا نقطع مسافة السفر- وكانت الحجارة تضرب رجل أحدهم فتسيل بالدماء والنبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]) أضاقت عليكم الدنيا فلم تجدوا شيئاً به تفرحون، أو منه تضحكون إلا عباد الله الصالحين؟ وهذه هي عاقبة كل من استهزأ بأولياء الله وعباد الله الصالحين.

فإياك، ثم إياك وأولياء الله! وإياك ثم إياك والراكعين الساجدين، فإن الله يحبهم ويحب من أحبهم، ويعادي من عاداهم، فلا تنطقن بكلمةٍ تستحق بها قول الله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، قال بعض العلماء: إن هؤلاء القراء حفظوا كتاب الله، فكان الاستهزاء بهم استهزاء بدين الله عز وجل، ولذلك قالوا: من استهزأ بالعالم واستخف بالداعية إلى الله فقد استهزأ بالدين، من قال: هذا العالم لا يفهم شيئاً .. هذا العالم يحلل ويحرم من عنده، واستهزأ بالعلماء واستهزأ بآرائهم، واستخف بفتواهم فله نصيبٌ من قول الله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].

إنهم دواوين العلم الذين شرح الله بالقرآن صدورهم، إنهم رجال الدين والإيمان الذين نور الله بالوحي قلوبهم، إنهم رجال الدين الذين حفظوا كلام الله رب العالمين، وحملوا رسالة إله الأولين والآخرين؛ فكانوا ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون.

فاتق الله، اتق الله في العلماء والدعاة والهداة إلى الله، لا يمسَّنك الله بعذاب في كلمة قلتها في عالم أو داعية إلى الله، وكن ذلك الطيب الذي لا ينفح إلا طيباً، ولا يسمع منه إلا الطيب، فإن الله إذا طيب قلب الإنسان طيب لسانه.

كن ذلك الخيِّر الديِّن الذي يخاف الله فيما يقوله وينطق به لسانه، واذكر محاسنهم، وشيَّد بين الناس مآثرهم، وكن حافظاً لعوراتهم داعياً لهم بظهر الغيب، فلك من دعوتك أوفر حظ ونصيب.

ألا وإن من الاستهزاء بالدين الاستهزاء بشرع الله رب العالمين، فإياك أن ينطق لسانك بكلمة في حكمٍ لله جل جلاله، إذا سمعت أن الله أحل أمراً أو حرمه فقل: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لا تقل: كيف هذا؟ لا تقل: لا يصلح هذا. لا تقل: هذا لا يعجبني. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

أسلم لله قلباً وقالباً ولساناً، وليكن منك الرضا والتسليم، فإن الله يقول للنبي الكريم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] يقسم الله جل جلاله هذا القسم العظيم أن لا إيمان لهم حتى يحكموك فيما شجر بينهم، حتى تنصاع وتصبح ذليلاً أمام الكتاب والسنة (حتى يحكموك) فإذا جئت في خصومة بينك وبين جارك أو أخيك، فأول شيء تقوله: ما حكم الله ورسوله فيما بيني وبينك؟ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] وليس وحدها ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [النساء:65] أي: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] هذا هو الإيمان، هذه هي العبودية الحقة لله العظيم الديان، فاتق الله فيما تقول، واتق الله فيما تعتقده فإن الله سائلك عن كل ما يلفظ به لسانك.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المشكلات الزوجية وعلاجها 3461 استماع
رسالة إلى الدعاة 3435 استماع
وصية نبوية 3327 استماع
أهم الحقوق 3305 استماع
توجيه الدعاة إلى الله تعالى 3215 استماع
كيف نواجه الفتن؟ 3166 استماع
حقيقة الالتزام 3144 استماع
وصايا للصائمين والقائمين 3086 استماع
الوصايا الذهبية 3040 استماع
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) 3008 استماع