دور الأسرة في تربية وتوجيه النشء


الحلقة مفرغة

الصلاة هي عمود الدين الإسلامي، ولابد لكل من أراد الدخول فيها أن يلتزم بشروط الطهارة النفسية والبدنية، فلا يجوز لفاقد العقل أن يدخل في الصلاة، ومن ذلك السكران الذي لا يعي ما حوله، كما لا تصح صلاة الجنب والحائض والنفساء حتى يتطهروا، ومن لم يجد ماء أو وجده وعجز عن استعماله فطهارته تكون بالتيمم، فإذا تطهر جاز له أن يصلي كما أمره الله.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأحبة في الله! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام الخالدة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وأسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء المبارك بمنه وكرمه أن يجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، ويجعل تفرقنا من بعده معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.

إنها لبادرة مباركة وليست الأولى ولن تكون الأخيرة، أن نرى أنديتنا تتميز بحمد الله عز وجل بالدعوة والتبني لأنشطة تربوية ثقافية فكرية نافعة تبني الخير والفضيلة في نفوس أبناء الأمة، وتحارب الشر والمنكر في صفوف أبناء الأمة.

ولا شك أن كل مجتمعٍ على وجه الأرض لا يستغني عن هاتين الخصلتين، لا يستغني عن الأمر بالمعروف، ولا يستغني عن النهي عن المنكر، لا يستغني عن الدعوة إلى الخير، والتشجيع عليه، والحث على البذل فيه، ولا يستغني عن مقاومة رياح التغريب والفساد والشر التي أصبحت حرباً ضروساً شعواء واضحة بينة، وصلت كثيراً من المجتمعات، بل ودخلت كثيراً من البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولقد عُقِدت ندوات، وأقيمت محاضرات، وقيلت خطب، وكُتِبَت بحوثٌ وكلمات، وصاح المخلصون، ونادى الغيورون يحذرون ويقولون: إننا نواجه خطراً لم يزحف على الأرض، ولكنه جاء عبر السماء، هذا الخطر الذي لا يمر يوم من أيامنا، إلا وتزداد المشكلة تعقيداً في مواجهته، لقد كان الشر والفساد والبدع والانحراف يمكن مقاومتها فيما مضى بأن يغلق الواحد داره على نفسه وأهله، وكان بوسع الواحد أن يكون بمنأىً وفي بُعدٍ عن مثل هذه الشرور والآثام، أما والحال هذه في عصرٍ أصبح العالم فيه قرية واحدة صغيرة، فالذي في الصين يحدث الذي في طنجة، وكأنما يهمس في أذنه ليسمعه، والذين في أدنى الأرض يتكلمون مع الذين يحلقون في أعلى السماء، وأصبح الخبر يقع شمالاً فيدري به أهل الغرب في ثوان، ويقع الأمر في الجنوب فيعلم به أهل الشمال في دقائق، هذا واقع يحتاج إلى مزيد من البحث والفكرة، ويحتاج إلى مزيد من الوعظ والنصح والتفكير والتدبر في كيفية محافظة المجتمعات المتميزة بالفضيلة والحياء والعزة والكرامة والتدين والاستقامة، كيف تحافظ هذه المجتمعات على دينها وقيمها ومبادئها وأسسها في ظل هذا الاتصال الخطر.

الجو الذي نعيش فيه مملوء بالصور والكلمات، ولا أدل على ذلك من أن أدنى وسيلة وهي ما يسمى بالدش يُنصب في سطح دارٍ فيترجَم لك هذا الهواء الذي تتنسمه وتعيش فيه وتتقلب فيه؛ يترجَم لك هذا الأثير إلى صورٍ وكلماتٍ تُبَثُّ وتُرْسَل بل ويُغْزَى بها من كثيرٍ من أقطار العالم، كان الناس يعرفون الحرب قنبلة تُقْذَف من طائرة، وكان الناس يعرفون الحرب دبابة تزحف على الحدود، وكان الناس يعرفون الحرب جيوشاً جرارة تهز الأرض هزاً حتى تدخل المدن، أما والواقع اليوم قد اختلفت فيه صور الحرب اختلافاً جذرياً، فأصبحت شعوبٌ تستسلم للحرب وتستقبلها، وتعانق أعداءها، وتحيي قاتليها، وتصافح الذين يهدمون العفة والكرامة في بيوتها من حيث لا يشعرون، وذلك عبر هذه الصور وهذه الكلمات التي تبث عبر الأثير.

فأسألكم بالله أيها الأحبة، قولوا لي كيف نحافظ على نشئنا؟ كيف نحافظ على أولادنا وبناتنا؟ كيف نحافظ على المراهقين والمراهقات؟ كيف نحافظ على الشباب والشابات؟ أي وسيلة ناجعة تجدي؟ أنجعل رءوسهم في الرمال ونقول لهم: لا تبصروا، لا تنظروا، لا تسمعوا، لا تتكلموا، لا تختلطوا؟! هذا ليس بحل؛ وإنما الحل أيها الأحبة والعلاج هو: دور الأسرة في تربية النشء.

التربية حقيقة النجاح والنجاة

إن من المسلمين الذين ولدوا في الغرب في أمريكا وفي أوروبا ، وفي كثير من الدول الكافرة، التي يُعَدُّ العهر فيها أمراً طبيعياً، ويُعَدُّ الانحراف فيها أمراً ليس بغريب، ويُعَدُّ الفساد فيها أمراً يُستنكر على كل من بلغ سناً معينة ولم يرتكبه ولم يفعله، إن هناك بيوتاً، وأولاداً، ونشئاً، وأسراً، ورجالاً، ونساءً يرون الصورة النكراء العارية فيغض الواحد نظره وبصره عنها دون حاجة إلى واعظ يعظه، ودون حاجة إلى ولي يرشده أو يعده أو يعاقبه، ويرى أحدُهم الفساد والشر والمنكر والبلاء فيقوم في قلبه قائم المراقبة والخوف والخشية والتقوى لله عز وجل فينحرف وينصرف ويبتعد وينأى بنفسه عن المنكر، دونما حاجة إلى محتسبٍ أو رقيبٍ، أو شرطيٍّ أو حسيب، أو غير ذلك.

كيف وصل هؤلاء إلى هذه المرحلة؟ كيف بلغوا هذا النجاح؟ وأسميه نجاحاً لأنه ليس النجاح أن يكون عندك ولدٌ لا يوجد عنده الشر والمنكر والفساد؛ لكن لو خلا به أو حصل له أو تيسر له لم يتردد فوراً في اقترافه ومعاقرته وفعله، بل النجاح هو أن يكون لديك من الولد والنشء من لو أحاطت به الفتن من كل جانب وتزخرفت له المغريات، وفُرشت أمامه الفتن، وحلَّقت من فوق رأسه الشهوات، ثم غض بصره وصرف نفسه وقال: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، هذا هو النجاح الحقيقي.

ولا شك أن من العصمة ألا يقدر العبد على معصية، من العصمة أن يعجز العبد عن معصية ربما يريدها وربما يشتهيها وربما يتمناها، ولكن فوق ذلك كله أن تكون المعصية قريبة وهو يصرف نفسه عنها ويقول: معاذ الله.. معاذ الله.. مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].. إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28] كيف يكون هذا؟ بشيء واحدٍ وهو الذي ثبت بالتجربة والدليل، وقبل ذلك بالنص من الكتابة والسنة جدواه ونجاحه وعاقبته وفائدته ألا وهو: التربية الصالحة.

رحلة تحصيل الولد وأهمية الحفاظ عليه

إنها رحلة طويلة يوم أن يسعى الواحد منا ليحصِّل نشئاً وذرية وولداً، وكلكم مر أو سيمر بهذه المرحلة.

مَن الذي تزوج ولم يمر بهذه الرحلة الطويلة؟

أولاً: الهم والفكر والسهر الليالي الطوال في اتخاذ القرار.

- ثم بعد ذلك: جمع المال، وما كلٌّ تيسر له المال حتى يتزوج به، فهذا يشتري صالون ويستدين سيارتين، ويستدين ثلاث (مونيكات) ويستدين من الناس، ويقترض من الناس، ويبقى زمناً يجمع المال، ويدخر من المرتب، ويحرم نفسه من بعض الأشياء، حتى يجمع المهر.

- ثم بعد ذلك: رحلة في البحث عن المرأة، وبيتٌ يقبل، وبيتٌ يرفض، وبيتٌ بشروط، وبيتٌ لا يوافق، وبيت كذا، إلى أن يصل بيتاً يعطونه ويكرمونه ويوافقون على تزويجه.

- ثم بعد ذلك: وليمة ومناسبة، وكرامة وعرس وحفلة.

- ثم بعد ذلك: بناءٌ بالمرأة ودخولٌ بها.

- ثم إنفاق عليها، وخوفٌ عليها، وإشفاق عليها.

- ثم تبدأ عليها علامات الحمل، ويبدأ الإنسان يحمل في فكره بقدر ما تحمل المرأة في جوفها، إن كانت تحمل جنيناً ينمو، فهو يحمل في فكره هماً ينمو، والله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] ولكن لا شك أن مَن تزوج فقد ركب البحر، ومن وُلِد له فقد كُسِر به، ليست المسألة سهلة، هم الذي لا زوجة له ليس كهم المتزوج، وهم المتزوج الذي عنده أولاد ليس كهم المتزوج الذي لا ولد له، ومن تزوج ورزق الولد عرف ذلك، ماذا بعد هذا؟

- إنفاق على المرأة، وعلاج، وفتح ملفات ومراجعات دورية، إلى أن يبلغ الجنين تمامه ويصل الأمر إلى غايته.

- ثم يولد هذا المولود، والفرحة والبشائر والعقيقة.

- ثم التربية والحليب، واللباس والدواء، والطعام والإنفاق، ويستمر الإنسان يصرف ويسهر الليالي الطوال على هذا الطفل؛ ما الذي أصابه؟! لم يأخذ رضعته، لم يشرب حليبه، ما أكل أكله، فيه بردٌ، فيه زكامٌ، فيه صداعٌ، فيه بلاءٌ... ثم لا تزال أنت تعاني في تربية هذا الولد، والرحلة قد بدأت من قرار الزواج، ولا تزال في الرحلة، رحلة النشء هذه.

- ثم يكبر الولد، ينمو رويداً.

- ثم تدخله المدرسة وتعتني به.

- ثم يأتي كثيرٌ من الناس إلى قرارٍ سفيه، قرارٍ حقير، قرارٍ تافه، قرارٍ ضار، قرارٍ مهلك، قرارٍ مدمر، يقول: خذوا هذا الولد وافعلوا به ما تشاءون، طبعاً هو لا يقولها بلسان المقال، بل يقولها بلسان الحال، وما الحال التي يقال بها هذا الكلام؟ إنها حال الذي يقول: خذوا الولد يا أبناء الحارة وتحدثوا معه بما تشاءون وكيفما تشاءون، واسهروا معه إلى أي وقت تشاءون، وخذي الولد أيتها الشاشة وحدثيه بما شئتِ من الأفكار والأفلام والمسلسلات التي تعرض عبر القنوات، وخذوا الولد يا جلساء السوء، وقولوا وافعلوا وتصرفوا وتكلموا واذهبوا وروحوا واغدوا به كيفما تشاءون. هذا حال كثيرٌ من الناس!

أبعد هذه الرحلة الطويلة، تَدَيَّن المال، والزواج، والنفقة، والحمل، والولادة، والدواء، والغذاء، والكساء، ثم لما بلغ السن والغاية التي إليها مدى ما كان فيها يؤمل، لما بلغ هذه الغاية الجميلة التي يفرح الإنسان في بداية بلوغها أن يوجه الولد، أن يكون هذا الولد الذي أصبح خامة بيضاء، عجينة طرية، صفحة نقية، تقبل الكتابة بأي خط وتحفظ الفكرة بأي وجهة، وتقبل التوجيه على أي صورة؛ لما بلغت هذه المرحلة الذهبية من التقبل والاستجابة رمى بها عرض الحائط، وقال للمجتمع، وقال للقناة الفضائية، وقال للخادمة، وقال لجلساء السوء بلسان الحال لا بلسان المقال: افعلوا به ما تشاءون.

عاقبة إهمال التربية في سن مبكرة

ثم بعد ذلك: إذا بلغ الولد ست عشرة سنة، أين هو؟ لماذا تأخر؟ لماذا يسهر؟ لماذا وقع في التدخين؟ لماذا فعل هذه المعصية؟ لماذا ارتكب هذا المنكر؟ لماذا لا يسمع كلامي؟ لماذا يعق أمه؟ لماذا يقطع رحمه؟ لماذا يرتكب المخالفات؟ لماذا فشل في الدراسة؟ لماذا أخفق في التربية؟ لماذا ..؟! أنت الذي جنيت، يداك أوكتا وفوك نفخ، (على نفسها جنت براقش) كما يقال، أهملته وتركته وضيعته في سن التوجيه والاستجابة والتأثر والتقبل، ثم بعد ذلك تقول: لماذا لم يخرج لي ولد متفوق؟ لماذا لم يكن على مستوىً لائق؟ لماذا لم يصاحب جلساء طيبين؟ لماذا لم يكن مع الأخيار والأبرار؟ أنت الذي ارتكبت هذا.

ولذا أيها الأحبة أقول: إن السياج المنيع والحصن الحصين للنشء إذا أردنا أن نفتخر به كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21] يعني: في الجنة، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] .

وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] هذا أمر من أراده فعليه أن يعتني بالنشء من وقت مبكر.

يقول العوام: (البر في رجب) هذا مَثَل معروف عند العامة، إذا أراد أحدهم أن يحج يختار ذلولاً، ومن رجب يبدأ يغذيها، ويبدأ يعلفها، ويبدأ يعتني بها حتى إذا جاء قبل الحج بشهر أو شهرين أو شهر ونصف، بدأت رحلة الحج الطويلة، حينئذ يكون فيما مضى قد أعدها، (البر في رجب) يعني: رجب وشعبان ورمضان، ثم شوال وذو القعدة تبدأ رحلة الحج، إذاً ثلاثة أشهر قبل الحج وهم يعلفون الدابة، ثم في شوال وبداية الأشهر الحرم يبدأ رحلة الحج على هذه، فكذلك الذي يريد أن يلتفت إلى الولد لا يضيعه في فترة الأربع سنوات، والخمس سنوات، والتمهيدية، والروضة، والابتدائية، والمتوسطة، ثم إذا بلغ الثانوية وخاتمتها، أو بداية الجامعة، قال: هذا ولد عنيد، هذا ولد عاق، هذا ولد لا يسمع، هذا ولد لا يطيع، ما الذي صيَّره؟! ما الذي غيَّره؟! كان أبوك رجلاً عامياً لا يعرف إلا أن يصدر في المنحات، ولا يعرف إلا أن يسوق الأباعر، ولا يعرف إلا أن يبيع ويشتري في البهائم، ومع ذلك أخرجك وأنتجك أيها الرجل المكتسب القادر الذي تعتني بالأسرة، ما كان عند أبيك شهادة جامعية، ومع ذلك رباك تربية قوية وهو لم يفقه ولم يدرس في جامعة أكسفورد ولا في جامعات عالمية ولا محلية، وأنت يا من درست وعرفت وتعلمت القراءة والكتابة ما أنتجت وما خرَّجتَ ولداً صالحاً، نعم الهداية بيد الله، لكن للشيء أسبابه، إذا فعلت السبب حينئذٍ تقول: الأمر بيد الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] نعم تقول هذا إذا بذلت غاية ما في وسعك من سببٍ وقدرة، أما أن تضيعه ثم تقول: ما كتب الله هذا، إذاً لا تتزوج وقل: ما كتب الله لي ولداً، ولا تَبْذُر وقل: ما كتب الله لي بُرَّاً ولا ثمرةً، ولا تفعل السبب وقل: ما كتب الله لي ربحاً ولا تجارةً، هذا ليس بصحيح.

أهمية التربية الروحية ومكانتها

أيها الأحبة: لنحاسب أنفسنا على قضية النشء والتربية، إن من العار، والعيب أن نهتم ببيوتنا في الألومنيوم الموجود في النوافذ، والمجنو وكسرة المجنو والسنديان الموجودة في الأبواب، والموكيت والفرش والأثاث، أكثر من اهتمامنا بأولادنا، كثيرٌ من الناس لا يعدو غاية اهتمامه بولده أو بنته مسألة الطعام والشراب واللباس، أظن الذي عنده بهيمة لو اشتد البرد يُدْخِلها من الحوش إلى داخل البيت، وأظن أنه يعطيها ويسقيها ويعلفها صباح مساء فليس هذا بكثيرٍ على الولد بل هو من الواجبات الشرعية التي يحاسب عليها العبد عند الله عز وجل إذا فرط فيها وضيعها، ويؤجر عليها إذا بذلها محتسباً لله، لكن القضية هي قضية التربية، أسألك بالله إذاً ما هي الفائدة من الولد؟ ما هي الفائدة من أن يكون لنا عشرة أولاد أو ولدان أو ثلاثة أو أربعة، إذا لم يكن ولداً يرفع الرأس، إذا لم يكن ولداً ينفع الأمة، إذا لم يكن ولداً بركة على نفسه وأمه وأبيه وأخواته وأسرته ومجتمعه فما الفائدة منه؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

وبعض الناس نسأل الله أن يحفظه ويهديه يقول: الزمان تغير، الوقت اختلف، لا، نحن الذين اختلفنا وضيعنا أسباباً كان آباؤنا وأجدادنا قد أمسكوا بزمامها، وثبتوا وأحكموا خطامها، وقادوها بحزمٍ وجدٍ حتى بلغوا نتائج طيبة في أنفسهم وذرياتهم، أما نحن فقد غلبنا السهر، والتواكل، والاشتغال بالأصدقاء والشلات والاستراحات، والسهر من بعض الناس عند الدشوش والقنوات، وعند وعند، والمرأة المسكينة مسئولة بهؤلاء الأطفال، والأطفال متمردون على هذه الأم الضعيفة، ثم بعد ذلك إذا بلغ الولد -كما قلت- غايةً عظيمة من السن قال: هذا ولد ما نفعني؛ لأنك أنت الذي ضيعته، لا تعب الزمان، ولا تعب الدهر ولا الشهر، ولا الليالي والأيام، العيب فينا نحن:

نعيب زماننا والعيب فينا      وما لزماننا عيبٌ سوانا

وقد نهجو الزمان بغيرِ جرمٍ      ولو نطق الزمان بنا هجانا

أقول: إن كثيراً منا ربما اهتم بالسيارة، تلمَّع يومياً وتمسَّح ويدفع للعامل مائة ريال مقابل تنظيف السيارة، والخادمة في المنزل تلمِّع الألومونيوم والأبواب والأثاث وراتبها ستمائة ريال، وبعض البيوت فيها المُزارع ويدفع له ثمانمائة ريال، من أجل نباتٍ في الأرض ربما غفل عنه، فعاد هشيماً تذروه الرياح، لكنه لا يدفع شيئاً من أجل التربية، يا رجل! ألف ريال ادفعها من أجل العناية بهذا الولد في الدروس التي تنفعه لمراجعة ما تناوله صباحاً في المدرسة، لمذاكرة دروسه، لاجتهاده، لتفوقه، يقول: لا، تكفي المدرسة، أنا لا يمكن أن أصرف أكثر من هذا، سبحان الله العلي العظيم! الباب والنافذة والأثاث والمزرعة والحديقة في المنزل ومسح السيارة، المجموع ربما يُنْفَق عليه ألفي ريال، لكن الولد لا تُنفق عليه؟! هذه مشكلة عظيمة!

إهمال التوجيه سبب إخفاق في دراسة النشء

لماذا أخفق الولد؟! لأنك لم تبذل له غاية الاهتمام، وأنا أثبت لك الآن الواقع، لماذا كثير من أولادنا الآن لا يحب المدرسة بل يبغض المدرسة، ويكره المدرسة، وتجد بعض الصغار كما سمعنا من بعضهم يقول: أتمنى أن المدرسة تسقط، أتمنى أن المدرسة تقع.

يقول أحد الإخوة وهو مدرس: كنت في صغري إذا خرجت من مزرعتنا رأيت غرباناً تقف على جِيَف فيقول: كنت أقول: يا ليتني كنت غراباً ولا أذهب إلى المدرسة.

وهذا يتمنى أن تأتي صاعقة من السماء وتَهدم المدرسة.

وهذا إذا بلغ السادسة قال: خطُّوا خطين، ولن أكمل الدراسة.

وهذا إذا بلغ الكفاءة قال: ما عاد هناك أمل، ابحثوا لي عن أي وظيفة من هنا أو من هنا، المهم أنني لا يمكن أن أواصل.

لاحظوا: السبب واضح؛ السبب: أنه لا يجد كرامة وعزاً وفخراً في المدرسة، ولو كان من الطلاب الذين لهم التشجيع والكرامة والتأييد والمسابقة بالجواب، والثناء من المعلمين، لوجدت أنه يحب المدرسة، لكن إذا كنا نحن نهمله، ولا نعتني بواجباته، ولا نلتفت له، فإذا جاء في الفصل يسأل المدرس، فهؤلاء الطلاب يجيبون فرحين يرفعون أصابعهم، كلٌّ يقول: أستاذ! أستاذ! أستاذ! أنا الذي أجيب، وهذا الولد المسكين قد اختفى واحتجب بظهر زميله حتى لا يراه المدرس، فتُفَتَّش الكراسات والدفاتر فكلهم قد أجابوا إلا هو لم يُجِب، ويُشَجَّع القوم إلا هو يُهان، ويُفْخَر بالقوم إلا هو يُهْزَأ به، ويُجْعَل واقفاً أمام الجميع، عبرةً لكل متخاذلٍ متكاسلٍ ضعيف غبي لا يفقه ولا يفهم، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُهَزَّأ، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُهان، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُثْنَى على غيره ويُذَم هو، أن يُمْدَح غيره ويُقَبَّح هو، أن يُكَرَّم غيره ويُذَل هو، ذلكم هو الولد الذي لم نلتفت له ولم نعتنِ بتعليمه، ولم ننتبه إلى ذلك، ثم بعد ذلك نقول: عجيب! الولد يكره الدراسة! فيقال: لا والله ستدرس والعصا على رأسك. فيرد: لا أدرس، فيقال: إلا تدرس، وهروب من البيت، ثم جلساء، ثم تبدأ القضية وهي مشكلة وحلقة بدايتها: إهمال النشء.

مكانة التربية في حياة النشء

وليست قضية النشء كما قلت آنفاً هي الدواء واللباس والغذاء والشراب وغير ذلك، لا، التربية مهمة جداً، إن الولد الذي نلبسه اليوم ثوباً جديداً سيتحول الجديد إلى ثوبٍ خَلِقٍ بالٍ بعد أسابيع، والذي نشبع بطنه اليوم سيجوع غداً، والذي يتضلع رياً من الماء العذب سوف يظمأ غداً، لكن الولد الذي نملأ دماغه علماً وفكراً لن يضيع العلم أبداً، ولن يضيع الفكر أبداً، ولن تضيع المعرفة أبداً.

وإن أردتم كلمة الحق، يا أيها الأحبة، يا أولياء الأمور، يا من رزقكم الله بالذرية، أنفقوا تسعة أعشار الدخل على التربية والتعليم، واجعلوا العشر الأخير في الطعام والشراب والدواء واللباس، لن يضير الولد أن ينشأ جائعاً، أو لا يلبس شيئاً فاخراً، أو لا يشرب ماءً نقياً، أو شيئاً فيه من الأخلاط أو غير ذلك لكن يضيره ويضره كثيراً أن ينشأ جاهلاً متخلفاً.

وكل امرئٍ والله بالناس عالمٌ      له عادةٌ قامت عليها شمائلُهْ

تعودها فيما مضى من شبابه      كذلك يدعو كل أمرٍ أوائلُهْ

هذه قضية ينبغي أن نعرفها تماماً.

لقد خرج في مجتمعنا شبابٌ يصدق عليهم قول القائل:

وأنت امرؤ فينا خُلِقْت لغيرنا      حياتك لا نفعٌ وموتُك فاجعُ

لو أصابته مصيبة لقيل: اجمعوا له من المسلمين المال حتى نحل مشكلته، لو فقد كِلْية ابحثوا له عن كلية، لو احتاج دماً تبرعوا أيها الناس حتى نعطيه دماً، لو أصابته علة: تصرفوا أيها الإخوة حتى نلتفت لعلته، لكن لما تبرعنا له، وجمعنا له، وانتبهنا له، ماذا قدم للأمة؟! ماذا قدم للمجتمع؟! ماذا قدم لنفسه في طاعة الله؟! ماذا قدم لأبيه وأمه من البر؟! ماذا قدم لإخوانه وأخواته من الصيانة والرعاية والعناية؟! ماذا قدم؟! الجواب: صِفْر، هو محسوبٌ علينا، مصيبته وموته فاجعة، لكن حياته وعافيته ليس فيها منفعة للأمة، هذا هو الأمر الخطير أيها الأحبة.

دور المرأة في التربية

إن للمرأة دوراً خطيراً وكبيراً وعظيماً جداً، وهذا الدور أيها الأحبة تَتَبَوَّؤُه المرأة وذلك لأن النشء والأولاد والصغار يمكثون مع المرأة (مع الأم والبنات والأخوات) أطول من مكثهم مع الرجال، ثم إن الناشئة الصغار أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء خاصة في فترة الطفولة، وهي فترة التقبل والاستجابة والتوجيه.

وللمرأة أيضاً دورٌ في صناعة شخصية النشء صناعة مطردة متسقة ليس فيها انفصام ولا تناقض ولا ازدواج، إذا كانت المرأة مكملة لدور الرجل في التربية والعناية، أما إذا كانت المرأة هي الحارس التي تجعل الولد يجيد أدوار التمثيل أمام أبيه، من العقل والحياء والهدوء، فإذا خرج أبوه قالت: لقد ذهب أبوك افعل ما شئت.

إذاً من النساء من تمارس دوراً تساعد فيه على تحقيق الازدواج والعياذ بالله، والانفصام في شخصية الطفل.

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه      إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ؟!

أنت تبني والأم غافلة، هذه مشكلة!

إذاً فمسئولية الأسرة، في تربية النشء وفي توجيهه ليست مسئولية الرجل وحده بل تتحمل المرأة من ذلك عبئاً عظيماً وكبيراً، ومعلومٌ أن للمرأة دوراً حتى على الأزواج والرجال، فما بالك بأثرها على أولادها!

إن من المسلمين الذين ولدوا في الغرب في أمريكا وفي أوروبا ، وفي كثير من الدول الكافرة، التي يُعَدُّ العهر فيها أمراً طبيعياً، ويُعَدُّ الانحراف فيها أمراً ليس بغريب، ويُعَدُّ الفساد فيها أمراً يُستنكر على كل من بلغ سناً معينة ولم يرتكبه ولم يفعله، إن هناك بيوتاً، وأولاداً، ونشئاً، وأسراً، ورجالاً، ونساءً يرون الصورة النكراء العارية فيغض الواحد نظره وبصره عنها دون حاجة إلى واعظ يعظه، ودون حاجة إلى ولي يرشده أو يعده أو يعاقبه، ويرى أحدُهم الفساد والشر والمنكر والبلاء فيقوم في قلبه قائم المراقبة والخوف والخشية والتقوى لله عز وجل فينحرف وينصرف ويبتعد وينأى بنفسه عن المنكر، دونما حاجة إلى محتسبٍ أو رقيبٍ، أو شرطيٍّ أو حسيب، أو غير ذلك.

كيف وصل هؤلاء إلى هذه المرحلة؟ كيف بلغوا هذا النجاح؟ وأسميه نجاحاً لأنه ليس النجاح أن يكون عندك ولدٌ لا يوجد عنده الشر والمنكر والفساد؛ لكن لو خلا به أو حصل له أو تيسر له لم يتردد فوراً في اقترافه ومعاقرته وفعله، بل النجاح هو أن يكون لديك من الولد والنشء من لو أحاطت به الفتن من كل جانب وتزخرفت له المغريات، وفُرشت أمامه الفتن، وحلَّقت من فوق رأسه الشهوات، ثم غض بصره وصرف نفسه وقال: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، هذا هو النجاح الحقيقي.

ولا شك أن من العصمة ألا يقدر العبد على معصية، من العصمة أن يعجز العبد عن معصية ربما يريدها وربما يشتهيها وربما يتمناها، ولكن فوق ذلك كله أن تكون المعصية قريبة وهو يصرف نفسه عنها ويقول: معاذ الله.. معاذ الله.. مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].. إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28] كيف يكون هذا؟ بشيء واحدٍ وهو الذي ثبت بالتجربة والدليل، وقبل ذلك بالنص من الكتابة والسنة جدواه ونجاحه وعاقبته وفائدته ألا وهو: التربية الصالحة.

إنها رحلة طويلة يوم أن يسعى الواحد منا ليحصِّل نشئاً وذرية وولداً، وكلكم مر أو سيمر بهذه المرحلة.

مَن الذي تزوج ولم يمر بهذه الرحلة الطويلة؟

أولاً: الهم والفكر والسهر الليالي الطوال في اتخاذ القرار.

- ثم بعد ذلك: جمع المال، وما كلٌّ تيسر له المال حتى يتزوج به، فهذا يشتري صالون ويستدين سيارتين، ويستدين ثلاث (مونيكات) ويستدين من الناس، ويقترض من الناس، ويبقى زمناً يجمع المال، ويدخر من المرتب، ويحرم نفسه من بعض الأشياء، حتى يجمع المهر.

- ثم بعد ذلك: رحلة في البحث عن المرأة، وبيتٌ يقبل، وبيتٌ يرفض، وبيتٌ بشروط، وبيتٌ لا يوافق، وبيت كذا، إلى أن يصل بيتاً يعطونه ويكرمونه ويوافقون على تزويجه.

- ثم بعد ذلك: وليمة ومناسبة، وكرامة وعرس وحفلة.

- ثم بعد ذلك: بناءٌ بالمرأة ودخولٌ بها.

- ثم إنفاق عليها، وخوفٌ عليها، وإشفاق عليها.

- ثم تبدأ عليها علامات الحمل، ويبدأ الإنسان يحمل في فكره بقدر ما تحمل المرأة في جوفها، إن كانت تحمل جنيناً ينمو، فهو يحمل في فكره هماً ينمو، والله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] ولكن لا شك أن مَن تزوج فقد ركب البحر، ومن وُلِد له فقد كُسِر به، ليست المسألة سهلة، هم الذي لا زوجة له ليس كهم المتزوج، وهم المتزوج الذي عنده أولاد ليس كهم المتزوج الذي لا ولد له، ومن تزوج ورزق الولد عرف ذلك، ماذا بعد هذا؟

- إنفاق على المرأة، وعلاج، وفتح ملفات ومراجعات دورية، إلى أن يبلغ الجنين تمامه ويصل الأمر إلى غايته.

- ثم يولد هذا المولود، والفرحة والبشائر والعقيقة.

- ثم التربية والحليب، واللباس والدواء، والطعام والإنفاق، ويستمر الإنسان يصرف ويسهر الليالي الطوال على هذا الطفل؛ ما الذي أصابه؟! لم يأخذ رضعته، لم يشرب حليبه، ما أكل أكله، فيه بردٌ، فيه زكامٌ، فيه صداعٌ، فيه بلاءٌ... ثم لا تزال أنت تعاني في تربية هذا الولد، والرحلة قد بدأت من قرار الزواج، ولا تزال في الرحلة، رحلة النشء هذه.

- ثم يكبر الولد، ينمو رويداً.

- ثم تدخله المدرسة وتعتني به.

- ثم يأتي كثيرٌ من الناس إلى قرارٍ سفيه، قرارٍ حقير، قرارٍ تافه، قرارٍ ضار، قرارٍ مهلك، قرارٍ مدمر، يقول: خذوا هذا الولد وافعلوا به ما تشاءون، طبعاً هو لا يقولها بلسان المقال، بل يقولها بلسان الحال، وما الحال التي يقال بها هذا الكلام؟ إنها حال الذي يقول: خذوا الولد يا أبناء الحارة وتحدثوا معه بما تشاءون وكيفما تشاءون، واسهروا معه إلى أي وقت تشاءون، وخذي الولد أيتها الشاشة وحدثيه بما شئتِ من الأفكار والأفلام والمسلسلات التي تعرض عبر القنوات، وخذوا الولد يا جلساء السوء، وقولوا وافعلوا وتصرفوا وتكلموا واذهبوا وروحوا واغدوا به كيفما تشاءون. هذا حال كثيرٌ من الناس!

أبعد هذه الرحلة الطويلة، تَدَيَّن المال، والزواج، والنفقة، والحمل، والولادة، والدواء، والغذاء، والكساء، ثم لما بلغ السن والغاية التي إليها مدى ما كان فيها يؤمل، لما بلغ هذه الغاية الجميلة التي يفرح الإنسان في بداية بلوغها أن يوجه الولد، أن يكون هذا الولد الذي أصبح خامة بيضاء، عجينة طرية، صفحة نقية، تقبل الكتابة بأي خط وتحفظ الفكرة بأي وجهة، وتقبل التوجيه على أي صورة؛ لما بلغت هذه المرحلة الذهبية من التقبل والاستجابة رمى بها عرض الحائط، وقال للمجتمع، وقال للقناة الفضائية، وقال للخادمة، وقال لجلساء السوء بلسان الحال لا بلسان المقال: افعلوا به ما تشاءون.

ثم بعد ذلك: إذا بلغ الولد ست عشرة سنة، أين هو؟ لماذا تأخر؟ لماذا يسهر؟ لماذا وقع في التدخين؟ لماذا فعل هذه المعصية؟ لماذا ارتكب هذا المنكر؟ لماذا لا يسمع كلامي؟ لماذا يعق أمه؟ لماذا يقطع رحمه؟ لماذا يرتكب المخالفات؟ لماذا فشل في الدراسة؟ لماذا أخفق في التربية؟ لماذا ..؟! أنت الذي جنيت، يداك أوكتا وفوك نفخ، (على نفسها جنت براقش) كما يقال، أهملته وتركته وضيعته في سن التوجيه والاستجابة والتأثر والتقبل، ثم بعد ذلك تقول: لماذا لم يخرج لي ولد متفوق؟ لماذا لم يكن على مستوىً لائق؟ لماذا لم يصاحب جلساء طيبين؟ لماذا لم يكن مع الأخيار والأبرار؟ أنت الذي ارتكبت هذا.

ولذا أيها الأحبة أقول: إن السياج المنيع والحصن الحصين للنشء إذا أردنا أن نفتخر به كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21] يعني: في الجنة، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] .

وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] هذا أمر من أراده فعليه أن يعتني بالنشء من وقت مبكر.

يقول العوام: (البر في رجب) هذا مَثَل معروف عند العامة، إذا أراد أحدهم أن يحج يختار ذلولاً، ومن رجب يبدأ يغذيها، ويبدأ يعلفها، ويبدأ يعتني بها حتى إذا جاء قبل الحج بشهر أو شهرين أو شهر ونصف، بدأت رحلة الحج الطويلة، حينئذ يكون فيما مضى قد أعدها، (البر في رجب) يعني: رجب وشعبان ورمضان، ثم شوال وذو القعدة تبدأ رحلة الحج، إذاً ثلاثة أشهر قبل الحج وهم يعلفون الدابة، ثم في شوال وبداية الأشهر الحرم يبدأ رحلة الحج على هذه، فكذلك الذي يريد أن يلتفت إلى الولد لا يضيعه في فترة الأربع سنوات، والخمس سنوات، والتمهيدية، والروضة، والابتدائية، والمتوسطة، ثم إذا بلغ الثانوية وخاتمتها، أو بداية الجامعة، قال: هذا ولد عنيد، هذا ولد عاق، هذا ولد لا يسمع، هذا ولد لا يطيع، ما الذي صيَّره؟! ما الذي غيَّره؟! كان أبوك رجلاً عامياً لا يعرف إلا أن يصدر في المنحات، ولا يعرف إلا أن يسوق الأباعر، ولا يعرف إلا أن يبيع ويشتري في البهائم، ومع ذلك أخرجك وأنتجك أيها الرجل المكتسب القادر الذي تعتني بالأسرة، ما كان عند أبيك شهادة جامعية، ومع ذلك رباك تربية قوية وهو لم يفقه ولم يدرس في جامعة أكسفورد ولا في جامعات عالمية ولا محلية، وأنت يا من درست وعرفت وتعلمت القراءة والكتابة ما أنتجت وما خرَّجتَ ولداً صالحاً، نعم الهداية بيد الله، لكن للشيء أسبابه، إذا فعلت السبب حينئذٍ تقول: الأمر بيد الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] نعم تقول هذا إذا بذلت غاية ما في وسعك من سببٍ وقدرة، أما أن تضيعه ثم تقول: ما كتب الله هذا، إذاً لا تتزوج وقل: ما كتب الله لي ولداً، ولا تَبْذُر وقل: ما كتب الله لي بُرَّاً ولا ثمرةً، ولا تفعل السبب وقل: ما كتب الله لي ربحاً ولا تجارةً، هذا ليس بصحيح.

أيها الأحبة: لنحاسب أنفسنا على قضية النشء والتربية، إن من العار، والعيب أن نهتم ببيوتنا في الألومنيوم الموجود في النوافذ، والمجنو وكسرة المجنو والسنديان الموجودة في الأبواب، والموكيت والفرش والأثاث، أكثر من اهتمامنا بأولادنا، كثيرٌ من الناس لا يعدو غاية اهتمامه بولده أو بنته مسألة الطعام والشراب واللباس، أظن الذي عنده بهيمة لو اشتد البرد يُدْخِلها من الحوش إلى داخل البيت، وأظن أنه يعطيها ويسقيها ويعلفها صباح مساء فليس هذا بكثيرٍ على الولد بل هو من الواجبات الشرعية التي يحاسب عليها العبد عند الله عز وجل إذا فرط فيها وضيعها، ويؤجر عليها إذا بذلها محتسباً لله، لكن القضية هي قضية التربية، أسألك بالله إذاً ما هي الفائدة من الولد؟ ما هي الفائدة من أن يكون لنا عشرة أولاد أو ولدان أو ثلاثة أو أربعة، إذا لم يكن ولداً يرفع الرأس، إذا لم يكن ولداً ينفع الأمة، إذا لم يكن ولداً بركة على نفسه وأمه وأبيه وأخواته وأسرته ومجتمعه فما الفائدة منه؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

وبعض الناس نسأل الله أن يحفظه ويهديه يقول: الزمان تغير، الوقت اختلف، لا، نحن الذين اختلفنا وضيعنا أسباباً كان آباؤنا وأجدادنا قد أمسكوا بزمامها، وثبتوا وأحكموا خطامها، وقادوها بحزمٍ وجدٍ حتى بلغوا نتائج طيبة في أنفسهم وذرياتهم، أما نحن فقد غلبنا السهر، والتواكل، والاشتغال بالأصدقاء والشلات والاستراحات، والسهر من بعض الناس عند الدشوش والقنوات، وعند وعند، والمرأة المسكينة مسئولة بهؤلاء الأطفال، والأطفال متمردون على هذه الأم الضعيفة، ثم بعد ذلك إذا بلغ الولد -كما قلت- غايةً عظيمة من السن قال: هذا ولد ما نفعني؛ لأنك أنت الذي ضيعته، لا تعب الزمان، ولا تعب الدهر ولا الشهر، ولا الليالي والأيام، العيب فينا نحن:

نعيب زماننا والعيب فينا      وما لزماننا عيبٌ سوانا

وقد نهجو الزمان بغيرِ جرمٍ      ولو نطق الزمان بنا هجانا

أقول: إن كثيراً منا ربما اهتم بالسيارة، تلمَّع يومياً وتمسَّح ويدفع للعامل مائة ريال مقابل تنظيف السيارة، والخادمة في المنزل تلمِّع الألومونيوم والأبواب والأثاث وراتبها ستمائة ريال، وبعض البيوت فيها المُزارع ويدفع له ثمانمائة ريال، من أجل نباتٍ في الأرض ربما غفل عنه، فعاد هشيماً تذروه الرياح، لكنه لا يدفع شيئاً من أجل التربية، يا رجل! ألف ريال ادفعها من أجل العناية بهذا الولد في الدروس التي تنفعه لمراجعة ما تناوله صباحاً في المدرسة، لمذاكرة دروسه، لاجتهاده، لتفوقه، يقول: لا، تكفي المدرسة، أنا لا يمكن أن أصرف أكثر من هذا، سبحان الله العلي العظيم! الباب والنافذة والأثاث والمزرعة والحديقة في المنزل ومسح السيارة، المجموع ربما يُنْفَق عليه ألفي ريال، لكن الولد لا تُنفق عليه؟! هذه مشكلة عظيمة!