شرح الأربعين النووية [19]


الحلقة مفرغة

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، رواه البخاري و مسلم .

مناسبة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في أول الحديث

هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل:

الجملة الأولى: تتعلق بحفظ اللسان، وألا يقول به إلا خيراً، وإلاّ يكن فالصمت.

والثانية: تتعلق بإكرام الجار.

والثالثة: تتعلق بإكرام الضيف.

وقد جاء بين يدي ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن من يتصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقوم بهذه الأمور ويفعل هذه الأفعال، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو أس الأسس، وكل شيء يجب الإيمان به فإنه تابع للإيمان بالله عز وجل؛ ولهذا جاء في حديث جبريل تفسير الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، ومن المعلوم أن الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر كله تابع للإيمان بالله، فمن لم يؤمن بالله فلن يؤمن بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر.

إذاً: الإيمان بالله عز وجل هو الأساس الذي يبنى عليه كل إيمان، فكل شيء يؤمن به ويصدق فهو مبني على الإيمان بالله وتابع له، فلهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وأما اليوم الآخر فقد ذكره مع الإيمان بالله تنويهاً وتذكيراً بالمعاد، وأن الناس يجازون على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالأوامر فإنه يكون ترغيباً، وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالنواهي فإنه يكون ترهيباً.

إذاً: يأتي ذكر ذلك في الترغيب والترهيب؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يعرف أنه سيلقى الله عز وجل، وأنه سيحاسبه؛ فلذلك يأتي بهذه المأمورات لأنه سيجد الثواب والأجر أمامه، وكذلك فيما إذا كانت الأمور التي ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر بين يديها تتعلق بالمنهيات، فيكون ذلك ترهيباً وتخويفاً من أن يقع الإنسان فيها في الحياة الدنيا، ثم إذا جاء يوم القيامة وجاء الحساب وجد العقاب والعذاب عليها والعياذ بالله!

إذاً: هذا هو السبب الذي لأجله ذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله؛ لأن فيه التذكير باليوم الآخر، ففي ذلك ترغيب وترهيب، والإنسان إذا عرف أنه قادم على الله تعالى وأنه سيلقى الله تعالى، وأنه سيجازيه على ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فهو يستعد لذلك اليوم بفعل المأمورات المرغب فيها، وترك المنهيات المرهب والمحذر منها، وهذا يتعلق بالأمور الثلاثة كلها؛ لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة قدم بين يديه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر.

واليوم الآخر -كما هو معلوم- يبدأ بالموت لكل إنسان، فالحد الفاصل بين الدنيا والآخرة لكل إنسان هو الموت، فمن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، فإن الإنسان يجازى في قبره إما في نعيم وإما في عذاب، إما أن يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها ونعيمها، وإما أن يفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها، كما ثبت الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.

الأمر بقول الخير أو السكوت

قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أي: أنه يحفظ لسانه، ولا يستعمله إلا في الخير، فلا يستعمله في الشر، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ اللسان، ومنها الحديث الذي سيأتي وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل ، وفيه: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

وكذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، وما بين اللحيين هو اللسان، وما بين الرجلين هو الفرج.

وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .. كلمة جامعة تدل على أن استعمال اللسان يكون إما في الخير وإما في الشر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) يعني: يتكلم بما هو خير من ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدلالة على الخير، وإرشاد الضال، ودلالة من يحتاج إلى الدلالة على الخير، كل ذلك يكون من الأعمال التي يستعمل فيها اللسان، وإذا لم يكن يستعمل الإنسان لسانه في الخير فلا أقل من أن يصمت، وأما أن استعمله فيما يعود عليه بالضرر فإن وباله عظيم، وضرره كبير، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

ويقولون: (كلم اللسان أنكأ من كلم السنان)، أي: الجرح الذي يكون باللسان أشد من الجرح الذي يكون بالسنان، والإنسان إذا لم يتكلم بالكلمة غير السائغة فإنه يكون مالكاً لها؛ ولكنه إذا تكلم بها ملكته ولم يملكها، فلا يستطيع ردها أو إرجاعها، وفي المثل: كم من كلمة قالت لصاحبها دعني! سواء ندم الإنسان عليها أو لم يندم عليها ولكنه تضرر بها، فكأنها قالت له: دعني قبل أن يقولها، وقبل أن يقولها لو صرفها لسلم؛ لكنه لما قالها وخرجت من فيه ترتبت عليها آثارها، ولا يتخلص الإنسان منها، فإن كانت حقاً لله عز وجل فيستغفر الله عز وجل ويتوب، وإن كانت حقاً للناس فعليه أن يطلب منهم أن يجعلوه في حِلّ مما نالهم به من الغيبة أو من الكلام الذي يسوءهم، وسواء كان ما قاله فيهم واقعاً أو غير واقع؛ لأنه إن كان قاله فيهم وهو واقع فإنه يكون غيبة، وإن كان قاله فيهم وهو غير واقع يكون بهتاناً وكذباً، وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

وعلى هذا: فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحفظ لسانه من الكلام إلا في خير، كما قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، ففيه الترغيب في الكلام في الخير، والترهيب من الكلام في الشر؛ لأنه إذا لم يستعمله في الخير واستعمله في الشر، فإن مغبة ذلك ومضرته تعود عليه.

حقوق الجار

قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وهذا من الأدلة على تأكد حق الجار، وأن حقه عظيم على جاره ومعلوم أن الجيران بينهم من الصلة والارتباط والتقارب ما يسبب بينهم الخير والشر؛ ولهذا جاء الترغيب في إكرامه، وتأكيد حقه، والترهيب من إيذائه، وإلحاق الضرر به، وهذا الحديث من أدلة إكرامه، حيث قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره).

وقد ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، فمن تأكيد حقه وعظيم حقه ظن أنه سينزل عليه وحي بأن له نصيباً من الميراث، فإذا مات الإنسان فإنه يكون من جملة الورثة، وإن لم يحصل التوريث، وإن لم ينزل وحي به، إلا أن هذا يدل على أنه من آكد الحقوق. وهذا يتعلق بإكرام الجار والوصية به. وأما التحذير من إيذائه فقد جاء في بعض الروايات لهذا الحديث قال: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره.

فالحاصل: أن على المسلم أن يحسن إلى جاره، ويكرمه ويوصل إليه كل خير، ويدفع عنه كل شر.. البر يوصله إليه والضرر يدفعه عنه، ويكون هو وإياه في راحة وطمأنينة، فلا يكون بينهما خصام ولا شحناء ولا عداوة، وإنما التآلف والتقارب، والإحسان من بعضهم لبعض.

ثم إن الجيران يتفاوتون: فمنهم من يكون قريباً في النسب وهو مسلم، فله ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، وإذا كان ليس بقريب ولكنه مسلم فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، وإن لم يكن مسلماً ولا قريباً فله حق واحد: وهو حق الجوار، حتى ولو كان كافراً فيحسن إليه بدعوته إلى الإسلام، والحرص على هدايته، ودفع الإيذاء عنه، وكذلك يكون بالإهداء إليه وإعطائه والإحسان إليه، وإتحافه بما يحصل عنده من شيء يتحفه به، وعندما يكون هناك طعام فيعطيه منه ويحسن إليه، وهذا من أسباب دعوته إلى الإسلام بالقدوة وبالمعاملة الطيبة، فيكون الإنسان قد جمع بين الدعوة إلى الله بالفعل والدعوة بالقول؛ حيث يدعو من كان كافراً إلى الإسلام، وأيضاً يرى الكافر منه المعاملة الطيبة والأخلاق الكريمة التي يأمر بها الإسلام، فقد يكون ذلك من أسباب إسلامه ودخوله في الإسلام.

ثم إن الجيران أيضاً متعددون، ولكن أولاهم بالإحسان والبر أقربهم باباً إليه، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي جيران فإلى أيهم أهدي؟ قال: إلى من كان أقربهم باباً)، فمن كان أقربهم باباً فهو الذي يهدى إليه؛ وذلك لأن من كان أقرب باباً يشاهد ويرى ما يدخل ويخرج من بيته، وقد يرى شيئاً فتتعلق به نفسه وتتطلع إليه، فكونه يحسن إليه يكون أولى من الأشخاص الذين أبوابهم متباعدة أو من خلف البيت ولا يراهم إلا بزيارتهم أو بالتلاقي معهم في المسجد، بخلاف الذي يكون بابه مجاوراً وقريباً من بابه، فإنه يرى ما يدخل على جاره وما يخرج منه، فيكون أولى من غيره بالبر والإحسان، وإن كان الأولى إذا كان هناك مجال بأن يحسن إليهم أجمعين فيحسن؛ ولكن حيث لا يتمكن الإنسان من الإحسان إلى الجميع، وإنما يقدم ويؤخر، فالذي يقدم هو من كان أقرب باباً من غيره.

إكرام الضيف

قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

الضيف الوافد على الإنسان له حق الضيافة وله حق الإكرام، والضيافة حدها ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة، وهي من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، والذي يفعلها من أهل الشيم والمروءات؛ لأن هذا حق، والإنسان قد يحتاج إلى غيره بأن يكون ضيفاً عنده، فإذا كان ضيفاً عنده فإنه يحسن إليه ويكرمه، وفي أول يوم يتحفه بمزيد عناية لإظهار إكرامه، ثم يطعمه مما يطعم وما زاد على ثلاثة أيام فإنه صدقة، ولا يبقى عنده ويثقل عليه، بل عليه إذا اضطر إلى ذلك أن يطلب منه الإذن له بالبقاء زيادة على ثلاثة أيام.

إذاً: هذا حديث عظيم اشتمل على هذه الأمور الثلاثة التي أولها: يتعلق باللسان، والثاني والثالث: يتعلقان بالأفعال، فالأول قول للخير وامتناع عن الشر، والثاني والثالث: إكرام للجيران والأضياف.

هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل:

الجملة الأولى: تتعلق بحفظ اللسان، وألا يقول به إلا خيراً، وإلاّ يكن فالصمت.

والثانية: تتعلق بإكرام الجار.

والثالثة: تتعلق بإكرام الضيف.

وقد جاء بين يدي ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن من يتصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقوم بهذه الأمور ويفعل هذه الأفعال، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو أس الأسس، وكل شيء يجب الإيمان به فإنه تابع للإيمان بالله عز وجل؛ ولهذا جاء في حديث جبريل تفسير الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، ومن المعلوم أن الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر كله تابع للإيمان بالله، فمن لم يؤمن بالله فلن يؤمن بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر.

إذاً: الإيمان بالله عز وجل هو الأساس الذي يبنى عليه كل إيمان، فكل شيء يؤمن به ويصدق فهو مبني على الإيمان بالله وتابع له، فلهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وأما اليوم الآخر فقد ذكره مع الإيمان بالله تنويهاً وتذكيراً بالمعاد، وأن الناس يجازون على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالأوامر فإنه يكون ترغيباً، وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالنواهي فإنه يكون ترهيباً.

إذاً: يأتي ذكر ذلك في الترغيب والترهيب؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يعرف أنه سيلقى الله عز وجل، وأنه سيحاسبه؛ فلذلك يأتي بهذه المأمورات لأنه سيجد الثواب والأجر أمامه، وكذلك فيما إذا كانت الأمور التي ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر بين يديها تتعلق بالمنهيات، فيكون ذلك ترهيباً وتخويفاً من أن يقع الإنسان فيها في الحياة الدنيا، ثم إذا جاء يوم القيامة وجاء الحساب وجد العقاب والعذاب عليها والعياذ بالله!

إذاً: هذا هو السبب الذي لأجله ذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله؛ لأن فيه التذكير باليوم الآخر، ففي ذلك ترغيب وترهيب، والإنسان إذا عرف أنه قادم على الله تعالى وأنه سيلقى الله تعالى، وأنه سيجازيه على ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فهو يستعد لذلك اليوم بفعل المأمورات المرغب فيها، وترك المنهيات المرهب والمحذر منها، وهذا يتعلق بالأمور الثلاثة كلها؛ لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة قدم بين يديه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر.

واليوم الآخر -كما هو معلوم- يبدأ بالموت لكل إنسان، فالحد الفاصل بين الدنيا والآخرة لكل إنسان هو الموت، فمن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، فإن الإنسان يجازى في قبره إما في نعيم وإما في عذاب، إما أن يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها ونعيمها، وإما أن يفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها، كما ثبت الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.

قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أي: أنه يحفظ لسانه، ولا يستعمله إلا في الخير، فلا يستعمله في الشر، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ اللسان، ومنها الحديث الذي سيأتي وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل ، وفيه: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

وكذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، وما بين اللحيين هو اللسان، وما بين الرجلين هو الفرج.

وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .. كلمة جامعة تدل على أن استعمال اللسان يكون إما في الخير وإما في الشر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) يعني: يتكلم بما هو خير من ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدلالة على الخير، وإرشاد الضال، ودلالة من يحتاج إلى الدلالة على الخير، كل ذلك يكون من الأعمال التي يستعمل فيها اللسان، وإذا لم يكن يستعمل الإنسان لسانه في الخير فلا أقل من أن يصمت، وأما أن استعمله فيما يعود عليه بالضرر فإن وباله عظيم، وضرره كبير، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

ويقولون: (كلم اللسان أنكأ من كلم السنان)، أي: الجرح الذي يكون باللسان أشد من الجرح الذي يكون بالسنان، والإنسان إذا لم يتكلم بالكلمة غير السائغة فإنه يكون مالكاً لها؛ ولكنه إذا تكلم بها ملكته ولم يملكها، فلا يستطيع ردها أو إرجاعها، وفي المثل: كم من كلمة قالت لصاحبها دعني! سواء ندم الإنسان عليها أو لم يندم عليها ولكنه تضرر بها، فكأنها قالت له: دعني قبل أن يقولها، وقبل أن يقولها لو صرفها لسلم؛ لكنه لما قالها وخرجت من فيه ترتبت عليها آثارها، ولا يتخلص الإنسان منها، فإن كانت حقاً لله عز وجل فيستغفر الله عز وجل ويتوب، وإن كانت حقاً للناس فعليه أن يطلب منهم أن يجعلوه في حِلّ مما نالهم به من الغيبة أو من الكلام الذي يسوءهم، وسواء كان ما قاله فيهم واقعاً أو غير واقع؛ لأنه إن كان قاله فيهم وهو واقع فإنه يكون غيبة، وإن كان قاله فيهم وهو غير واقع يكون بهتاناً وكذباً، وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

وعلى هذا: فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحفظ لسانه من الكلام إلا في خير، كما قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، ففيه الترغيب في الكلام في الخير، والترهيب من الكلام في الشر؛ لأنه إذا لم يستعمله في الخير واستعمله في الشر، فإن مغبة ذلك ومضرته تعود عليه.