العولمة والتحديات المعاصرة [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].

معاشر المؤمنين: مر بنا الحديث في جمعتين ماضيتين عن تحديات العصر والقرن القادم، وما أعده ويعده أعداء الإسلام على اختلاف ألوانهم ومللهم ونحلهم ولغاتهم، ما أعدوه ويعدونه لأجل حرب الإسلام، في صورة الحرب الجديدة، حرب الصوت والصورة والكلمة، وإن كانوا لا يألونكم خبالا ما أمكنتهم الفرص إلى ذلك سبيلا لإجهاض أي قوة، أو ضرب أي قوة يجدها المسلمون أو يستطيعونها، وإتماماً للحديث؛ فإن من التحديات الخطيرة التي لا زال الغرب يكرسها مصطلح العولمة الذي طبل له من طبل، وردد له طائفة أو كثيرٌ ممن لا يدركون أبعاده.

هذا الأمر الخطير العجيب -يا عباد الله- يتضمن تحدياً قادماً وقائما، وهو تحدي المسلمين في استمرار عجزهم عن نقل أسرار التقنية، واكتشاف أسرار الصناعة في مجالات شتى حربية وعسكرية، طبية وكيميائية وفيزيائية وغيرها، حتى لقد أصبح لدى بعض شبابنا عقدة اليقين بالعجز والقطع بالمستحيل أنه لا يمكن أن نواكب الغرب فضلاً عن أن نتحداه في مخترعاته وابتكاراته، وربما سمعت من شبابنا من يردد مقولة الغربي المشهورة: إذا دخل العرب عالم الحضارة والذرة نكون قد بلغنا عالم ما فوق الذرة.

أيها الأحبة في الله: وإن من دلائل هذا التحدي، ومن دلائل الإخفاق الذي يواجهه لدى كثير من أبناء المسلمين وشبابهم أن ترى الواحد منهم يغفر فاه، ويندهش من كل جديد ولا يفكر أن يوجد جديدا؛ لأنه قد استقر في قلبه ولبه وجوهره أنه لا يمكن أن يجاري الغرب، ولا يمكن أن يتحداهم، ولا يمكن أن يصنع ما صنعوه، فضلاً عن أن يسبقهم إلى مجالٍ لم يكتشفوه، وإنهم بهذا وكأنهم يقولون في حرب الصوت والصورة والكلمة، وحرب التحدي العلمي، وحرب الاحتكار لنقل أسرار التقنية والاختراع، كأنهم يقولون: أتظنون أن خطبكم أو ندواتكم أو أشرطتكم أو محاضراتكم أو دروسكم الدينية، أتظنون أنها سوف تواجه هذا المحيط المتلاطم في أمواجه، الذي يعصف بالدول والقارات والأمم، تريدون أن تتحدوا الغرب بخطبة على منبر؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بمحاضرة لا يحضرها إلا صفان أو ثلاثة؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بقرآن قد وضع على الرفوف؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بأحاديث ترددونها في مجالسكم؟

هذا وجه خفي باطنٌ لوجه العولمة، الذي تريد من كل واحد أن يسلم خاضعاً مذعناً مستسلماً أن القيادة والقوة والسيطرة قد أصبحت بيد الغرب، وما سوى ذلك من أمور الدين والقرآن والسنة، ومن أمور الشريعة والعقائد والقيم والمبادئ، إنما هي محض أمور شخصية، ومحض قضايا شخصية بحتة، لا يمكن أن تعمم في العالم، ولا يمكن أن تتحكم في سلوك البشر إلا في إطار الأمور الشخصية الضيقة البحتة، من طلاق أو زواج أو تغسيل ميت، أو دفن ميت، أو شيء أقل أو أكثر من ذلك، وما سوى فإن العولمة تفرض ما تريده في القضايا السياسية، والجوانب الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، وتفرض ما تريده في المادة والطرح الإعلامي، وتفرض ما تريده فيما شاءت، يريدون أن يسلم الناس وأن يذعنوا للنظام الجديد المتوحد المتفرد بزعمهم، ويأبى الله ذلك إذ أن الله وحده لا شريك له هو المتفرد بالحكم، لا شريك له هو المتفرد بالأمر لا شريك له، هو المتفرد بالتدبير وما شاء كان وما سواه فخلق قد جعل الله لهم من أقوياء وضعفاء أنداداً وأمثالاً يصارعونهم ويغالبونهم ويدالون عليهم دولة وينهزمون أخرى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] لا تظنوا أن أحداً يمكن أن يتفرد بالعالم قيادة وتحكماً وسيطرة في أي جانب من جوانبه عسكرية كانت أو اقتصادية أو إعلامية أو تعليمية..

ولكل شيء آفة من جنسه     حتى الحديد سطا عليه المبرد

لا تظنوا -يا عباد الله- أن العولمة التي لا يزال الغرب، ولا يزال كثيرٌ ممن يطرحها، ولا يطرحها بكامل أبعادها، نعم هناك من يطرحها في جوانب مشرقة، أو في زوايا مضيئة، أو في أمور فيها منفعة لقد قال الله في الخمر: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] فالخمر المسكرة (أم الخبائث) ربما وُجِد فيها ذرات أو شيء من النفع، فكذلك العولمة لن تكون أمام الناس وأمام من يتناولها شراً محضاً، لكن وإن وجد فيها خير قليل فشرها وفسادها وتدميرها أغلب وأعظم وأطغى، فحري بنا -أيها المسلمون- أن نلتفت لهذه القضية وألا نسلم تحت دعوى العناوين البراقة، والكلمات المضيئة أن العولمة هي أقرب سبيل لنقل التقنية، والعولمة هي أحسن طريقٍ لتدفق رءوس الأموال، وانفتاح التجارة الحرة بين الدول، قولوا كما تقولون في العولمة هذا، قولوا أيضاً: وهي السبيل الذي لا يسمح لأمة مسلمة أن تقول: إن القرآن هو التشريع، وهو السبيل، العولمة التي لا تسمح لأمة مسلمة أن تقول: إن القاتل يقتل، والسارق يقطع، والزاني المحصن يرجم، إن العولمة ترفض هذا كله، فهل يعي المسلمون هذه القضايا؟ هل يعي المسلمون هذه الحقائق؟

إن أكبر تحدٍ في العولمة السياسية ما ضجت به وسائل الغرب وقامت قائمتها وقيامتها، ولم تقعد إلى الآن لا لشيء إلا لأن قنبلة إسلامية نووية قد أثبتت قدرتها، وأثبتت جدواها في تفجير مفاعل نووي وقالت للعالم: كما تملكون قنبلة فنملك أمثالها، وللمجرمين أمثالها.

عجباً للغرب والعولمة! إذا فجر عباد البقر والهندوس قنبلة نووية فذلك أمر لا يحتاج إلى سوى تصريحاتٍ يسيرة قليلة بدعوى تذكير الدول والأمم بعدم التورط في التعمق في أبحاث التسلح النووي، وتذكير الدول والأمم باتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، واليهود الذين يقولون: يد الله مغلولة، والذين يقولون: إن الله فقير؛ غلت أيديهم، والله غنيٌ عنهم وعمن سواهم، واليهود قتلة الأنبياء المستهزئون بالرسل، واليهود الذين لا يألون المسلمين خبالاً منذ وجدوا إلى يومنا هذا، اليهود يحق لهم ويسمح لهم، ولأنهم البنت المدللة والولد اليتيم والضعيف العاجز الذي يقبع ويسكن في سوار أو إطار من الدول التي تخالفه، يحق لذلك المسكين أن يمتلك مئات القنابل النووية، والعشرات من المفاعلات.

أما إذا قامت دولة يقول شعبها: لا إله إلا الله، وامتلكت قنبلة نووية فتلك قضية لا بد أن تبحث، وانتظروا وتذكروا ألوان الضغوط الغربية على هذه البلاد يوم أن قالت: لا. وفجرت مفاعلها، انتظروا كيف ستعامل بمختلف أنواع الحصار الإعلامي والاقتصادي والفكري بكل أنواعه وسبله ومجالاته وميادينه.

أيها الأحبة في الله: ينبغي أن ندرك تماماً أن الحرب الجديدة ليست كما قلت في الجمع الماضية، ليست حرباً تقودها الدبابة الزاحفة، ولا الطائرة القاذفة، ولا القنبلة المتفجرة، إنما هي حرب الصورة والصوت والكلمة عبر المؤتمر الدولي، وإرغام الكثير من الدول للخضوع في سياسات غربية بحتة، وعبر شبكة الإنترنت، وعبر القنوات الفضائية، وعبر تصوير كثير من المصطلحات حتى لا يبقى لأحد مقولة لكي يرفض ما يريده الغرب، ونحن بكل ثقة وعلى أتم يقين أنه لن يكون للغرب تفرد بقيادة هذا العالم، حتى وإن ملكوا ما ملكوا، وإن وجدوا ما وجدوا، فإن ربك لبالمرصاد، وأموالهم التي يجمعونها وينفقونها لحرب الإسلام: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

أيها الأحبة في الله: أعود إلى التحدي الخطير الذي يصدره الغرب للمسلمين وأبنائهم، وهو تحدي نقل أسرار التقنية، نقل أسرار الاكتشافات والمخترعات، يريدون من دول الإسلام أن تبقى مستهلكة لا منتجة، أن تبقى آكلة لا زارعة، أن تبقى مستوردة لا مصدرة، إن صدرت شيئاً سيحاصرونها، وإذا لم يجدوا سبيلا من الحاجة إلى منتجاتها فالويل لهذه الأمم إلا من رحم الله، فالويل لها، سيؤخذ إنتاجها بأبخس الأثمان في ظل معادلات تسويقية ومعادلات اقتصادية تحكمها القوى السياسية، حتى تستورد المواد الخام من بلاد المسلمين بأرخص الأثمان، وتعاد مصدرة إليهم بأغلى الأثمان وأبهضها، ولكن إن التحدي حقيقة هو في القلوب وليس على الأرض، إن التحدي هو في العقول وليس على الأرض، إذا كنت تواجه رجلاً أو تواجه عدواً قد امتلأت استخفافاً به، وقد امتلأت ثقة بحقارته وهوانه، وإنه وإن قتلك فذريتك تقتله، وإن أهانك فذريتك تنتصر عليه، فذلك أمر مهم، أما إذا طغى في النفوس وعلا الران على القلوب بأن هذا العدو لا يقهر.. لا يبارى.. لا يجارى.. لا يتحدى، فتلك هزيمة قبل بداية المعركة، وذلك اختناق قبل أن يخلق الغاز.

أيها الأحبة في الله! هذا التحدي يعيشه كثيرٌ من شبابنا، ولا يزال الكثير يقف أمام نفسه وأمام ما يرى من مكتشفات حائراً يظن أنه لا يمكن أن يقدم شيئاً.

أضرب لكم مثالاً بسيطا: ألستم تروا من أبناء بلادنا الموحدين المصلين الصالحين المصلحين -بإذن الله- من فاق في الطب والجراحة وأدق أمور الصحة كثيراً من الغربيين، حتى إنهم ليتمنون أن يقبل عروضهم المغرية ليهجر هذه البلاد ليعمل في بلدانهم، نعم يسلمون بأن في البلاد في جانب الطب وفي مجالات الصحة، وفي الأبحاث الطبية من يفوقهم وإن كان لديهم الكثير من أمثال هؤلاء، فكذلك بالإمكان أن يتحول الكثير من شبابنا إلى عقول منتجة قادرة على استيعاب الحضارة والآلة المعاصرة، ونقل أسرارها ومن ثم القدرة على تصنيعها.

أيها المسلمون: إنه ليس أخطر على حاضر أمة أو مستقبلها من شيء عليها أن تخرج أجيالاً تقتصر آمالها العاجزة على التلهي بمنتجات حضارة غيرها بل عدوها، بل والتقوت منها بالضرورات من مطعم أو ملبس أو دواء أو سلاح دون مشاركة بالإضافة للإحساس بالقهر والدونية والعجز إزاءها وفي مقابلتها.

يا شباب الإسلام: ألا تعجبون من أمم وثنية ليس لها دين صحيح، وليس لها وحي معصوم منـزل، هذه الأمم الوثنية استطاعت أن تتحدى الغرب، واستطاعت أن تجعله راكعاً أمام عقلها وإنتاجها وقدرتها، استطاعت أن تهزأ وتسخر بالخرافة القائلة إن الغرب لا يُتحدى ولا يبارى.

واسمعوا إن شئتم قصة طالب يابانيٍ لتعلموا أن الهزيمة ليست في العناصر والمواد، لكنها -والله- في العقول والقلوب، إن المهزوم قلبه لا يستطيع أن يطلق طلقة واحدة في وجه عدوه، ولو كان السلاح في يده: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176] طالب ياباني اسمه أوساهير بعثته حكومة اليابان للدراسة في ألمانيا، في بداية محاولتها للنهوض والخروج من ضربة عسكرية قاتلة مميتة في هيروشيما ونجزاكي، هذا الطالب يقول: لما بعثت إلى ألمانيا لو أنني اتبعت نصائح أساتذتي الألمان الذين ذهبت لأدرس عليهم في جامعة هاربرج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيك العلمية، وكنت أحلم كيف أصنع محركاً صغيرا، وبدلاً من أن تأخذني الأساتذة إلى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت وقرأت حتى عرفت نظريات المكانيك كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك أياً كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع وكان ذلك أول الشهر، وكان معي راتب وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين، ثمنه يعادل كامل مرتبي، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جدا، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه كأني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة الغرب، هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان، انظروا إلى هذه الهمة وإلى هذه النفس التي هاجرت من اليابان إلى ألمانيا تريد أن تغير تاريخ اليابان! من دولة مهزومة إلى دولة غازية منتصرة! ومن دولة مستهلكة متخلفة إلى دولة منتجة متحدية! يقول أوساهير: وطاف في ذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى: مغناطيس، أسلاك، أذرعة، عجلات، دوافع، ولو أنني استطعت أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر الصناعة الأوروبية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق وأدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاء المحرك، ثم جعلت أفككه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً، وشيئاً فشيئاً فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته من جديد فاشتغل، فكاد قلبي أن يقف من الفرح.

يقول: استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل، وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت.. الآن لا بد أن تختبر، سنأتيك بمحرك متعطل وعليك أن تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاثاً من القطع البالية متآكله صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد، يقول عن نفسه: مع أنني بوذي على مذهب رن ومذهبي هذا يقدس العمل ويعتبره عبادة، ثم قال رئيس البعثة: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركبها محركاً، ولكنني أستطيع أن أفعل ذلك إذا التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس والألومنيوم، وبدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراة على الورق كما أراد مني أساتذتي الألمان تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء، وأقف صاغراً أمام أو بجانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيدٌ عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل مع أنني -يقول عن نفسه- من أسرة ساموراي العريقة التي تُخدَم ولا تخدم، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.

يقول: قضيت هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة، وعلم الحاكم الياباني الميكادو بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، واشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكلما ادخرته وعندما وصلت إلى نجزاكي قيل لي: إن الميكادو الحاكم يريد أن يراني، قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن ننشئ مصنع محركات كامل، واستغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت على ساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى قصر الميكادو، ووضعناها في قاعدة خاصة، وأدرنا المحركات، ودخل الميكادو يقول: وانحنينا تحية له، وابتسم وقال لما رأى هذه المحركات: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا الموديل وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، نقلنا اليابان إلى الغرب وبعد ذلك نمت عشر ساعات لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.

أيها الأحبة: ألا تعجبون؟ أيها الشباب! وأنتم على أبواب الامتحانات وفي مرحلة من مراحل التحدي: ألا تعجبون من هذه الحادثة التي هي من جنس سر التحدي الياباني الغربي اليوم؟.

بهذا أصبحت اليابان المدمرة عسكرياً في نجزاكي وهيروشيما المحظور عليها الدخول في الصناعات الحربية والعسكرية، أصبحت قوة اقتصادية تحسب لها الصين ذات المليار ونصف المليار نسمة، وتحسب لها الغرب ألف حساب، ألا يستحق ديننا تضحية وبذلاً وسهراً لأجل الجهاد والتحدي في مجالات الجهاد المعاصر جهاد الاقتصاد، وجهاد الكلمة، وجهاد الصوت، وجهاد الدعوة، وجهاد نزع الذل الذي خيم في قلوب كثير من الشباب، حتى أصبحوا لا يستطيعون إلا أن يقودوا سيارة قد صدرها الأعداء إليهم، وأصبحوا لا يظنون سوى أنهم قادرون على الاستهلاك، أما الإنتاج فهم سيظلون عالة على غيرهم؟

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة في دين الله ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شـذ في النار عياذاً بالله من ذلك.

أيها المسلمون: تحت سعير المونديال ولهيب بدعايته وسياطه المغرية المشغلة للطلبة عن الامتحانات والاستعداد لها، يوشك أو يستقبل أبناؤنا غداً موسماً حافلاً من الاختبارات والامتحانات، وهو مرحلة من مراحل التحدي لكل جيل وفي كل مرحلة وفي كل مجال، والذي نريده من شبابنا وأبنائنا أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحتسبوا دراستهم ومذاكرتهم وطلبهم للعلم، وأن يتذكروا قول الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم نور     ونور الله لا يؤتى لعاصي

يا شباب الإسلام: عليكم بطاعة الله، عليكم بتقوى الله تفوزوا بعلم الدنيا والآخرة، تجنبوا المعصية فإنها من أسباب حرمان الرزق والعلم، وأحسنوا النية واجتهدوا وجدوا في الطلب، واصبروا وصابروا في كل مجال تدرسونه، في الطب أو الشريعة أو الاقتصاد أو السياسة أو الأنظمة، أو في أي مجال، احتسبوا ذلك عند الله عز وجل، ولا تجعلوا مقاصدكم محدودة في شهادة أو وظيفة، والأمة بأمس الحاجة إلى كثير مما تعلمون وما لا تعلمون، وإلى كثير مما تتعلمون وما لا تتعلمون، ولكن أملنا في الله عز وجل الذي ما خاب من أمله أن يجعل فيكم البركة، وأن يسدد على طريق الخير خطاكم، وأن يعلمكم ما جهلتم، وأن يذكركم ما نسيتم، حتى نتجاوز مرحلة التحدي، ونقول للغرب: إننا أمة مسلمة منذ أربعة عشر قرناً والإسلام هو الإسلام، والقرآن هو القرآن، والسنة هي السنة، وما بقي إلا الرجال فهم في سبيل الجد والطلب والمثابرة والاجتهاد..

رحم الله فتىً     قد هذب الدين شبابه

ومضى يزجي إلى     العلياء في عزمٍ ركابه

مخبتاً لله     صير الزاد كتابه

وارداً من منـهل الهادي     ومن نبع الصحابه

إن طلبت الـجود منه     فهو دوماً كالسحابه

أو نشدت العـزم فيه     فهو ضرغام بغابه

جاذبته النفس للـشر     فلم يبد استجابه

متقٍ لله تعلو     من يلاقيه المهابه

رق منه القلب لكـن     زاد في الدين صلابه

بلسمٌ للأرض يمحـو     عن محياها الكآبه

ثابت الخطو فلم     تطفِ الأعاصير شهابه

جربته صولة الدهـر     فألفت ذا نجابه

إن يقم يوماً خطيبـاً     يسمع الصم خطابه

أو يسر في الدرب يوماً     أبصر الأعمى جنابه

مسلم يكفيه فخراً     أن للدين انتسابه

نريدكم هكذا يا شباب الإسلام، واحتسبوا الأمر وأنتم تذاكرون وتستعدون لهذه الامتحانات، ونريدكم أيضاً -يا شباب الإسلام- أن ترتفعوا بأنفسكم إلى مستوى المرحلة، لا أن تقنعوا من المليار بالهلل، لا تقنعوا بعرضٍ حقيرٍ وحطام يسير لتعرضوا به عن جنة عرضها السماوات والأرض، نريد منكم الشهيد والمخترع، والمبتكر، والداعي، والمعلم، والذي ينفع الناس بعد أن ينفع نفسه وأهله وأمته.

نريد من شبابنا أن يرتفعوا بأنفسهم إلى مستوى العلياء الذي يريده الإسلام منهم، وإنا لنحزن حينما نرى شاباً جل همه انتظار مكالمة من صديقته، أو جل همه انتظار موعد مقابلة مع حبيبته، أو جل همه أن يفوز بحطام يسير لا لينفقه في سبيل الله بل لينفقه على شهوته وملذته، إنا لله وإنا إليه راجعون! عظم الله أجرنا وأجركم في شباب هذا همهم وذلك ديدنهم!

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اهد شبابنا، اللهم اهد أبناءنا وبناتنا، اللهم وفقهم في امتحاناتهم، اللهم يسر لهم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم يسر أمورهم، واشرح صدورهم، واحلل عقداً من ألسنتهم، اللهم يا حي يا قيوم اجعلهم هداة مهتدين نافعين للدين والمسلمين يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع اللهم شملنا وشمل حكامنا وعلمائنا ودعاتنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسدا، اللهم صل على محمد وآله وسلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
العولمة والتحديات المعاصرة [2] 1567 استماع
العولمة والتحديات المعاصرة [1] 1224 استماع