من حقوق الجار


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين: يقول الله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] الجار ذو القربى هو ما اقترب داره من دارك، والجار الجنب هو: الجار البعيد، والصاحب بالجنب هو: رفيقك في سفر أو مهنة أو علم أو عمل أو وظيفة، فكل أولئك قد وصى الله جل وعلا بهم، ونوه بحقهم وذكرهم صريحاً في كتابه، وعطفهم على عبادته، والأمر بتوحيده وعدم الإشراك به، والحث على بر الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وما ذاك إلا لعظم شأن الجار، وما ذاك إلا لعظم منزلته ومكانته.

معاشر المؤمنين: إن كثيراً من الناس يجهلون حقوق الجوار، إن كثيراً من الناس لا يعرفون من الحقوق إلا أدناها وأيسرها، وما علموا أن حقوق المسلم على أخيه المسلم متعددة ومتنوعة ومختلفة المراتب، بحسب حال المرء من جاره، فإن كان جاراً مسلماً فله حقوق الإسلام وله حقوق الجوار، وإن كان جاراً ذا رحم فله حقوق الإسلام والرحم والجوار.

إذاً فما بال بعض الذين لا يدركون لهذه الحقوق أمرها، ولا يعرفون لها قيمتها؟

أيجهلون حقوق الجوار أم هم في غفلة من النصوص المتعددة من الآيات والأحاديث في هذا الباب؟

وما دام الجار مسلماً فله حقوق المسلم، ألا وهي التي جاءت في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم ست: إذا استنصحك فانصحه ...) إذا طلب منك النصيحة؛ فواجب عليك أن تخلص وأن تمحض النصح له. (وإذا لقيته فسلم عليه، وإذا عطس فحمد الله فشمته ...) وإذا دعاك إلى وليمة أو مأدبة طعامٍ، وغلب على ظنك ألا يكون في هذا المقام منكر، أو ورد بخاطرك أن سيكون هناك منكر ولكن غلب على ظنك أنك تستطيع تغييره وإنكاره؛ فواجبٌ عليك إجابة هذه الدعوة (.. وإذا دعاك فأجبه، وإذا مرض فعده ...).

والعيادة هي الزيارة، وكثيرٌ منا يفقد جاره أياماً وليالي وشهوراً عديدة، ثم إذا لقيه تذكر أن له جاراً قد افتقد وجهه، أين أنت منذ زمن، بل لم لا تتفقد جارك؟ وقد يكون ذلك المرء معذوراً؛ لأن ذلك الجار الذي غاب وجهه عن المكان أو الحي أو الجوار، من الذين لا يشهدون المسجد ولا يشهدون الصلاة مع المسلمين، فلا غرو أن ينسى، ومن ضيع حق الله في العبادة؛ فلا يعجب إن ضيع الناس حقوقه في الجوار.

(وإذا مات فاتبع جنازته) هذا آخر حقٍ من حقوق المسلم على أخيه، إذ أن بعده لن تستطيع أن تقدم شيئاً أو تؤخر، فينبغي لكل مسلم إذا علم بوفاة جارٍ ولو بعيد، أن يبادر ما استطاع إلى اتباع جنازته، وشهود الصلاة عليه؛ لأنه لن يستطيع أن يقدم حقاً من حقوقه بعد ذلك.

عظم حق الجار في الإسلام

معاشر المؤمنين: هذه حقوق أي مسلم على مسلم، فكيف الأمر إذا كان له جوار، فكيف الأمر إذا كان له مكانة ومنزلة، قد اعتنى بها جبريل عليه السلام، وما زال يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.

وأي شيء أعظم من هذه الوصية، التي بلغت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل سيأتي يوماً من الأيام ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن الجار سيرث جاره من كثرة ما يوصي جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بحقوقه. حديثٌ متفق عليه.

فأي شيء أعظم من هذا؟! إن الإنسان من العصبة قد لا يرث، وإن الإنسان من ذوي الأرحام قد لا يرث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) أي شيء أبلغ وأعظم من هذا ما دام قد وصل الأمر بوصيته، والحث على أداء حقوقه إلى درجة ظن النبي صلى الله عليه وسلم نزول وحي في توريث الجار من جاره.

إذاً فالجار له حق عظيم قد يقارب حقوق الأقارب، وحقوق ذوي الرحم، وحقوق غيرهم.

حرمة إيذاء الجار

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) متفق عليه.

والبوائق: جمع بائقة، وتدخل في معنى الجائحة والضرر والمصيبة والأذى، فأي شيء أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ يخشى جاره أن يدركه الضرر أو يلحقه الأذى بسبب جواره، وأي بلاء وأي مصيبة أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ لا يأمن جاره بوائقه؟! وما أكثر الجيران في هذا الزمان الذين لا تؤمن بوائقهم، وأقول لكم وهي علامة متميزة واضحة: إن جارك الذي لا تطمئن له، ولا تأمن بائقته لو فتشت حقيقة الأمر؛ لوجدته من الذين لا يؤدون حقوق الله جل وعلا، فمن ضيع حقوق الله، فلا غرابة أن يضيع ويتهاون ويتساهل بحقوق غيره من الجيران وغيرهم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه).

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره) إذاً فكف الأذى عن الجار دليل وعلامةٌ من علامات الإيمان بالله جل وعلا، الذي أوصى بالجار نصاً وصراحةً، والذي جعل حقوق الجار والقيام بها من تمام الإيمان به، حيث قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليسكت).

فما بالكم بجارٍ يؤذي جاره، ولا يكف الكلام والأذى عنه، بل لا يسلم منه، وكثيراً ما يقع في عرضه وفي شتيمته وفي سبابه، نسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من جار السوء.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

فاعلموا يا معاشر الأحباب! أن الفضيلة والكرامة والفضل والبر والمعروف، أن يقدم الإنسان الخير والفضل والإحسان إلى جاره، فإن لم يكن؛ فلا أقل من أن يسلم من شره، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من جار السوء، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دارٍ مقامة) جار المقام والبقاء هو جار أمامك وفي وجهك، صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً، أنت تخرج وهو بالقرب من زوجتك، وهو بالقرب من أطفالك، وهو بالقرب من أموالك، وهو بالقرب من أهل بيتك، فما حالك في جارٍ لا تأمنه على نفسك وذريتك وأهلك؟ فما حالك في جارٍ تخشى على أهلك حين تغادر بيتك منه؟

إذاً فهو من الذين لا يطمئن لهم وهو الذي قال فيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه) .. (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له: اذهب فاصبر -وفي هذا حثٌ على الصبر على أذى الجار- فأتاه مرةً أخرى فقال: اذهب واصبر. حتى جاءه في الثالثة يشتكي أذى جاره، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاطرح متاعك في الطريق -القِ متاعك في قارعة الطريق- ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه: ما بالك؟ ما الذي أصابك؟ لم تجعل متاعك في قارعة الطريق؟ فيخبرهم خبر جاره يقول: إن جاري يؤذيني، فجعل الناس يلعنونه، وبعضهم يدعو عليه، فجاء جاره إليه، فقال: ارجع متاعك إلى بيتك، فإنك لن ترى شيئاً تكرهه مني أبداً).

أراد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يبين أن الناس تلعن وتبغض وتدعو على من يؤذي جاره، بهذه الواقعة التي بلغ من أذى الجار فيها ما بلغ حتى جاء يشتكي إلى رسول الله مراراً، ووجهه إلى أن يلقي متاعه على قارعة الطريق؛ حتى يرى الناس هذا الأذى، ولكي يرى جار السوء ذلك، ولكي يرى أن الناس يدعون عليه، ويمقتون فعله هذا.

فاستخدم مثل هذه الطريقة لكي يبين خطر وعظم وسوء الجوار، وفي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! فلانةٌ تصوم النهار وتقوم الليل، وتتصدق بالأتوار من الأقط، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار) انظروا إلى عظم سوء الجوار، كيف محق بركة الأعمال من قيام الليل وصيام النهار والصدقات، وجعل ذلك لا ينفعها بما كسبت وجنت يداها من سوء الجوار، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: (من أغلق بابه دون جاره خوفاً على أهله وماله، فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عدت عليه بالمال، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خيراً هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لن يؤدي حق الجار إلا قليلاً ممن رحم الله) أين الذين يقومون بحقوق الجار في هذا الزمان؟

وقفة محاسبة مع حقوق الجار

إنك قد تشكو من جارك، وجارك قد يشكو منك؛ لأنك جار وهو جار، فلنقلب النظر في معاملاتنا وفي جوارنا وفي تصرفاتنا مع من حولنا، ولنجعل أنفسنا مقامهم حينما نريد أن نفعل فعلاً، أو نتصرف تصرفاً، فلنجعل أنفسنا مكان ذلك الجار، هل ترضى لنفسك ذلك الفعل؟ إذا لم ترض هذا الفعل؛ فإن الناس لا يرضونه لأنفسهم، إذا لم ترض الإساءة؛ فإن الناس لا يرضونها، إذا لم ترض الأذى؛ فإن الناس لا يرضونه.

فاتقوا الله معاشر المؤمنين في حقوق الجوار، واجعلوا لأنفسكم ذكراً وسلفاً ويداً صالحةً بعد فراقكم من الدنيا، حيث إذا فارق الإنسان هذه الدنيا ترحم عليه جاره، وذكره بخيرٍ في كل مجلس، وإذا سمع بجار سوء قال: رحم الله فلان، لقد جاورنا وفارق الدنيا، والله ما أزعج خاطرنا بشيء.

هذه هي أعظم صدقةٍ يفعلها الإنسان لنفسه بحسن جواره، أن يجعل من سيرته مع جيرانه سبباً للدعاء له، وأن يجعل من سيرته مع إخوانه سبباً لكثرة الثناء عليه، وفي الحديث أنه: (مرت جنازةٌ، فأثنى الناس عليها خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. ثم مرت جنازة، فذكروا عنها شراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. فعجب الصحابة من هذا القول! قالوا: يا رسول الله! مرت الأولى وقلت: وجبت. قال: نعم، وجبت لها الجنة، قالوا: يا رسول الله! مرت الثانية وقلت: وجبت. قال: نعم. وجبت لها النار، ذكرتم الأولى بخيرٍ فوجبت لها الجنة، وذكرتم عن الثانية شراً وسوءاً فوجبت لها النار، أنتم شهود الله في أرضه) فاجعلوا لأنفسكم ذكراً عاطراً، وصدقة جارية بالثناء والدعاء لكم بعد فراقكم من هذه الدنيا، بعد أعمارٍ طويلة وعملٍ صالح.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لك ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

معاشر المؤمنين: هذه حقوق أي مسلم على مسلم، فكيف الأمر إذا كان له جوار، فكيف الأمر إذا كان له مكانة ومنزلة، قد اعتنى بها جبريل عليه السلام، وما زال يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.

وأي شيء أعظم من هذه الوصية، التي بلغت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل سيأتي يوماً من الأيام ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن الجار سيرث جاره من كثرة ما يوصي جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بحقوقه. حديثٌ متفق عليه.

فأي شيء أعظم من هذا؟! إن الإنسان من العصبة قد لا يرث، وإن الإنسان من ذوي الأرحام قد لا يرث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) أي شيء أبلغ وأعظم من هذا ما دام قد وصل الأمر بوصيته، والحث على أداء حقوقه إلى درجة ظن النبي صلى الله عليه وسلم نزول وحي في توريث الجار من جاره.

إذاً فالجار له حق عظيم قد يقارب حقوق الأقارب، وحقوق ذوي الرحم، وحقوق غيرهم.

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) متفق عليه.

والبوائق: جمع بائقة، وتدخل في معنى الجائحة والضرر والمصيبة والأذى، فأي شيء أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ يخشى جاره أن يدركه الضرر أو يلحقه الأذى بسبب جواره، وأي بلاء وأي مصيبة أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ لا يأمن جاره بوائقه؟! وما أكثر الجيران في هذا الزمان الذين لا تؤمن بوائقهم، وأقول لكم وهي علامة متميزة واضحة: إن جارك الذي لا تطمئن له، ولا تأمن بائقته لو فتشت حقيقة الأمر؛ لوجدته من الذين لا يؤدون حقوق الله جل وعلا، فمن ضيع حقوق الله، فلا غرابة أن يضيع ويتهاون ويتساهل بحقوق غيره من الجيران وغيرهم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه).

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره) إذاً فكف الأذى عن الجار دليل وعلامةٌ من علامات الإيمان بالله جل وعلا، الذي أوصى بالجار نصاً وصراحةً، والذي جعل حقوق الجار والقيام بها من تمام الإيمان به، حيث قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليسكت).

فما بالكم بجارٍ يؤذي جاره، ولا يكف الكلام والأذى عنه، بل لا يسلم منه، وكثيراً ما يقع في عرضه وفي شتيمته وفي سبابه، نسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من جار السوء.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

فاعلموا يا معاشر الأحباب! أن الفضيلة والكرامة والفضل والبر والمعروف، أن يقدم الإنسان الخير والفضل والإحسان إلى جاره، فإن لم يكن؛ فلا أقل من أن يسلم من شره، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من جار السوء، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دارٍ مقامة) جار المقام والبقاء هو جار أمامك وفي وجهك، صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً، أنت تخرج وهو بالقرب من زوجتك، وهو بالقرب من أطفالك، وهو بالقرب من أموالك، وهو بالقرب من أهل بيتك، فما حالك في جارٍ لا تأمنه على نفسك وذريتك وأهلك؟ فما حالك في جارٍ تخشى على أهلك حين تغادر بيتك منه؟

إذاً فهو من الذين لا يطمئن لهم وهو الذي قال فيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه) .. (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له: اذهب فاصبر -وفي هذا حثٌ على الصبر على أذى الجار- فأتاه مرةً أخرى فقال: اذهب واصبر. حتى جاءه في الثالثة يشتكي أذى جاره، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاطرح متاعك في الطريق -القِ متاعك في قارعة الطريق- ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه: ما بالك؟ ما الذي أصابك؟ لم تجعل متاعك في قارعة الطريق؟ فيخبرهم خبر جاره يقول: إن جاري يؤذيني، فجعل الناس يلعنونه، وبعضهم يدعو عليه، فجاء جاره إليه، فقال: ارجع متاعك إلى بيتك، فإنك لن ترى شيئاً تكرهه مني أبداً).

أراد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يبين أن الناس تلعن وتبغض وتدعو على من يؤذي جاره، بهذه الواقعة التي بلغ من أذى الجار فيها ما بلغ حتى جاء يشتكي إلى رسول الله مراراً، ووجهه إلى أن يلقي متاعه على قارعة الطريق؛ حتى يرى الناس هذا الأذى، ولكي يرى جار السوء ذلك، ولكي يرى أن الناس يدعون عليه، ويمقتون فعله هذا.

فاستخدم مثل هذه الطريقة لكي يبين خطر وعظم وسوء الجوار، وفي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! فلانةٌ تصوم النهار وتقوم الليل، وتتصدق بالأتوار من الأقط، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار) انظروا إلى عظم سوء الجوار، كيف محق بركة الأعمال من قيام الليل وصيام النهار والصدقات، وجعل ذلك لا ينفعها بما كسبت وجنت يداها من سوء الجوار، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: (من أغلق بابه دون جاره خوفاً على أهله وماله، فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عدت عليه بالمال، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خيراً هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لن يؤدي حق الجار إلا قليلاً ممن رحم الله) أين الذين يقومون بحقوق الجار في هذا الزمان؟

إنك قد تشكو من جارك، وجارك قد يشكو منك؛ لأنك جار وهو جار، فلنقلب النظر في معاملاتنا وفي جوارنا وفي تصرفاتنا مع من حولنا، ولنجعل أنفسنا مقامهم حينما نريد أن نفعل فعلاً، أو نتصرف تصرفاً، فلنجعل أنفسنا مكان ذلك الجار، هل ترضى لنفسك ذلك الفعل؟ إذا لم ترض هذا الفعل؛ فإن الناس لا يرضونه لأنفسهم، إذا لم ترض الإساءة؛ فإن الناس لا يرضونها، إذا لم ترض الأذى؛ فإن الناس لا يرضونه.

فاتقوا الله معاشر المؤمنين في حقوق الجوار، واجعلوا لأنفسكم ذكراً وسلفاً ويداً صالحةً بعد فراقكم من الدنيا، حيث إذا فارق الإنسان هذه الدنيا ترحم عليه جاره، وذكره بخيرٍ في كل مجلس، وإذا سمع بجار سوء قال: رحم الله فلان، لقد جاورنا وفارق الدنيا، والله ما أزعج خاطرنا بشيء.

هذه هي أعظم صدقةٍ يفعلها الإنسان لنفسه بحسن جواره، أن يجعل من سيرته مع جيرانه سبباً للدعاء له، وأن يجعل من سيرته مع إخوانه سبباً لكثرة الثناء عليه، وفي الحديث أنه: (مرت جنازةٌ، فأثنى الناس عليها خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. ثم مرت جنازة، فذكروا عنها شراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. فعجب الصحابة من هذا القول! قالوا: يا رسول الله! مرت الأولى وقلت: وجبت. قال: نعم، وجبت لها الجنة، قالوا: يا رسول الله! مرت الثانية وقلت: وجبت. قال: نعم. وجبت لها النار، ذكرتم الأولى بخيرٍ فوجبت لها الجنة، وذكرتم عن الثانية شراً وسوءاً فوجبت لها النار، أنتم شهود الله في أرضه) فاجعلوا لأنفسكم ذكراً عاطراً، وصدقة جارية بالثناء والدعاء لكم بعد فراقكم من هذه الدنيا، بعد أعمارٍ طويلة وعملٍ صالح.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لك ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2800 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2629 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع