شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا؛ فنضل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومكروه وهو ضد المندوب: ما يقتضي تركه الثواب، ولا عقاب على فعله، كالمنهي عنه نهي تنزيه. ومباح والجائز والحلال بمعناه، وهو ما لا يتعلق بفعله أو تركه ثواب ولا عقاب. وقد اختلف في حكم الأعيان المنتفع بها قبل الشرع، فعند أبي الخطاب و التميمي الإباحة كـأبي حنيفة ، فلذلك أنكر بعض المعتزلة شرعيته، وعند القاضي و ابن حامد وبعض المعتزلة الحظر، وتوقف الخرزي والأكثرون ].

هنا خطأ في النسخة قال: (الخرزي)، وهو الجزري أحمد بن نصر البغدادي .

تعريف المكروه

قول المؤلف رحمه الله: (ومكروه)، هذا هو الأمر الرابع من الأحكام التكليفية، وهو المكروه، والمكروه في اللغة: مكروه مبغوض، وفي الاصطلاح: ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم، وقوله: ما طلب الشارع تركه، يخرج بذلك الواجب والمستحب والمباح.

وقوله: (طلباً غير جازم)، يخرج بذلك المحرم، والمحرم من إطلاقاته أيضاً المحظور والممنوع.

يقول المؤلف: (وهو ضد المندوب)، التضاد ما معناه؟ هو ألا يجتمعا ويمكن أن يرتفعا.

يقول: (ما يقتضي تركه الثواب، ولا عقاب على فعله)، وهذا تعريف بالحكم، وقلنا: إن هذا الأمر على سبيل الأفراد، وأما من داوم على فعل المكروه؛ فإن مآله في الغالب إلى مواقعة المحظور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )، قال العلماء في حديث النعمان ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، قالوا في بعض تعريفه، كما ذكر ذلك الشوكاني قال: من ذلك المكروه، فإنه ترجح تركه، ولم يدل دليل على تحريمه، يعني وقوع العقاب ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )، رعيه حول الحمى، هل وقع في الممنوع؟ لا، يوشك أن يرتع فيه، فتجد أن الدابة تدخل، فتجد أن الهوى يدخل، ثم إن فتوره وغير ذلك من عوارض النفس ربما يجعل الإنسان يقع.

ولهذا قال الشاطبي : كثرة الوقوع في المكروه؛ توقع الإنسان في المحرم، ولهذا كان يكره السلف العارفون أن يقعوا في المكروه.

المراد بالمكروه عند إطلاق الشرع له

المكروه إطلاقه في الشرع لم يرد بمعنى يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. كل ما رأيت في القرآن أو السنة من لفظ المكروه؛ فليس المراد به المكروه على اصطلاح الفقهاء، بل المراد به المحرم تحريماً غير شديد، يعني: ليس من الكبائر، وإذا أطلق لفظ الحرام في الكتاب والسنة؛ فهو كبيرة من كبائر الذنوب، هذا في الأعم الأغلب، إن لم يكن قاعدة مستمرة، ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات )، المنع يعني منع الزكاة وهي كبيرة، ووأد البنات كبيرة، وعقوق الأمهات كبيرة، وكل هذه الأشياء قد توعد صاحبها بلعنة أو غضب أو نار، وهذا هو تعريف الكبيرة كما يقوله ابن عباس و الثوري و أحمد بن حنبل، وأشار إلى ذلك الغزالي وغيرهم.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، فليس المراد بالمكروه هنا، كما ذكر بعض العلماء: أنه هو الذي يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله، والراجح: أن المكروه هنا هو المحرم تحريماً غير شديد، لأن كثرة سؤال المخلوق يقول عنها ابن تيمية : الأصل أن سؤال المخلوق محرم، هذا في الأصل، كذلك إضاعة المال إسراف، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:26-27]، ( كل واشرب والبس من غير سرف ولا مخيلة )، وقوله: (وقيل وقال)، هو الذي يتحدث من غير تؤدة وتأني في الأمور، فربما وقع في الغيبة والنميمة.

ومن أمثلة المكروه: النهي عن الشرب قائماً، إن صح الحديث، فإن الأثرم نقل عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصح حديث في النهي عن الشرب قائماً، وأما حديث أنس عند مسلم : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً قال: فالأكل، قال: أشد ، ومن أكل أو شرب ناسياً فليستقيء )، هذا الحديث رواه مسلم ، وفي سنده عمر بن حمزة ضعفه الإمام أحمد و يحيى بن معين ، وقال الأثرم نقلاً عن الإمام أحمد : لا يصح في الباب شيء، وأصح شيء في الباب: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً عند ماء زمزم )، كما رواه البخاري و مسلم من حديث علي بن أبي طالب ، وكالنوم على غير طهارة مكروه، وكالنفخ في الإناء مكروه.

يقول المؤلف: (وهو ضد المندوب)، وذلك لأن المندوب: هو المأمور به من غير جزم في أمره.

يقول المؤلف: (ما يقتضي تركه الثواب، ولا عقاب على فعله)، هذا تعريف، وقد ذكرنا التعريف الآخر وهو الأقرب، وأن هذا إنما هو مكروه بمعنى حكمه.

يقول المؤلف ممثلاً على ذلك: (كالمنهي عنه نهي تنزيه)، أولاً: قول المؤلف: ما نهي عنه نهياً غير جازم، نحن نعرف أن الغالب في إطلاقات الشرع: أنه يطلق النهي من غير بيان، هل هو للجزم أم لا؟ لكننا إذا بحثنا عن مجموع طرق الحديث، أو الصوارف؛ وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أو قال بخلافه، فنفهم من النهي هنا أنه نهي غير جازم.

مثال: الشرب قائماً على فرض صحة الحديث، تصحيح مسلم له وغيره من المتأخرين، الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، وجاءنا حديث: ( شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً )، فهذا يدل على خلاف المنهي وكل فعل أو قول خالف المنهي؛ أفادنا أمرين:

الأمر الأول: أن المنهي غير محرم، الثاني: أن هذا الفعل الذي خالف المنهي، إن كان لحاجة؛ لم يكن على الفاعل المخالف للمنهي كراهة ولا تحريم، وإن كان من غير حاجة؛ وقع في الكراهة.

وكلمة (حاجة)، حاجة للمرء، وحاجة لبيان الحكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يفعل خلاف المكروه؛ لبيان الجواز لا التحريم، فيثاب على هذا الأمر من وجه آخر، ولا يقع في المكروه.

يقول المؤلف: (كالمنهي عنه نهي تنزيه)، المكروه قلنا: إنه اصطلاح متأخر، وإلا فإن الأئمة كالصحابة والتابعين والأئمة الأربعة إذا أطلقوا المكروه؛ أرادوا به المحرم، ولكن من باب التورع لا يطلقون على الحرام إلا المكروه، ولهذا يخطئ كثير من متأخري أصحاب المذاهب، حينما ينقلون عن الشافعي أو عن أحمد مسألة أنه اختلف عن أحمد على قولين، قول بالكراهة والجواز، وقول بالتحريم لماذا؟ لأنه مرةً منعها، ومرةً قال: أكرهها، والكراهة هنا عند أحمد تقتضي التحريم، كما قال رحمه الله: أكره المتعة والصلاة في المقابر، وهذا بلا شك محرم، وقال علماء الحنابلة في كتبهم: ويكره الوضوء في إناء ذهب أو فضة، وقد نقل ابن القيم : إجماع أهل العلم على أن استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب محرم، فكلمة يكره هنا يقصد بها التحريم.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً يصلح ويحسن بطالب العلم أن يراجعه في إعلام الموقعين، في المجلد الأول، في أوائل الكتاب، أشار إلى اصطلاحات الأئمة المتقدمين، وأنهم أحياناً يطلقون المكروه ويريدون به المحرم، وكلمة كراهة تنزيهية، لإخراج التحريم وليس المقصود به التنزه، ولكن المقصود به الكراهة التي لا تصل إلى الوقوع في الممنوع والمحظور.

إطلاقات المكروه

اعلم أخي! أن من إطلاقات المكروه عدة أمور:

الأمر الأول: ترك ما فعله راجح على تركه، قالوا: ومن أمثلة ذلك: ترك المندوب، كترك المستحب، فمن ترك مستحباً؛ فقد وقع في المكروه، هكذا أشار بعض الأصوليين، والقول الثاني هنا: أن ترك المندوب لا يلزم منه الوقوع في المكروه، لأن الكراهة حكم شرعي، لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولا دليل شرعي هنا.

فلو أن إنساناً صلى من غير التسوك، فهل نقول: وقع في المكروه؟ لا، نقول: ترك الأفضل، ووقع في الجواز.

الأمر الثاني من إطلاقات المكروه: يطلق على الذي ثبت النهي عنه، وعلم بدليل آخر أنه غير محرم، وهذا هو الأصل عند المتأخرين.

الأمر الثالث: يطلق على ما فيه شبهة وتردد، ما ندري هل هو محرم أم لا؟ مرةً تقول بالجواز، ومرةً تقول بالتحريم، فتقول: هذا من المكروه؛ لأن التردد هنا بين التحريم وعدمه دليل على أنه ثبت النهي عنه، ولو من غير تصريح.

الأمر الرابع: هو ما فهم منه بأدلة عامة، مثل ما يسميه بعضهم: خلاف الأولى، مثل السواك والإمام يخطب، السواك سنة، لكن حين استماع الإمام ما نستطيع أن نقول: مكروه، نقول: خلاف الأولى، كما أشار إلى ذلك السيوطي ، ويطلق أيضاً عليه أنه مكروه، بعضهم يسميه خلاف الأولى، وبعضهم يسميه مكروهاً، هذه أربعة إطلاقات يتداولها الأئمة.

فإن قال قائل: هل كل خلاف يقال عنه مكروه؟

قلنا: لا، ليس بصحيح، الخلاف ينظر فيه، فإن بان للمجتهد أحد القولين؛ عمل به، وإن تردد؛ قال: الخروج من الخلاف مستحب، فيعمل احتياطاً بالمنع، لكن الاحتياط ليس دليلاً، لأنه قال: الاحتياط تركه، لو قلت: لو فعلته أأثم؟ إن قال: نعم؛ فقد حكم بالتحريم، ولهذا قال ابن تيمية : والاحتياط ليس حكماً تكليفياً، بعض المفتين هداهم الله أكثر فتاويهم الأحوط تركه، يقول: هذا ورع لكنه ليس حكماً، ولهذا إذا أكثر الإنسان من كلمة: الأحوط تركه، إذاً ما بان له مسألة، وليس بفقيه، ولهذا قلنا: من هو الفقيه؟ الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية المستنبطة، أما الظاهرة من الدليل فليس بفقيه، يعرفها العامي، لكن إذا استنبط الحكم الشرعي علمنا أنه فقهه، والله أعلم.

قول المؤلف رحمه الله: (ومكروه)، هذا هو الأمر الرابع من الأحكام التكليفية، وهو المكروه، والمكروه في اللغة: مكروه مبغوض، وفي الاصطلاح: ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم، وقوله: ما طلب الشارع تركه، يخرج بذلك الواجب والمستحب والمباح.

وقوله: (طلباً غير جازم)، يخرج بذلك المحرم، والمحرم من إطلاقاته أيضاً المحظور والممنوع.

يقول المؤلف: (وهو ضد المندوب)، التضاد ما معناه؟ هو ألا يجتمعا ويمكن أن يرتفعا.

يقول: (ما يقتضي تركه الثواب، ولا عقاب على فعله)، وهذا تعريف بالحكم، وقلنا: إن هذا الأمر على سبيل الأفراد، وأما من داوم على فعل المكروه؛ فإن مآله في الغالب إلى مواقعة المحظور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )، قال العلماء في حديث النعمان ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، قالوا في بعض تعريفه، كما ذكر ذلك الشوكاني قال: من ذلك المكروه، فإنه ترجح تركه، ولم يدل دليل على تحريمه، يعني وقوع العقاب ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )، رعيه حول الحمى، هل وقع في الممنوع؟ لا، يوشك أن يرتع فيه، فتجد أن الدابة تدخل، فتجد أن الهوى يدخل، ثم إن فتوره وغير ذلك من عوارض النفس ربما يجعل الإنسان يقع.

ولهذا قال الشاطبي : كثرة الوقوع في المكروه؛ توقع الإنسان في المحرم، ولهذا كان يكره السلف العارفون أن يقعوا في المكروه.

المكروه إطلاقه في الشرع لم يرد بمعنى يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. كل ما رأيت في القرآن أو السنة من لفظ المكروه؛ فليس المراد به المكروه على اصطلاح الفقهاء، بل المراد به المحرم تحريماً غير شديد، يعني: ليس من الكبائر، وإذا أطلق لفظ الحرام في الكتاب والسنة؛ فهو كبيرة من كبائر الذنوب، هذا في الأعم الأغلب، إن لم يكن قاعدة مستمرة، ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات )، المنع يعني منع الزكاة وهي كبيرة، ووأد البنات كبيرة، وعقوق الأمهات كبيرة، وكل هذه الأشياء قد توعد صاحبها بلعنة أو غضب أو نار، وهذا هو تعريف الكبيرة كما يقوله ابن عباس و الثوري و أحمد بن حنبل، وأشار إلى ذلك الغزالي وغيرهم.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، فليس المراد بالمكروه هنا، كما ذكر بعض العلماء: أنه هو الذي يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله، والراجح: أن المكروه هنا هو المحرم تحريماً غير شديد، لأن كثرة سؤال المخلوق يقول عنها ابن تيمية : الأصل أن سؤال المخلوق محرم، هذا في الأصل، كذلك إضاعة المال إسراف، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:26-27]، ( كل واشرب والبس من غير سرف ولا مخيلة )، وقوله: (وقيل وقال)، هو الذي يتحدث من غير تؤدة وتأني في الأمور، فربما وقع في الغيبة والنميمة.

ومن أمثلة المكروه: النهي عن الشرب قائماً، إن صح الحديث، فإن الأثرم نقل عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصح حديث في النهي عن الشرب قائماً، وأما حديث أنس عند مسلم : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً قال: فالأكل، قال: أشد ، ومن أكل أو شرب ناسياً فليستقيء )، هذا الحديث رواه مسلم ، وفي سنده عمر بن حمزة ضعفه الإمام أحمد و يحيى بن معين ، وقال الأثرم نقلاً عن الإمام أحمد : لا يصح في الباب شيء، وأصح شيء في الباب: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً عند ماء زمزم )، كما رواه البخاري و مسلم من حديث علي بن أبي طالب ، وكالنوم على غير طهارة مكروه، وكالنفخ في الإناء مكروه.

يقول المؤلف: (وهو ضد المندوب)، وذلك لأن المندوب: هو المأمور به من غير جزم في أمره.

يقول المؤلف: (ما يقتضي تركه الثواب، ولا عقاب على فعله)، هذا تعريف، وقد ذكرنا التعريف الآخر وهو الأقرب، وأن هذا إنما هو مكروه بمعنى حكمه.

يقول المؤلف ممثلاً على ذلك: (كالمنهي عنه نهي تنزيه)، أولاً: قول المؤلف: ما نهي عنه نهياً غير جازم، نحن نعرف أن الغالب في إطلاقات الشرع: أنه يطلق النهي من غير بيان، هل هو للجزم أم لا؟ لكننا إذا بحثنا عن مجموع طرق الحديث، أو الصوارف؛ وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أو قال بخلافه، فنفهم من النهي هنا أنه نهي غير جازم.

مثال: الشرب قائماً على فرض صحة الحديث، تصحيح مسلم له وغيره من المتأخرين، الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، وجاءنا حديث: ( شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً )، فهذا يدل على خلاف المنهي وكل فعل أو قول خالف المنهي؛ أفادنا أمرين:

الأمر الأول: أن المنهي غير محرم، الثاني: أن هذا الفعل الذي خالف المنهي، إن كان لحاجة؛ لم يكن على الفاعل المخالف للمنهي كراهة ولا تحريم، وإن كان من غير حاجة؛ وقع في الكراهة.

وكلمة (حاجة)، حاجة للمرء، وحاجة لبيان الحكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يفعل خلاف المكروه؛ لبيان الجواز لا التحريم، فيثاب على هذا الأمر من وجه آخر، ولا يقع في المكروه.

يقول المؤلف: (كالمنهي عنه نهي تنزيه)، المكروه قلنا: إنه اصطلاح متأخر، وإلا فإن الأئمة كالصحابة والتابعين والأئمة الأربعة إذا أطلقوا المكروه؛ أرادوا به المحرم، ولكن من باب التورع لا يطلقون على الحرام إلا المكروه، ولهذا يخطئ كثير من متأخري أصحاب المذاهب، حينما ينقلون عن الشافعي أو عن أحمد مسألة أنه اختلف عن أحمد على قولين، قول بالكراهة والجواز، وقول بالتحريم لماذا؟ لأنه مرةً منعها، ومرةً قال: أكرهها، والكراهة هنا عند أحمد تقتضي التحريم، كما قال رحمه الله: أكره المتعة والصلاة في المقابر، وهذا بلا شك محرم، وقال علماء الحنابلة في كتبهم: ويكره الوضوء في إناء ذهب أو فضة، وقد نقل ابن القيم : إجماع أهل العلم على أن استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب محرم، فكلمة يكره هنا يقصد بها التحريم.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً يصلح ويحسن بطالب العلم أن يراجعه في إعلام الموقعين، في المجلد الأول، في أوائل الكتاب، أشار إلى اصطلاحات الأئمة المتقدمين، وأنهم أحياناً يطلقون المكروه ويريدون به المحرم، وكلمة كراهة تنزيهية، لإخراج التحريم وليس المقصود به التنزه، ولكن المقصود به الكراهة التي لا تصل إلى الوقوع في الممنوع والمحظور.

اعلم أخي! أن من إطلاقات المكروه عدة أمور:

الأمر الأول: ترك ما فعله راجح على تركه، قالوا: ومن أمثلة ذلك: ترك المندوب، كترك المستحب، فمن ترك مستحباً؛ فقد وقع في المكروه، هكذا أشار بعض الأصوليين، والقول الثاني هنا: أن ترك المندوب لا يلزم منه الوقوع في المكروه، لأن الكراهة حكم شرعي، لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولا دليل شرعي هنا.

فلو أن إنساناً صلى من غير التسوك، فهل نقول: وقع في المكروه؟ لا، نقول: ترك الأفضل، ووقع في الجواز.

الأمر الثاني من إطلاقات المكروه: يطلق على الذي ثبت النهي عنه، وعلم بدليل آخر أنه غير محرم، وهذا هو الأصل عند المتأخرين.

الأمر الثالث: يطلق على ما فيه شبهة وتردد، ما ندري هل هو محرم أم لا؟ مرةً تقول بالجواز، ومرةً تقول بالتحريم، فتقول: هذا من المكروه؛ لأن التردد هنا بين التحريم وعدمه دليل على أنه ثبت النهي عنه، ولو من غير تصريح.

الأمر الرابع: هو ما فهم منه بأدلة عامة، مثل ما يسميه بعضهم: خلاف الأولى، مثل السواك والإمام يخطب، السواك سنة، لكن حين استماع الإمام ما نستطيع أن نقول: مكروه، نقول: خلاف الأولى، كما أشار إلى ذلك السيوطي ، ويطلق أيضاً عليه أنه مكروه، بعضهم يسميه خلاف الأولى، وبعضهم يسميه مكروهاً، هذه أربعة إطلاقات يتداولها الأئمة.

فإن قال قائل: هل كل خلاف يقال عنه مكروه؟

قلنا: لا، ليس بصحيح، الخلاف ينظر فيه، فإن بان للمجتهد أحد القولين؛ عمل به، وإن تردد؛ قال: الخروج من الخلاف مستحب، فيعمل احتياطاً بالمنع، لكن الاحتياط ليس دليلاً، لأنه قال: الاحتياط تركه، لو قلت: لو فعلته أأثم؟ إن قال: نعم؛ فقد حكم بالتحريم، ولهذا قال ابن تيمية : والاحتياط ليس حكماً تكليفياً، بعض المفتين هداهم الله أكثر فتاويهم الأحوط تركه، يقول: هذا ورع لكنه ليس حكماً، ولهذا إذا أكثر الإنسان من كلمة: الأحوط تركه، إذاً ما بان له مسألة، وليس بفقيه، ولهذا قلنا: من هو الفقيه؟ الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية المستنبطة، أما الظاهرة من الدليل فليس بفقيه، يعرفها العامي، لكن إذا استنبط الحكم الشرعي علمنا أنه فقهه، والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [4] 2260 استماع
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [2] 2103 استماع
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [1] 1678 استماع
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [3] 1486 استماع