شرح سنن أبي داود [052]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (... يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟)

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟

حدثنا ابن المثنى ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب ، يحدث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) ].

قوله: (باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم) أي: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم عن الجنابة؟

هذه الترجمة المقصود منها كما هو واضح أن الجنب إذا خشي من الاغتسال أن يصيبه الهلاك، أو يصيبه ضرر كبير يلحق جسمه أو مرض يؤدي به إلى الهلاك، هل له أن يتيمم أو ليس له أن يتيمم؟

وأورد المصنف رحمه الله حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أنه كان في غزوة ذات السلاسل، وكان أميراً عليها، فاحتلم وخشي إن اغتسل أن يهلك لشدة البرد، وذكر قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فتيمم وصلى بالناس وهو إمامهم؛ لأنه أميرهم، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخبروه بذلك قال له: (صليت بأصحابك وأنت جنب يا عمرو ؟) فقال له ما قال وتلا عليه الآية التي بنى عليها عمله، وهي قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد شيئاً. وضحكه عليه الصلاة والسلام وكونه لم يرد عليه شيئاً إقرار له، ولو كان ذلك باطلاً أو غير سائغ لم يقره على ذلك، وهو لا يقر على باطل صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن السنة تثبت بطرق ثلاث: وهي القول أو الفعل أو التقرير، ولهذا يعرف المحدثون الحديث بقولهم: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ويضيفون إلى ذلك: أو وصف خلقي أو خلقي. أي: وصف أخلاقه الكريمة وخلقه الذي خلقه الله عليه صلى الله عليه وسلم، أيضاً هذا يدخل في السنة ويدخل في الحديث، ولكن هذا التعريف كما هو واضح، يشمل الطرق الثلاث التي تثبت بها السنن، وهي القول والفعل والتقرير، فكونه صلى الله عليه وسلم ضحك وتبسم ولم يرد شيئاً؛ أي أنه أقره على صنيعه وأقره على فعله.

قوله: [ (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك.) ].

وهذه الغزوة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، وهناك في الجيش من هو أفضل منه، وبهذا يجوز أن يولى المفضول مع وجود الفاضل، وذلك لمعنى موجود في المفضول اختير من أجله، ولما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم فهم من هذا التأمير وهذا التقديم أن فيه تفضيلاً فسأله فقال: (من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة ، قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر)، ثم سكت لما رأى أنه عدد أناساً ولم يعده.

في هذه الغزوة أو هذا الجيش الذي كان فيه حصل له احتلام في النوم، واحتاج إلى الغسل وخشي أنه إذا اغتسل والبرد شديد أن يهلك، وفهم من الآية وهي قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] أنه يعدل عن الاغتسال إلى التيمم، ولما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي حصل منه وأنه صلى بأصحابه وهو جنب وتلا هذه الآية التي فهم منها ما فهم أقره رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث ضحك وتبسم ولم يرد عليه شيئاً.

وهذا فيه أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يجتهدون في زمن الوحي في الأمور التي تطرأ عليهم كما فعل عمرو في هذه الغزوة، وكما فعل أسيد بن حضير ومن معه عندما كانوا يبحثون عن عقد عائشة ولما جاء وقت الصلاة وليس عندهم ماء صلوا بدون وضوء؛ لأن التيمم لم يشرع بعد، فعلوا ذلك باجتهادهم، حيث رأوا أن الصلاة لا تترك وأن عليهم أن يصلوا على حسب حالهم، فصلوا على حسب حالهم وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ].

وكان هذا في آخر الليل؛ لأن البرد يكون أشد ما يكون في آخر الليل.

معنى قوله: (سمعت الله يقول)

قوله: [ (فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) ].

المقصود بقوله: (سمعت الله يقول) سمعت كلام الله عز وجل ورأيت كلام الله سبحانه وتعالى والذي ينص على أن الإنسان لا يقتل نفسه، وأن ذلك يكون فيه قتل للنفس.

وستأتي قصة الرجل الذي أصابته شجة واحتلم وسأل وقيل له: (ما نعلم إلا أنك تغتسل، فاغتسل ومات بسبب ذلك، فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال).

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] فأرع لها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه) وهذا السماع إنما هو سماع للقرآن إما من غيره أو كونه يقرأ لنفسه.

ومن المعلوم أن المقصود بالسماع من الله، أي: سماع كلام الله، وسبق أن ذكرت الأثر المروي عن عبد الله بن داود الخريبي الذي ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو في قول الله عز وجل: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] قال: إن هذه الآية أشد آية على أصحاب جهم ؛ لأن الله تعالى يقول: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] قال: فمن بلغته هذه الآية فكأنما سمع كلام الله.

يعني: كأنه سمعه من الله، وكما هو معلوم أن الناس لا يسمعون من الله، وإنما الذي سمع الوحي من الله ونزل به على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام، والذي سمع كلام الله من الله هو موسى بن عمران كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فهو سمع كلام الله من الله، وكذلك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج فإنه سمع كلام الله من الله، ولهذا فكما أن موسى بن عمران كليم الرحمن فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام هو أيضاً كليم الرحمن، وكما أن إبراهيم خليل الرحمن، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والخلة والتكليم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الأحكام العصرية المستنبطة من قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)

وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] هذه الآية استدل بها بعض أهل العلم على تحريم شرب الدخان؛ لأن الله تعالى نهى عن قتل النفس، ومن المعلوم أن شرب الدخان من الأسباب التي يكون بها الهلاك ومن أسباب الأمراض، ومن المعلوم أيضاً أن الشريعة جاءت بعموماتها وبقواعدها تشمل ما هو موجود في زمنه صلى الله عليه وسلم وما ليس بموجود مما يجد ويحدث.

ومن المعلوم أن الدخان شيء جديد، وإنما طرأ ووجد في الأزمان المتأخرة، ولكن الشريعة تستوعب ما يحدث وما يجد من النوازل؛ وذلك بعموماتها وقواعدها وقياس المثيل على المثيل، وإلحاق النظير بالنظير؛ وذلك أن قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) فيه نهي عن قتل النفس بأي طريقة كانت، وعن قتل الغير، وكون الإنسان لا يقدم على أي شيء يؤدي إلى هلاكه وقتل نفسه هو ما تقتضيه هذه الآية، ولهذا فهم عمرو رضي الله عنه منها أنه لو اغتسل بالماء البارد لهلك، واحتج بهذه الآية وتلاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليه شيئاً، أي: أنه أقره على ذلك.

تراجم رجال إسناد حديث (.. يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟)

قوله: [ حدثنا ابن المثنى ].

محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـالزمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا وهب بن جرير ].

وهب بن جرير بن حازم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا أبي ].

أبوه هو جرير بن حازم، وهو أيضاً ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ سمعت يحيى بن أيوب ].

يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن يزيد بن أبي حبيب ].

يزيد بن أبي حبيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمران بن أبي أنس ].

عمران بن أبي أنس ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .

ولم يخرج له ابن ماجة .

[ عن عبد الرحمن بن جبير المصري ].

عبد الرحمن بن جبير المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ عن عمرو بن العاص ].

عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

و عمرو بن العاص رضي الله عنه روى قصة إسلامه مسلم في صحيحه، قال: (إنه جاء ليسلم وكان إسلامه عام الحديبية، فلما مد يده ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم فمد رسول الله يده فقبض عمرو يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لماذا يا عمرو ؟ قال: أردت أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر لي -يعني: ما كان من الشرك وما كان من أمر الجاهلية- فقال عليه الصلاة والسلام: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟) قوله: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟) أي: أن التوبة تجب ما قبلها، وأعظم الذنوب وأبطل الباطل وأظلم الظلم الشرك، وإذا حصلت التوبة منه فإن الله تعالى يغفر ذلك، فكيف لما هو دونه من الكبائر والمعاصي، فـعمرو رضي الله عنه عند المبايعة قال هذه المقالة وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب الذي فيه بيان أن الإسلام يهدم ما كان قبله، والهجرة تهدم ما كان قبلها، والحج يهدم ما كان قبله.

مصطلح المتفق والمفترق في ترجمة الرجال

قوله: [ قال أبو داود : عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة وليس هو ابن جبير بن نفير].

لما كان هذا الإسناد فيه هذا الرجل المصري وهو عبد الرحمن بن جبير المصري ، وكان هناك شخص آخر يوافقه في الاسم واسم الأب وهو عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، فهذا حمصي وذاك مصري، فأراد أن يبين أن هذا غير هذا.

وهذا يسمونه المتفق والمفترق في علم المصطلح، يعني: أن تتفق الأسماء وأسماء الآباء وتختلف الأشخاص.

شرح حديث عمرو بن العاص في الجمع بين الوضوء والتيمم للجنب

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سلمة المرادي أخبرنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان على سرية، وذكر الحديث نحوه قال: (فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم) فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم.

قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: (فتيمم). ].

ذكر أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه أن أبا قيس مولى عمرو بن العاص أخبر عن عمرو وقصته، وأنه لما صلى بالناس وهو جنب أنه غسل مغابنه وتوضأ، ولكن لم يذكر التيمم.

وقد جاء من طريق أخرى أنه تيمم، والطريق السابق فيه أنه تيمم، لكن هذا فيه أنه توضأ وتيمم للغسل؛ لأن الوضوء ولو كان الماء بارداً أسهل من الاغتسال، لكن ينبغي أن يعلم أنه إذا أمكن للإنسان أن يسخن الماء فليسخن الماء ويغتسل به ولا يعدل إلى التيمم، لكن إذا كان في فلاة أو في بر أو في عراء، وليس هناك كن يستكن به، فإنه يتضرر بالماء مع شدة البرد.

فالحاصل أن هذه الرواية التي ذكرها أبو داود فيها أنه توضأ وغسل مغابنه، وهي ما حول أصول الفخذين كما سبق أن مر بنا غسل المغابن، وهي الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بمشقة.

قوله: [ (فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم).

فذكر نحوه ولم يذكر التيمم ].

عدم ذكر التيمم لا يؤثر؛ لأنه ذكر من طريق أخرى، وعدم ذكر اليتيم في هذه الرواية لعله حصل اختصاراً.

[ قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم ].

وهذه الرواية التي أشار إليها من قبل أنه لم يتيمم جاء فيها أنه تيمم، في الرواية السابقة أيضاً ذكر أنه تيمم.

إذا: هذه الرواية فيها وضوء مع التيمم.

كذلك من كان معه ماء ويخشى إذا اغتسل به الهلاك، لكن يستطيع الوضوء، فالذي يبدو كما جاء في هذا الحديث أنه يتوضأ ويتيمم للباقي.

كذلك لو كان الإنسان عنده ماء، لكن لا يكفي للاغتسال وإنما يكفي لبعضه، فإنه يستعمله ويتيمم للباقي؛ لأنه استطاع الأصل في البعض فيفعله ويتيمم للباقي.

تراجم رجال إسناد حديث عمرو بن العاص في الجمع بين الوضوء والتيمم للجنب

قوله: [ حدثنا محمد بن سلمة المرادي ].

محمد بن سلمة المرادي المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ أخبرنا ابن وهب ].

ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن لهيعة ].

هو عبد الله بن لهيعة المصري وهو صدوق، احترقت كتبه فساء حفظه، وحديثه أخرجه مسلم مقروناً وأبو داود والترمذي وابن ماجة ، أما النسائي فكان لا يروي عنه، وإذا جاء في إسناد ومعه غيره ذكر ذلك الغير وأبهم ابن لهيعة ، فقال: حدثنا فلان ورجل آخر أو وآخر.

فكان إذا جاء الإسناد وفيه شخصان يرويان الحديث أحدهما ابن لهيعة ، وهو يريد أن يروي الحديث عن غير ابن لهيعة فإنه يأتي بالإسناد، ولكن لا يترك ابن لهيعة بحيث لا يشير إليه ولا إشارة؛ لأن التحديث حصل من شخصين، وهو لا يحدث عن ابن لهيعة ولا يخرج له، فكان يشير إليه بالإشارة فيقول: أخبرنا عمرو بن الحارث ورجل آخر، يعني بالآخر ابن لهيعة ؛ لأنه لا يريد أن يروي عن ابن لهيعة ، ولا يريد أن يحذفه أصلاً، وكأن الحديث إنما جاء عن شخص واحد ولم يأت عن شخصين، لكن سمى من يريد أن يحدث عنه وأبهم من لا يريد أن يحدث عنه؛ فبذلك حصل المحافظة على الطريقة التي حصل بها التحديث، وهو أن الحديث جاء عن شخصين، والشخص الذي لا يريد أن يحدث عنه أبهمه، والشخص الذي يريد أن يحدث عنه أظهره، والمعول عليه هو من ذكره وحدث عنه.

[ وعمرو بن الحارث ] ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ].

أبو قيس مولى عمرو بن العاص اسمه: عبد الرحمن بن ثابت ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أن عمرو بن العاص ].

هذا الحديث صورته صورة المرسل؛ لأن أبا قيس ما أدرك القصة ولكنه أخبر بها من طريق عمرو بن العاص مولاه.

[ قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم ].

الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

و حسان بن عطية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

أما قوله: [ وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم ].

لعل الذي روى القصة عن الأوزاعي من دون يزيد بن أبي حبيب .

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟

حدثنا ابن المثنى ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب ، يحدث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) ].

قوله: (باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم) أي: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم عن الجنابة؟

هذه الترجمة المقصود منها كما هو واضح أن الجنب إذا خشي من الاغتسال أن يصيبه الهلاك، أو يصيبه ضرر كبير يلحق جسمه أو مرض يؤدي به إلى الهلاك، هل له أن يتيمم أو ليس له أن يتيمم؟

وأورد المصنف رحمه الله حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أنه كان في غزوة ذات السلاسل، وكان أميراً عليها، فاحتلم وخشي إن اغتسل أن يهلك لشدة البرد، وذكر قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فتيمم وصلى بالناس وهو إمامهم؛ لأنه أميرهم، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخبروه بذلك قال له: (صليت بأصحابك وأنت جنب يا عمرو ؟) فقال له ما قال وتلا عليه الآية التي بنى عليها عمله، وهي قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد شيئاً. وضحكه عليه الصلاة والسلام وكونه لم يرد عليه شيئاً إقرار له، ولو كان ذلك باطلاً أو غير سائغ لم يقره على ذلك، وهو لا يقر على باطل صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن السنة تثبت بطرق ثلاث: وهي القول أو الفعل أو التقرير، ولهذا يعرف المحدثون الحديث بقولهم: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ويضيفون إلى ذلك: أو وصف خلقي أو خلقي. أي: وصف أخلاقه الكريمة وخلقه الذي خلقه الله عليه صلى الله عليه وسلم، أيضاً هذا يدخل في السنة ويدخل في الحديث، ولكن هذا التعريف كما هو واضح، يشمل الطرق الثلاث التي تثبت بها السنن، وهي القول والفعل والتقرير، فكونه صلى الله عليه وسلم ضحك وتبسم ولم يرد شيئاً؛ أي أنه أقره على صنيعه وأقره على فعله.

قوله: [ (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك.) ].

وهذه الغزوة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، وهناك في الجيش من هو أفضل منه، وبهذا يجوز أن يولى المفضول مع وجود الفاضل، وذلك لمعنى موجود في المفضول اختير من أجله، ولما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم فهم من هذا التأمير وهذا التقديم أن فيه تفضيلاً فسأله فقال: (من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة ، قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر)، ثم سكت لما رأى أنه عدد أناساً ولم يعده.

في هذه الغزوة أو هذا الجيش الذي كان فيه حصل له احتلام في النوم، واحتاج إلى الغسل وخشي أنه إذا اغتسل والبرد شديد أن يهلك، وفهم من الآية وهي قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] أنه يعدل عن الاغتسال إلى التيمم، ولما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي حصل منه وأنه صلى بأصحابه وهو جنب وتلا هذه الآية التي فهم منها ما فهم أقره رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث ضحك وتبسم ولم يرد عليه شيئاً.

وهذا فيه أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يجتهدون في زمن الوحي في الأمور التي تطرأ عليهم كما فعل عمرو في هذه الغزوة، وكما فعل أسيد بن حضير ومن معه عندما كانوا يبحثون عن عقد عائشة ولما جاء وقت الصلاة وليس عندهم ماء صلوا بدون وضوء؛ لأن التيمم لم يشرع بعد، فعلوا ذلك باجتهادهم، حيث رأوا أن الصلاة لا تترك وأن عليهم أن يصلوا على حسب حالهم، فصلوا على حسب حالهم وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ].

وكان هذا في آخر الليل؛ لأن البرد يكون أشد ما يكون في آخر الليل.

قوله: [ (فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) ].

المقصود بقوله: (سمعت الله يقول) سمعت كلام الله عز وجل ورأيت كلام الله سبحانه وتعالى والذي ينص على أن الإنسان لا يقتل نفسه، وأن ذلك يكون فيه قتل للنفس.

وستأتي قصة الرجل الذي أصابته شجة واحتلم وسأل وقيل له: (ما نعلم إلا أنك تغتسل، فاغتسل ومات بسبب ذلك، فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال).

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] فأرع لها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه) وهذا السماع إنما هو سماع للقرآن إما من غيره أو كونه يقرأ لنفسه.

ومن المعلوم أن المقصود بالسماع من الله، أي: سماع كلام الله، وسبق أن ذكرت الأثر المروي عن عبد الله بن داود الخريبي الذي ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو في قول الله عز وجل: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] قال: إن هذه الآية أشد آية على أصحاب جهم ؛ لأن الله تعالى يقول: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] قال: فمن بلغته هذه الآية فكأنما سمع كلام الله.

يعني: كأنه سمعه من الله، وكما هو معلوم أن الناس لا يسمعون من الله، وإنما الذي سمع الوحي من الله ونزل به على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام، والذي سمع كلام الله من الله هو موسى بن عمران كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فهو سمع كلام الله من الله، وكذلك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج فإنه سمع كلام الله من الله، ولهذا فكما أن موسى بن عمران كليم الرحمن فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام هو أيضاً كليم الرحمن، وكما أن إبراهيم خليل الرحمن، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والخلة والتكليم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] هذه الآية استدل بها بعض أهل العلم على تحريم شرب الدخان؛ لأن الله تعالى نهى عن قتل النفس، ومن المعلوم أن شرب الدخان من الأسباب التي يكون بها الهلاك ومن أسباب الأمراض، ومن المعلوم أيضاً أن الشريعة جاءت بعموماتها وبقواعدها تشمل ما هو موجود في زمنه صلى الله عليه وسلم وما ليس بموجود مما يجد ويحدث.

ومن المعلوم أن الدخان شيء جديد، وإنما طرأ ووجد في الأزمان المتأخرة، ولكن الشريعة تستوعب ما يحدث وما يجد من النوازل؛ وذلك بعموماتها وقواعدها وقياس المثيل على المثيل، وإلحاق النظير بالنظير؛ وذلك أن قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) فيه نهي عن قتل النفس بأي طريقة كانت، وعن قتل الغير، وكون الإنسان لا يقدم على أي شيء يؤدي إلى هلاكه وقتل نفسه هو ما تقتضيه هذه الآية، ولهذا فهم عمرو رضي الله عنه منها أنه لو اغتسل بالماء البارد لهلك، واحتج بهذه الآية وتلاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليه شيئاً، أي: أنه أقره على ذلك.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2893 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2845 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2838 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2734 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2707 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2697 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2657 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2652 استماع