شرح سنن أبي داود [262]


الحلقة مفرغة

شرح أثر عمر (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا عمار بن زريق عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: باب من أنكر ذلك على فاطمة ، يعني: روايتها أن المطلقة المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة، وقد سبق أن مر أن ممن أنكر ذلك أيضاً على فاطمة عائشة وكذلك مروان بن الحكم ، وسيذكرهم هنا، وذكر قبل ذلك عمر رضي الله عنه.

قوله: [ عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟) ].

وقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا) يعني: ما جاء في القرآن في قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6] أي: وهي من المطلقات، إذاً: فلها السكنى، وكان عمر رضي الله عنه ينقل عنه أن لها السكنى والنفقة معاً، والمسألة خلافية، فعدد من الصحابة منهم ابن عباس قالوا: إنها لا سكنى لها ولا نفقة، كما جاء في حديث فاطمة ، وعمر رضي الله عنه وغيره قالوا: لها السكنى والنفقة، والقول الثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وقد ذكرنا أن الصحيح هو ما دل عليه حديث فاطمة بنت قيس : من أنها لا سكنى لها ولا نفقة.

وقوله: (وسنة نبينا) قال بعض أهل العلم: إن هذا غير محفوظ ولا ثابت؛ لأنه لم يأت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لها النفقة، بل الذي جاءت به السنة أنها لا نفقة لها، وقد جاء في بعض الروايات: أنه إنما تكون النفقة لمن تكون لها رجعة، وأما المبتوتة والبائنة فهذه لا سبيل للمطلَّق إليها، إذاً: فلا سكنى لها ولا نفقة.

ويمكن أن يحمل قوله: (سنة نبينا) على الطريقة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طريقته القرآن، فقد جاءت سنته وفقاً لما جاء في القرآن.

فيمكن أن يقال: إن المقصود بالسنة: الطريقة، وتكون من جنس قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء في القرآن، فقد قالت عائشة : (كان خلقه القرآن)، فكل ما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنة؛ لأن السنة لها أربعة إطلاقات:

الأول: تأتي السنة ويراد بها الكتاب والسنة، فكل ما جاء في الكتاب والسنة فهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ ، فليس المقصود بقوله (سنتي) ما جاء في الحديث فقط، بل ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً.

والإطلاق الثاني: أن السنة يراد بها الحديث خاصة دون القرآن، وهذا من أمثلته ما يذكره شراح الحديث وكذلك الفقهاء عندما يجملون الأدلة على المسألة المعينة ثم يفصلونها فيما بعد، فيقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فأما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فالمعنى كذا وكذا. فحيث عطفت السنة على الكتاب فإنه يراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

والإطلاق الثالث: أن السنة يراد بها ما يقابل البدعة، كأن يقال: هذه سنة وهذه بدعة، ويقال: هذا سني وهذا بدعي، فما يقابل البدعة يقال له: السنة، ومنه المؤلفات التي ألفها العلماء المتقدمون في العقيدة باسم السنة، مثل السنة لـابن أبي عاصم ، والسنة لـمحمد بن نصر المروزي ، والسنة لللاكائي ، والسنة للطبراني ، والسنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد ، وغيرها من المؤلفات التي هي باسم السنة، والمراد بها: ما يعتقد طبقاً للسنة ومجانباً البدعة، وكذلك أبو داود رحمة الله عليه له كتاب في كتاب السنن اسمه: (كتاب السنة)، وهو في العقيدة، وأورد فيه مائة وخمسين حديثاً تقريباً كلها في العقيدة، فالمقصود بالسنة العقيدة أو ما يعتقد طبقاً للسنة.

والإطلاق الرابع في اصطلاح الفقهاء: أن السنة يراد بها المندوب أو المستحب، فعندما يأتي في كتب الفقه: يسن كذا، ويندب كذا، ويستحب كذا -وهي بمعنى واحد- أي: أنه ليس بركن ولا واجب، فما لم يكن ركناً ولا واجباً يقال له: سنة، ويقال له: مستحب، ويقال له: مندوب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهو ما يطلبه الشارع طلباً غير جازم، فما كان هكذا فإنه يقال له: السنة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.

إذاً: فقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا وسنة نبينا) يمكن أن يقال: المقصود بالسنة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يشمل الكتاب والسنة.

تراجم رجال إسناد أثر عمر (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة...)

قوله: [ حدثنا نصر بن علي ].

هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبو أحمد ].

هو أبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عمار بن زريق ].

عمار بن زريق لا بأس به، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي إسحاق ].

هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود ].

الأسود بن يزيد بن قيس النخعي ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمر ].

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

شرح أثر عائشة (إن فاطمة بنت قيس كانت في مكان وحش … )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة رضي الله عنها أشد العيب -يعني: حديث فاطمة بنت قيس - وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك رخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على فاطمة ذلك وقالت: إنما كان خروجها من أجل أنها كانت في مكان وحش، أي: في مكان غير مأمون، فمن أجل ذلك خرجت من بيت زوجها، وإلا فإن لها سكنى، فهذا هو الذي يقتضيه كلام عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

ومعلوم أن فاطمة رضي الله عنها أخبرت بخبرها وبالشيء الذي جرى لها، وكانت تقول: أي شيء يحدثه الله بعد الثلاث؟! تعني: أن ما جاء في القرآن مطابق لما جاء عنها، وأنه إنما هو في الرجعية التي تعتبر زوجة، وقد ذكرنا فيما مضى: أن الصحيح هو ما دل عليه حديث فاطمة بنت قيس : أنه لا سكنى للمطلقة المبتوتة ولا نفقة.

والكلام الذي قالته عائشة من التعليل لذلك غير واضح، وما جاء عن فاطمة بنت قيس هو أوضح وأبين، والتعويل على رواية الراوي أولى لاسيما وأنها عندما ذكر لها ما ذكر من الاعتراض عليها قالت: بيني وبينكم كتاب الله، ثم قالت: وأي شيء يحدثه الله بعد الثلاث؟

تراجم رجال إسناد أثر عائشة ( إن فاطمة كانت في مكان وحش .... )

قوله: [ حدثنا سليمان بن داود ].

هو سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ].

عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.

وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، وأبو الزناد لقب كما سبق أن ذكرنا، وهو يكنى بـأبي عبد الرحمن ، أي: يكنى بابنه الذي جاء في هذا الإسناد؛ فـأبو الزناد كنيته: أبو عبد الرحمن ولقبه: أبو الزناد واسمه: عبد الله بن ذكوان .

[ عن هشام بن عروة ].

هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، وهو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: لقد عابت ذلك عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح أثر عائشة (أما إنه لا خير لها في ذلك )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عروة بن الزبير أنه قيل لـعائشة رضي الله عنها: ألم تري إلى قول فاطمة ؟ قالت: (أما إنه لا خير لها في ذلك) ].

أورد أبو داود الأثر السابق من طريق أخرى، وفيه أن عائشة رضي الله عنها قيل لها: ألم تري إلى قول فاطمة ؟ أي: أن المطلقة المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة، فقالت: (أما إنه لا خير لها في ذلك) أي: أن تذكر شيئاً قد جاء القرآن بخلافه، وهذا كما فهمت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، تعني: أنه كان الأولى لها ألا تفعل ذلك، ولكن لا تنافي بين ما جاء في القرآن وما جاء في قول فاطمة بنت قيس رضي الله عنها؛ لأن فاطمة هي صاحبة القصة، وقد أفنت بذلك وأخذت بفتواها، وهذه الفتوى التي أخبرت بها لا حظ لها فيها؛ لأنها تتعلق بشيء لا مصلحة لها فيه، وإنما تخبر بالذي حصل، فحظها أن يكون لها سكنى ونفقة، وهي تخبر بأنه: لا سكنى لها ولا نفقة، والقرآن إنما هو في الرجعية التي للزوج حق الرجوع إليها، وأما المطلقة فإنه لا سبيل إليها، وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة: (إنما النفقة والسكنى لمن له الرجوع إليها، أو لمن للزوج سبيل إليها).

فهذا يدل على أن النفقة والسكنى تكون من أجل أن لها صلة بالزوج، وأما المطلقة المبتوتة فإنها لا صلة لها، فقوله: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6] إنما هو في الرجعيات، وكذلك يكون في المطلقات طلاقاً بائناً إذا كن حوامل، وقد جاء في نفس حديث فاطمة رضي الله عنها: (إلا أن تكوني حاملاً)، وهذا يدل على أن المطلقة المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى.

تراجم رجال إسناد أثر عائشة (أما إنه لا خير لها في ذلك )

قوله: [ حدثنا محمد بن كثير ].

هو محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا سفيان ].

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الرحمن بن القاسم ].

عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

أبوه هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عروة بن الزبير أنه قيل لـعائشة ].

عروة وعائشةمر ذكرهما.

شرح أثر سليمان بن يسار في خروج فاطمة أنه قال (إنما كان ذلك من سوء الخلق)، وتراجم رجال إسناده

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هارون بن زيد حدثنا أبي عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار في خروج فاطمة رضي الله عنها قال: (إنما كان ذلك من سوء الخلق) ].

أورد المصنف هذا الأثر عن سليمان بن يسار وفيه أنه قال: (إنما كان ذلك من سوء الخلق) يعني: أنها كانت لَسِنَة، كما سيأتي في بعض الروايات، أي: أنها كانت لسنة وكان بينها وبين أحمائها وحشة وسوء تفاهم فلذلك أخرجوها، وهكذا فهم أو ظن، ولكن الصحيح كما جاء عنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها من التصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لك سكنى ولا نفقة).

قوله: [ حدثنا هارون بن زيد ].

هو هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا أبي ].

أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ عن سفيان عن يحيى بن سعيد ].

سفيان مر ذكره، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سليمان بن يسار ].

سليمان بن يسار المدني ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح أثر عائشة في إنكارها خروج المبتوتة من بيت زوجها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار أنه سمعهما يذكران أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق بنت عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن ، فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فقالت له: (اتق الله واردد المرأة إلى بيتها)، فقال مروان في حديث سليمان : إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان في حديث القاسم : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ فقالت عائشة : (لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة )، فقال مروان : إن كان بك الشر فحسبك ما كان بين هذين من الشر ].

أورد أبو داود أثر عائشة رضي الله عنها أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق زوجته ابنة عبد الرحمن بن الحكم ، وعبد الرحمن بن الحكم هو أخو مروان بن الحكم ، وبت طلاقها، وأن أباها عبد الرحمن أخرجها ونقلها من بيت زوجها إلى بيته أو إلى بيت آخر، فقالت عائشة لـمروان : اتق الله وارجع المرأة إلى بيت زوجها، تعني: لأن لها السكنى ، فقال مروان : إن عبد الرحمن غلبني، يعني: لم يوافق على إرجاعها؛ لأنه أبوها، وقيل المقصود: إنه غلبه بالحجة، وفي هذا إشارة إلى أن مروان رجع عن قوله فيما مضى بأن المطلقة لا سكنى لها ولا نفقة، وأن ذلك إنما يكون إذا كان هناك مانع يمنع وإلا فإن الأصل أن لها السكنى والنفقة، فقالت عائشة رضي الله عنها عندما ذكرها بقصة فاطمة بنت قيس قالت: (لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة ) تعني: أنه لا يعول على حديث فاطمة، وإنما يعول على القرآن كما فهمت رضي الله عنها وأرضاها، فقال: إن كان بك الشر فحسبك ما كان بين هذين من الشر. يعني: إن كان مرادك الشر الذي حصل من فاطمة بينها وبين أحمائها فحسبك ما جرى بين هذين من الشر، يعني: بين يحيى وبين زوجته ابنة عبد الرحمن ، ومراده: إن كان المراد ما يتعلق بقصة فاطمة بنت قيس أن هناك شراً بينها وبين أحمائها وأنها انتقلت بسبب ذلك فحسبك الذي جرى بين هذين، فقد جرى بينهم مثل الذي جرى بين أولئك.

تراجم رجال إسناد أثر عائشة في إنكارها خروج المبتوتة من بيت زوجها

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن سعيد ].

يحيى بن سعيد الأنصاري مر ذكره.

[ عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار ].

القاسم بن محمد وسليمان بن يسار هما من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وقد مر ذكرهما.

شرح أثر سعيد بن المسيب في إنكار حديث فاطمة بنت قيس في عدم السكنى والنفقة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا جعفر بن برقان حدثنا ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت: فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها؟ فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس؛ إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى ].

أورد أبو داود هذا الأثر عن سعيد بن المسيب أنه ذكر له قصة فاطمة بنت قيس فقال: إنها فتنت الناس، وإنها كانت لسنة، وإنها وضعت عند عبد الله بن أم مكتوم حتى تنتهي من عدتها، وهذا فيه إشارة إلى ما تقدم من سوء التفاهم الذي حصل بينها وبين أحمائها أهل زوجها، وأنها إنما خرجت لذلك، وأن المرأة المبتوتة لها سكنى ونفقة، ولكن هذا كله لا يعني شيئاً مع تصريح فاطمة بالحكم الذي حكم عليها به، وهو شيء لا حظ لها فيه، وهي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناظر عليه، وتقول: بيني وبينكم كتاب الله، أي شيء يحدثه الله بعد الثلاث؟

وقوله: [ فدفعت إلى سعيد ].

يعني: أنه أحيل إلى سعيد .

تراجم رجال إسناد أثر سعيد بن المسيب في إنكار حديث فاطمة بنت قيس في عدم السكنى والنفقة

قوله: [ حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ].

أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا زهير ].

هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا جعفر بن برقان ].

جعفر بن برقان صدوق يهم في حديث الزهري ، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثنا ميمون بن مهران ].

ميمون بن مهران ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.

[ قال: قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب ].

سعيد بن المسيب ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا عمار بن زريق عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: باب من أنكر ذلك على فاطمة ، يعني: روايتها أن المطلقة المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة، وقد سبق أن مر أن ممن أنكر ذلك أيضاً على فاطمة عائشة وكذلك مروان بن الحكم ، وسيذكرهم هنا، وذكر قبل ذلك عمر رضي الله عنه.

قوله: [ عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟) ].

وقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا) يعني: ما جاء في القرآن في قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6] أي: وهي من المطلقات، إذاً: فلها السكنى، وكان عمر رضي الله عنه ينقل عنه أن لها السكنى والنفقة معاً، والمسألة خلافية، فعدد من الصحابة منهم ابن عباس قالوا: إنها لا سكنى لها ولا نفقة، كما جاء في حديث فاطمة ، وعمر رضي الله عنه وغيره قالوا: لها السكنى والنفقة، والقول الثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وقد ذكرنا أن الصحيح هو ما دل عليه حديث فاطمة بنت قيس : من أنها لا سكنى لها ولا نفقة.

وقوله: (وسنة نبينا) قال بعض أهل العلم: إن هذا غير محفوظ ولا ثابت؛ لأنه لم يأت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لها النفقة، بل الذي جاءت به السنة أنها لا نفقة لها، وقد جاء في بعض الروايات: أنه إنما تكون النفقة لمن تكون لها رجعة، وأما المبتوتة والبائنة فهذه لا سبيل للمطلَّق إليها، إذاً: فلا سكنى لها ولا نفقة.

ويمكن أن يحمل قوله: (سنة نبينا) على الطريقة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طريقته القرآن، فقد جاءت سنته وفقاً لما جاء في القرآن.

فيمكن أن يقال: إن المقصود بالسنة: الطريقة، وتكون من جنس قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء في القرآن، فقد قالت عائشة : (كان خلقه القرآن)، فكل ما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنة؛ لأن السنة لها أربعة إطلاقات:

الأول: تأتي السنة ويراد بها الكتاب والسنة، فكل ما جاء في الكتاب والسنة فهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ ، فليس المقصود بقوله (سنتي) ما جاء في الحديث فقط، بل ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً.

والإطلاق الثاني: أن السنة يراد بها الحديث خاصة دون القرآن، وهذا من أمثلته ما يذكره شراح الحديث وكذلك الفقهاء عندما يجملون الأدلة على المسألة المعينة ثم يفصلونها فيما بعد، فيقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فأما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فالمعنى كذا وكذا. فحيث عطفت السنة على الكتاب فإنه يراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

والإطلاق الثالث: أن السنة يراد بها ما يقابل البدعة، كأن يقال: هذه سنة وهذه بدعة، ويقال: هذا سني وهذا بدعي، فما يقابل البدعة يقال له: السنة، ومنه المؤلفات التي ألفها العلماء المتقدمون في العقيدة باسم السنة، مثل السنة لـابن أبي عاصم ، والسنة لـمحمد بن نصر المروزي ، والسنة لللاكائي ، والسنة للطبراني ، والسنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد ، وغيرها من المؤلفات التي هي باسم السنة، والمراد بها: ما يعتقد طبقاً للسنة ومجانباً البدعة، وكذلك أبو داود رحمة الله عليه له كتاب في كتاب السنن اسمه: (كتاب السنة)، وهو في العقيدة، وأورد فيه مائة وخمسين حديثاً تقريباً كلها في العقيدة، فالمقصود بالسنة العقيدة أو ما يعتقد طبقاً للسنة.

والإطلاق الرابع في اصطلاح الفقهاء: أن السنة يراد بها المندوب أو المستحب، فعندما يأتي في كتب الفقه: يسن كذا، ويندب كذا، ويستحب كذا -وهي بمعنى واحد- أي: أنه ليس بركن ولا واجب، فما لم يكن ركناً ولا واجباً يقال له: سنة، ويقال له: مستحب، ويقال له: مندوب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهو ما يطلبه الشارع طلباً غير جازم، فما كان هكذا فإنه يقال له: السنة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.

إذاً: فقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا وسنة نبينا) يمكن أن يقال: المقصود بالسنة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يشمل الكتاب والسنة.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2649 استماع