(78) إقطاع الاستغلال (3) - الأحكام السلطانية للماوردي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاعإقطاع الاستغلال (3)
فصل:
وأما إقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عُشْرٌ، وخراج[1].
فأما العشر فإقطاعه لا يجوز؛ لأنه زكاة لأصناف يعتبر وصف استحقاقها عند دفعها إليهم، وقد يجوز أن لا يكونوا من أهلها وقت استحقاقها؛ لأنها تجب بشروط يجوز أن لا توجد فلا تجب، فإن وجبت وكان مقطعها وقت الدفع مستحقًّا كانت حوالة بعشر قد وجب على ربّه لمن هو من أهله، صح وجاز دفعه إليه، ولا يصير دينًا له مستحقًّا حتى يقبضه؛ لأن الزكاة لا تملك إلَّا بالقبض، فإن منع من العشر لم يكن له خصمًا فيه، وكان عامل العشر بالمطالبة أحق.
وأمَّا الخراج فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون من أهل الصدقات، فلا يجوز أن يقطع مال الخراج؛ لأن الخراج فيء لا يستحقه أهل الصدقة ، كما لا يستحق الصدقة أهل الفيء، وجوَّز أبو حنيفة ذلك؛ لأنَّه يجوز صرف الفيء في أهل الصدقة.
والحالة الثانية: أن يكون من أهل المصالح مِمَّن ليس له رزق مفروض، فلا يصح أن يقطعه على الإطلاق، وإن جاز أن يعطاه من مال الخراج؛ لأنَّه من نفل أهل الفيء لا من فرضه، وما يعطى له إنَّما هو من صلات المصالح، فإن جعل له من مال الخراج شيء أجرى عليه حكم الحوالة والتسبب، لا حكم الإقطاع، فيعتبر في جوازه شرطان:
أحدهما: أن يكون بمالٍ مقدَّر قد وجد سبب استباحته.
والثاني: أن يكون مال الخراج قد حلَّ ووجب؛ ليصحَّ التسبب عليه والحوالة به، فخرج بهذين الشرطين عن حكم الإقطاع.
والحالة الثالثة: أن يكون من مرتزفة أهل الفيء وفرضية الديوان، وهم أهل الجيش، وهو أخص الناس بجواز الإقطاع؛ لأنَّ لهم أرزاقًا مقدَّرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق؛ لا تعويض عمَّا أرصدوا نفوسهم من حماية البيضة والذبّ عن الحريم، فإذا صحَّ أن يكونوا من أهل الإقطاع روعي حينئذ مال الخراج، فإن له حالتين: حال يكون جزية، وحال يكون أجرة، فأمَّا ما كان منه جزية فهو مستقرٌّ على التأبيد؛ لأنه مأخوذ مع بقاء الكفر، وزائل مع حدوث الإسلام، فلا يجوز إقطاعه أكثر من سنة؛ لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها، فإن أقطعه سنة بعد حلوله واستحقاقه صح، وإن أقطعه في السنة قبل استحقاقه ففي جوازه وجهان:
أحدهما: يجوز إذا قيل: إنَّ حول الجزية مضروب للأداء.
والثاني: لا يجوز إذا قيل: إنَّ حول الجزية مضروب للوجوب، وأمَّا ما كان من الخراج أجرة فهو مستقر الوجوب على التأييد، فيصح إقطاعه سنتين، ولا يلزم الاقتصار منه على سنة واحدة، بخلاف الجزية التي لا تستقر.
وإذا كان كذلك فلا يخلو حاله أقطاعه من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن يقدِّر سنين معلومة كإقطاعه عشر سنين، فيصحّ إذا روعي فيه شرطان:
أحدهما: أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند باذل الإقطاع؛ فإن كان مجهولًا عنده لم يصح.
والثاني: أن يكون قدر الخراج معلومًا عند المقطع وعند باذل الإقطاع، فإن كان مجهولًا عندهما أو عند أحدهما لم يصح، وإذا كان كذلك لم يخل حال الخراج من أحد أمرين، إما أن يكون مقاسمة أو مساحة، فإن كان مقاسمة فمَن جوَّز مِنَ الفقهاء وضع الخراج على المقاسمة جعله منَ المعلوم الذي يجوز إقطاعه، ومن منع من وضع الخراج على المقاسمة جعله من المجهول، وإن كان الخراج مساحة فهو ضربان:
أحدهما: أن لا يختلف باختلاف الزروع، فهذا معلوم يصح إقطاعه.
والثاني: أن يختلف باختلاف الزروع، فينظر مقطعه، فإن كان في مقابلة أعلى الخراجين صحَّ إقطاعه؛ لأنه راضٍ بنقص إن دخل عليه، وإن كان في مقابلة أقل الخراجين لم يصح إقطاعه؛ لأنَّه قد يوجد فيه زيادة لا يستحقها، ثم يراعى بعد صحة الإقطاع في هذا القسم حال المقطع في مدة الإقطاع، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يبقى إلى انقضائها على حال السلامة، فهو على استحقاق الإقطاع إلى انقضاء المدة.
والحالة الثانية: أن يموت قبل انقضاء المدة، فيبطل الإقطاع في المدة الباقية بعد موته، ويعود إلى بيت المال، فإن كانت له ذرية دخلوا في إعطاء الذراري لا في أرزاق الجند، فكان ما يعطونه سببًا لا إقطاعًا.
والحالة الثالثة: أن يحدث به زمانة فيكون باقي الحياة مفقود الصحة، ففي بقاء إقطاعه بعد زمانته قولان:
أحدهما: إنه باقٍ عليه إلى انقضاء مدته إذا قيل: إن رزقه بالزمانة قد سقط، فهذا حكم القسم الأول إذا قدِّر الإقطاع فيه بمدة معلومة.
والقسم الثاني من أقسامه: أن يستقطعه مدة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته، فهذا إقطاع باطل؛ لأنه قد خرج بهذا الإقطاع من حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، وإذا بطل كان ما اجتباه منه مأذونًا فيه عن عقد فاسد، فيبرأ أهل الخراج بقبضه، وحسب من جملة رزقه، فإن كان أكثر رد الزيادة، وإن كان أقل رجع بالباقي، وأظهر السلطان فساد الإطلاع حتى يمنع من القبض، ويمنع أهل الخراج من الدفع؛ فإن دفعوه بعد إظهار ذلك لم يبرأ منه.
والقسم الثالث: أن يستقطعه مدة حياته، ففي صحة الإقطاع قولان:
أحدهما: إنه صحيح إذ قيل: إنَّ حدوث زمانته لا يقتضي سقوط رزقه.
والقول الثاني: إنَّه باطل؛ إذ قيل: إنَّ حدوث زمانته يوجب سقوط رزقه، وإذا صحَّ الإقطاع فأراد السلطان استرجاعه من مقطعه جاز ذلك فيما بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديون العطايا، فأمَّا في السنة التي هو فيها فينظر، فإن حلَّ رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته؛ لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حلَّ خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه؛ لأن تعجيل المؤجّل وإن كان جائزًا ليس بلازم.
وأما أرزاق ما عدا الجيش إذا أقطعوا بها مال الخراج فيقسمون ثلاثة أقسام:
أحدهما: من يرتزق على عمل غير مستديم كعمال المصالح، وجباة الخراج، فالإقطاع بأرزاقهم لا يصح، ويكون ما حصل لهم بها من مال الخراج تسببًا وحوالة بعد استحقاق الرزق وحلول الخراج.
والقسم الثاني: من يرزق على عمل مستديم، ويجري رزقه مجرى الجعالة، وهم الناظرون في أعماق البرِّ التي يصحّ التطوع بها، إذا ارتزقوا عليها كالمؤذنين والأئمة، فيكون جعل الخراج لهم في أرزاقهم تسببًا به وحوالة عليه، ولا يكون إقطاعًا.
والقسم الثالث: من يرتزق على عمل مستديم، ويجري رزقه مجرى الإجارة، وهو من لا يصح نظره إلّا بولاية وتقليد، مثل: القضاة والحكام وكُتَّاب الدواوين، فيجوز أن يقطعوا بأرزاقهم خراج سنة واحدة، ويحتمل جواز إقطاعهم أكثر من سنة وجهين:
أحدهما: يجوز كالجيش.
والثاني: لا يجوز؛ لما يتوجَّه إليهم من العزل والاستبدال.
__________
(1) قال منصور بن يونس البهوتي من الحنابلة: وجعل إقطاع الاستغلال على ضربين عشر وخراج، وللإمام إقطاع موات لمن يحييه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضًا، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان وجمع من الصحابة ، ولا يملكه أي: الموات بالإقطاع؛ لأنَّه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجّر الشارع في الإحياء؛ لأنه ترجح بالإقطاع على غيره، ويسمَّى تملكًا لما له إليه، ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلَّا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم مما لا فائدة فيه، فإن أقطع الإمام أحدًا أكثر منه، أيّ: مما يقدر على إحيائه، ثم تبين عجزه عن إحيائه، استرجعه الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وله أي: للإمام موات تمليكًا وانتفاعًا للمصلحة لما تقدَّم (كشف القناع: [4/ 195]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]