خطب ومحاضرات
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
تعريف الحكم
طريقة فهم الحكم من خطاب الشارع
خذ مثالاً آخر: ما جاء عند أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي الغنم في سائمتها )، مفهوم المخالفة أن ليس في الغنم غير السائمة زكاة، فهذا يسمى استنباطاً، وهو من الحكم.
أركان الحكم والمقصود بالشارع
وذكرنا سابقاً أن إطلاق الشارع يراد به الله سبحانه وتعالى، وبعض الأصوليين يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشارع، وقلنا: لا مشاحة في ذلك؛ لأن مقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارع هو في معنى التبليغ عنه، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى الشارع، ومثله قوله: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقبل قوله، وكما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وهذا مثل جبرائيل حينما قال عنه في القرآن إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40].
أحبتي الكرام! وصلنا إلى قول المؤلف في تعريف الحكم: [ أنه قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نطقاً أو استنباطاً ]، والمؤلف حينما قال: (قضاء الشارع)، قلنا: إن المؤلف إنما قال: (قضاء الشارع)، رداً على جمهور الأصوليين الذي عرفوه بأنه: خطاب الشارع، وقلنا: إنه لا مشاحة بين أن يقال: خطاب الشارع أو قضاء الشارع، وما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما: أن الحكم غير الخطاب، فالحكم أثر الخطاب وليس هو الخطاب، فإذا قال الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، فهذا خطاب من الله، لكن ليس حكماً، فالحكم أثر هذا الخطاب الذي هو الأمر به، والذي يقول فيه المؤلف: قضاء الشارع، وقلنا: إن أفضل تعريف هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وإن شئت قل: مقتضى خطاب الشارع، فيكون التعريف تعريفاً جامعاً مانعاً.
وقول المؤلف: (نطقاً أو استنباطاً)، يعني: أن دلالة اللفظ في خطاب الشارع، إما أن يفهم الحكم نطقاً، يعني: صراحة كما يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، هذا نطق، ولا يتطرق إليه احتمال، أو يفهم استنباطاً مثل: قول الصحابة: ( يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال ). فهذا استنباط.
خذ مثالاً آخر: ما جاء عند أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي الغنم في سائمتها )، مفهوم المخالفة أن ليس في الغنم غير السائمة زكاة، فهذا يسمى استنباطاً، وهو من الحكم.
المؤلف يقول: [ والحاكم هو الله ]، المؤلف قال في أول أمره: [ في الحكم ولوازمه ]، ولوازم الحكم هي أركانه؛ أي: أركان الحكم، وأركان الحكم ثلاثة: الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه. فالحاكم يقول المؤلف: [ هو الله سبحانه لا حاكم سواه، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ ومبين لما حكم الله ]، كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21]، وقال تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].
وذكرنا سابقاً أن إطلاق الشارع يراد به الله سبحانه وتعالى، وبعض الأصوليين يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشارع، وقلنا: لا مشاحة في ذلك؛ لأن مقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارع هو في معنى التبليغ عنه، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى الشارع، ومثله قوله: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقبل قوله، وكما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وهذا مثل جبرائيل حينما قال عنه في القرآن إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40].
يقول المؤلف: [والمحكوم عليه]، المحكوم عليه هو: الإنسان المكلف، والمكلف هو من توفرت فيه شروط التكليف، وشروط التكليف هي: البلوغ، والعقل. والتكليف معناه: طلب الفعل أو الترك، أو التخيير بينهما؛ وطلب الفعل سواءً كان جازماً فيه أو غير جازم، فإن كان جازماً فيكون واجباً، وإن كان غير جازم فيكون مستحباً. والترك إما أن يكون جازماً فيكون محرماً، أو غير جازم فيكون مكروهاً هذا بالنسبة لطلب الفعل أو الترك.
أو التخيير بينهما، وهل التخيير من الأحكام التكليفية؟ في هذه المسألة بحث أصولي طويل، لكننا نقول: الأقرب والله أعلم: أنه من الأحكام التكليفية؛ لأن الشارع قال: ( وسكت عن أشياء فهو عفو فلا تسألوا عنها )، فهذا يدل على أن وجود هذا الأمر في لسان الشارع دليل على مشروعيته، والمشروع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الواجب، القسم الثاني: المستحب، القسم الثالث: الجائز المشروع، ومعنى الجائز هنا الذي أجازه الشارع، أو وجد وقت التنزيل ولم يأت ما يمنعه أو يستحبه، مثل: النقاب، فالنقاب مشروع؛ لكن المشروعية هنا من باب الجواز، حتى لو كان الجواز تركه أولى، فهذا يسمى من الجائز غير المشروع.
مثال: الصحابي الذي كان في كل صلاة يقرأ بعد الفاتحة وسورة أخرى، ثم سورة الإخلاص، فذكر الصحابة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( سلوه لم يحبها؟ قال: إنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، قال: إن حبك إياها أدخلك الجنة )، ومعلوم أن الصحابة لم يفعلوا مثل فعله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنعه، فعدم منع الرسول صلى الله عليه وسلم له يكون جائزاً، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم له يكون تركه أفضل فيكون غير مشروع.
ومثل ذلك: صلاة الجنازة على الغائب، فالرسول صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب، على النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وترك وداوم على الترك، فتكون المداومة على الترك مشروعة، وفعله مرة يسمى جائزاً غير مشروع، وعلى هذا: فلو طلب من الإمام أن يصلي صلاة الغائب فله أن فيفعل ولا يقال: إنها بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل البدعة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الباب أشار إليه ابن تيمية في المجلد الثاني من مجموع الفتاوى، والأمثلة فيه كثيرة، مثل: صيام يوم عرفة في عرفة، فلم يرد فيه نهي صحيح، وحديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة )، هذا حديث رواه مهدي الهجري عن أبي هريرة وهو ضعيف؛ مهدي الهجري ضعيف، والرسول صلى الله عليه وسلم أفطر، ففطره فعل، ولو صام كما فعل بعض الصحابة -كما فعل عمر وغيره- نقول: هو جائز، ولكن المشروع عدم الصيام، فيكون الصيام جائزاً غير مشروع، هذا ما يتعلق بالتكليف.
ومن شروط التكليف: البلوغ، والبلوغ له أمارات: منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، فالمجمع عليه واحد: وهو الاحتلام للرجل والمرأة، والحيض للمرأة أمر مجمع عليه. الأمر الثاني: إنبات الشعر الخشن حول قبل الرجل والمرأة، وهذا مختلف فيه، ولكن الأقرب والله أعلم: أنه علامة من علامات البلوغ؛ لما جاء عند أهل السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حكم في بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم قال
وأما مسألة خمس عشرة سنة، فهذا قول الحنابلة والشافعية، وذهب أبو حنيفة إلى ثمان عشرة سنة، وهو قول لبعض أهل الظاهر، وقال ابن عمر : ( عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة؛ فلم يجزني، ثم عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة؛ فأجازني )، قال عمر بن عبد العزيز : يصلح هذا أن يكون حداً بين الكبير والصغير، وهذا اجتهاد من عمر بن عبد العزيز ، والأقرب: هما العلامتان السابق ذكرهما.
وعليه: فالصغير غير مكلف، فلا يعاقب، ولكن لو عمل فإنه يثاب على عمله، حتى إن الصبي المسلم لو ارتد، قال العلماء: إنه إذا بلغ استتيب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه يمكن أن تكون الردة من الصبي.
أما العقل فقد اتفق العلماء أيضاً على أنه شرط للتكليف، والبلوغ والعقل دليله: ما رواه أبو داود و الترمذي من حديث علي بن أبي طالب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ ).
يقول المؤلف: [ والأحكام قسمان: تكليفية وهي خمسة ].
الأحكام التكليفية هذا القسم الأول. وأحكام وضعية وهي القسم الثاني. تكليفية تكون متعلقة بأفعال المكلفين، ووضعية لا علاقة بوجودها في أفعال المكلفين، والوضعية كالشرط، والسبب، والصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة، فهذه في غير مقدور المكلف -كما سوف يأتي بيانه- فدخول الوقت، واستقبال القبلة في الصلاة لستا من فعل المكلف، لكنها جعلت أمارات، متى وجدت ثبت الحكم التكليفي، وهو وجوب الصلاة.
تعريف الواجب
المؤلف يلحظ المتأمل لاختياراته أنه لا يعتمد اختيار بعض الأقوال التي قل فيها النقد والاعتراض عليها، هو لا يهتم، متى ما كان النقد والاعتراض قوياً عمل به، مثلما قلنا في خطاب الشارع، حيث قال: (قضاء الشارع)، أما إذا كان يسيراً، أو مبنياً على أصل، مثل قول الأصوليين: إن الدليل إنما هو في الأمر القطعي، ولا يقال في أصول الفقه دليل؛ لأنه يدخله الاستحسان والقياس وهو مختلف فيه، ولهذا قالوا: طرق الفقه الإجمالية لا يعول عليها، وليس بخاف عليه الإيراد.
ولهذا قال: [ تكليفية وهي خمسة ]، ثم ذكر الواجب وعرفه بحكمه؛ يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهو يعلم الإيرادات الحاصلة هنا، ولكنه رحمه الله أراد أن يعطي طالب العلم تصوراً للمسألة، إذ أن التصور بالمثال أقرب من التصور بالماهية، مثال ذلك: واحد جاء يدرس العربية، فقلت: فلان نائم، قال: ما معنى نائم؟ فأشرت له إلى شخص من الحضور نائم فقلت: نائم، فهنا عرف ما معنى النوم هذا تعريف بالمثال؛ لكن لو قال: ما النوم؟ فقلت له: سلطان يعتري المرء، متى ما هجم عليه أقفل جفونه، واسترخى عضلاته، حتى إنه لا يستطيع أن يقاوم جسده، لقال: لو أنه ما فسره لكان أولى، ولهذا أحياناً تعريف الماهية يصعب فهمها، ولهذا قال بعضهم: إن عدم تعريف الضحك والنوم أولى من تعريفه. ومثل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فلم يجب الشارع عن الروح؛ لأن فيها من الماهية التي يصعب بيانها، ويكفي حضور الإنسان ومعرفته إخراج روحه.
فالمؤلف قال: [واجب يقتضي الثواب على الفعل، والعقاب على الترك]، هناك إيرادات على تعريف المؤلف منها: قالوا: إن قوله: (والعقاب على الترك)، الأولى أن يقول المؤلف: واستحقاق العقاب؛ لأن من الواجبات ما لا يلزم من تركه العقاب، قلنا لهم: مثل ماذا؟ قالوا: مثل ترك بر الوالدين، فهو ذنب وترك واجب؛ لكن ليس فيه عقاب، قلنا: العقوبة تنقسم إلى قسمين -هذا الرد عليهم-:
عقوبة مقدرة، وعقوبة مفوضة -يعني: غير مقدرة- فالمقدرة يصح عليها اعتراضكم؛ لكن المؤلف لم يرد العقوبة المقدرة هنا، إنما أراد العقوبة الغير مقدرة، فلو أن والداً ذهب إلى القاضي فقال: إن ولدي يعقني؛ جاز للقاضي أن يعزر الابن؛ لأن التعزير هو التأديب على معصية غير مقدرة في الشرع.
ثانياً: إن المؤلف حينما قال: [ يقتضي الثواب على الفعل، والعقاب على الترك ]، لم يقصد العقاب الدنيوي؛ بدليل أنه أحياناً يفعل الواجب فيثاب، لكن ليس ثواباً دنيوياً، فالمقصود من العقاب والثواب الأخروي، وهذا أولى، فالمؤلف رحمه الله ذكر تعريفاً بالمثال، وبعضهم عرفه -وهو أحسن التعاريف للواجب- بأنه: ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً، فيخرج ما كان طلباً غير جازم، ومن الأمثلة على ذلك: قال عليه الصلاة والسلام: ( هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه )، قوله: (هلّا)، هذا طلب من الشارع، لكنه طلب غير جازم؛ فليس بواجب. مثال آخر: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، الأمر هنا طلب لكن ليس جازماً؛ لأن الأمر هنا بعد الحظر؛ فيعود إلى ما كان عليه قبل الحظر.
ومثله أيضاً: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه )، طلب غير جازم؛ لأنه علل العلة فقال: ( فإن في أحد جناحيه داء ).
أقسام الواجب من حيث المطلوب فعله
القسم الأول: معين، والقسم الثاني: مبهم، يعني: غير معين، المعين: عرفه المؤلف بقوله: [ لا يقوم غيره مقامه كالصلاة والصوم ونحوهما ]، مثاله: في رمضان يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فالصيام معين، فلو جاء واحد يقول: الله يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فأنا والله لو صمت ما سأتقي الله؛ لكن لو أنام ولا تكون نفسي ضائقة البال، ولو آكل فسأكثر من قراءة القرآن والصلاة، ويقع في قلبي من التقوى والخشوع ما لا يقع في الصيام، نقول: لا؛ لأن الصيام هنا لا يقوم غيره مقامه؛ فهو معين، ومثله لو جاء وقت الصلاة؛ فيجب أن تصلي، لذلك قال أبو بكر لـعمر وهو محتضر: واعلم يا عمر ! أن لله حقاً في الليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله في الليل، فهذا معنى المعين. والمعين معناه: أن الشارع لم يجعل للعبد اختياراً في تعيين الواجب؛ فلم يجعل التعيين في اختيار المكلف.
القسم الثاني: المبهم، يعني: غير معين، والمؤلف لم يذكر إلا صورة واحدة، قال: [ وإلى مبهم في أقسام محصورة يجزئ واحد منها كخصال الكفارة ]، لكن الأقرب أن نقول: ومبهم: إما في أقسام محصورة، وإما في غيرها.
فمثلاً: صلة الأرحام واجب مبهم. إما أن تصلهم بالزيارة، وإما أن تصلهم بالمال، وإما بالكلام، وإما بحفظهم والدعاء لهم، وأن تكون ردءاً لهم، فهذا مبهم، ولكنه غير محصور.
فالقسم الثاني: مبهم في أجزاء محصورة، مثل قوله تعالى في فدية الأذى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، (أو) هنا للتخيير، فوجود (أو) لا تدل على أني لا يلزمني أن أفعل هذا؛ لأن الله يقول: فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]، يعني: يجب أن تفعل الفدية، ولكن هذه الفدية مبهمة محصورة بثلاثة أمور: صيام، صدقة، نسك؛ صيام ثلاثة أيام، أو تطعم ستة مساكين -لكل مسكين نصف صاع- أو أن تذبح شاة.
والواجب الغير محصور مثل صلة الرحم. وهذه الأجزاء أو التقسيمات إنما وضعت لتدريب طالب العلم على تقسيمه للمسائل، وتبسيط العلم له.
أقسام الواجب من حيث وقت أدائه
يقول المؤلف في تعريفه: [وهو ما تعين له وقت لا يزيد على فعله، كصوم رمضان]، فصوم رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يجب أن تعبد الله بالصيام في هذا الوقت، فهو واجب مضيق. بخلاف الصلوات الخمس فليست واجباً مضيقاً، ومثله: زكاة الفطر ليست واجباً مضيقاً؛ لأنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ لكن قد تكون واجباً مضيقاً إذا كانت زكاة الفطر بعد الفجر وقبل الصلاة في حال الخروج قبل قيام الإمام؛ هذا ربما يكون فيه نوع من عدم التصور؛ لكن من الأمثلة على ذلك: حضور صلاة الجمعة، إذا كان في البلد جمعة واحدة، فحضرت صلاة الجمعة، والإمام الآن يصلي كبر، فالآن يجب عليك أن تصلي صلاة الجمعة؛ لأنه واجب مضيق، ولو كان عليك صلاة الفجر مثلاً لم تصلها؛ فنقول: قدم صلاة الجمعة؛ لأنه واجب مضيق.
ومثله: ما لو أخر الإنسان الصلاة، حتى ما بقي على خروج وقتها إلا بمقدار الأركان التي هي فيها، فلو أخر صلاة العصر حتى بقي أربع ركعات، فيكون هذا واجباً مضيقاً في حق العبد، ومثل ذلك: الترتيب واجب في الصلاة، فشخص نام الساعة الحادية عشرة ضحى، ولم يستفق من نومه إلا قبل خروج وقت العصر بمقدار ما يتوضأ ويصلي أربع ركعات، فيقدم العصر؛ لأن صلاة العصر واجب مضيق؛ لأنه لو صلى الظهر لصلى الظهر والعصر في غير وقتها، فلو صلى العصر لصلاها في وقتها، والظهر يصليها بعد ذلك.
يقول المؤلف: [وإلى موسع وهو ما كان وقته المعين يزيد على فعله كصوم رمضان].
الله سبحانه وتعالى حينما أمرك أن تفعل عبادة، مثل: زكاة الفطر، فلك أن تفعلها من غروب الشمس ليلة الثامن والعشرين، والتاسع والعشرين، وليلة الثلاثين إن تم الهلال، وصبيحة ثلاثين، وليلة العيد إلى قبيل صلاة العيد من يوم العيد، فهذا واجب موسع.
كذلك الصلاة: إذا أذن المؤذن للصلاة، فأداء الصلاة موسع؛ لأن وقت أدائها موسع؛ لكن وقت وجوبها عليك على قول الحنابلة والشافعية: من حين الدخول، فوقت الأداء غير وقت الوجوب، فيوجد فرق: وقت الأداء غير وقت الوجوب. مثال: شخص فقير ولم يحج، وقبل أن يموت بخمس دقائق جاءه إرث؛ فملك خمسين ألف ريال ثم مات، فلا يستطيع أن يؤدي العبادة، لكن وقت الوجوب ثبت في حقه، فهو واجب عليه أن يخرج من تركته للحج، لكنه ما يجب عليه أن يؤدي العبادة وهو مريض.
يقول المؤلف: [ فهو مخير ]، يعني: في الموسع، [ في الإتيان به في أحد أجزائه ]، هذا قول جمهور الفقهاء خلافاً لبعض الأحناف، فإنهم قالوا: يجب عليها أن يؤديها في آخر الوقت، وأول الوقت ليس وقت وجوب، والصحيح: أنه مخير في أن يؤديها في أي وقت، ولكن قول المؤلف: [ هو مخير في الإتيان به ] يعني: في العبادة بأحد أجزائه، وإن كان بعض الوقت أفضل من بعض بدليل خارجي، فصلاة الظهر مثلاً في الصيف مخير العبد أن يفعلها من أذان الظهر إلى قبل أذان العصر، لكن الأفضل في وقت اشتداد الحر أن يبرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن شدة الحر من فيح جهنم )، والمراد من قول المؤلف: (مخير)، يعني: مخير في عدم الوجوب، وإن كان الأفضل أن يؤديها أي الظهر في آخر وقتها إذا كان في وقت حر، وفي غير الظهر يصليها في أول وقتها.
ما الذي نستفيده من الواجب الموسع؟
يقول المؤلف: [ فلو أخر ومات قبل ضيق الوقت لم يعص؛ لجواز التأخير، بخلاف ما بعده ]، مثل: شباب قاعدين، والمسجد يبعد عنهم كيلو مثلاً، فلا يلزمهم الصلاة في المسجد إذا كانوا في بيت ولا يسمعون النداء، فقالوا: خلينا نصلي الظهر، قالوا: انتظروا نتناقش، فجلسوا حتى قريب العصر، يعني: قبل أذان العصر بنصف ساعة، فمات أحدهم بسكتة قلبية، نقول: لا يأثم؛ لأن تأخيره هنا من غير عزم على الترك؛ لأنه مات -لكن العلماء قالوا: إلا أن يكون رجلاً يغلب على ظنه أنه سوف يموت، مثل: من حكم عليه بالقصاص- فلو أخر ومات قبل ضيق الوقت؛ لم يعص، قال: لجواز التأخير؛ لأنه واجب موسع.
أقسام الواجب من حيث المخاطب
فالمعين: الذي يجب على العبد فعله، ولا تدخله النيابة مع القدرة على الأداء، مثل: شخص مليء وقادر بماله وبدنه ولم يحج، قال: والله يا أخي! ما أنا بحاج، أريد أن أعطي عشرة يحجون عني، لا يصح؛ لأنه واجب بعينه، يجب أن تفعله، فلا تدخله النيابة مع القدرة، لكنه لو كان مريضاً ولا يستطيع أن يركب السيارة، ولا يزاحم ونحوه؛ فإنه يجوز له أن ينيب غيره؛ لأنه حينئذ أصبح عاجزاً.
قال المؤلف: [ كالعبادات الخمس ]، العبادات الخمس واجبة وجوباً عينياً.
قال المؤلف: [ وفرض كفاية وهو: ما يسقطه فعل البعض مع القدرة وعدم الحاجة ]، يعني: أننا ننظر في الفرض الكفائي إلى أصل الفعل متى وجد الفعل فالحمد لله، وإذا لم يوجد الفعل؛ صار واجباً على العباد فعله، مثَّل المؤلف هنا في الفرض الكفائي فقال: [ كالعيد ]، والعيد عند الجمهور واجب وجوباً كفائياً، والقول الثاني في المسألة: أن صلاة العيد مستحبة، وهي رواية عند الإمام أحمد ، والقول الثالث: وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : أن صلاة العيد واجبة وجوباً عينياً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جرير : ( من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وذبح ذبيحتنا؛ فهو المسلم )، قالوا: والصلاة هنا هي صلاة العيد، وقالوا: ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحيض وذوات الخدور اللاتي لم يكن يعتدن الخروج بالخروج )؛ فدل ذلك على أن من اعتاد الخروج أنه يجب عليه الخروج.
قال: [ والجنازة ] صلاة الجنارة، كما جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا على صاحبكم )، فمتى وجد من يقوم به فيكفي؛ لأن القصد: الصلاة على الجنازة، وليس أن تصلوا، ومثل: ( حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته؛ فسلم عليه )، فهذا السلام فرض كفائي، فإذا لم يوجد أحد يسلم عليه إلا أنت وجب عليك فرض عين؛ لكن لو كان هناك مجموعة فسلم عليهم واحد فيكفي.
المؤلف يقول: [ والغرض منه ]، يعني: من الواجب الكفائي، [ وجود الفعل في الجملة ]، وعلى هذا صار الجهاد في سبيل الله واجباً وجوباً كفائياً؛ لأن القصد وجد، وما يحصل من نقص ليس نقصاً في الأجساد، إنما هو نقص في المال أو الإعانة المادية أو الإعلامية.
يقول المؤلف: [فلو تركه الكل أثموا لفوات الغرض]، هذا قول عند العلماء: أن الواجب الكفائي إذا لم يفعل أثم الجميع، والقول الثاني في المسألة: أنه لا يأثم إلا من توافر فيه أمران: من علم بترك الفعل، مثل: شخص مريض ولم تعلم به ولا أحد زاره، هل تأثم وأنت ما علمت؟ لا، لا بد من شرط العلم بالواجب. الثاني: ألا يكون معذوراً في الترك؛ لأن الله يقول سبحانه: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة:91].
فبين أن الذين لا يجدون ليس عليهم حرج، ومثل قوله تعالى: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، في الجهاد، فبين أن أولي الضرر معذورون معفو عنهم، حتى لو ترك القادرون الفعل؛ فإن الذي يأثم من توافر فيه شرطان: شرط العلم، وشرط القدرة على الأداء، وعلى هذا فقول المؤلف: (أثموا)، محل نظر، والأقرب أن نقول: أثم من كان عالماً بالفعل، قادراً عليه، مثل: مريض ويوجد أطباء، ويوجد طلاب علم، ويوجد عوام، هذا المريض أزف على الموت، فهل يجب على طلاب العلم أن يعالجوه بحضور الأطباء؟ نقول: لا، يجب على الطبيب أن يعالجه، ويجب على طالب العلم أن يحضه، ويجب على التجار أن يساندوا بالمال، فصار وجوب هؤلاء الكفائي متنوعاً؛ هذا بعمله، وهذا بدعوته، وهذا بماله.
ولهذا وجود العنوسة، ووجود البطالة في المجتمع، ربما يأثم الجميع فيها كل بحسبه، فالذي يغالي في أسعار تجهيز العريسين ليعود على العريسين بالضرر، ربما يتحمل خلل وجود العنوسة، والذي يبالغ في الإيجار على العريسين ممن كان غير قادر، ربما يتحمل شيئاً من ذلك، ولو تكاتفت الجهود، وعلم كل أنه مسؤول عن هذا الأمر لصلح الحال، واطمأن البال، وكثر الأولاد، وارتفع صيت وكعب الإسلام.
الآن انتهى المؤلف من تقسيمات الواجب الثلاثة.
ما لا يتم الواجب إلا به وأقسامه
مثال ذلك: العبد أحياناً يكون غير قادر على المشي إلى الحج، وليس عنده ما يحمله إلى الحج، فيكون غير واجب عليه أن يحج؛ لأنه غير قادر على الركوب، فليس عنده ما يسميه الفقهاء الاستطاعة، ليس عنده الزاد والراحلة، لكنه لو كان من جيران الحرم ويستطيع أن يمشي في الحج وجب عليه أن يحج؛ فلهذا قالوا: إما أن يكون ما لا يتم الواجب إلا به: غير مقدور، أو مقدوراً.
المؤلف هنا جعل غير المقدور: إما أن يكون سعياً إلى أداء العبادة، وإما أن يكون بذات الإنسان، مثال: لو أن شخصاً يريد أن يحج، ولكنه يخاف من قطاع الطريق، هذه القدرة ليست متعلقة بذاته، بل القدرة في أمر خارج وهو أمن الطريق، فهو يقول: أمن الطريق غير مقدور عليه، فالمؤلف قال: [ كالقدرة واليد في الكتابة ]، أي: كتابة القلم، ما يستطيع إنسان أن يكتب إلا باليد، ولكننا الآن وجدنا ورأينا من يكتب برجله، ولكن المؤلف ذكر هذا على سبيل الغالب.
قال: [ واستكمال عدد الجمعة فلا حكم له ]، مثال ذلك: قرية شخص وعمه وولد عمه يبلغون من العدد -على القول بأن عدد الجمعة الواجب أربعون- ثلاثين، فلا يجب أن نقول للقرية الثانية: تعالوا معنا، أنتم مائة تعالوا فاسكنوا عندنا حتى نكون أربعين، فاستكمال العدد لا يجب، فهو غير مقدور عليه، لكنهم لو أنجبوا حتى بلغ عددهم أربعين؛ وجب عليهم صلاة الجمعة.
يقول المؤلف: [ وإما مقدور، كالسعي إلى الجمعة، وصوم جزء من الليل، وغسل جزء من الرأس ، فهو واجب؛ لتوقف التمام عليه ]، يقول المؤلف هنا: ما لا يتم الواجب إلا به، إما أن يكون قادراً على فعله، أو يكون غير قادر على فعله، فإن كان غير قادر على فعله؛ فإنه غير مكلف، مثل: شخص غرق في الماء، هذا الرجل يجيد السباحة، لكنه موثوق لا يستطيع أن ينقذه، فنقول: إنقاذ الغريق هذا لا بد له من واحد يحسن السباحة، وأنت تحسن السباحة، لكنك غير قادر لوجود الوثاق، فأنت غير واجب عليك، هذا يسمى: غير مقدور.
أما ما كان قادراً عليه فنقول: يجب عليك أن تمسح الرأس، ومسح الرأس يتضمن جزءاً منه؛ فيجب عليك أن تمسحه، قال: [ وغسل جزء من الرأس ]، وهذا بناءً على أن مسح جزء من الرأس كاف في الوجوب، والقول الثاني وهو قول مالك و أحمد : أنه يجب تعميم الرأس.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [4] | 2261 استماع |
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [2] | 2104 استماع |
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [1] | 1679 استماع |
شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول [5] | 1388 استماع |