بين الأسطورة والتاريخ
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
هل أحرق فاتح الأندلس سفنه؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتخذ شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس مكانها بين عظماء الفاتحين، لا في التاريخ الإسلامي وحده، ولكن في تاريخ الأمم القديمة كلها؛ وتعتبر موقعة شذونه أو (مدينا سدونيا) من أعظم الوقائع الحاسمة في تاريخ الإنسانية، ففيها افتتح العرب أسبانيا وغنموا ملك القوط، وشادوا صرح تلك الدولة الأندلسية الزاهرة التي لبثت قروناً تبهر أمم الغرب بقوتها وفخامتها وراع حضارتها وفنونها. بيد أنه من الغريب أن شخصية الفاتح العظيم - طارق - بينما تبدو في بعض نواحيها وضاءة مشرقة، إذا بها تبدو في البعض الآخر خفية يكتنفها الغموض؛ فالرواية الإسلامية تختلف حول نشأة طارق وحول نسبته وجنسيته، وتكاد تسدل على مصيره بعد الفتح ستاراً من الصمت والنسيان ولسنا نعرض في هذا البحث لشخصية طارق أو تاريخه أو اختلاف الرواية في شأنه، ولكنا نعرض لواقعة ترتبط باسمه، وقد يغلب عليها لون الأسطورة، وإن كانت مع ذلك تعرض علينا في لون التاريخ الحق، تلك هي واقعة إحراق السفن التي نقل عليها طارق جيشه من الشاطئ الأفريقي إلى شاطئ الأندلس.
ونحن نعرف أن فتح الأندلس قد تم بدعوة من الكونت يوليان القوطي حاكم سبتة والمضيق لخصومة سياسية وشخصية بينه وبين رودريك (لذريق) ملك القوط، وأنه عاون العرب بخدماته ونصحه، وأنه هو الذي قدم السفن التي عبر العرب عليها إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقادة طريف بن مالك (رمضان سنة 91) ثم في حملتهم الغازية بقيادة طارق بن زياد (رجب سنة 92 - أبريل 711م).
وهنا تذكر الرواية أن طارقاً ما كاد يعبر بجيشه إلى أسبانيا حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها جيشه وذلك لكي يدفع جنده إلى الاستبسال أوالموت أو الظفر، ويقطع عليهم كل فكرة في التخاذل أو الارتداد.
فما بلغ هذه الرواية من الصحة؟ إن جميع الروايات الإسلامية التي تحدثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئاً عن هذه الواقعة، ولا تذكرها سوى بعض الروايات النصرانية المعاصرة أو المتأخرة؛ ولا تذكرها الرواية الإسلامية إلا في موطن واحدة، فقد ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الشهير (نزهة المشتاق) عند الكلام على جغرافية الأندلس أن طارقاً أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس؛ وقد نقلت الروايات النصرانية المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجح؛ وفيما عدا ذلك فان جميع الروايات الإسلامية تمر عليها بالصمت المطبق وهنالك وجه آخر لتأييد هذه الرواية هو الخطاب الذي يقال إن طارقاً ألقاه في جنده قبيل نشوب الموقعة الحاسمة بينه وبين القوط؛ ونحن نعرف هذا الخطاب الشهير الذي مازال يحفظه الطلاب كنموذج من إبداع نماذج البلاغة العربية؛ فقد أستهله طارق بقوله: (أيها الناس؛ أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم؛ وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.
) وفي ذلك ما يمكن أن يحمل على أن الجيش الفاتح قد جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الأفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى أسبانيا؛ ولكنا نلاحظ من جهة أخرى أن هذا الخطاب الحربي الشهير الذي تنسبه الرواية الإسلامية المتأخرة إلى طارق، لم يرد في روايات المؤرخين المتقدمين؛ فمثلاً لم يذكره ابن عبد الحكم والبلاذري وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ وذكره ابن قتيبة، ولم يشر إليه ابن الأثير وابن خلدون، ونقله المقري عن مؤرخ لم يذكر أسمه، وهو على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين؛ وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نتخذه دليلاً مادياً على واقعة إحراق السفن؛ ولو صح أن طارقاً قد ألقى مثل هذا الخطاب فعلاً - وهو ما نراه موضع الشك - فانه يمكن تفسيره بأن السفن التي عبر عليها طارق وجيشه كانت ملكاً للكونت يوليان القوطي، ولم تكن سوى أربع، وقد عبر الجيش الإسلامي عليها تباعاً في مرات عدة، فمن المعقول إذا أن يعتبر طارق أنه في حالة الهزيمة لم تكن لديه وسيلة سريعة للارتداد وعبور البحر إلى إفريقية على أنا نستطيع مع ذلك أن نأخذ برواية الشريف الإدريسي؛ وإذا كان احتراق السفن على هذا النحو لقطع الرجعة والارتداد على جيش فاتح عمل بطولة رائع، فانه لما يتفق مع بطولة فاتح الأندلس، وليس موقف قيصر في غالباً أو موقف بونابارت في إيطاليا فيما بعد بأدعى للإعجاب من موقف طارق في سهل شريش (مكان اللقاء الحاسم) والظاهر أن إقدام الغزاة على إحراق السفن على هذا النحو الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس نوع من أساطير البطولة الخارقة التي ترجع إلى أقدم عصور التاريخ؛ ففي كثير من مواطن التاريخ القديم الممزوج بخوارق الأسطورة تعرض مثل هذه الواقعة للتنويه بعمل بطولة خارق.
على أننا لا نعدم أيضاً في التاريخ الحق أمثلة واقعة منها.
ففي التاريخ الروماني مثل رائع لهذا الحدث هو مثل الإمبراطور يوليان في حملته الفارسية.
وكان يوليان مذ جلس على عرش قسطنطينية، يتوق إلى غزو فارس وتحطيم تلك الدولة الشامخة التي مازالت منذ الحقب تناهض دولة القياصرة، وكان مثل الاسكندر المقدنوي يحفزه ويذكي عزمه؛ ففي سنة 363م، سار يوليان من إنطاكية حيث كان ينظم أهبته في جيش ضخم، واخترق صحراء الشام من جهة الشمال، ثم سار جنوباً بحذاء الفرات، وسار في نفس في الوقت الفرات أسطول روماني ضخم يحمل أقوات الجيش؛ ثم عبر يوليان نهر الفرات، واجتاح بلاد الآشوريين، واشرف على نهر دجلة حيث كان الفرس في انتظاره في الضفة الأخرى؛ وحمل الرومان سفنهم المشحونة بالمؤن والذخيرة من الفرات إلى الدجلة بعد جهود ومشاق هائلة؛ واعتزم الإمبراطور أن يعبر الدجلة بجيشه ليقابل سابور ملك الفرس في قلب مملكته كما فعل الاسكندر من قبل حيث هاجم الفرس في عقر أرضهم؛ وهنا أعتزم الإمبراطور فجأة أن ينفذ فكرة جريئة جالت بخاطره وهي أن يحرق أسطوله الراسي في دجلة؛ وفي الحال نفذت الفكرة واحرق الأسطول الروماني الضخم ولم تنقذ منه سوى سفن قلائل استبقيت لاجتياز الأنهر، ولم يتزود الجيش الإمبراطوري إلا بمؤونة عشرين يوماً؛ وكان يوليان يرمي بذلك الأجراء إلى غاية حربية حكيمة هي ألا يمكن القوات الفارسية المحصورة في مدينة اكتسيفون قاعدة الجزيرة من انتهاز فرصة توغله في الداخل ومهاجمة أسطوله والاستيلاء عليه وعلى المؤن التي يحملها غنيمة باردة.
وقد حكم التاريخ على يوليان ولم يحكم له، ذلك لأنه لم يكن موفقاً في غزوته، وقد لقي جزاء في نكبة جيشه أمام الفرس وفي مصرعه متأثراً بجراحه؛ وارتد الجيش الروماني مهزوماً ممزقاً ونجت فارس بحريتها واستقلالها مدى ثلاثة قرون أخرى حتى كان الفتح العربي وفي التاريخ الحديث مثل واقعي رائع أعدمت فيه سفن الجيش الفاتح، هو مثل هرناندو كورتيز فاتح المكسيك؛ ومن غرائب القدر أن يكون أروع نموذج لهذا الضرب من البطولة أسباني يذكرنا بطارق فاتح أسبانيا وما ينسب إليه في هذا الصدد.
ومن المرجح جداً أن يكون فاتح المكسيك قد تأثر بالمثل الرائع الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس؛ وقد كان طارق وكورتيز في الواقع كلاهما أمام ظروف متماثلة: مغامرة مجهولة الظروف والعواقب، ومحاولة جريئة لافتتاح أرض جديدة وعالم جديد، وجيش قليل العدد ليواجه جيوشاً زاخرة لا يعلم نوعها ولا مدى قوتها.
بيد أن مغامرة كورتيز وقعت في ظروف أكثر دقة وخطورة؛ فقد كانت أسبانيا من أمم العالم القديم ولم تكن مجهولة تماماً من العرب وكان بها شعب قديم يتمتع بحضارة لا بأس بها؛ ولكن كورتيز كان أمام عالم مجهول تكتنفه الظلمات من كل ناحية، ولم يكن يعرف ما هي الأرض، وما هي الأمم التي يزمع اقتحامها بجنده القليل وصل كورتيز في أسطوله المتواضع إلى مياه المكسيك في سنة 1519 لغزو إمبراطورية (الازتكيين) الهندية، ولم يكن يعرف الأسبان يومئذ عنها شيئاً إلا أنها إمبراطورية ضخمة غنية تفيض بالنعم والذهب والوهاج؛ وما كاد كورتيز وجنده يضعون أقدامهم في الأرض الجديدة، حتى فكر الفاتح الجريء في إعدام سفنه؛ وأعدمت في الحال بغراقها؛ وكان كورتيز يرمى بهذا الإجراء إلى غاية ظاهرة هي ألا يدع إلى قلوب جنده سبيلاً إلى الخور أو أملا في الارتداد.
إما الظفر أو الموت: هكذا كان شعار كورتيز، وهكذا كان عزمه وخطته، وكان عملاً جريئاً، ولكن ضرورياً، حتى لا يجد الناقمون أي وسيلة لمغادرة إخوانهم، وحتى يرتمي الجميع في أحضان الموت لا يلتمسون به بديلاً سوى الظفر.
ولا ريب أن عمل كورتيز عمل بطرق خارقة، وربما كان أعظم عمل من نوعه في التاريخ، لأن الفاتح الأسباني تقدم في جرأة مدهشة لافتتاح الإمبراطورية الهندية العظيمة بجيش لا يعدو عدة مئات، ولم يحجم مع ذلك عن إعدام أسطوله، وهو وسيلته الوحيدة للنجاة في حالة الهزيمة والفشل؛ وكان ظفره بافتتاح ذلك العالم الجديد عظيماً مدهشاً ومثل هذه الحوادث تبدو في التاريخ كالأسطورة وقد تمتزج أحيانا بالأساطير؛ وكلما بعدت في ثنايا التاريخ كلما كان امتزاجها بالأسطورة أشد وأقوى.
بيد أننا هنا أمام أمثلة واقعة.
وفي التاريخ حوادث من نوع مماثل في شذوذه وروعته مازالت في عصرنا تبدو كالأعاجيب الخارقة، فمثلاً يذكر التاريخ أن محمداً الثاني سلطان الترك العثمانيين وفاتح قسطنطينية، حينما حاصر قسطنطينية من البر والبحر، ولم يستطع أسطوله أن يقتحم خليج القرن الذهبي الذي تقع عليه المدينة من البحر، اعتزم في الحال أن ينقل أسطوله إلى البر، مما يلي مؤخرة القرن الذهبي، ونفذ مشروعه الخارق بالفعل ونقل أسطوله الضخم على طريق من الخشب المطلي بالدهن والشحم، ثم دفعه إلى داخل القرن الذهبي؛ وبذلك تم تطويق المدينة، ولم تلبث أن سقطت في أيدي الغزاة (1453م).
بيد أن هذه الحوادث والأعمال الخارقة لا تبدو في روعتها الحقيقية إلا إذا اصطبغت بألوان العصر الذي وقعت فيه، وقد ينتقص من قدرها إذا قدرت بمعيار عصرنا، وتفهمها بروح العصر الذي وقعت فيه هو وحده الذي يسبغ عليها هذا اللون القوى من البطولة الخارقة، وهذا السحر الذي تبثه إلينا أعمال تشبه الأساطير في روعتها محمد عبد الله عنان