خطب ومحاضرات
الروض المربع - كتاب البيع [16]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فكنا قد توقفنا عند النوع الثاني أو الضرب الثاني من أنواع الشروط, وقلنا: إن الشروط منها ما هو صحيح, ومنها ما هو فاسد, وذكرنا أن الصحيح ثلاثة أنواع, وقلنا: إن النوع الأول: هو شروط من مقتضى العقد فوجودها كعدمها إلا أن وجودها من باب التأكيد, والثاني: شروط من مصلحة العقد, والثالث: شرط بائع أو مشتر نفعاً معلوماً في مبيع.
وقلنا: إن النوع الثالث جائز عند الحنابلة ممنوع عند الجمهور، ويشترط الحنابلة أن يكون شرطاً واحداً فلا يزيد, فإن زاد فإنه داخل في حديث: ( لا شرطان في بيع ), وذكرنا أن معنى الحديث قد اختلف العلماء في تفسيره، فبعضهم يفسره على أنه بيع العينة كما هو اختيار ابن تيمية و ابن القيم , وبعضهم يفسره على أنه نوع من أنواع الصفقتين في صفقة، وهو أن يقول: أبيعك هذا بعشرة حالة أو بعشرين مؤجلة ثم يتفرقان ولا يذكران أي البيعتين اتفقا عليها.
والقول الثالث: أن معنى ( لا شرطان في بيع ) هو كل معاملة أو صفقة فيها ربا أو جهالة يشترط فيها أمران, وهذه تدخل فيها العينة وتدخل فيها الصفقتان في صفقة وغير ذلك, ولعل هذا أظهر والله أعلم, وأن تفسير السلف في ( لا شرطان في بيع ) هو قول: أبيعك هذا عشرة حالة أو بعشرين مؤجلة، إنما هو من باب بعض أفراد العام, وأن بيع العينة تدخل فيه, فليس ثمة تفسير واحد يناط إليه, وإنما هي قاعدة عامة تدخل في كل ما كان فيه شرطان من ربا أو جهالة أو غرر, وهذا الذي يظهر والله أعلم.
وسنتحدث الآن عن القسم الثاني وهي: الشروط الفاسدة, وهي على قسمين:
القسم الأول: شروط فاسدة مفسدة للعقد, والقسم الثاني: شروط فاسدة غير مفسدة للعقد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والضرب الثاني من الشروط أشار إليه بقوله: (ومنها فاسد) وهو ما ينافي مقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: (يبطل العقد) من أصله (كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر كسلف) أي: سلم، (وقرض وبيع وإجارة وصرف) للثمن أو غيره وشركة، وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه، قاله أحمد ].
قول المؤلف: (ومنها فاسد), ثم بين مراد الفاسد فقال: (وهو ما ينافي مقتضى العقد), أي: كل ما ينافي حكم العقد، من حيث أن حكم العقد يفيد تصرف كل من آل إليه شيء يتصرف به كيفما شاء كتصرف الملاك, فإن اشترط عليه خلاف ذلك صار فاسداً، فالبائع آل إليه الثمن فيتصرف فيه كما شاء, والمشتري آل إليه المثمن, فيتصرف فيه كما شاء, هذا معنى مقتضى العقد.
وقد قلت: إن جمهور أهل العلم يقولون: يخالف مقتضى العقد، وناقش أبو العباس بن تيمية هذه القاعدة وقال: فرق بين مقتضى العقد وبين مقصود العقد, وقال: إن كل شرط خالف مقتضى العقد ولم يخالف مقصوده فإن هذا لا بأس به, واستدل على ذلك بما رواه ابن أبي شيبة أن عبد الله بن مسعود اشترى من امرأته جارية على أنه متى ما باعها فهي أحق بها، يعني: بالثمن, فسأل عمر فقال: لا تمسها وفيها شرط لأحد, فـعمر منع الاستمتاع وجوز العقد, مع أن العقد فيه تقييد لحرية المالك, فدل ذلك على أن ثمة فرقاً بين مقصود العقد ومقتضى العقد, وأما مقصود العقد فكل شرط يعود على أصل العقد بالإبطال, فصار ذلك فاسداً, والله أعلم.
ومثاله: كل شرط في عقد البيع يعود إلى إبطاله, كشرط الربا وشرط الضمان على خلافه, فمن المعلوم أن ضمان العين المباعة بعد قبضها من ضمان المشتري, فإذا جعلت على البائع صار عقده يعود إلى أصل العقد بالإبطال؛ لأنها صارت بمثابة إذا أنا أعطيت المشتري المعقود عليه وقال المشتري: ترى ضمانها عليك أيها البائع, فهنا صارت إجارة؛ لأن الإجارة هي: العين ملك المؤجر والمنفعة ملك المشتري, فمتى وجد شرط يفصل الضمان عن الملكية صار بمثابة الإجارة. إذا ثبت هذا فأننا نقول: إن الفاسد هو كل ما يخالف مقصود العقد, وكل ما يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد على مذهب الجمهور الحنابلة, ومقصود العقد على مذهب ابن تيمية , وابن تيمية يقول: ليس هناك شيء اسمه شرط فاسد والعقد صحيح, ويقول: ليس هناك شرط إلا أن يبطل وإلا يبطل معه العقد, فيقال لمشترطه: إما أن تبطل الشرط وإلا بطل العقد, أما أن يصح العقد ويبطل الشرط فيقول ابن تيمية : إن ألزمتموه بالعقد مع بطلان الشرط فهذا دخل فيه العاقد بالإكراه, فلا يصح معه هذا, فيقال: يبطل, أما أن بعض الشروط التي يسميها فاسدة فيقول ابن تيمية : فهذه ليست بفاسدة؛ لأنها لا تخالف مقصود العقد وإن خالفت مقتضى العقد, أما الحنابلة فيقولون: مقتضى العقد يشمل أمرين: ما يخالف مقصوده فيكون فاسداً مفسداً, وما يخالف مقتضاه فيكون فاسداً غير مفسد.
إذاً الحنابلة يقولون: إن الفاسد كل ما خالف مقتضى العقد, سواء خالف مقصوده أم لم يخالفه, فإن خالف مقصوده صار فاسداً مفسداً, وإن لم يخالف مقصوده صار فاسداً غير مفسد, وابن تيمية يقول: ليس هناك شيء اسمه فاسد غير مفسد، يقول: الفاسد مفسد، وما سميتموه فاسداً غير مفسد يقول: هذا ليس بفاسد كما سوف يأتي إن شاء الله.
قول المؤلف: (أحدها: يبطل العقد من أصله، كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر، كسلف, أي: سلم: وقرض وبيع وإجارة).
كل معاملة أو عقد معاوضة اشترط فيه السلف يقول ابن تيمية : هذا داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل سلف وبيع, ولا شرطان في بيع ), فإذا اشترط في عقد المعاوضة على أن تقرضني أو أقرضتك على أن تبيعني يقولون: فهذا لا يصح, وقد نقل الإجماع على حرمة ذلك غير واحد من أهل العلم إذا كان فيه محاباة بالشرط, يقول ابن تيمية : فإنه لا يكاد يقرضه مائة إلا وقد باعه ما قيمته مائة بثمانين، فيكون ذلك محاباة لأجل القرض, فيكون داخلاً في القاعدة المعروفة عند أهل العلم وهي: كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
قول المؤلف: (كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر), الحنابلة توسعوا من مجرد أن يكون ذلك معاوضة بتبرع, فقالوا: إذا اشترط في عقد البيع عقداً آخر سواء أكان بيعاً آخر أو قرضاً كل ذلك يكون محرماً, قالوا: دليلنا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل سلف وبيع ), وهذا يدخل في كل معاوضة اشترط فيها القرض, أو قرض اشترط فيه المعاوضة.
فإن قيل: ما دليل قولكم: كل عقد اشترط في عقد، مثلاً: أبيعك هذا على أن تؤجرني بيتك, أؤجرك هذا على أن تبيعني سيارتك قالوا: هذا محرم، وهذه المعاملة محرمة عند الأئمة الأربعة، قالوا: لأنها داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن صفقتين في صفقة, ونهى عن بيعتين في بيعة ), قالوا: فإن من معاني بيعتين في بيعة قول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، أو على أن تؤجرني هذا أو غير ذلك من عقود المعاوضة, فقول الأئمة الأربعة هو: لا يحل سلف وبيع، وإذا كان فيه محاباة بالإجماع. هذا النوع الأول.
النوع الثاني: أبيعك هذا على أن تؤاجرني, أبيعك على أن تعاوضني, إذاً معاوضة اشترط فيها معاوضة أخرى, وهذا قد متعه الأئمة الأربعة ولكن ليس محل إجماع, يقول: لأنها داخلة في صفقتين في صفقة, وابن تيمية يوافق في المعنى الأول ويخالف في المعنى الثاني, يقول: إن قول: أبيعك هذا على أن تؤاجرني أو أبيعك هذا على أن تبيعني قال: فهذا لا بأس به وليس داخلاً في بيعتين في بيعة, وهذا الشرط أستطيع أن أقول: هو قول أكثر العلماء المعاصرين, وأكثر المجامع الفقهية, والله تبارك وتعالى أعلم أعني به شرط ابن تيمية الذي جوزه, وهو قول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا, فإذا كان هناك معاوضة اشترط فيها معاوضة أخرى فقد منعها الأئمة الأربعة وجوزها ابن تيمية ، وأكثر فتاوى المعاصرين والمجامع الفقهية على جوازها.
أما عقد معاوضة اشترط فيها عقد تبرع, أو عقد تبرع اشترط فيه المعاوضة، فإن هذا محرم بإجماع أهل العلم إذا كان فيه محاباة, فأما إذا لم يكن فيه محاباة فمنعه الجمهور لأجل الشرط، وإذا لم يكن فيه شرط ولكن فيه شرط التواطؤ فالأولى منعه سداً للذريعة.
أضرب مثالاً: إذا قال البائع للمصرف: أريدك أن تبيعني شيئاً, قال المصرف: بشرط أن تفتح عندي حساباً جارياً, فالحساب الجاري تكييفه الفقهي أنه قرض, فلا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: إن كان قصد المصرف ضمان حقه في حال عدم تسديد المشتري، فإننا نقول: لا بأس بشرط أنه إن حبس المبلغ بعد دخول الحساب الجاري مدة معلومة بحيث ينتفع به صار داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل سلف وبيع ).
الحال الثانية: إن كان يدخل في الحساب ولك حق يا صاحب الحساب أن تسحبه إلا إذا عجزت عن السداد فيكون على الناقص، فيكون لا بأس بذلك, وهذا الذي تفعله البنوك الآن فإنها لا تحبس المبلغ, لك بمجرد أن يدخل الراتب في الحساب لك الحق أن تسحبه؛ لأنك ما زلت تقوم بالتسديد, لكن إذا عجزت عن السداد قبل الدخول في الحساب يسمونه حساباً على الناقص, فقبل أن يصل إلى حسابك يخصم منك حسابك, فهنا لا بأس به, أما أن يدخل في حسابك ولم تكن قد ماطلت أو عجزت عن السداد يحبس المبلغ مدة معلومة أربعة أيام أو خمسة أيام، فهذا يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل سلف وبيع ).
أما المحاباة: فمثل رجل لديه سيارة قيمتها مائة ألف يبيعها لك بثمانين ألفاً؛ لأجل أنك أقرضته, فيكون النقص هذا نوعاً من الفائدة والزيادة على القرض.
إذا علم هذا فقول المؤلف: (كاشتراط أحدهما), يعني: في عقد المعاوضة على الآخر عقداً آخر, قلنا: العقد الآخر إما أن يكون تبرعاً وإما أن يكون معاوضة, فإن كان تبرعاً فإن كان فيه محاباة فهو محرم بالإجماع وإن لم يكن فيه محاباة فإنه محرم من باب سد الذرائع, وإن كان معاوضة أخرى فإنها ممنوعة عند الأئمة الأربعة جائزة عند ابن تيمية , والمؤلف لم يفرق بينهما.
قول المؤلف: (كسلف أي: سلم وقرض), السلف عقد معاوضة، اشترط فيها القرض. قول المؤلف: (وبيع وإجارة), يعني: عقد معاوضة اشترط فيه المعاوضة.
قوله: (وصرف)؛ لأن المصارفة معاوضة للثمن.
قول المؤلف: (أو غيره), يعني: لو قال: أبيعك هذا أو أؤجرك هذا على أن تشاركني فالمشاركة حق لكنه عقد جائز ففيه نوع محاباة.
والراجح: أن عقد المعاوضة الذي اشترط فيه عقد معاوضة أخرى إذا لم يكن فيها ربا فالأصل فيه الجواز وهو اختيار ابن تيمية , وأما عقد المعاوضة الذي اشترط فيه القرض الذي يظهر -والله أعلم- منعه؛ لأنه إن كان محاباة فيمنع بالإجماع للحديث, وإن لم يكن فيه محاباة فيمنع سداً للذريعة كما أشار إلى ذلك الإمام القرافي ، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] | 2631 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] | 2589 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] | 2547 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] | 2544 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] | 2525 استماع |
الروض المربع - كتاب البيع [22] | 2453 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] | 2388 استماع |
الروض المربع - كتاب البيع [20] | 2375 استماع |
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] | 2359 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] | 2357 استماع |