حسنات تجري بعد الموت


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد..

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أيها الأحبة في الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له).

هذه -أيها الأحبة- رسالة إلى الذين يؤرقهم القدوم على الله عز وجل، ويشغل بالهم ويشغل أنفسهم كيف تستمر حسناتهم بعد موتهم؟ وكيف يتضاعف أجرهم بعد فراق الدنيا؟ وكيف يمضي لهم من الثواب ما يتنامى ويرجونه ذخراً يتعاظم عند الله عز وجل؟ إن الناس في هذه الدنيا على أحوال، فأغلبهم من يموت ويختم على عمله فلا حسنات ولا سيئات بعد موته، ويقدم على ما قدم إبان حياته، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102].

وصنفٌ من أولئك قد اجتهدوا في مضاعفة حسناتهم في حياتهم، وتسابقوا إلى اغتنام كل فرصة ولحظة وساعة في هذه الدنيا ليملئوا خزائن الأوقات بالأعمال الصالحات، فإذا حانت منية أحدهم وعاد به شريط الذاكرة إلى شبابه وشيبته، إلى صباه وكهولته، تذكر اجتهاداً وعلماً وعملاً وجهاداً وعنايةً بالعمل الصالح، فمثل ذلك -بعد رحمة الله عز وجل- يطمئن أن قدم عملاً صالحاً، ويسعده أكثر من ذلك أن يكون قد أعد لما بعد موته عملاً تجري عليه حسناته ولو كان صاحبه في أطباق الثرى أو بين جنبات اللحود.

وآخرون -والعياذ بالله- قد ملأوا حياتهم بالباطل والدعوة إليه، وأشغلوا أنفسهم بالمنكرات وتصديرها، وزخرفوا حياتهم بالمعاصي وتزيينها وتقريبها إلى الناس، فمثل أولئك يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، فالعاقل -أيها الأحبة- يحرص على أن يعمل عملاً صالحاً في هذه الدنيا ويجتهد بعد موته أن تمضي له الصالحات مضاعفة والدرجات عالية، والحسنات متزايدة لكي يلقى الله عز وجل بأعمالٍ عملها في حياته، وبنتائج عملٍ عملها في حياته، فتعاظمت بعد موته، فلقيها عند الله رحمة وحبوراً وسروراً.

أيها الأحبة! هذا الحديث يبين لنا أن من مات انقطع عمله إلا واحد من ثلاثة: فأولهم: من مات وترك علماً نافعاً، والعلم -يا عباد الله- شأنه عظيم، وحقٌ لمن ورث هذا العلم برحمة الله أن يجري عمله، وذلك بأن تتأمل: كم الذين يترحمون عليه؟ وكم الذين يتعلمون في كتبه؟ وكم الذين يدعون له؟ ويدعى له في عداد من لهم أثر على الأمة: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وهذه الرفعة في الدنيا والآخرة، وحسبكم بكرامات أهل العلم أن الله عز وجل سخر لهم الملائكة (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن الحيتان في البحر لتستغفر لطالب العلم).

أيها الأحبة: إن طلب العلم شرفٌ ما بعده شرف، ووظيفةٌ لا تعادلها وظيفة، إذ أن من سلك هذا الطريق، هُدي إلى الصراط المستقيم بإذن رب العالمين، فالله عز وجل يعبد بعلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] إن سلامة الشباب المسلم من الزلل.. إن عصمة الشباب المسلم من الاستدراج، لا تكون إلا بقدر حظهم من العلوم الشرعية، ومن رام في هذه الدنيا سيراً يسلم معه من التخبط في الزلل وفي فخاخ الاستدارج على غير علم أو بعاطفة عاصفة وحدها، فيا صعب ما طلب! ويا عز ما أراد! لأن العلم هو -بإذن الله- عصمة من الوقوع في المزلات والمذلات.

وهذا الحديث -أيها الأحبة- ونخص بذلك طلبة العلم والناشئة، هذا الحديث فيه حضٌ على الجد والمثابرة والصبر والمصابرة على الطلب والتعليم والتحصيل والتصنيف والتأليف أيضاً، فما يدريك ما الذي يبقى وينفع بعدك؟

علوم انتشرت بعد وفاة أصحابها

قيل للإمام مالك بن أنس رحمه الله قيل له لما صنف الموطأ: كم من عالمٍ ألف توطئة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان لله بقي، فإذا نال طالب العلم توفيقاً بإخلاص واجتهاد، وأراد بعلمه وتأليفه وجه الله، نفع الله بعلمه وبارك في أثره من بعده، حتى أننا في هذه الدنيا لا يكاد يمر يوم إلا وكثير من الخلق لا يحصيهم إلا الله، في عصرنا هذا، في أيامنا هذه يقلبون كتباً -ونحن في القرن الخامس عشر- يقلبون كتباً لأقوام ماتوا في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس، كم بيننا وبينهم من مئات السنين؟! وما الذي جعل هذه الآثار من مؤلفات وكتب وغيرها تقفز على حواجز الزمن، وتتخطى حواجز التاريخ، لتصل من قرونهم إلى قروننا؟ فنستفتح الحديث بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة في أول مطالعاتنا وآخرها، في أول بحوثنا وختامها، ما ذاك إلا لفضل العلم.

هل سمعتم أقواماً في المساجد أو في المجامع يقولون: قال التاجر الفلاني رحمه الله، قال الثري الفلان رحمه الله، قال ذلك الذي نال منصباً رحمه الله؟ ما أندر ما يذكر أولئك! مع ما كانوا عليه من الأموال والثروات والمناصب والرئاسات إلا من حكم فعدل، وملك فأعطى، وعلم فعمل، وجاهد فثبت، وتعبد فكابد الليل والنهار.

فحسبك خمسةٌ يبكى عليهـم     وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة

أقول يا عباد الله: إننا لنلحظ ونرى أننا في كل صباح ومساء، وكل غدو ورواح ندعو لأولئك العلماء مع أنه لا صلة في القرابة بيننا وبينهم بقرابة النسب أو العصبة إلا قرابة التقوى ومحبة الدين والأخوة في الله عز وجل.

فيا أيها العقلاء! اجتهدوا في أن تبقى لكم أعمال بعد موتكم ألا وإن خيرها -كما قال صلى الله عليه وسلم- أن يترك العبد علماً نافعاً، علماً ينتفع به.

وفي المقابل أولئك الذين تركوا مؤلفات ضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل، الذين دعوا إلى البعث والعلمانية، الذين دعوا إلى إبعاد الدين عن الحياة، الذين دعوا إلى الربا يحللونه بمختلف الأساليب والوسائل، الذين دعوا إلى الوقوع في المنكرات، الذين دعوا إلى غشيان المحرمات يسمونها بغير اسمها، يحللونها، يتمحلون الأقوال، ويبحثون عن غرائب الشواذ من الآراء، أولئك -أيضاً- عليهم وزر ما كتبوا ومن أوزار الذين يضلونهم بسبب ما تركوه من هذه المؤلفات، فالعاقل يترك بعده علماً ينفعه بإذن الله عز وجل.

وكم كنت أردد ما رأيته بأم عيني ونحن ذات مرة في الصين الكبرى التي يبلغ سكانها من الوثنيين والشيوعيين ما يزيد على المليار نسمة، إذ بنا نجد في طريق من الطرقات في شارع من الشوارع بيتاً صغيراً يسكنه عالم من علماء المسلمين صيني عجوز وهو يدرس في مكانه المتواضع، وقد أسدل سترة بين مقدمة هذا المكان ومؤخرته ليكون حاجزاً بين البنين والبنات، إذ به يدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إن الشيخ قد توفي عام (1206هـ) وذلك المشهد الذي رأيناه من ذلك العالم الصيني الشيخ الكبير يدرس عام (1413هـ) كم بين تاريخ وفاته رحمه الله وبين هذا المشهد الغريب العجيب؟ لا قرابة ولا معرفة ولا نسب إلا بالتقوى والمحبة في الله، وما خطر على قلب الشيخ/ محمد وهو في زمن لم تعرف فيه المطابع بتطورها ولا أجهزة الفاكس ولا الرسائل الهاتفية ولا البريد السريع ولا وسائل النقل السريعة، هل خطر بباله وهو يؤلف هذا في الدرعية أنه سيقرأ ويدرس بعد مائتي سنة أو بعد ثلاثمائة سنة في الصين؟! في بلاد الشيوعية؟! في البلاد التي تقول: لا إله والحياة مادة؟! نعم، رحم الله الإمام مالك حين قال: ما كان لله بقي.

كم بارك الله لقلبٍ فانتفع     والله إن بارك في شيءٍ نفع

لقد بارك الله في تلك الرسائل الصغيرة في حجمها، الجليلة في قدرها، فشرقت وغربت، لتنقذ الأمة من ظلمات الوثنية، ومن تخبطات الشرك وما ينافي التوحيد.

ضرورة الصبر لتحصيل العلم

الأمر الآخر يا عباد الله: ينبغي أن نعلم حاجتنا إلى هذا العلم والصبر على تحصيله، فإن العلم والتأليف بعده لا ينال بالتمني ولا بالتسويف، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة، فهذا أبو إسحاق الألبيري الغرناطي رحمه الله يكتب رسالة شعرية طويلة يوصي فيها ولده بطلب العلم فيقول له:

تفت فؤادك الأيام فتا     وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صـدقٍ     ألا يا صاح أنت أريد أنت

فكم ذا أنت مخدوعٌ وحتـى     متى لا ترعوي عنها وحتى

ثم يقول عما يدعو ولده إليه:

إلى علمٍ تكون به إماماً     مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا

ينالك نفعه ما دمت حياً     ويبقى ذكره لك إن ذهبتا

يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كفاً شددتا

فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

إذا ما لم يفدك العلم خيراً     فخير منه أن لو قد جهلتا

وإن ألقاك علمك في مهاوٍ     فليتك ثم ليتك ما فهمتا

وليس لجاهلٍ في الناس فضـلٌ     ولو ملك العراق له تأتى

وما يغنيك تشييد المباني     إذا بالجهل نفسك قد هدمتا

لئن رفع الغني لواء مالٍ     لأنت لواء علمك قد رفعتا

أهمية المساهمة في نشر العلم

نعم، إذا مات ابن آدم انقطع أثره، وانقطع عمله، وانقطع ذكره، وانقطع ما بعده إلا إن ترك علماً ينفعه بإذن الله، فإن لم نكن علماء ولم نستطع أن نؤلف علوماً نافعة، فلن نعجز عن نشر علوم قد ألفها علماؤنا وأسلافنا، كم من المسلمين في أفريقيا بمختلف اللغات المحلية في بلدانهم يحتاجون إلى ترجمة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ويحتاجون إلى ترجمة كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ويحتاجون إلى رسائل علمائنا كالشيخ ابن باز وابن عثيمين وهم لا يجدون مالاً يشترون به هذه الكتب، ولا يجدون مالاً ينفقونه على ترجمتها.

نعم ولله الحمد والمنة لقد وفقت مكاتب دعوة الجاليات في بلادنا هذه إلى ترجمة كثير من الكتب النافعة في باب العقائد والعبادات الصحيحة، ولكن أين من ينفق عليها؟ وأين من يتصدق لأجل تصديرها إلى شرق آسيا وإلى الهند وإلى أفريقيا وإلى بلدان أوروبا؟ إن الحاجة إلى مثل هذا العلم ماسة، فلو أن غنياً من الأغنياء قال: لست بعالم ولست بمؤلف فأدع ما تذكرون فضله في هذا الحديث، نقول: لن تعجز أن تجعل في أموالك في كل سنة أو في كل نصف سنة وأن تجعل في وصيتك مبلغاً طيباً لتجعله وقفاً على طباعة كتب العقيدة والعبادة الصحيحة بمختلف اللغات حتى ينتشر العلم والعبادة في شتى أقطار الأرض.

إن أعداء الإسلام يوم أن أسقطوا الخلافة الإسلامية، أول ما ذهبوا يكسرون ويهدمون أخذوا يهدمون الأوقاف، أخذوا يهدمون تلك الثروات الطائلة التي كانت موقوفة على كفالة طلبة العلم، وكانت موقفة على طباعة الكتب وعلى كفالة الدعاة وعلى ضمان نفقات المعلمين والعلماء ليشتغل من اشتغل بالعلم غير مهتم بأمر الدنيا، فمن كُفي أمر دنياه اشتغل بأمر دينه، لما أرادوا أن يعطلوا هذه الأعمال الدعوية والعلمية وغيرها بدءوا بمصادرها التي تدر عليها وتنفق عليها، فصادروا مليارات الأوقاف من أموال المسلمين، وهذا مما ينبئك بالإعجاز الإلهي في أسرار التشريع الذي شرع لأمة الإسلام الوصية والوقف حتى تبقى الأمة على ضمانة في الإنفاق والتمويل لمشاريع العلم والدعوة.

فيا أيها الأحبة: حينما نتكلم عن العلم النافع لا يقولن أحدٌ: إني عاجز، إنك لن تعجز أن تطبع كتباً ولو في كل شهر عشرة من الكتب، ولو في كل سنة مائة كتاب، لو أننا أشغلنا هم الإسلام وأرقنا هم الإسلام وشاغل قلوبنا الدعوة إلى الله للمسلمين في كل مكان، لو وجدت هذه الدعوة نصيباً وافراً وحظاً متصدراً من دخولنا ومرتباتنا وأقواتنا، ولكن كل منا يدعي اهتمامه بالدعوة وشتان بين الاهتمام والحقيقة.

والكل عنك بنفسه متشاغـلٌ     ويرى بأن سبيله إذناك

وكلاً يدعي وصلاً بليلى     وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا

ما أكثر الذين يدعون اهتماماً بالدعوة وحظ الدعوة من عملهم قليل! وإنا والله على خوف أن نكون من أولئك حتى لا يغتر واحد بنفسه، فإن من أراد أن يعطي الدعوة حقها، لم يكن له في الدنيا مأرباً ونصيباً، وإنما تشغله الدعوة في ليلها ونهارها، أما نحن فقد خلطنا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واختلطت عندنا أمور الدين بالدنيا، فنسأل الله أن تكون دنيانا عوناً لنا في ديننا ودعوتنا.

قيل للإمام مالك بن أنس رحمه الله قيل له لما صنف الموطأ: كم من عالمٍ ألف توطئة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان لله بقي، فإذا نال طالب العلم توفيقاً بإخلاص واجتهاد، وأراد بعلمه وتأليفه وجه الله، نفع الله بعلمه وبارك في أثره من بعده، حتى أننا في هذه الدنيا لا يكاد يمر يوم إلا وكثير من الخلق لا يحصيهم إلا الله، في عصرنا هذا، في أيامنا هذه يقلبون كتباً -ونحن في القرن الخامس عشر- يقلبون كتباً لأقوام ماتوا في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس، كم بيننا وبينهم من مئات السنين؟! وما الذي جعل هذه الآثار من مؤلفات وكتب وغيرها تقفز على حواجز الزمن، وتتخطى حواجز التاريخ، لتصل من قرونهم إلى قروننا؟ فنستفتح الحديث بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة في أول مطالعاتنا وآخرها، في أول بحوثنا وختامها، ما ذاك إلا لفضل العلم.

هل سمعتم أقواماً في المساجد أو في المجامع يقولون: قال التاجر الفلاني رحمه الله، قال الثري الفلان رحمه الله، قال ذلك الذي نال منصباً رحمه الله؟ ما أندر ما يذكر أولئك! مع ما كانوا عليه من الأموال والثروات والمناصب والرئاسات إلا من حكم فعدل، وملك فأعطى، وعلم فعمل، وجاهد فثبت، وتعبد فكابد الليل والنهار.

فحسبك خمسةٌ يبكى عليهـم     وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة

أقول يا عباد الله: إننا لنلحظ ونرى أننا في كل صباح ومساء، وكل غدو ورواح ندعو لأولئك العلماء مع أنه لا صلة في القرابة بيننا وبينهم بقرابة النسب أو العصبة إلا قرابة التقوى ومحبة الدين والأخوة في الله عز وجل.

فيا أيها العقلاء! اجتهدوا في أن تبقى لكم أعمال بعد موتكم ألا وإن خيرها -كما قال صلى الله عليه وسلم- أن يترك العبد علماً نافعاً، علماً ينتفع به.

وفي المقابل أولئك الذين تركوا مؤلفات ضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل، الذين دعوا إلى البعث والعلمانية، الذين دعوا إلى إبعاد الدين عن الحياة، الذين دعوا إلى الربا يحللونه بمختلف الأساليب والوسائل، الذين دعوا إلى الوقوع في المنكرات، الذين دعوا إلى غشيان المحرمات يسمونها بغير اسمها، يحللونها، يتمحلون الأقوال، ويبحثون عن غرائب الشواذ من الآراء، أولئك -أيضاً- عليهم وزر ما كتبوا ومن أوزار الذين يضلونهم بسبب ما تركوه من هذه المؤلفات، فالعاقل يترك بعده علماً ينفعه بإذن الله عز وجل.

وكم كنت أردد ما رأيته بأم عيني ونحن ذات مرة في الصين الكبرى التي يبلغ سكانها من الوثنيين والشيوعيين ما يزيد على المليار نسمة، إذ بنا نجد في طريق من الطرقات في شارع من الشوارع بيتاً صغيراً يسكنه عالم من علماء المسلمين صيني عجوز وهو يدرس في مكانه المتواضع، وقد أسدل سترة بين مقدمة هذا المكان ومؤخرته ليكون حاجزاً بين البنين والبنات، إذ به يدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إن الشيخ قد توفي عام (1206هـ) وذلك المشهد الذي رأيناه من ذلك العالم الصيني الشيخ الكبير يدرس عام (1413هـ) كم بين تاريخ وفاته رحمه الله وبين هذا المشهد الغريب العجيب؟ لا قرابة ولا معرفة ولا نسب إلا بالتقوى والمحبة في الله، وما خطر على قلب الشيخ/ محمد وهو في زمن لم تعرف فيه المطابع بتطورها ولا أجهزة الفاكس ولا الرسائل الهاتفية ولا البريد السريع ولا وسائل النقل السريعة، هل خطر بباله وهو يؤلف هذا في الدرعية أنه سيقرأ ويدرس بعد مائتي سنة أو بعد ثلاثمائة سنة في الصين؟! في بلاد الشيوعية؟! في البلاد التي تقول: لا إله والحياة مادة؟! نعم، رحم الله الإمام مالك حين قال: ما كان لله بقي.

كم بارك الله لقلبٍ فانتفع     والله إن بارك في شيءٍ نفع

لقد بارك الله في تلك الرسائل الصغيرة في حجمها، الجليلة في قدرها، فشرقت وغربت، لتنقذ الأمة من ظلمات الوثنية، ومن تخبطات الشرك وما ينافي التوحيد.

الأمر الآخر يا عباد الله: ينبغي أن نعلم حاجتنا إلى هذا العلم والصبر على تحصيله، فإن العلم والتأليف بعده لا ينال بالتمني ولا بالتسويف، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة، فهذا أبو إسحاق الألبيري الغرناطي رحمه الله يكتب رسالة شعرية طويلة يوصي فيها ولده بطلب العلم فيقول له:

تفت فؤادك الأيام فتا     وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صـدقٍ     ألا يا صاح أنت أريد أنت

فكم ذا أنت مخدوعٌ وحتـى     متى لا ترعوي عنها وحتى

ثم يقول عما يدعو ولده إليه:

إلى علمٍ تكون به إماماً     مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا

ينالك نفعه ما دمت حياً     ويبقى ذكره لك إن ذهبتا

يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كفاً شددتا

فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

إذا ما لم يفدك العلم خيراً     فخير منه أن لو قد جهلتا

وإن ألقاك علمك في مهاوٍ     فليتك ثم ليتك ما فهمتا

وليس لجاهلٍ في الناس فضـلٌ     ولو ملك العراق له تأتى

وما يغنيك تشييد المباني     إذا بالجهل نفسك قد هدمتا

لئن رفع الغني لواء مالٍ     لأنت لواء علمك قد رفعتا