أرشيف المقالات

خصائص موضوعات الفقه

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
خصائص موضوعات الفقه


توطئة:
إن النظر في الثروة الفقهية من داخل المذاهب الفقهية، يُبيِّن أن بينها تفاوتًا في تقسيمات الفقه، وكذلك في ترتيب موضوعاته؛ إلا أن هذا التفاوت لا يؤثِّر في جوهر قضايا الفقه، التي تتعلق بما يصدر عن المكلَّف من أقوال وأفعال، وعقود وتصرُّفات، وتتناول حياة الإنسان في عَلاقته بربه وعلاقته بغيره.
والفقهاء يُجمِعون على أن الفقه ينقسم إلى قسمين كبيرين: العبادات، والمعاملات أو العادات.
ولكل قسم خصائصه ومميزاته، التي سأُبيِّنُها بإذن الله في هذا المقال.
 
يمتاز الفقه عن القوانين الوضعية بتلك الأحكام التي خصَّها الفقهاء باسم (العبادات)؛ لأنه بهذا الاعتبار عِلمٌ ديني أخروي، مؤيَّد بالوحي الإلهي، لا مجال فيه لإعمال العقل البشري، الذي يبقى قاصرًا عن فهم وتفسير الحِكَمِ الخفيَّة من تشريع العبادات، "وباعتبار ما يتعلق بالمعاملات وفصل الخصومات دُنْيوي، فهو - أي: الفقه - دنيوي باعتبار، أخروي باعتبار"[1].
 
وفقه المعاملات هو الذي يهمُّنا كثيرًا في سياق هذا المقال؛ لأنه هو الذي يلبِّي الحاجات المتكررة لدواعي الحياة المتجددة، في صورة تطبيق تشريعي جزئي للشريعة الإسلامية الثابتة، على حالات غير ثابتة في حياة الفرد والمجتمع.
 
وفيما يلي سأقوم بعرضٍ لخصائص العبادات والمعاملات بشكل تزامني؛ حتى يتضح الفرق بينهما، وتنجلي حقيقة ما ذهبتُ إليه من أهمية فقه المعاملات في واقعنا المعيش، دون انتقاصٍ من الفقه الأول، فهو الأصل الذي لا مَحيد عنه.
 
الخاصية الأولى: من حيث الثباتُ والتطورُ:
يتميز فقه العبادات بالثبات في الزمان والمكان، في حين يخضع فقه المعاملات للتطور والتغير في الزمان والمكان؛ لأن الأول يتعلق بشعائر تعبُّدية، لا تتأثر بتوالي العصور والأجيال، أما الثاني، فهو أكثر تطورًا؛ "لأنه أشد تأثرًا بالحاجات البشرية المتجددة التي لا تستقرُّ على وضع معين؛ بحكم تشابك العَلاقات، وتغير الأحوال...، ولكل جيل أن يُبدِع نظُمَه الاجتماعية في حدود المبادئ الإسلامية، وأن يلبي حاجات زمانه باجتهادات فقهية قائمة على الأصول الكلية للشريعة، على شرط اتباع مناهجَ صحيحةٍ في الاجتهاد واتفاق بين جمهرة فقهاء الأمة الإسلامية في كل جيل، بحيث لا ندع الأمرَ فوضى لكل مَن شاء كيف شاء"[2].

الخاصية الثانية: من حيث درجةُ استعمالِ العقل:
هذه الخاصية ناتجةٌ عن سابقتها، ومنها نستنتج أن فقه العبادات لا مجال فيه لاستعمال العقل إلا بالقَدْر المسموح به شرعًا، أما في فقه المعاملات، فالمجال مفتوح للعقل البشري، ولكن أيضًا دون الخروج عن المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، والقواعد الكلية للفقه الإسلامي، "فالعبادات مقدرة ثابتة توقيفية، لا مدخل للعقل فيها، والعادات والمعاملات مضبوطة بمبادئ لا يصح تجاوزها، ويندرج تحتها ما لا يحصى من الجزئيات المتغيرة بتغير الزمان والمكان والحال"[3].
 
الخاصية الثالثة: من حيث التعبدُ بهما:
لا يختلف اثنانِ في كون الأصل في العبادات التعبد، والتقرب إلى الله بممارسة شعائرها، دون البحث في أسرارها التي اختص الله بعلمها، أما المعاملات، فلا مانع من طلب أسرارها، وحكمتها وعلتها، عن طريق إعمال آليات العقل ومناهج الاجتهاد، إن "الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد، دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني"[4].

واضحٌ أن العبادات يُطلب فيها الانقياد، دون تحرِّي عللها؛ لأنها لا تحتمل الزيادة أو النقصان، أما المعاملات، فيجوز فيها الالتفات إلى المعاني، والكشف عن العلل، ولكن مع استحضار أنها كذلك لا تخلو من التعبد؛ لأنها لا تخرج عن المبادئ العامة للشريعة، والمطلوب فيها أن تكون موافِقةً للمقاصد العامة للشارع؛ فإن "كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد، فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد، فلا بد فيه من اعتبار التعبد"[5].

فكل فعلٍ أو تصرف مدني في المعاملات يتَّصف بوجود فكرة الحلال والحرام فيه، وله ظاهر يعطيه صبغة دنيوية، وباطن فيما بين الشخص وربه يربطه بالآخرة.
 
الخاصية الرابعة: من حيث التأليفُ والتدريسُ لهذه الموضوعات:
لقد غلَّب الفقهاء عبر التاريخ في تآليفهم جانبَ العبادات على جانب المعاملات، وقد جعل الإمام الطاهر بن عاشور هذا سببًا من أسباب التأخُّر الفقهي، قائلًا: "صرف الفقهاء جلَّ هممهم إلى فقه العبادات، فأكثروا فيه من التخريج، مع أن طريق العبادات التوقيف، وتقصيرهم في فقه المعاملات من النوازل والأقضية"[6].

وإذا علِمنا أن منهج التدريس فرعٌ عن منهج التأليف؛ فإن التدريس سيهتم - بالتبع - بجانب العبادات، داخل المؤسسات التعليمية وحلقات التدريس، مركِّزًا بالأساس على حفظ الفروع الفقهية وأقوال الأئمة في ذلك، بعيدًا عن دراسة النوازل والقضايا المرتبطة بواقع الناس المعيش، وهذا عكس ما يتغيَّاه المنهج الفقهي القائم على الخصائص المعرفية للفقه، وعلى حقيقة الفقه وماهيَّته التي بينَّاها سابقًا.
 
"إن العلم بالعبادات - أي: فروعِها - لا ينتفع به المرء إلا في خاصَّته، أما العلم بأسرارها، فإنما يحتاجه العالم المبيِّن لأسرار الشريعة، أما فقه المعاملات، فهو الذي يحتاجه المحصل ليكون عدلًا، أو قاضيًا، أو وكيلًا، أو مدرسًا، أو حقوقيًّا"[7].

إن التركيز في تعليمنا على فقه العبادات على حساب فقه المعاملات بجميع فروعه، هو الذي أنتج طلبةً لا يُحسِنون التعامل مع واقعهم ومستجدَّاته؛ لأنهم لم يَأْلَفوا الاحتكاك مع النوازل والأقضية الجديدة، ويتدربوا على فهم الأدلة وتدبُّرها، واستنباط الأحكام والتشريعات منها، بل اعتادوا التعامل مع المعرفة الجاهزة، التي يقدمها الأستاذ/ الفقيه، في قوالب جاهزة؛ ليتم ترديدها من قِبَلِهم أثناء حِصص الدرس، وخلال الامتحانات.
 
"لقد أصبحتْ علوم الإسلام تعاني من انفصام واضح؛ بحيث ضعفت العَلاقة بين جل أبواب الفقه والواقع المعيش، إلى درجة تقلَّصت معها الدراسات الفقهية، فصارت محصورةً في باب الأحوال الشخصية، والمواريث والعبادات! وهي مجالات أقرب ما تكون إلى الحياة الفردية منها إلى حياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"[8].
والذي يربط الصلةَ بهذه الميادين جميعها، هو فقه المعاملات؛ لأنه مرتبطٌ مباشرة بالاقتصاد المعاصر، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم الطبيعية والطبية، وعلم السياسة، وغيرها من العلوم العقلية الحديثة.
 
لا بد إذًا من ربط الفقه بالواقع، وربطه كذلك بجانبه العالَمي، عن طريق رفع الحصار عن المعرفة الفقهية؛ بالتالي لا ينبغي التركيز بذلك الشكل الكبير على فقه العبادات، الذي من المفروض أن الطالب قد حصل على الحد الأدنى منه خلال مراحله التعلمية ما قبل الجامعة، وهذا لا يعني تجاوُز (فقه العبادات) بشكل مطلقٍ داخل الجامعات، بل ينبغي أن يحتلَّ جزءًا من المحتوى الفقهي، مع مزيدٍ من التعمق في جزئياته.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.



[1] "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي"؛ الحجوي الثعالبي (ت 1376هـ)، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 2012م، اعتنى به هيثم خليفة طعيمي، ج1/ ص: 18.


[2] نحو مجتمع إسلامي؛ سيد قطب، دار الشروق - القاهرة، ط 10/ 1993م، ص: 52.


[3] "القراءات المعاصرة والفقه الإسلامي، مقدمات في الخطاب والمنهج"؛ عبدالواحد الشلفي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ط1 / 2013م، ص: 303.


[4] "الموافقات"؛ الإمام الشاطبي، إبراهيم بن موسى اللخمي (أبو إسحاق)، (ت 790هـ)؛ دار الحديث القاهرة، تحقيق الشيخ: عبدالله دراز ،2006م، ج1/ص: 472.


[5] المرجع السابق نفسه، ص: 479.


[6] "أليس الصبح بقريب؟"؛ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، ط3/2010م، ص: 179.


[7] المرجع السابق نفسه، ص: 212.


[8] "مشكلة إنتاج المعرفة أم مشكلة تفعيلها"؛ د.
عبدالمجيد الصغير، مجلة الواضحة، إصدار دار الحديث الحسنية بالرباط، العدد5 / 2009م، ص: 372.

شارك الخبر

المرئيات-١