وفوق كل ذي علمٍ عليم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين! قد أنزل الله تعالى في كتابه الذي ضمن حفظه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزل فيه آياتٍ بينات، وجملة من القصص التي فيها العبر والعظات، ليتدبر المؤمنون ما أودع الله جل وعلا من الأحكام والآيات والزواجر والأوامر والنواهي في هذا الكتاب العظيم، وإن من ذلك ما ذكره الله جل وعلا في أواخر سورة الكهف مما جرى من شأن موسى عليه السلام مع الخضر.

والأصل في ذلك أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قام خطيباً في بني إسرائيل فتكلم وأجاد، وكأنما أعجب بشيء من كلامه فقام فتىً من بني إسرائيل وقال: يا نبي الله! هل على وجه الأرض أحدٌ أعلم منك؟ فقال: لا. فأوحى الله جل وعلا إليه: إن عبدنا الخضر هو أعلم منك، وعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، فعزم موسى على بذل الهمة في طلب العلم، وسأل ربه الطريق لكي يصل إلى الخضر، ولكي يتعلم منه علماً، فجعل الله جل وعلا لموسى آية وعلامة، أن يحمل حوتاً في مِكْتل ثم يمضي، فإذا فقد الحوت فثم الخضر -أي: يكون هناك- وكلكم تعرفون القصة.

وبيت القصيد وشاهد الكلام منها: أن موسى لما قابل الخضر قال له: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] فقال الخضر: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:67-68].

أدب طالب العلم مع العالم

في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبيّ بن كعب (أن الخضر قال: يا موسى! أنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا) وفي هذا فوائد:

الأولى: أن موسى لما قابل الخضر وقف موقف المتأدب، وموقف السائل الذي يلتمس النفع والعلم، بقوله: هل اتبعك؟ ولم يقل: أريد اتباعك أو لا بد من اتباعي إياك لكي أتعلم؛ فإنما عرض الأمر عليه بصيغة العرض لا بصيغة الأمر.

وفي هذا فائدة عظيمة لكل طلبة العلم حينما يبذلون سؤالاً أو يوجهون اقتراحاً، أو يديرون كلاماً، فعليهم أن يتأدبوا مع مشايخهم، وأن يسلكوا عبارة مناسبة وأسلوباً لطيفاً؛ لأن الإنسان يخاطب من هو أعلم منه، وله في نبي الله موسى عليه السلام أسوة وقدوة، وهو نبيٌ قد آتاه الله الوحي والمعجزة، ومع ذلك يقول لمن هو أعلم منه هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

فأين كثيرٌ من طلبة العلم عن أدب سؤال العلماء؟

وأين الذين حينما يسمعون عالماً من العلماء يتكلم جابهوه وصدوا كلامه وعارضوه بقولهم: ولكن فلاناً يقول غير كلامك، ولكن فلاناً يخالفك، ولكن فلاناً يقول مالا تقول؟! بدون أدنى عبارة يكون فيها تلطف! أو يكون فيها أدب الكلام مع العلماء!

فما بالكم أيضاً مع من لا يحترمون مجالس العلم، فيجلس أي جلسة لا تليق بمجلسه الذي هو فيه، كأن يمد رجله أمام شيخه، وقد جاء في حديث جبريل المشهور الذي رواه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام) ففي هذا الحديث فيه أن جبريل عليه السلام جاء يسأل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بيان وفيه هيئة طالب العلم وصفة جلسته أمام مشايخه وعلمائه، فالتفتوا لذلك وتنبهوا إليه يا عباد الله.

أدب العالم مع طلابه وعامة الناس

ومن ذلك أيضاً: (أن الخضر قال لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا) فيه تواضع العالم، وفيه خفض الجناح ولين الجانب من العالم، واحترام ما عند الآخرين، حتى ولو كانوا من عامة الناس، فضلاً عمن تعلموا وقرءوا ودرسوا؛ لأن الإنسان مهما بلغ من العلم لا بد أن يكون قد جهل أشياءً عظيمة لقول الله جل وعلا: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] .. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وقديماً قال الشاعر:

فقل لمن يدعي في العلم معرفة     علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ

فلا تردن كلاماً جاءك به ولو أحد عامة الناس ظناً منك أن مثل هذا لا يفقه في العلم ولا نصيب له في المعرفة، وما يدريك أن ضالة من حِكَمِ العلم فاتتك سنيناً طويلة لا تجدها إلا عند رجلٍ ممن تراهم من عامة الناس، فألله ألله في لطف الكلام ولين الجانب وخفض الجناح، فإن الاستعلاء والكبر والشموخ والتصعر مما يصد الإنسان ويحرمه كثيراً من ضروب العلم، قال ابن الوردي :

لا تحقر العلم يأتيك الجهول به     فالنحل وهو ذبابٌ طائر العسل

فليس عجيباً أن تجد حكمة أو ضالة من أبواب العلم فاتتك.. تجدها عند هذا الرجل العامي أو هذا الرجل الكبير.

مرافقة موسى للخضر

ثم بعد ذلك: لما عاهد موسى الخضر على أن لا يسأله عن شيءٍ حينما يتبعه حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71] لم يطق موسى ولم يصبر ونسي أنه عاهد الخضر على الصبر وعدم السؤال، فقال: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كانت الأولى من موسى نسياناً) أي: أنه نسي ما عاهد عليه الخضر ألا يسأله عن شيءٍ حتى يحدث له منه ذكراً فقال له الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:72] قال موسى: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الكهف:73-74] ولم يطق موسى أيضاً، فقال: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] فأجاب الخضر للمرة الثانية بعبارة أغلظ من الأولى حيث قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:75]ولم يقل في الأولى: (ألم أقل لك) بل قال فيها: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:72] وأما الثانية فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:75].

ثم بعد ذلك مضيا: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا وكانوا لئاماً فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فدخلا القرية: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قال موسى: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77] لو شئت لأخذت شرطاً ونولاً وأجرة على إصلاحك هذا الجدار، الحاصل أن الخضر قال: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] لا أستمر معك في هذه الصحبة، وسأنبئك بما لم تستطع عليه صبراً.

تأويل الخضر لخرق السفينة

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79] وفي قراءة لأحد الصحابة في مصحف أحدهم: وكان أمامهم ملكٌ ظالمٌ يأخذ كل سفينة صالحة غصباً .

فكان فعل الخضر: أن خرق السفينة لما اقتلع لوحاً من ألواحها بالقدوم، وإن كان ظاهر الأمر مصيبة إلا أن باطنه فيه مصلحة لأولئك الغلمان، قيل: كان عددهم عشرة، خمسٌ منهم زمنى -أي: مرضى- لا يستطيعون العمل، والخمسة الآخرون هم القادرون على العمل، فكان فعل الخضر عليه السلام من خرق السفينة لم يكن ذلك لإغراق أهلها، وإنما كان ذلك لصرف الملك، ألا يأخذ سفينتهم؛ لأن السفينة لو وصلت إلى شاطئ الأمان ووجدها ذلك الملك صالحة لصادرها ولأخذها ولاستولى عليها بالكلية، فكان قدر الله جل وعلا على يد الخضر أن خرق هذه السفينة حتى إذا وصلت إلى مكانها يراها أعوان الملك وجلاوزته فاسدة قد خرقت فيدعونها ولا يأخذونها، وتكون من حظ أولئك الغلمان.

إذاً: فظاهر المصيبة -يا عباد الله- قد يكون مراً، قد يكون صعباً، قد يكون عجيباً، لكنه في حقيقته عين الرحمة والعطف، والرأفة، والحكمة والعلم، والله عليمٌ حكيم.

تأويل الخضر لقتل الغلام

كذلك: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً [الكهف:80] كان الغلام الذي قتله الخضر غلاماً فتياً، وكان كافراً، وكان أبواه مؤمنين فعلم الخضر بعلم الله الذي علمه الله إياه، ووحي الله الذي أوحاه إليه أن يقتل هذا الغلام؛ لأن قتل الغلام أهون من الكفر، والفتنة -أي: الكفر- أشد من القتل : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] .. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217] فكان من عين حكمة الله جل وعلا أن قتل الغلام، وهو قتل نفسٍ وإزهاق روحٍ فيه مصلحة عظيمة، أن يدفع الكفر عن الوالدين، عن الأم والأب، ظاهر الأمر مصيبة، ظاهر الأمر داهية، ظاهر الأمر مدلهمة، لكنه في حقيقته عين رحمة الله، وعين لطف الله بهذين الوالدين.

إذاً يا عباد الله! لا نعجب من ظواهر الأمور وما فيها من القضاء والقدر؛ فإن الله جل وعلا يجري على عباده ألواناً من القضاء والقدر وفي ذلك مصالح عدة وفوائد جمة يجهلها كثيرٌ من الناس فيسخطون على قضاء الله وقدره، ويتضجرون من تدبير الله، ويدعون بالويل والهلاك والثبور، وقد جهلوا أن الله الذي قدر لهم هذا هو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، ففي تقدير الله لهم كل رحمةٍ وفضلٍ ولطفٍ.

وربما كان مكروه النفوس إلى     محبوبها سبباً ما بعده سبب

إن الأمر الذي تكرهه أشد الكراهة قد يكون هو أقرب السبل إلى ما تحبه غاية المحبة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] .. فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].

الصبر عند الصدمة الأولى

إذاً يا عبد الله! إذا نزلت بك المصيبة من أمر الله، والمصائب سنة في العباد: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155] لا بد أن تقابل قدر الله بالصبر على البلاء والرضا بالقضاء، فإن ذلك أعظم للأجر، وإلا فإن ما قدر الله واقعٌ لا محالة، فمن رضي فله الرضا والأجر والمثوبة، ومن سخط فعليه السخط.

ومن لم يصبر صبر الكرام     سلا سلو البهائم

أرأيتم الذين يصيحون ويولولون، ويبكون ويتسخطون، ويتذمرون ويتشكون عند أدنى مصيبة من المصائب، ولتكن موت قريب أو حبيب أو أم أو أب، لو قلنا لأحدهم: هذا أبوك أو أمك خذها وضعها عندك، والله ما يطيق البقاء معه ولا معها يوماً واحداً، فالحمد لله الذي شرع الدفن سنة لبني آدم.

(مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي على قبرٍ وقال: يا هذه! اتقي الله واصبري! قالت: إليك عني! وما شأنك وشأني!! فلما ولى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل لها: هذا رسول الله أما تعرفينه؟ فقامت تلحقه حتى أتت إلى بيته -ولم تجد عنده بوابين- قالت: يا رسول الله! الآن أصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

فيا عباد الله! عودٌ إلى موضوع القصة وهو: أن ظاهر الأمر في القضاء وإن كان مراً؛ إلا أن الله جل وعلا يقدر فيه أعظم المنة وأكرم المنحة، وأجل العطية، وأفضل الهبة، في أمرٍ ترى ظاهره أمراً تكرهه وحقيقته أمرٌ من الأمور التي تحبها، قد يموت قريبٌ لك بحادثٍ في السيارة، فتقول سبحان الله! كيف مات هذه الميتة؟ لا شك أن أجله هو في تلك اللحظة، سواء كان في الطائرة، أو في السيارة، أو على فراشه، لكن الله قدر المصيبة أن تكون في حادثٍ من الحوادث وما يدريك لعله أوشك أن يفضي إلى ربه وقد بقيت في ذمته سيئاتٌ ما تاب منها، فشدد الله عليه البلاء والعقوبة في آخر لحظة من لحظات عمره حتى تكون ممحصة ومزيلة لك الذنوب، فيقدم على ربه طاهراً مطهراً، ونحن في ظاهر الأمر نبكي أو نجزع وهو في حقيقة الأمر عين الرحمة، وعين الرضا، وعين اللطف بهذا العبد الذي توفاه الله جل وعلا.

تأويل الخضر لإقامة الجدار

هذه من أجل الأحكام والدروس والعبر التي وردت في قصة موسى مع الخضر عليه السلام وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:82].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.

في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبيّ بن كعب (أن الخضر قال: يا موسى! أنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا) وفي هذا فوائد:

الأولى: أن موسى لما قابل الخضر وقف موقف المتأدب، وموقف السائل الذي يلتمس النفع والعلم، بقوله: هل اتبعك؟ ولم يقل: أريد اتباعك أو لا بد من اتباعي إياك لكي أتعلم؛ فإنما عرض الأمر عليه بصيغة العرض لا بصيغة الأمر.

وفي هذا فائدة عظيمة لكل طلبة العلم حينما يبذلون سؤالاً أو يوجهون اقتراحاً، أو يديرون كلاماً، فعليهم أن يتأدبوا مع مشايخهم، وأن يسلكوا عبارة مناسبة وأسلوباً لطيفاً؛ لأن الإنسان يخاطب من هو أعلم منه، وله في نبي الله موسى عليه السلام أسوة وقدوة، وهو نبيٌ قد آتاه الله الوحي والمعجزة، ومع ذلك يقول لمن هو أعلم منه هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

فأين كثيرٌ من طلبة العلم عن أدب سؤال العلماء؟

وأين الذين حينما يسمعون عالماً من العلماء يتكلم جابهوه وصدوا كلامه وعارضوه بقولهم: ولكن فلاناً يقول غير كلامك، ولكن فلاناً يخالفك، ولكن فلاناً يقول مالا تقول؟! بدون أدنى عبارة يكون فيها تلطف! أو يكون فيها أدب الكلام مع العلماء!

فما بالكم أيضاً مع من لا يحترمون مجالس العلم، فيجلس أي جلسة لا تليق بمجلسه الذي هو فيه، كأن يمد رجله أمام شيخه، وقد جاء في حديث جبريل المشهور الذي رواه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام) ففي هذا الحديث فيه أن جبريل عليه السلام جاء يسأل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بيان وفيه هيئة طالب العلم وصفة جلسته أمام مشايخه وعلمائه، فالتفتوا لذلك وتنبهوا إليه يا عباد الله.