شرح سنن أبي داود [080]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب من أحق بالإمامة:

حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة أخبرني إسماعيل بن رجاء سمعت أوس بن ضمعج يحدث عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً، ولا يُؤَمُّ الرجلُ في بيته ولا في سلطانه، ولا يُجلَس على تكرمته إلا بإذنه) قال شعبة : فقلت لـإسماعيل : ما تكرمته؟ قال: فراشه ].

أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [ باب من أحق بالإمامة ] يعني: من هو الذي يكون أولى وأحق من غيره بأن يكون إماماً للناس يصلي بهم؟

وقد أورد أبو داود رحمه الله أحاديث تتعلق ببيان من هو الأولى، ومحصلها: أنه يقدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأكبر سناً.

وقد أورد أبو داود رحمه الله تعالى حديث عقبة بن عمرو الأنصاري البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

قيل: إن المراد بالأقرأ: هو الذي يكون أكثر حفظاً وأخذاً للقرآن، وقيل: هو الذي يكون أحسن قراءة، وفي الحديث الذي سيأتي بعد هذا الحديث: (ثم أعلمهم بالسنة)، والمراد بذلك: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأحكام الشرعية، مثل أحكام الصلاة، والأمور المطلوبة في الصلاة، بحيث يكون على علم بها، ولو حصل له شيء من السهو أو نحوه فإنه يعرف أحكام الصلاة.

وقال بعض أهل العلم: إن قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) لا يكون المقصود من ذلك من يكون أكثر حفظاً وإن كان لا يعلم شيئاً من السنة، ولا يعرف شيئاً من الأحكام، حيث إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يُعنون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتدبراً وتأملاً وفقهاً وتعلماً وتعليماً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان بن عفان كما في البخاري أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

وجاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً).

ومعنى هذا: أنهم كانوا يُعنون بمعرفة القرآن وما اشتمل عليه القرآن، وكذلك أيضاً العلم بالسنة وبأحكام الشريعة، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يتناوبون في رعاية الإبل وفي العمل في بساتينهم، كما كان يتناوب عمر رضي الله عنه وجاره الأنصاري، وكما جاء عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: (كنا نتناوب رعاية الإبل)، فالذين لا يذهبون لرعي الإبل يكونون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الغائب فإنهم يعلمونه ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم.

فكانوا يهتمون بالقرآن وبالسنة وبالفقه في الدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وعلى هذا: فإن السنة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التفصيل، فيقدم الأقرأ إذا كان عالماً بالسنة، وعنده علم بأحكام الصلاة، وأما إذا لم يكن عنده علم بالأحكام وإنما كان مجرد قارئ أو حافظ وليس متمكناً ولا عالماً بأحكام الصلاة، وليس عنده الفقه والعلم، فمن كان عنده شيء من القرآن ولكن عنده الفقه في السنة والعلم بالأحكام الشرعية وبأحكام الصلاة بالذات يقدم على غيره، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر رضي الله عنه مع أن المشهور أن أقرأ الصحابة هو أبي بن كعب ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كلهم كانوا يُعنون بالقراءة وبفهم القرآن وبالعلم بالسنة، فكان أبو بكر رضي الله عنه هو المقدم على غيره في ذلك، وإن كان بعض الصحابة قد اشتهر بالقراءة كـأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه.

ومنهم من قال: إن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه فيه إشارة إلى خلافته، وإلى أنه الأحق بالأمر من بعده؛ ولهذا ذكر ذلك عمر رضي الله عنه يوم السقيفة حيث قال: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟!) وعلى هذا: فإن الأحق هو الأقرأ إذا كان عنده علم بالسنة وبأحكام الصلاة وبالفقه، ولكنه إذا كان مجرد حافظ وليس عنده علم بالسنة فإن من يكون أقل منه حفظاً وجمعاً للقرآن وهو عالم بالسنة يكون مقدماًً على ذلك الذي هو مجرد حافظ وليس عنده فقه في الدين ولا معرفة بالسنن.

قوله: [ (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة) ].

كلمة: (أقدمهم قراءة) هذه جاءت في بعض الروايات، ولكن الذي جاء في بعضها: (أقدمهم هجرة)، وهذا إنما يكون بعد الدرجة الثانية التي هي العلم بالسنة كما جاء ذلك مبيناً في الحديث الذي سيأتي، وهو أيضاً في صحيح مسلم ، فإنه ذكر الترتيب على هذا الوجه العلم بالقراءة، ثم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأكبر سناً.

وكذلك أورده أبو داود بعد ذلك، فتكون القراءة أولاً، ثم السنة ثانياً، ثم الهجرة ثالثاً، ثم التقدم في السن رابعاً.

قوله: [ (فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة) ].

وهنا لم يذكر العلم بالسنة، ولعل سبب عدم ذكره: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يرون أن الاشتغال بالقرآن يكون معه الاشتغال بالسنة، وأنهم كانوا يعنون بالقرآن وبالسنة، وأنهم كانوا لا يتجاوزن العشر الآيات من القرآن إلا بعد أن يتعلموا معانيهن والعمل بهن، فليسوا مجرد قراء يحفظون دون أن يكونوا متفقهين، ودون أن يكونوا فاهمين، ودون أن يكون عندهم علم بالأحكام الشرعية، بل كانوا يحفظون ويتفقهون في الدين، ويعرفون ما تقتضيه الآيات وما جاءت به السنن مما هو تفسير للآيات وبيان لها؛ لأن السنة تفسر القرآن وتبّينه، وتدل عليه وتوضحه.

فهذا سبب عدم ذكر السنة، مع أنه قد جاء في الرواية التي بعدها، وقد يكون عدم ذكر السنة حصل من بعض الرواة.

قوله: [ (فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة) ].

أي: من كان أسبق في الهجرة والانتقال من بلد الشرك إلى بلاد الإسلام فإنه يكون مقدماً على غيره؛ وذلك لسبقه ولهذا كان المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم لهم ميزة على غيرهم من الأنصار؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة، فالأنصار عندهم النصرة فقط وليس عندهم الهجرة، فإذا كانوا مهاجرين فيكون أقدمهم هجرة هو المقدم على غيره في الأحقية بإمامة الناس في الصلاة، فإن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أكبرهم سناً، وذلك لاحترام الكبير وتوقيره ما دام أنه مساوٍ لغيره في الأمور السابقة، وإنما حصل تفضيله لأجل السن، حيث يقدم الأكبر، ومعلوم أن تقديم الكبير قد جاءت فيه نصوص كثيرة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصغير الذي يريد أن يتحدث قبل الكبير: (كبّر)، يعني: دع الكبير يتكلم قبلك.

قوله: [ (ولا يؤم الرجل في بيته) ].

إذا كان الرجل في منزله فهو أحق وأولى بالإمامة من غيره إذا كان عنده علم بأحكام الصلاة، وعنده حفظ شيء من القرآن، ويستطيع أن يؤم الناس ويقرأ القراءة السليمة، فما دام في بيته فهو المقدم، ولكنه إذا قدم غيره فله ذلك، ولا يلزم أن يكون هو الذي يصلي بالناس، ولكن الأحقية هي له.

قوله: [ (ولا في سلطانه) ].

يعني: أن الوالي هو الذي يكون الأحق بالإمامة، فهو أحق من غيره حيث يكون أهلاً لذلك، وحيث يكون متمكناً من الإمامة فإنه يكون أولى من غيره ما دام أنه هو السلطان؛ ولهذا كان الولاة هم الذين يتولون الصلاة في الجُمع والجماعات، وكذلك في الأعياد كانوا يؤمون الناس، والأمراء كانوا يتقدمون الناس ويصلون بهم، وقد جاء في الأحاديث ما يتعلق بالصلاة وراء الأمراء، فالوالي هو المقدم على غيره وهو الأحق.

قوله: [ (ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ].

التكرمة: مكان الرجل الذي قد هيأه للجلوس، أو الفراش الذي فُرش، فهو الأحق في وضع الناس بها وإجلاس الناس عليها، فما كل إنسان يأتي ويختار له مكاناً دون أن يكون الرجوع في ذلك إلى صاحب المكان؛ لأنه قد يكون هناك أماكن يريد أن يخص بها بعض الناس، وهذا حقه، فله أن يُقدّم وله أن يؤخر من شاء، فلا يجلس على تكرمته إلا بإذنه؛ لكيلا تكون الأمور فوضى، إلا إذا قال له صاحب البيت: تفضل اجلس في هذا المكان. فإنه يأتي ويجلس في المكان الذي يجلسه فيه.

قوله: [ قال شعبة فقلت لـإسماعيل : ما تكرمته؟ قال: فراشه ].

التكرمة هي الفراش الذي يتخذه شيئاً ليكرم به من يريد، ويخص به من يخص، والله أعلم.

تراجم رجال إسناد حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ...)

قوله: [ حدثنا أبو الوليد الطيالسي ].

هو أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا شعبة ].

هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني إسماعيل بن رجاء ].

إسماعيل بن رجاء ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ سمعت أوس بن ضمعج ].

أوس بن ضمعج ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي مسعود البدري ].

هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته، وقد يحصل التباس بينه وبين ابن مسعود ، فـابن مسعود مشهور بنسبته إلى أبيه، وكنيته أبو عبد الرحمن ، وأما عقبة بن عمرو فكنيته أبو مسعود ؛ ولهذا فإن كثيراً من الطبعات التي طبع فيها بلوغ المرام وكذلك شروحه يأتي فيها هذا الحديث الذي معنا، فيكتبون ابن مسعود بدل أبي مسعود .

حديث عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

طريق ثانية لحديث: (يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله) وتراجم رجال إسنادها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة بهذا الحديث قال فيه: (ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه) ].

أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: (ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه)، أي: الرجل الذي هو صاحب السلطان لا ينبغي أن يؤمه رجل آخر في مكان سلطانه.

قوله: [ حدثنا ابن معاذ ].

هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ، ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا أبي ].

هو معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا شعبة ].

أي: حدثهم شعبة بالإسناد المتقدم، وقد مرّ ذكره.

[ قال أبو داود : وكذا قال يحيى القطان عن شعبة : (أقدمهم قراءة) ].

يعني: أن هذا الذي جاء عن شعبة قد جاء أيضاً عن يحيى القطان وفيه قال: (أقدمهم قراءة)، وهو كما جاء في الرواية المتقدمة، ولكن الحديث الذي سيأتي فيه أنه لما ذكر السنة قال: (أقدمهم هجرة) ولم يقل: (أقدمهم قراءة)، وإنما الذي فيه أنه قال: (أقدمهم هجرة)، هو المناسب، بخلاف قوله: (أقدمهم قراءة)، فإنها مع قولة: (أقرؤهم لكتاب الله) بينهما شيء من التماثل أو التداخل.

فالذي يبدو أن الصواب: (أقدمهم هجرة)، وليس: (أقدمهم قراءة)، ولكن ذكر القراءة معناه: أن يكون الإمام أسبق في القراءة، وعلى هذا فقد يكون الأقدم قراءة هو الأصغر سناً، لكن أغلب الروايات فيها: (أقدمهم هجرة) كما جاء في صحيح مسلم ، وليس فيه ذكر الأقدم في القراءة، وكذلك عند أبي داود كما سيأتي.

قوله: [ وكذا قال يحيى القطان ].

هو يحيى بن سيعد القطان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

طريق ثالثة لحديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ...) وتراجم رجال إسنادها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج الحضرمي قال: سمعت أبا مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) ولم يقل: (فأقدمهم قراءة) ].

يعني: أن هذه رواية ثانية ليس فيها ذكر: (وأقدمهم قراءة) ولكن فيها ذكر السنة قبل الهجرة وبعد القراءة، وفي صحيح مسلم هذا الترتيب، وفيه بعد ذلك: (فأكبرهم سناً).

وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عقبة بن عمرو من طريق أخرى، وفيه ذكر الأقدم قراءة ثم الأعلم بالسنة، ثم من يكون أقدم هجرة، ولم يقل: (أقدمهم قراءة) والحديث سبق أن مرت الإشارة إليه.

[ قال أبو داود : رواه حجاج بن أرطأة عن إسماعيل قال: (ولا تقعد على تكرمة أحد إلا بإذنه) ].

ثم ذكر أبو داود رحمه الله الحديث من طريق الحجاج بن أرطأة عن إسماعيل أنه قال: (ولا تقعد على تكرمة أحد إلا بإذنه)، يعني: أنه نهى الرجل أن يقعد على تكرمة أحد إلا بأن يأذن له في أن يجلس في المكان المتميز أو المكان الذي قد يكون خصصه له أو لأحد من الناس، فله أن يقدم ويؤخر في فراشه وفي المكان الذي هيأه لإكرام الناس من يشاء.

قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ].

هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي .

[ حدثنا عبد الله بن نمير ].

عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأعمش ].

الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج الحضرمي قال: سمعت أبا مسعود ].

إسماعيل بن رجاء وأوس بن ضمعج وأبو مسعود قد مر ذكرهم.

وقوله: [ قال أبو داود : رواه حجاج بن أرطأة ].

الحجاج بن أرطأة صدوق كثير الأخطاء والتدليس، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

شرح حديث عمرو بن سلمة في قصة إمامته بقومه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا أيوب عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا رجعوا مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا، وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة، فقال: يأمكم أقرؤكم. وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدموني، فكنت أؤمهم وعلى بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت تكشفت عني، فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصاً عمانياً، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله عنه، وفيه أنهم كانوا في مكان على ممر طريق الناس الذين يذهبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعون، وعندما يرجع الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو ممن يستقبلهم، فكان يتعلم القرآن من هؤلاء الذين يمرون بهذا الماء وبهذا المكان.

وذكر هنا أن أباه وجماعة من قومه ذهبوا وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات: أنه ذهب مع أبيه، وأنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهم، وكان مما علمهم أنه يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، فنظروا وإذا عمرو بن سلمة هو أكثرهم حفظاً وأكثرهم قراءة، فقدموه إماماً لهم وعمره سبع أو ثمان سنوات، وكان رضي الله عنه عليه بردة إذا تكشفت ظهر شيء من عورته، وجاء في البخاري أنها كانت تنحسر لضيقها أو لصغرها، فكانت تتقلص فتبدوا عورته، وفي بعض الروايات أنه كان فيها فتق، وكانت موصلة، يعني: ليست قطعة واحدة، وإنما هي قطع خيط بعضها ببعض، فكان عندما يسجد يظهر شيء من عورته، فقالت امرأة: واروا عنا سوءة قارئكم، فاشتروا له قميصاً عمانياً، يعني: مصنوع في عمان، وهي من بلاد البحرين أو قريبة من البحرين، قال: فما فرحت بشيء بعد الإسلام أشد مني فرحاً بهذا القميص.

وقيل: إن السبب في فرحة أنه كان قبل ذلك غير مرتاح إلى ذلك اللباس الذي عليه، لضيقه ولعدم كماله، ولكونه يحتاج إلى أنه يمسكه حتى لا يسقط.

وقيل: إن سبب فرحه لكونه كان صغيراً، والصغار يفرحون بالألبسة الجديدة، وقيل غير ذلك، وقد يكون فرحه من جهة كونه ساتراً سالماً مما كان يحصل من ذلك اللباس الأول الذي كان فيه ذلك الفتق أو كان فيه ذلك الصغر الذي ينحسر وتبدو العورة، قد يكون هذا هو أقرب الأسباب في كونه فرح بذلك.

وقوله: (فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع أو ثمان سنين) قالوا: وهذا فيه دليل على إمامة الصبي المميز، أي: أنه يؤم الناس إذا كان أحفظ من غيره، وإذا كان أعلم من غيره فإنه يقدم على غيره في الإمامة، وبعض أهل العلم قال بجواز ذلك مطلقاً في الفرائض والنوافل استناداً إلى هذا الحديث، وبعضهم خصصه بالنوافل دون الفرائض، وبعضهم لم يجز ذلك.

وفي إمامة الصبي للناس دليل على ائتمام المفترض بالمتنفل؛ لأن الصغير صلاته نافلة؛ لأنه ليس مكلفاً وليس من أهل التكليف؛ وحجه لو حج قبل البلوغ يكون نافلة، وإذا بلغ فإنه يحج حجة الإسلام، ولا تغنيه تلك الحجة التي حجها في حال صغره وقبل بلوغه.

فهذا من الأدلة التي يستدل بها على ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن ذلك أيضاً حديث معاذ رضي الله عنه في قصه صلاته بقومه صلاة العشاء كما سيأتي، أي: أنه كان يصلي بهم صلاة العشاء وهو متنفل وهم مفترضون، وهذا الحديث الذي هنا هو مثل ما جاء في حديث معاذ في أن المفترض يصلي خلف المتنفل.

والحديث دليل على أن الصبي المميز إذا كان أعلم من غيره أو كان مقدماً على غيره في القراءة والعلم أنه يقدم في الصلاة، وأن إمامته صحيحة.

عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنا بحاضر) ].

يعني: في مكان يقيمون فيه يقال له: حاضرة أو حاضر، وقد جاء في بعض الروايات: أنهم كانوا على ماء يمر به الناس.

وقوله: [ (كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا) ].

يعني: إذا أتوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: [ (إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا وكنت غلاماً حافظاً) ].

يعني: أنه كان يستقبلهم، وكانوا يخبرونه بما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه من يحفظ، وكان هذا الغلام حافظاً وحريصاً، فكان يأخذ منهم، فحفظ قرآناً كثيراً كما جاء عنه أنه قال: حفظت قرآناً كثيراًً؛ أي: بسبب هذا التلقي للركبان الذين كانوا يأتون من عند النبي صلى الله عليه وسلم مارين بمائهم الذي هم فيه.

قوله: [ (فانطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة) ].

وجاء في بعض الروايات أنه وفد مع أبيه؛ ولهذا قالوا عنه: إنه صحابي صغير؛ لأنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: [ (فعلمهم الصلاة فقال: يؤمكم أقرؤكم وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدموني فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء) ].

ذكرها هنا أنها صغيرة، وجاء في بعض الروايات أنها كانت موصلة، يعني: ليست قطعة واحدة، وإنما كانت مخيطة قطعة مع قطعة، وهذا يدل على ما كانوا عليه من الحاجة ومن قلة ذات اليد.

وقوله: [ (فكنت إذا سجدت تكشفت عني) ].

يعني: يحصل انحسارها، كمن كان عليه إزار، والإزار قد يكون قصيراً فيتكشف لابسه، وذلك لا يؤثر في الصلاة ما دام أن هذه ضرورة، وأنه انكشاف غير مقصود، وأن ذلك الانكشاف يزول بجر القميص أو جر الإزار.

قوله: [ (فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم) ].

يعني: غطوها، فاشتروا له قميصاً.

قوله: [ (فاشتروا لي قميصاً عمانياً، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين) ].

تراجم رجال إسناد حديث عمرو بن سلمة في قصة إمامته بقومه

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].

هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا حماد ].

هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.

[ أخبرنا أيوب ].

هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمرو بن سلمة ].

هو عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله تعالى عنه صحابي صغير، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.

والحديث أخرجه البخاري.

طريق ثانية لحديث عمرو بن سلمة في قصة إمامته بقومه، وتراجم رجال إسنادها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا عاصم الأحول عن عمرو بن سلمة بهذا الخبر قال: (فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق، فكنت إذا سجدت خرجت استي) ].

هذا يفيد بأن تلك البردة مع كونها صغيرة -كما في الحديث السابق- فهي أيضاً كانت موصلة، يعني: أنها قطع خيط بعضها مع بعض، وكان فيها فتق، يعني: ثقب، فكان تبدو عورته أو شيء من عورته من هذا الفتق أو من أسفل هذه البردة، كما جاء في البخاري أنه كان إذا سجد تقلصت، يعني: انكمشت لضيقها.

قوله: [ حدثنا النفيلي ].

النفيلي هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا زهير ].

هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عاصم الأحول ]

هو عاصم بن سليمان الأحول ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمرو بن سلمة ].

هو عمرو بن سلمة قد مر ذكره.

طريق ثالثة لحديث عمرو بن سلمة في قصة إمامته بقومه، وتراجم رجال إسنادها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة حدثنا وكيع عن مسعر بن حبيب الجرمي حدثنا عمرو بن سلمة عن أبيه رضي الله عنهما: (أنهم وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعاً للقرآن أو أخذاً للقرآن، قال: فلم يكن أحداً من القوم جمع ما جمعته، قال: فقدموني وأنا غلام وعلي شملة لي، فما شهدت مجمعاً من جرم إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا).

قال: أبو داود : ورواه يزيد بن هارون عن مسعر بن حبيب الجرمي عن عمرو بن سلمة أنه قال: (لما وفد قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم) لم يقل: عن أبيه ].

أورد أبو داود الحديث عن عمرو بن سلمة الجرمي من طريق أخرى، وفي بعض الطرق أنه قال: عن أبيه، وفي بعضها: أنه لم يقل: عن أبيه، وإنما ذكر الرواية عن نفسه، والذي في البخاري أنها عنه لا عن أبيه، وما ذكر عن أبيه إلا في بعض الطرق، وهذه الطريق التي ذكرها أبو داود فيها أنه عن أبيه، وأيضاً جاء من هذه الطريق التي هي عن مسعر بن حبيب الجرمي أنه لم يقل فيها: عن أبيه، وإنما عن عمرو بن سلمة نفسه، وأكثر الروايات التي في