خطب ومحاضرات
عندما يختل الأمن
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي جعل الأمن والأمان والطمأنينة للمؤمنين، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] الحمد لله الذي جعل الخوف والذلة والصغار على الكافرين والمنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
معاشر المؤمنين: كان الحديث في الجمعة الماضية عن الأمن وحاجة الأمة إليه، وعن حال أمةٍ من الأمم إذا فقدت الأمن ليلةً أو يوماً من أيامها، وأعظم درجات الأمن: الأمن في الدين .. الأمن على الملة .. الأمن على الشريعة .. الأمن على العبادة، ولأجل ذلك امتن الله جل وعلا على بني إسرائيل يوم أن نجاهم من كيد فرعون وبطشه ومكره، فما كانوا يأمنون على دينهم وأنفسهم، وخذوا مثالاً مما ورد في القرآن على أمةٍ من الأمم لم تجد أمناً في دينها، قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ [يونس:83] لم يجدوا حريةً يستطيعون بها أن يتقدموا بخطىً ثابتةٍ ربيطة الجأش إلى اعتناق هذا الدين، لأجل ذا ما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوف ووجل، وعلى رهبة أن يكتشف فرعون أمرهم فيقتلهم، ولأجل ذلك كانت أوامر الطاغية وأوامر المستبد فرعون أن قال: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [غافر:25] وكانت منةً من الله أن نجا المستضعفين من كيد فرعون وبأسه: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] لقد كان البلاء بتلك الأمة على زمن ذلك الطاغية يجسد صورةً من حالٍ صعبة شديدة يوم أن لم يجد القوم أمناً يأمنون به، فما تجرأ إلا قليلٌ منهم أن يؤمنوا على خوفٍ من الطاغية وملئه، لقد كانت معاناةً صعبة، بل إن ذلك البلاء عاد بأثرٍ رجعي حتى على الأطفال، وحتى على الأجنة، فبات فرعون يقتل أطفال بني إسرائيل عاماً، ويستحي بعضهم عاماً؛ حتى لا تفنى السخرة والخدمة لأجل خدمته وحاجته، ويقتلهم عاماً آخر خشية أن يكون النبي الموعود به من بينهم، أي أمنٍ عاشه أولئك القوم، ولكن لما منَّ الله عليهم وبعث لهم موسى، ورفع به الظلم والضيم عنهم ما كان من بني إسرائيل بعد تلك النعم إلا العناد والمكابرة والإصرار على الضلالة.
أيها الأحبة: لما كانت قضية الأمن في الدين مهمة، جاءت الشريعة بحفظها وتحقيقها، ولأجل ذا كانت من أعظم مهمات الوالي أو الحاكم أو الإمام، كما نص على ذلك الماوردي رحمه الله في الأحكام السلطانية، قال: إن من أوجب واجبات الحاكم والإمام أن يحفظ الدين والملة على أصولها، فلا يأذن ببدعة، ولا يسمح بما يخالف الشريعة، أو يقدح في أصول العقيدة، هذا من كلامه أو بمعناه.
حال الأمن عند المسلمين في الاتحاد السوفيتي
أخبرنا عددٌ كثيرٌ بل متواتر ممن ذهبوا إلى كازخستان وطاشقند وتركستان، وكثيرٍ من بلاد الاتحاد السوفيتي سابقاً قالوا: وجدنا أمةً مسلمة، ووجدنا عدداً من المسلمين حفظوا القرآن، هل حفظوه في المساجد؟ ليس ثمة مساجد، هل حفظوه في حلق الذكر؟ ليس ثمة حلقة ذكر، فأين حفظوا وأين درسوا اللغة؟ حفظوه في الأقبية وتحت السراديب يقف واحدٌ على فتحةٍ فوق سطح الأرض من فوقها سجادٌ أو خشبٌ أو لوح كأن ليس تحت الأرض شيء، واثنان أو ثلاثة تحت الأرض يقرءون القرآن ويحفظون الآيات ويتدارسون الحديث. هذا دينٌ محفوظ، هذه ملةٌ ماضية: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، (ليتمن هذا الأمر حتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا حجر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل).
نعم -أيها الأحبة- تلك صورةٌ من صور الخوف على الدين، وعدم الأمن لأولئك الذين أرادوا أن يتمسكوا، وفي المقابل عبرةٌ لنا يوم أن نجد أمة من وجد القرآن عندها فحكمه الإعدام، ومن وجد متلبساً بحلقة أو دراسةٍ شرعية فحكمه الإعدام، وما حول ذلك فحكمه السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة.
نعم. ما كان هذا الكلام في زمن موسى وفرعون، بل في هذا الزمن القريب، ومع هذا كله ما نفع روسيا رءوسها ولا طائراتها ولا قنابلها: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الحشر:2] ما كنا نظن، بل إن كثيراً ما كانوا يظنون بسقوط روسيا فضلاً عن غيرها: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2] ظن الروس أن (kjb) أن المخابرات، أن الرءوس النووية، أن عابرات القارات، أن الطائرات، أن أجهزت التصنت، أن كل وسائل ملاحقةٍ أمنية لجريمةٍ أو غيرها ستحفظ هذا الكيان من السقوط: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2] لقد كانت الرادارات حوامة حول حدود تلك القارة، فإذ بالقنبلة تنفجر من تحت صنم لينين، إذ بالهاوية تنفجر من تحت تمثال تروتسكي وفردريك إنجلد وطغاة الشيوعية الذين ذبحوا وعاثوا خلال الديار وقتلوا تقتيلاً.
الأمن في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم
لقد ابتلي بهذا الأمن حتى الصحابة رضوان الله عليهم.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أخرجه البخاري.
جاء خباب وكان النبي صلى الله عليه وسلم متوسداً بردةً في ظل الكعبة، فجاء خباب وكشف عن ظهره ليري رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الكي، نفطات من قيح ودمٍ وصديد على جلده، كانت سيدته تعذبه ويشكو إلى رسول الله ما لقي، فقال له صلى الله عليه وسلم هذا: (كان الرجل قبلكم يحفر له في الأرض، فينشر بالمنشار فيشق باثنتين ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) بل لقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: يا رسول الله! أحدنا لا ينام إلا وسلاحه تحت رأسه، لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، متى نأمن؟ متى نصر الله؟: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
أيها الأحبة: لقد مس النبي وأصحابه البأساء والضراء وزلزلوا زلزالاً شديداً، كانوا على خوف في أمر دينهم، مكثوا زمناً في مكة لا يصلون إلا خفية، ولا يلتقون إلا خفية حتى أعز الله دينه بـالفاروق، بالإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب ، فلما آمن واعتز بإيمانه الدين ذهب إلى قريش وقال: [يا معشر قريش! أما تعلمون أني آمنت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال
أمة الإسلام وخير البرية عاشوا صوراً من الخوف على دينهم وعلى معتقدهم وعلى ملتهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويرفع يديه في غزوة بدر ويلح على الله حتى سقط رداؤه عن عاتقه، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول له: (يا رسول الله! كفاك منشادتك ربك، إن الله منجزك ما وعدك، والرسول يقول والدمع يتحدر على وجنيته الشريفة: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم أبداً).
يا عباد الله: الأمن على الدين .. الأمن على العبادة .. الأمن على الملة .. الأمن على الصلاة .. الأمن على العقيدة من أعظم صور الأمن ودرجات الأمن، فحافظوا على ذلك وانتبهوا إليه.
أيها الأحبة: وإن شئتم نقلةً يسيرة إلى زمننا وواقعنا المعاصر، انظروا حال إخواننا في الاتحاد السوفيتي ، في روسيا وقد جثمت الشيوعية بكلكلها على صدور المسلمين في تلك البلاد اثنين وسبعين عاماً، حتى ظن الظانون أنه لم يبق أحدٌ يعرف لا إله إلا الله، أو يعرف الفاتحة، أو آيةً من كلام الله، أو حديثاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] لما تكفل الله بحفظ هذا الذكر وضمن طائفة منصورة على الحق إلى يوم القيامة منتشرةً في أصقاع المعمورة جعل لهذا الدين رجالاً يتربون عليه، وينشئون صغارهم عليه حتى في الأقبية وتحت السراديب.
أخبرنا عددٌ كثيرٌ بل متواتر ممن ذهبوا إلى كازخستان وطاشقند وتركستان، وكثيرٍ من بلاد الاتحاد السوفيتي سابقاً قالوا: وجدنا أمةً مسلمة، ووجدنا عدداً من المسلمين حفظوا القرآن، هل حفظوه في المساجد؟ ليس ثمة مساجد، هل حفظوه في حلق الذكر؟ ليس ثمة حلقة ذكر، فأين حفظوا وأين درسوا اللغة؟ حفظوه في الأقبية وتحت السراديب يقف واحدٌ على فتحةٍ فوق سطح الأرض من فوقها سجادٌ أو خشبٌ أو لوح كأن ليس تحت الأرض شيء، واثنان أو ثلاثة تحت الأرض يقرءون القرآن ويحفظون الآيات ويتدارسون الحديث. هذا دينٌ محفوظ، هذه ملةٌ ماضية: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، (ليتمن هذا الأمر حتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا حجر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل).
نعم -أيها الأحبة- تلك صورةٌ من صور الخوف على الدين، وعدم الأمن لأولئك الذين أرادوا أن يتمسكوا، وفي المقابل عبرةٌ لنا يوم أن نجد أمة من وجد القرآن عندها فحكمه الإعدام، ومن وجد متلبساً بحلقة أو دراسةٍ شرعية فحكمه الإعدام، وما حول ذلك فحكمه السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة.
نعم. ما كان هذا الكلام في زمن موسى وفرعون، بل في هذا الزمن القريب، ومع هذا كله ما نفع روسيا رءوسها ولا طائراتها ولا قنابلها: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الحشر:2] ما كنا نظن، بل إن كثيراً ما كانوا يظنون بسقوط روسيا فضلاً عن غيرها: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2] ظن الروس أن (kjb) أن المخابرات، أن الرءوس النووية، أن عابرات القارات، أن الطائرات، أن أجهزت التصنت، أن كل وسائل ملاحقةٍ أمنية لجريمةٍ أو غيرها ستحفظ هذا الكيان من السقوط: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2] لقد كانت الرادارات حوامة حول حدود تلك القارة، فإذ بالقنبلة تنفجر من تحت صنم لينين، إذ بالهاوية تنفجر من تحت تمثال تروتسكي وفردريك إنجلد وطغاة الشيوعية الذين ذبحوا وعاثوا خلال الديار وقتلوا تقتيلاً.
أيها الأحبة: لقد كان الناس في زمنٍ مضى وإلى يومنا هذا لا يأمنون على دينهم، فإن كنا في أمنٍ على ديننا كما نرى ونشاهد اليوم فلنحمد الله على هذه النعمة، ولنحافظ عليها، وإن الأمة لا تزال بخير ما دامت عزيزةً بدينها، رافعةً رأسها به، مظهرة لشعائرها، لا تخاف في ذلك أحداً أبداً.
لقد ابتلي بهذا الأمن حتى الصحابة رضوان الله عليهم.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أخرجه البخاري.
جاء خباب وكان النبي صلى الله عليه وسلم متوسداً بردةً في ظل الكعبة، فجاء خباب وكشف عن ظهره ليري رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الكي، نفطات من قيح ودمٍ وصديد على جلده، كانت سيدته تعذبه ويشكو إلى رسول الله ما لقي، فقال له صلى الله عليه وسلم هذا: (كان الرجل قبلكم يحفر له في الأرض، فينشر بالمنشار فيشق باثنتين ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) بل لقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: يا رسول الله! أحدنا لا ينام إلا وسلاحه تحت رأسه، لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، متى نأمن؟ متى نصر الله؟: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
أيها الأحبة: لقد مس النبي وأصحابه البأساء والضراء وزلزلوا زلزالاً شديداً، كانوا على خوف في أمر دينهم، مكثوا زمناً في مكة لا يصلون إلا خفية، ولا يلتقون إلا خفية حتى أعز الله دينه بـالفاروق، بالإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب ، فلما آمن واعتز بإيمانه الدين ذهب إلى قريش وقال: [يا معشر قريش! أما تعلمون أني آمنت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال
أمة الإسلام وخير البرية عاشوا صوراً من الخوف على دينهم وعلى معتقدهم وعلى ملتهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويرفع يديه في غزوة بدر ويلح على الله حتى سقط رداؤه عن عاتقه، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول له: (يا رسول الله! كفاك منشادتك ربك، إن الله منجزك ما وعدك، والرسول يقول والدمع يتحدر على وجنيته الشريفة: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم أبداً).
يا عباد الله: الأمن على الدين .. الأمن على العبادة .. الأمن على الملة .. الأمن على الصلاة .. الأمن على العقيدة من أعظم صور الأمن ودرجات الأمن، فحافظوا على ذلك وانتبهوا إليه.
ثم اعلموا -أيها الأحبة- أن الأمن على النفوس من ثمرات الأمن أيضاً، بل إن الشريعة جاءت بحفظ هذا، لذا حرم الله قتل النفوس وإزهاقها: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151] وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، المهلكات، القاذفات بصاحبها في النار، وذكر منها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) رواه البخاري ومسلم .
إن دم المؤمن عظيمٌ خطير جليل، قال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم) رواه النسائي والترمذي والحديث حسن.
أيها الأحبة: بل أعظم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة، فنظر إليها نظرة الإكبار والإجلال وتعظيم شعائر الله فقال: (ما أطيبكِ وما أطيب ريحكِ! وما أعظمكِ وما أعظم حرمتكِ! والذي نفس محمدٍ بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتكِ) أخرجه ابن ماجة.
أيها الأحبة: إذا كان هذا شأن دم المؤمن وشأن روحه ونفسه، فتخيلوا أمةً لا أمن فيها، كم من طلقةٍ عشواء على صدرٍ بريء! وكم من سهمٍ طائش على مقلةٍ بريئة! وكم من دمٍ يراق! وكم من جرحٍ ينـزف! وكم من قتلى ومشردين ليس لهم ذنبٌ ولا جريرة!
أيها الأحبة: ما ظنكم لو أننا عشنا بلا حاكم أو إمام، من الذي يقتص من القاتل؟
من الذي يقوم بالقود لأولياء المقتول؟
من الذي يجيء بالقاتل قد غطيت عيناه وغلت يده إلى كتفه، ثم يجثم به في ساحة العدل وتُسلط إليه فوهة البندقية، أو يسل السيف على رأسه ثم يضرب ضربةً يتدحرج رأسه بعدها والناس ينظرون، وهول المشهد وفجاعة المنظر تقول لكل نفسٍ شاهدة، ولكل أذنٌ سامعة: إن هذا جزاء من اعتدى على دمٍ مسلمٍ أو حرمة ماله ونفسه، أين سيوجد هذا؟ وأين سيكون هذا لو اختل الأمن؟ على مشهدٍ وعلى ملأ في ساحة عدلٍ أمام الناس، هل يوجد هذا عند الأنظمة القانونية؟
محامٍ بارع يجعل القاتل بريئاً، ويجعل البريء متهماً، ويحول القصاص إلى حكم بخمس سنوات، أو بعشرة آلاف من الجنيهات أو الدولارات أو الريالات أو غير ذلك، سم ما شئت من عملة، المهم أنه إن لم يوجد إمام وحاكم تهابه الأمة، إن لم يوجد علماء لهم سلطة على العامة والرعاع، إن لم يوجد قضاة يشتركون في مجالس مشتركة، فيكونون مؤتمنين على كل قطرة دمٍ يحكمون بها ولها وعليها على كل جارحةٍ يقتصون منها فيما اعتدت ضاعت الأمة، لا يوجد قصاصٌ ولا محكمةٌ ولا أمنٌ حينما يختل الأمن ولا ينضبط الناس بإمام أو حاكمٍ:
لا يصلح فوضى لا سراة لهـم ولا تراث إذا جهالهم سادوا |
تبقى الأمور بأهل الخير ما صلحت وإن تضل فبالأشرار تنقاد |
اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارنا يا رب العالمين.
أيها الأحبة: وحينما يوجد الأمن فالناس يأمنون على دينهم وأنفسهم ودمائهم، ويأمنون على أموالهم، ولأجل ذلك حرم الله السرقة، وجعل حد السارق أن تقطع يده، يقول الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38] تلك اليد العابثة، تلك اليد المختلسة التي فتحت باباً، أو حفرت جداراً لابد من قطعها، لا بد أن يأمن الناس على أموالهم وأمتعتهم، وحينما لا يوجد إمام ولا حاكم، وحينما تضطرب الأمور فلا تدري أمةٌ هل تدافع أعداءها على حدودها في الخارج أم تحفظ أمنها في الداخل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة؟
أيها الأحبة: هذا من الأمور التي ينبغي أن يفهمها الكبار والصغار والشباب خاصة، وجيل الصحوة على وجه الأخص، حتى نحفظ المجتمع ونبني أسسه، ونقيم جدرانه بطريقةٍ تحفظ كيانه، ولا تهدم بأي حالٍ من الأحوال أركانه.
أيها الأحبة: إن مسألة الأمن على الأموال مسألة مهمة، نعم. في القرآن حد السرقة، وفي الحديث حدودٌ أخرى، لكن إذا لم يوجد إمامٌ يقيمها ويقوم بها فمن ذا الذي يقيمها؟ من ذا الذي يحكمها؟ إن القرآن موجود في كل الدول العربية والكافرة والإسلامية وغير الإسلامية، لكن من الذي يقتل القاتل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] من الذي يقوم بهذه الحدود؟
لا يظن ظانٌ أو يتوهم متوهمٌ أن ذلك لا يكون إلا في أمة لا منكر فيها، لا كبيرة فيها، لا معصية فيها، بل إن هذا كله يقام بحمدٍ من الله ومنة على الرغم من وجود بعض المنكرات، والكبائر والمعاصي شأنها أن يواجهها العلماء والولاة والدعاة بالإنكار وتحذير الناس منها، حتى لا يقولن قائلٌ: هذا كلامٌ جميل في غير محله، إذ أن ذلك لا يكون إلا في مجتمعٍ معصوم، أو في مجتمعٍ لا توجد فيه الكبائر والصغائر، لا وألف لا. من خللٍ بالفهم أُتينا، من انتكاسٍ بالمفاهيم أُتينا، وإذا اختل الأمن فلا أمن على دينٍ أو معتقدٍ أو مالٍ أو نفسٍ ولا مالٍ أيضاً، لا أمن على الأموال لو اضطربت أحوال الناس في أمنهم، افترض -جدلاً- أن أحوال الناس في يومٍ من الأيام اختلت فجاء غاشمٌ وضالٌ وأحرق سجلاتٍ جمعت وثائق الناس وأملاكها، أصبح الناس يملكون وثائق لا قيمة لها، إذا لم يوجد لدى الوالي والسلطان أو نواب الإمام ما يصدق توثيق هذه الوثائق والصكوك التي في أيديهم.
لو اختل الأمن لجاءك من يخرجك غداً من بيتك بصكٍ عليه ختمٌ مزور، وقال: هذا بيتي، فإذا ذهبت لتنازعه أو تحاكمه أو تجادله ما وجدت سجلاً ترجع إليه لتعرف أن ذلك لك أو له أو أن هذا أصليٌ أو مزور.
ولذا جاءت الشريعة مع العناية بالأمن الديني، وإقامة الأمن في النفوس قبل إقامته على الأرض والمباني، جاءت الشريعة بحفظ حقوق العباد، لا يظن أحد أن شأن الأموال هين، الأموال من غَلَّها جاء يوم القيامة بما غل، من اختلس من بيت المال جاء يوم القيامة بما اختلس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتينا يوم القيامة وعلى كتفه شاة تيعر، أو بقرةٌ لها خوار، أو بعيرٌ له رغاء، من غل يأتي بما غل يوم القيامة) أرض .. سجادة .. بساط .. سيارة .. قليل كثير، خذ واستكثر مما شئت، إنما الحساب بين يدي رب العالمين، يوم تبسط السجلات والصحائف ويوضع كتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] الأموال ليست هينة، لأجل ذلك افترض الله فيها الزكاة، وأثنى الله على الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، وأثنى الله على من تصدق ولم يتبع صدقته مناً ولا أذى، وجاءت الآيات بحفظ الحقوق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] إذا قرأت في المحكمة لوحةً تقول: كُتاب العدل، أو كاتب العدل، فذلك تنفيذٌ لهذا المضمون: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] آياتٍ بينات في التوثيق، في الكتابة، ولا يأب الشهداء في الشهادة، سرهم: وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283].
أيها الأحبة: شأن الأموال عظيم، فإذا اختل الأمن فما تدري أين سيكون مالك، في بيت فلان أو علان، أو عند ظالمٍ أو لصٍ أو قاطع طريق.
أيها الأحبة: لو اختل الأمن، من الذي يحفظ حقوق الناس؟ من الذي يرد للناس أموالهم؟ من الذي ينصف المظلوم من الظالم؟ من الذي يرد المغصوب إلى صاحبه، ويردع الغاصب عن أموال الناس؟ ولو اختل الأمن لنشرت وأبيحت وظهرت وروجت ألوانٌ من الأمور التي تضلل على العقول والأموال.
إننا هنا نجوب هذه المدينة، ونجوب هذه الجزيرة ، ما رأينا -بحمد الله- دكاناً يباع فيه الخمر، وما رأينا حانوتاً يباع فيه ما يسمى بالشراب الروحي، وما رأينا حانةً أو ماخوراً للدعارة، نعم. يوجد من يشرب الخمر سراً متستراً: (من رأى منكم منكراً) إنما الأمة محاسبةٌ على ما رأت، محاسبةٌ على ما ظهر، محاسبةٌ على ما فشا، أما من عصى الله سراً بينه وبين نفسه لا يعلم الناس به فذلك ذنبه على أم رأسه؛ لأن المعصية إذا اختص بها صاحبها نزل البلاء على أم رأسه، ولكن إذا ظهرت عم البلاء والشؤم بها من حولها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
أيها الأحبة: حرم الله جل وعلا كل مسكرٍ وكل خمرٍ وكل قمار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر) رواه الحاكم وصحح سنده. وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال، قيل: وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار) عصارة أهل جهنم.
أيها الأحبة: أنتم مع ما ترون من تشديدٍ أمني أو جهود أمنية ترون وجود من يتعاطون المخدرات ويتبايعونها ويروجونها ويهربونها وينشرونها، بل وربما فدَّى أحدهم ذلك بنفسه وروحه، وأطلق النار على رجال الأمن، ويعلم أن النار سوف ترتد على صدره من فوهة أسلحتهم، هذا مع وجود أمنٍ وشرطةٍ ونظام، فما بالك لو اختل هذا؟! والله لو اختل الأمن لوجدت الخمور في الأزقة، ولوجدت المخدرات في العرصات، ولوجدت الفساد والمنكر أشد ما يكون علناً جهاراً نهاراً، وكلٌ يحمي فساده بسلاحه، وكل عصابة تحمي فسادها ومنكرها وخمرها ومخدراتها بقوة سلاحها.
إذاً: انضباط الناس وبقاؤهم في ظل أمنٍ آمن، وطمأنينة مطمئنة وظلٍ وارفٍ وادع يحفظ هذا كله، وحينما يختل الأمن أيضاً فلا تسل عن جرأة المغتصبين على فرش الناس ودورهم، وكم سمعنا في كل بلدٍ، وقد سمعنا حالاتٍ بفضل الله أندر من النادرة عن أناسٍ اغتصبوا أو اختطفوا، ولكن هذا مع وجود سلطةٍ ربما قتلت وأعدمت وأزهقت الروح وسفكت الدم مقابل جريمة الاختطاف والاغتصاب، وربما رجمت وجلدت وغرَّبت حال الزنا، فما بالك لو أن الأمر أصبح هملاً، وأصبح الناس كلٌ يذود عن نفسه بقدرته أو بعصوبته أو بقبيلته أو ببني عمه؛ لعاش الناس شريعة الذئاب والغاب، كلٌ يعدو على من دونه، وكبار الأسماك تأكل صغارها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن الله جل وعلا قد جعل في هذا القرآن وعلَّق برقبة الإمام تحكيمه في كل أمرٍ ومن بين هذه الأمور أن تحفظ الأنساب وأن تقام الحدود على الزناة، وعلى من تعدى على بيوت الناس وعوراتهم وأستارهم، قال جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] حرم الله جل وعلا الطريق الذي يوصل إلى ذلك، فقال: (ولا تقربوا) وشرع أن يجلد الزاني إن كان بكراً ويُغرب، وشرع المحصن أن يرجم بالحجارة حتى يموت، ونفَّذ صلى الله عليه وسلم حد الرجم بنفسه على مشهدٍ من الصحابة وقد تعجبوا من هذا ولله فيه حكمة، ولعل منها حتى لا يقولن قائلٌ: أيرجم حيٌ بالحجارة حتى الموت؟ هذا من باب التخويف، لكنه وإن تصور عقلاً فإنه ممتنعٌ فعلاً، الجواب: لا. بل لقد فعله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون قصة المرأة التي جاءت قالت: (يا رسول الله! إني حبلى من الزنا فطهرني، فأعرض عنها، فأقبلت عليه من كل جهة، قال: اذهبي حتى تضعي جنينكِ، فجاءت بالجنين، قالت: وضعت فطهرني، فقال: اذهبي حتى تفطميه -تعريضٌ لها أن تستر على نفسها، وأن تولي ولا تعود- فجاءت وفي فم الصغير الرضيع كسرة خبزٍ دلالة على أنه استغنى بالطعام عن الرضاع، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم وليدها إلى أحد الصحابة يكفله، وأُمر بها فشدت عليها ثيابها وحفرت لها حفرة وجمعت الحجارة فرجمت رضي الله عنها -فلما نال أحد الصحابة بكلمةٍ يوم أن طاش شيءٌٌ من مخها أو دماغ رأسها على ثوبه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) شهادة .. كرامة .. إيمان .. ودرجة عالية يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، يبشرها النبي أن الله قد تاب عليها، الله أكبر! بل ليست توبةً بحجم ذنبها، بل بحجم ذنب أهل المدينة كلهم جميعاً.
ومثل ذلك فعل بـماعز رضي الله عنه لما رجم بعد أن أعرض النبي عنه صلى الله عليه وسلم يردده: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، لعلك مسست، وما زال ماعز رضي الله عنه يردد بكل حرقةٍ وشوقٍ إلى أن يطهر بدنه. قال ابن القيم : ولله حكمة أن البدن الذي تلذذ بجميع أجزائه حال المعصية -فإن العقوبة من جنس العمل- أن يقع العذاب على سائر أجزاء البدن. والله عليم حكيم، وكان من شأن توبته ما كان.
إذاً، جاءت الشريعة بهذا، وقبل سنين ليست قصيرة في هذا العصر ربما قبل ثلاثين سنة تزيد قليلاً، كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قاضياً، وجيء بامرأةٍ مؤمنةٍ طاهرة تائبة معترفةً بما حصل منها، ولما ثبت عليها الحد الشرعي جيء بها ووقف الشيخ متع الله به، أو وقف والناس يرمونها بالحجارة، ثم مكث متع الله به ساعةً يدعو لها، يقول لي؛ هذا رجلٌ كبيرٌ في السن ممن يعرفون سماحة الشيخ، قال: كانوا يرجمونها والشيخ يدعو لها بالمغفرة والتوبة ويدعو لها بالجنة، ولما حملت مكث متع الله به وجمعنا به في الجنة وغفر له، مكث يدعو لها حتى تفرق الناس ولا زال يدعو لها، حتى قال بعض من له علاقة بها: لفرحتنا بدعاء الشيخ لها على ما كان من إقبالها، وبذلها نفسها لله كان شيئاً كثيراً عظيماً.
أيها الأحبة: نعود إلى أصل موضوعنا، لو اختل الأمن لا تسأل عن حال الناس في باب الزنا، وأنتم ترون مع تعدد وسائل الاتصال والاختلاط، فيا دعاة الاختلاط! والله لو خلي بينكم وبين ما تشتهون في هذا المجتمع لما تركتم صغيرةً ولا كبيرةً إلا عملتموها ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أيضاً مما يضمن هذا الأمن ألا يتعدى أحدٌ ولو بكلمة على آخر، فمن قذف مؤمنةً أو مؤمناً فعليه حد القذف: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23] وقال صلى الله عليه وسلم الله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
أيها الأحبة: ومن ذا الذي يمنع أحداً من أن يظلم أحداً أو يضربه أو يمد يده عليه ولو بلطمةٍ أو لكمةٍ أو قليلٍ أو كثير، جاء الوازع في النفوس قبل القانون والنظام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
ومع ذلك فإن من سبك أو شتمك فأثبت هذا ببينة -بشاهدي عدل- ثم عليك بالمحكمة المستعجلة إن أبيت إلا أن يقام عليه العقوبة الشرعية ولم ترغب في العفو عنه، أما إن رغبت أن تكون من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فالله يحب المحسنين، وإن رغبت أن تتمثل بقول الله: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] فلك ذلك، وأنت حينئذٍ منعمٌ متفضلٌ على هذا بذلك، لقد حرم الله هذا الظلم في كل قليلٍ أو كثيرٍ أو قطميرٍ أو صغير، بل إن الله جل وعلا قال كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، (والظلم ظلمات يوم القيامة) كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري عن ابن عمر ، بل نهى الحكام والولاة والأمراء ومن تولى سلطةً أن يظلم: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) أخرجه البخاري ومسلم .
هذا الشرع العظيم قد منع الظلم من كل صغيرٍ وكبير، ولو حصل من أحدٍ ظلماً، لو حصل من الوالي أو الأمير أو الحاكم ظلماً فإن ذلك لا يسوغ الخروج عليه، ولا يأذن بخلع بيعته، ولا تأليب الناس ضده، ولا جمع السلاح لحربه، ولا استباحة عرضه، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (أدوا الذي لهم وسلوا الله الذي لكم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2803 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2665 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2653 استماع |
توديع العام المنصرم | 2648 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2553 استماع |
من هنا نبدأ | 2496 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2462 استماع |
أنواع الجلساء | 2461 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2438 استماع |
إلى الله المشتكى | 2437 استماع |