وماذا بعد التوبة؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله على حلمه بعد علمه، الحمد لله على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو على كل شيء قدير، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل فضلٍ سألناه أعطانا، الحمد لله الذي لا تحصى نعمه، الحمد لله الذي لا تعد مننه، الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين، الفضل لله على ما نحن فيه، الثناء لوجه الله، والفضل لله، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خير إلا دلنا عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا حذرنا منه، كان بأمته شفيقاً رحيماً، قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فيا عباد الله: أعدوا للموت واتقوا الله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: معاشر الموحدين! ما أقسى هذه القلوب التي نحملها في صدورنا! ما أجمد هذه العيون التي هي في رءوسنا! ما أبعد هذه القلوب حال الغفلة عن ذكر ربها وخالقها!

عباد الله: قفوا وتأملوا حال هذه النفوس، حال هذه القلوب المريضة التي تعودت اللهو والعبث، والغفلة، وطيب المأكل والمشرب؛ حتى قست وبعدت عن طاعة الله، وبعدت عن ذكر المصير، والاستعداد للقاء الله.

أيها المسلمون: ما منا إلا وغافل، ما فينا إلا وسادر، ما من بيننا إلا وأشغلته شهواته عن الاستعداد للقاء ربه، متى نستيقظ؟ متى نستعد؟ متى نقف للمحاسبة؟ يوم أن نرى ميتاً أمام أعيننا، يوم أن نرى حادثاً يتمزق فيه بدنٌ أمام بصائرنا وأبصارنا، يوم أن نصاب بفقد حبيب، ثم نبكي عليه سويعات حتى نواريه في التراب ثم ننساه، يوم أن يبتلى أحدنا ببلية في ماله أو دنياه يقف لحظة ليتأمل، ثم يعود في لحظات إلى غفلته.

أيها الأحبة: إن في النفوس قنديلاً يضيء، لكن ضوءه ضعيف جداً بما يزاحمه من حجب المعاصي، بما يستر نوره من ألوان الشهوات، ويوم أن نقف وقفة نتأمل فيها مصيبة، أو نتذكر فيها معاداً يبقى أحدنا متردداً بين التوبة والغفلة، يشاور نفسه هل يتوب أم لا يتوب، هل يستقيم أم لا يستقيم، هل يقلع أم لا يقلع، هل يخبت ويخضع أم لا يخضع.

هل تحتاج التوبة إلى مشورة؟ هل تحتاج الأوبة إلى تردد وأخذ رأي؟: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لا مناص من الاستجابة، ولا محيد عن القبول والانقياد: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ألستم بالمؤمنين؟ ألستم تدعون الإيمان؟ ألسنا ندعي الإيمان، الخطاب لكم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].

عباد الله: من لم يستجب لله فعلى خطرٍ أن يحال بينه وبين قلبه وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54].

معاشر المؤمنين: ما منا إلا ويتمنى الاستقامة، وما فينا إلا ويود التوبة، ولكن قفوا هنا قليلاً، إن كثيراً من الناس من الرجال والنساء والشباب والفتيات، والذكور والإناث، والكبار والصغار يظنون أن الهداية والاستقامة والالتزام والتوبة تكون في لحظة على حين غرة، يصبح عاصياً فيمسي تائباً، أو يمسي عاصياً فيصبح تائباً، يظن بعضهم أن هناك لحظة ينقلب فيها الواحد من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن القطيعة إلى الصلة، ومن العقوق إلى البر، يظن البعض أن التوبة بزرار أو جهاز تنقلب حال الشخص حين الضغط عليه، لا والله -يا عباد الله- من كان ينتظر هذا الأمر لكي يتوب فما أبعد توبته! لكن التوبة -يا عباد الله- تكون بالمجاهدة، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] الهداية ثمرة للمجاهدة، والمجاهدة مطلبٌ للصالحين؛ كي يثبتوا على صلاحهم، والمقصرين حتى يلتفتوا إلى تقصيرهم ويقلعوا عنه ويعودوا إلى الله، وللفاسقين حتى يجاهدوا نفوسهم، فيقلعون عن هذا الفسق، وعن هذا الإصرار.

لا بد من المجاهدة حتى تحصل التوبة، حتى تحصل الاستقامة، أتظنون لذة العبادة وحلاوة الطاعة وفخر الاستقامة يكون من دون مجاهدة؟ لا وايم والله، لا بد له من مجاهدة حقيقة، لا بد له من ندم على ما مضى، واستعداد لما بقي، لا بد له من قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] لا بد للتوبة من هذا، نريد أن نتوب من الغناء واللهو من دون أدنى مجاهدة لكف الآذان عن اللهو، لا. لا بد من مجاهدة، وإذا ابتلي العبد ففي حال الابتلاء يعرض عليه أمران:

الأول: أمر محبوبٌ إلى شهوات نفسه، مبغوضٌ مكروهٌ إلى الله ورسوله.

والثاني: مرضيٌ لله ولرسوله صعبٌ يحتاج إلى مجاهدة النفس عليه.

فيقف العبد بين هذين الحالين يدير المذياع، فيسمع غناء، يدير المسجل فيسمع الغناء ثم يبدأ صراع النفس هل يغلق هذا الباطل وينصرف إلى المعروف؟ هل ينصرف عن هذا اللهو ويعود إلى الذكر؟ يبقى لحظات من الصراع يجاهد نفسه، فمن كان صادق التوبة فإن قوة القلب وصدق المجاهدة يضغطان على الجارحة فتتحرك اليد لإقفال المذياع، أو اللهو، أو الباطل، أو المنكر، ثم تنصرف الجارحة إلى ما يرضي الله جل وعلا، فيسمع كلام الله، ويسمع ذكر الله، ويحقق صفة الإيمان في نفسه؛ ليخبت بذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2].

التوبة تحتاج إلى مجاهدة، تسمع منبه سيارة جليس من جلساء السوء وصديق من أصدقاء المعصية، تسمع صوت منبهه وأنت في بيتك وفي قلبك بداية من بدايات التوبة، في قلبك بداية من بدايات الندم، هل أخرج معه أم أنصرف عنه؟ هل أستجيب له أم أستجيب لله؟ هل أعصي الله أم أجلس في طاعة الله؟ هنا تبرز المجاهدة، جاهد نفسك على أن تنصرف عنه إلى ما يرضي ربك، وإذا بلغت مرحلةً أقوى من ذلك أن تفتح الباب وتقول له: إلى متى الغفلة؟ سمعت صوت منبهك إلى أين نذهب: إلى شلة ندير الورق إلى آخر الليل؟ هل تشهد الأنامل بالتسبيح؟ هل يشهد الورق بالسجود؟ هل تشهد الأرض بالذكر؟ هل تشهد السماء بالانحناء والركوع، أم تشهد بالغفلة، والسباب الشتيمة، والقطيعة والبغضاء، واللعنة والعداوة؟ إذا لم يتحقق ذلك، فإنك مهزومٌ في هذه الجولة، إما أن تكسب الجولة وإما أن تخرج مهزوماً، ويعلن الشيطان انتصاراً عليك، وتصفق الشياطين ضاحكةً غارقة في الضحك والسخرية منك يا بن آدم؛ لأن الله كرمك وما رضيت كرامة الله؛ لأن الله دعاك وانصرفت عن دعوة الله، وقال الشيطان: دعوته فاستجاب لي، فأحس الشيطان بنشوة وزهو النصر على هذا العبد الذي جاهد نفسه وخسر الجولة؛ لأن التوبة لم تكن صادقة، قال الشيطان لهذا المسكين: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] ما كبلت يدك بالحديد فأخرجتك إلى جلساء السوء، ما جعلت القيد في عنقك وفي يدك وفي رجلك فجعلتك تسافر إلى الخارج، ما سحبتك بتلابيب جيبك حتى تقعد في اللهو والمعصية، إذاً ماذا فعلت أيها الشيطان بهذا الإنسان: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22] يقول الشيطان: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] إنما دعوتكم، زينت لكم، أحكمت الصورة في خيالكم، فكانت الاستجابة منكم.

ماذا بعد المعصية؟ ألذةٌ دائمةٌ؟ لا والله. بل ألم المعصية يخالط القلب، ويشغل البال، ويقلق الضمير - كما قال الحسن البصري رحمه الله-: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].

فيا عباد الله: المجاهدة سبيل إلى الهداية، وليست التوبة سلعة تباع في المتاجر فنشتريها، أو قميصاً نلبسه، أو دابة نركبها، التوبة والهداية ثمرة للمجاهدة، جاهد نفسك بالبديل، إذا جاهدك الشيطان على سماع اللهو والغناء، فجاهد نفسك على سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وسماع المحاضرات والخطب والفتاوى وحلق الذكر، تأمل كلاماً سماعه يرفعك عند الله درجات وينجيك من الدركات، وابتعد عن كلام يجعلك مع الضالين الظالمين، حتى إن بعض الناس قد بلغت به الغفلة واستحكمت فيه الشهوة وبلغ به العناد إلى درجة أنه أصبح يحب أهل المعصية وأهل اللهو وأهل الغناء، أكثر من محبته لله ولرسوله، ولأهل الله وأهل رسوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] العاقبة في الآخرة: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا [البقرة:165-166] أصحاب الشلات ومجالس الغفلات واللهو والباطل يتبرءون من الذين قادوهم إلى ذلك: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:166-167] لو أن لنا رجعة، لو أن لنا عودة إلى الدنيا: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

اسألوا أنفسكم -يا عباد الله- كم مجلساً من مجالس اللهو حضرناه؟ وكم مجلساً من مجالس الغفلة أقمناه؟ وكم مجلساً من مجالس الباطل غشيناه؟ وكم لحظة عن الذكر غفلنا فيها؟ ما أكثرها! سنراها يوم القيامة، سنراها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، سنراها في مقام توضع فيه الموازين بالقسط، فلا تظلم نفسٌ شيئاً، يقول الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47] يا رب هل من غفلة تنسى؟ هل من غمزة تنسى؟ هل من معاكسة تنسى؟ هل من أغنية تنسى؟ هل من صورة امرأة تنسى؟ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [الأنبياء:47] حتى الهباءة، حتى الخردلة التي ترونها تدخل مع النافذة في شعاع الشمس أو الذرة: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] .. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].

أيها الأحبة في الله: هيا إلى المقبرة بقلوبكم وعقولكم وتكلموا:

سألت القبور فناديتها     فأين المعظم والمحتقر

يا أيها الملوك الذين دفنوا في هذه المقبرة: هل تستطيعون القيام من لحودكم الآن؟

يا أيها الأثرياء الذين في ظلمات اللحود إن لم يجعلها الله روضة من رياض الجنة! هل تنتقلون يمنةً ويسرة؟

يا أيها الوزراء! يا أيها العظماء! يا أيها الفقراء! يا أيها الصعاليك! هل يستطيع أحدٌ أن يقوم أو يتكلم؟

لو تكلموا فقلنا لهم: ماذا تتمنون؟ لقالوا: نتمنى أن نرد إلى الدنيا، فنقول: لا إله إلا الله، يتمنون كلمة واحدة، يتمنون حسنة واحدة، وأنتم الحسنات أمامكم، أمامكم الجنة قد فتحت أبوابها، فأعرض الكثير عنها.

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ     فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ

(من خاف أدلج ) من خاف العاقبة وسوء الخاتمة، من خاف القبر واللحد، والمحشر والمنشر وهول المطلع: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنـزلة، ألا وإن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ     فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ

يا سلعة الرحمن لست رخيصةً     بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ

عباد الله: الجنة صعبة المنال على الكسالى الذين تعودوا صلاة الفجر قبل الذهاب إلى العمل بربع ساعة، الجنة صعبة المنال على الذين لا يشهدون الجماعة، الجنة صعبة المنال على الذين أكلوا الحلال والحرام، الجنة صعبة المنال على من تاجر باللهو وأشرطته، والفيديو المهدم وأفلامه، والغناء ومعازفه، الجنة صعبة المنال على الذين لا يعرفون إلا دول الخارج، وبعضهم ما حج حتى الآن، وما اعتمر حتى الآن، الجنة صعبة المنال على الذين لا يذكرون الله.

يا سلعة الرحمن لست رخيصةً     بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ

يا سلعة الرحمن ليس ينالها      في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ

يا سلعة الرحمن كيف تصبر      الخطاب عنك وهم ذوو إيمانِ

أتؤمنون بالموت؟

أتؤمنون بالقبر؟

أتؤمنون باللحد؟

أتؤمنون بمسائلة منكر ونكير؟

أتؤمنون بوقوف الخلائق عند الله يوم القيامة؟

أتؤمنون بالصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعلى جنباته كلاليب جهنم؟

أتؤمنون بأن العباد يمرون عليه كالبرق الخاطف، أو كأجاويد الخيل، أو كمشي الرجال، أو كمن يحبو حبواً؟

أتؤمنون أن من الناس من تدركه كلاليب جهنم فتخطفه إلى النار، فتهوي به إلى مكان سحيق؟

نعم. نؤمن بهذا كله.

أين الاستعداد له يا عباد الله؟ بكاء ساعة، بكاء لحظة، تأثر لحظات، ثم نعود بعد ذلك لندير المذياع على اللهو، لنفتح الشاشة على صور النساء، لنخرج ذاهبين آيبين لا نفكر هل إلى معصية الله، أم إلى طاعة الله، فهل من عودة يا عباد الله؟ هل من توبة يا عباد الله؟ استعدوا لهذا المطاف، واستعدوا لهذه الخاتمة، فما أسرع ما نقدم على هذه الآخرة!

قيل إن نوحاً عليه السلام سئل: يا أطول الأنبياء عمراً-ألف سنة- كيف رأيت هذه الدنيا؟ قال: رأيتها كداخل من باب وخارج من باب آخر.

تأملوا -يا عباد الله- كم مضى من أعماركم ثلاثون سنة! خمسون سنة! عشرون سنة! كيف مرت تلك السنين؟ كيف مرت تلك الأزمان؟ كأنها برق قاصف وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].

المرء يفرح بالحياة      وطول عيش قد يضره

إن منا -يا عباد الله- من الموت خيرٌ له، لأن مزيد الحياة له مزيد في سيئاته ومعاصيه.

المرء يرغب بالحيـاة      وطول عيش قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى      بعد حلو العيش مره

وتسوؤه الأيام حتـى      ما يرى شيئاً يسره

كم شامتٍ بي إذ هلكت     وقائلٍ لله دره

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فاستغفروا ربكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، وراقبوا أنفسكم وحاسبوا، وأحدثوا لكل زلةٍ استغفاراً، ولكل ذنبٍ توبة، وأكثروا من الحسنات: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار- عياذاً بالله من ذلك-.

أيها الأحبة في الله: أيها المؤمنون بوعد الله ووعيده! أيها المسلمون! تذكروا يوماً تلقون فيه ربكم، فتكشف فيه الصحائف والسجلات، ويدني الله عبداً من عباده، ثم يسدل عليه ستره، ويسأل الرب عبده -والله جل وعلا أعلم بما فعل العبد- ليسائله الحساب: عبدي أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فإننا -والله- مسئولون عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها.

المبادرة إلى التوبة وعاقبة التسويف

عباد الله: توبوا إلى الله توبةً قبل أن يدرككم الموت، توبوا إلى الله توبةً قبل أن تحل مصيبةٌ تحول بين الإنسان وبين التوبة.

أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ      فلا يدوم على الإحسانِ إمكانُ

إن من الناس من سوف التوبة وأجلها حتى نقل إلى سرير وقد بلي ببلاءٍ عظيمٍ لا يستطيع معه أن يركع أو يسجد، إن من الناس من سوف التوبة حتى نقل في تابوت من بلاد الخارج إلى بلاده، إن من الناس من سوف التوبة حتى أدركه الموت، وعجز أن ينطق بالشهادة، إن من الناس من بلغ الثلاثين والأربعين والخمسين وما تاب إلى الله حتى الآن، فمتى يا عباد الله؟

خطب الحسن البصري الناس، فقال: [يا معشر الشباب! ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ ويا معشر الشيوخ! إلى متى الغفلة قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره؟ والموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً].

هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ     متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

نؤملُ آمالاً ونرجو نتاجها     لعل الردى مما نرجيه أقربُ

ونبني القصور المشمخرات في السمـا     وفي علمنا أنا نموت وتخربُ

لدور الموت وابنو للخرابِ

فيا عباد الله: استعدوا للقاء الله، واعملوا صالحاً ينفعكم، اعملوا صالحاً قبل أن تحل عليكم ساعة لا ينفع فيها الندم، ولا ت حين مندم.

اللهم تب علينا، اللهم خذ بقلوبنا إلى طاعتك، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لتتجنب جلساء السوء، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنلحق بركب الأخيار الأبرار، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنقلع عن اللهو والعزف والغناء، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنستلذ بكلام الله وذكره، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنكون لك مخبتين طائعين مختارين في ظواهر أنفسنا، وفي بواطنها، اللهم حل بيننا وبين معصيتك، اللهم اعصمنا عما يسخطك، وجنبنا ما يغضبك، ووفقنا إلى ما يرضيك، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، فجازه اللهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.

عباد الله: التوبة لا تأتي فجأة، التوبة ليست قميصاً يلبس، جاهدوا أنفسكم على التوبة.

أسأل الله أن نوفق لتوبة صادقة نصوح تجب ما قبلها من الذنوب والسيئات والمعاصي والمنكرات.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، واحفظ إمام المسلمين، وأصلح بطانته، واجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين!

اللهم خذ بقلوبهم إلى ما يرضيك، اللهم لا تكلهم إلى من حولهم، اللهم كلهم إلى توفيقك وعونك ومنك وكرمك يا رب العالمين!

اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي أرتيريا، وأثيوبيا، والفلبين ، وفي جميع أراضي المسلمين أجمعين.

اللهم اهد شباب المسلمين، وأصلح نساءهم، واهد فتياتهم، وجنبهن المعاكسات، وجنبهن التبرج والسفور، وأبعد عنهن الاختلاط في الوظائف والتعليم، بمنك وكرمك يا رب العالمين!

إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وصلى الله على محمد.