خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [029]
الحلقة مفرغة
شرح حديث الدعاء عقب الوضوء
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب قال: سمعت معاوية -يعني ابن صالح - يحدث عن أبي عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدام أنفسنا، نتناوب الرعاية رعاية إبلنا، فكانت علي رعاية الإبل فروحتها بالعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فسمعته يقول: ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا قد أوجب. فقلت: بخ بخ ما أجود هذه! فقال: رجل من بين يدي: التي قبلها يا
قال معاوية وحدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر ].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمة الله عليه باب ما يقول الرجل إذا توضأ، أي: الدعاء الذي يشرع للإنسان أن يقوله بعد فراغه من الوضوء، وهو أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأِشهد أن محمداً عبده ورسوله. وقد جاء أنه يسمي الله عز وجل قبل الوضوء، وأما ما يكون بين ذلك من الأدعية عند أعضاء الوضوء فلم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) فهذا الحديث فيه بيان ما يقال بعد الفراغ من الوضوء وهو الشهادتان: الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
قوله: (وحده لا شريك له) تأكيد لما تقدم من ذكر الشهادة؛ لأن قوله: (وحده) تعادل: (إلا الله) وقوله: (لا شريك له) تعادل: (لا إله) فكأن كلمة الإخلاص ذكرت مرتين: مرة على سبيل التنصيص عليها ومرة على سبيل تأكيدها بلفظ آخر يؤدي معناها دون الموافقة في اللفظ.
قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) بعد ما ذكر الشهادة لله عز وجل بالوحدانية والألوهية ذكر الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله، وذكر وصفه بأنه عبد الله ورسوله هذا يتكرر كثيراً ويأتي كثيراً، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن حذر من إطرائه أرشد إلى أنه يقال له: عبد الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
فإذاً: التعبير بأنه عبد الله ورسوله من الأمور التي يحبها رسول الله عليه الصلاة والسلام والتي يأتي ذكرها كثيراً في أحاديثه الشريفة، بل قد أرشد إلى ذلك حيث قال: (قولوا: عبد الله ورسوله)، فهو عبد لله عز وجل وهذا من أخص أوصافه عليه الصلاة والسلام، ولهذا يأتي ذكر هذا الوصف له صلى الله عليه وسلم في المقامات الشريفة وفي الأمور العظيمة، فإن الله تعالى ذكره بالعبودية في مقام الامتنان عليه بتنزيل القرآن فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] وكذلك في الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] وقال عنه سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] فهو عبد لله عز وجل، والعبد لا يُعبد، وهو رسول من الله عز وجل، والرسول لا يُكذب، بل يطاع ويتبع صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فبعد الفراغ من الوضوء يشرع للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء، وقد جاء في فضل هذا الدعاء مع إحسان الوضوء قوله في هذا الحديث (فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وهذا فضل عظيم من الله عز وجل وأجر جزيل من المولى سبحانه وتعالى لمن يحسن وضوءه ويأتي به على التمام والكمال، ثم يذكر الله عز وجل بهذا الذكر الذي هو الشهادة له سبحانه وتعالى بالوحدانية ولنبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بالرسالة، وهذا جاء في صحيح مسلم وجاء في سنن الترمذي زيادة على ذلك وهي قوله: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، وفي هذه الزيادة كلام لبعض أهل العلم.
وفي هذا دليل على أن أبواب الجنة ثمانية؛ لقوله: (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
ثم أيضاً كما اشتمل الحديث على هذا عن عقبة عن عمر فقد اشتمل على شيء عن عقبة رضي الله عنه، وهو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه إلا قد أوجب) يعني: إلا قد أتى بالشيء الذي تحصل له الجنة والذي يثيبه الله عز وجل عليه بالجنة.
وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه مشتمل على حديثين: حديث عن عقبة وهو هذا، وحديث عن عقبة عن عمر وهو الذي لم يسمعه، ولكنه أخذه عن عمر وهو الذي يتعلق بالدعاء بعد الوضوء.
ويقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: (كنا خدام أنفسنا)، يعني: أننا كنا نباشر أعمالنا ومصالحنا ونتولاها بأنفسنا، وليس لنا خدم يكفوننا هذه المهمة ويقومون بتلك الأعمال التي هي لازمة لنا.
قوله: (وكنا نتناوب رعاية الإبل) أي: أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يوفقون بين مصالحهم الدنيوية والفوائد الأخروية التي يرجونها ويطلبونها، وهي الحضور إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه وتلقي السنن منه، فكانوا يتناوبون رعاية الإبل بدلاً من كون كل واحد يسرح بإبله فيغيبون جميعاً ولا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم له خمس والثاني ثلاث والآخر عشر والثاني تسع وهكذا فيجمعونها مع بعض ثم كل يوم يقوم بها واحد منهم، وإذا كانوا سبعة ففي الأسبوع يذهب الواحد منهم مرة واحدة وبقية الأيام يحضر مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على حرصهم على تلقي السنن وجدهم واجتهادهم في تحصيلها وفي ضبطها؛ لأنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يعملون هذا العمل الذي فيه توفيق بين مصالحهم الدنيوية وبين الحصول على ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، وذلك بسماع النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي حديثه منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (فلما كانت نوبتي)، يعني: لما كان اليوم الذي يسرح هو فيه بالإبل التي له ولغيره.
قوله: (روحتها بالعشي)، يعني: جئت وأنهيت مهمتى وأدركت بقية مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: فسمعته يقول: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا أوجب)، فقلت: ما أجود هذه! يعني: أعجبه هذا الكلام الذي يشمل أمراً عظيماً وثواباً جزيلاً من الله عز وجل على هذا العمل، فكان عمر رضي الله عنه وأرضاه من الجالسين في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الذي قبلها أجود منها يا عقبة ! فنظر إلى عمر رضي الله عنه وقال: ما هي يا أبا حفص ؟! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
إذاً: هذا هو محل الشاهد للترجمة.
ومثل هذا الذي حكاه عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في تناوبهم في رعاية الإبل وتوفيقهم بين مصالحهم الدنيوية، ومعرفة السنن والأحكام الشرعية التي يتلقونها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ما جاء في الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (أنه كان له جار من الأنصار، وكان لهما بساتين في عالية المدينة، فكان يتناوب هو وجاره النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهما كان يبقى في بستانه، والثاني ينزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخبره بالذي سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم اليوم الثاني ينزل الشخص الذي لم ينزل بالأمس، فكل واحد ينزل في يوم والذي لم ينزل يبقى في بستانه، ومن حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ ذلك الذي بقي في بستانه بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبذلك وفقوا بين مصالحهم الدنيوية وبين اشتغال الواحد منهم بتحصيل السنن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بصاحبه الذي ينزل في حال عدم نزوله، وهذا يوضح لنا ويبين لنا عناية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بتلقي السنن وحفظها ومعرفتها والحرص على تحصيلها واستيعابها رضي الله عنهم وأرضاهم، ولهذا فهم خير الناس وأفضل الناس، وكل من عمل بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت عن طريق صحابي من أصحابه الكرام فإن الله تعالى يثيب كل من عمل بتلك السنة ويثيب ذلك الصحابي الذي دل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أثاب ذلك العامل من حين زمن الصحابة وإلى قيام الساعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) ، وكذلك قوله: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
تراجم رجال إسناد حديث الدعاء عقب الوضوء
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
حدثنا [ ابن وهب ].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت معاوية يعني ابن صالح ].
معاوية بن صالح صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي عثمان ].
أبو عثمان هذا قيل: هو سعيد بن هانئ وقيل: حريز بن عثمان وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فهو مقبول كما قال الحافظ ابن حجر، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
[عن جبير بن نفير ].
جبير بن نفير ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر ].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قوله: [قال معاوية : وحدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر ].
يعني: معاوية بن صالح يرويه من طريق أخرى عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني وربيعة بن يزيد الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله وهو من كبار التابعين ثقة مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث الدعاء عقب الوضوء من طريق ثانية
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، ولكن ليس فيها ذكر التناوب على رعاية الإبل، وإنما فيها سماع الحديث الذي فيه (فأحسن الوضوء) وزاد فيه: (ثم رفع بصره إلى السماء فقال) وساق الحديث بمعنى حديث معاوية الذي تقدم بالإسناد الذي قبل هذا، وما سوى ذكر رفع البصر إلى السماء يشهد له ما تقدم في الطريق السابقة، وأما ذكر رفع البصر إلى السماء، فما جاء إلا من هذه الطريق، ولكنه لم يثبت؛ لأن فيه ابن عم أبي عقيل الذي لم يسم.
تراجم رجال إسناد حديث الدعاء عقب الوضوء من طريق ثانية
الحسين بن عيسى صدوق، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
[حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ].
عبد الله بن يزيد المقرئ ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح ].
هو حيوة بن شريح المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عقيل ].
هو زهرة بن معبد ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عمه].
ابن عمه لم يسم روى له أبو داود وحده.
[عن عقبة بن عامر الجهني ].
عقبة بن عامر رضي الله عنه قد مر ذكره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا توضأ.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب قال: سمعت معاوية -يعني ابن صالح - يحدث عن أبي عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدام أنفسنا، نتناوب الرعاية رعاية إبلنا، فكانت علي رعاية الإبل فروحتها بالعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فسمعته يقول: ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا قد أوجب. فقلت: بخ بخ ما أجود هذه! فقال: رجل من بين يدي: التي قبلها يا
قال معاوية وحدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر ].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمة الله عليه باب ما يقول الرجل إذا توضأ، أي: الدعاء الذي يشرع للإنسان أن يقوله بعد فراغه من الوضوء، وهو أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأِشهد أن محمداً عبده ورسوله. وقد جاء أنه يسمي الله عز وجل قبل الوضوء، وأما ما يكون بين ذلك من الأدعية عند أعضاء الوضوء فلم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) فهذا الحديث فيه بيان ما يقال بعد الفراغ من الوضوء وهو الشهادتان: الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
قوله: (وحده لا شريك له) تأكيد لما تقدم من ذكر الشهادة؛ لأن قوله: (وحده) تعادل: (إلا الله) وقوله: (لا شريك له) تعادل: (لا إله) فكأن كلمة الإخلاص ذكرت مرتين: مرة على سبيل التنصيص عليها ومرة على سبيل تأكيدها بلفظ آخر يؤدي معناها دون الموافقة في اللفظ.
قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) بعد ما ذكر الشهادة لله عز وجل بالوحدانية والألوهية ذكر الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله، وذكر وصفه بأنه عبد الله ورسوله هذا يتكرر كثيراً ويأتي كثيراً، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن حذر من إطرائه أرشد إلى أنه يقال له: عبد الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
فإذاً: التعبير بأنه عبد الله ورسوله من الأمور التي يحبها رسول الله عليه الصلاة والسلام والتي يأتي ذكرها كثيراً في أحاديثه الشريفة، بل قد أرشد إلى ذلك حيث قال: (قولوا: عبد الله ورسوله)، فهو عبد لله عز وجل وهذا من أخص أوصافه عليه الصلاة والسلام، ولهذا يأتي ذكر هذا الوصف له صلى الله عليه وسلم في المقامات الشريفة وفي الأمور العظيمة، فإن الله تعالى ذكره بالعبودية في مقام الامتنان عليه بتنزيل القرآن فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] وكذلك في الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] وقال عنه سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] فهو عبد لله عز وجل، والعبد لا يُعبد، وهو رسول من الله عز وجل، والرسول لا يُكذب، بل يطاع ويتبع صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فبعد الفراغ من الوضوء يشرع للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء، وقد جاء في فضل هذا الدعاء مع إحسان الوضوء قوله في هذا الحديث (فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وهذا فضل عظيم من الله عز وجل وأجر جزيل من المولى سبحانه وتعالى لمن يحسن وضوءه ويأتي به على التمام والكمال، ثم يذكر الله عز وجل بهذا الذكر الذي هو الشهادة له سبحانه وتعالى بالوحدانية ولنبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بالرسالة، وهذا جاء في صحيح مسلم وجاء في سنن الترمذي زيادة على ذلك وهي قوله: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، وفي هذه الزيادة كلام لبعض أهل العلم.
وفي هذا دليل على أن أبواب الجنة ثمانية؛ لقوله: (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
ثم أيضاً كما اشتمل الحديث على هذا عن عقبة عن عمر فقد اشتمل على شيء عن عقبة رضي الله عنه، وهو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه إلا قد أوجب) يعني: إلا قد أتى بالشيء الذي تحصل له الجنة والذي يثيبه الله عز وجل عليه بالجنة.
وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه مشتمل على حديثين: حديث عن عقبة وهو هذا، وحديث عن عقبة عن عمر وهو الذي لم يسمعه، ولكنه أخذه عن عمر وهو الذي يتعلق بالدعاء بعد الوضوء.
ويقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: (كنا خدام أنفسنا)، يعني: أننا كنا نباشر أعمالنا ومصالحنا ونتولاها بأنفسنا، وليس لنا خدم يكفوننا هذه المهمة ويقومون بتلك الأعمال التي هي لازمة لنا.
قوله: (وكنا نتناوب رعاية الإبل) أي: أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يوفقون بين مصالحهم الدنيوية والفوائد الأخروية التي يرجونها ويطلبونها، وهي الحضور إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه وتلقي السنن منه، فكانوا يتناوبون رعاية الإبل بدلاً من كون كل واحد يسرح بإبله فيغيبون جميعاً ولا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم له خمس والثاني ثلاث والآخر عشر والثاني تسع وهكذا فيجمعونها مع بعض ثم كل يوم يقوم بها واحد منهم، وإذا كانوا سبعة ففي الأسبوع يذهب الواحد منهم مرة واحدة وبقية الأيام يحضر مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على حرصهم على تلقي السنن وجدهم واجتهادهم في تحصيلها وفي ضبطها؛ لأنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يعملون هذا العمل الذي فيه توفيق بين مصالحهم الدنيوية وبين الحصول على ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، وذلك بسماع النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي حديثه منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (فلما كانت نوبتي)، يعني: لما كان اليوم الذي يسرح هو فيه بالإبل التي له ولغيره.
قوله: (روحتها بالعشي)، يعني: جئت وأنهيت مهمتى وأدركت بقية مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: فسمعته يقول: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا أوجب)، فقلت: ما أجود هذه! يعني: أعجبه هذا الكلام الذي يشمل أمراً عظيماً وثواباً جزيلاً من الله عز وجل على هذا العمل، فكان عمر رضي الله عنه وأرضاه من الجالسين في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الذي قبلها أجود منها يا عقبة ! فنظر إلى عمر رضي الله عنه وقال: ما هي يا أبا حفص ؟! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
إذاً: هذا هو محل الشاهد للترجمة.
ومثل هذا الذي حكاه عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في تناوبهم في رعاية الإبل وتوفيقهم بين مصالحهم الدنيوية، ومعرفة السنن والأحكام الشرعية التي يتلقونها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ما جاء في الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (أنه كان له جار من الأنصار، وكان لهما بساتين في عالية المدينة، فكان يتناوب هو وجاره النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهما كان يبقى في بستانه، والثاني ينزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخبره بالذي سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم اليوم الثاني ينزل الشخص الذي لم ينزل بالأمس، فكل واحد ينزل في يوم والذي لم ينزل يبقى في بستانه، ومن حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ ذلك الذي بقي في بستانه بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبذلك وفقوا بين مصالحهم الدنيوية وبين اشتغال الواحد منهم بتحصيل السنن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بصاحبه الذي ينزل في حال عدم نزوله، وهذا يوضح لنا ويبين لنا عناية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بتلقي السنن وحفظها ومعرفتها والحرص على تحصيلها واستيعابها رضي الله عنهم وأرضاهم، ولهذا فهم خير الناس وأفضل الناس، وكل من عمل بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت عن طريق صحابي من أصحابه الكرام فإن الله تعالى يثيب كل من عمل بتلك السنة ويثيب ذلك الصحابي الذي دل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أثاب ذلك العامل من حين زمن الصحابة وإلى قيام الساعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) ، وكذلك قوله: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
[حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
حدثنا [ ابن وهب ].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت معاوية يعني ابن صالح ].
معاوية بن صالح صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي عثمان ].
أبو عثمان هذا قيل: هو سعيد بن هانئ وقيل: حريز بن عثمان وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فهو مقبول كما قال الحافظ ابن حجر، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
[عن جبير بن نفير ].
جبير بن نفير ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر ].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قوله: [قال معاوية : وحدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر ].
يعني: معاوية بن صالح يرويه من طريق أخرى عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني وربيعة بن يزيد الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله وهو من كبار التابعين ثقة مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسين بن عيسى حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ عن حيوة بن شريح عن أبي عقيل عن ابن عمه عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ولم يذكر أمر الرعاية، قال عند قوله: (فأحسن الوضوء ثم رفع بصره إلى السماء فقال) وساق الحديث بمعنى حديث معاوية ].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، ولكن ليس فيها ذكر التناوب على رعاية الإبل، وإنما فيها سماع الحديث الذي فيه (فأحسن الوضوء) وزاد فيه: (ثم رفع بصره إلى السماء فقال) وساق الحديث بمعنى حديث معاوية الذي تقدم بالإسناد الذي قبل هذا، وما سوى ذكر رفع البصر إلى السماء يشهد له ما تقدم في الطريق السابقة، وأما ذكر رفع البصر إلى السماء، فما جاء إلا من هذه الطريق، ولكنه لم يثبت؛ لأن فيه ابن عم أبي عقيل الذي لم يسم.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2890 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2842 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2835 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2731 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2702 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2693 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2686 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2679 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2654 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2649 استماع |