شرح اسم الحليم (1)
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (14)الحليم (1)
وقفنا في المناسبة - في إطار سلسلة شرح أسماء الله الحسنى ضمن عددها الثالث عشر - على اسم الله الملك، والمالك، والمليك.
فعرفنا أن المَلِك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود.
يملك يوم الشهادة بما فيه من سماوات وأرضين وما بينها، ويملك يوم الدين، فيبدل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات، فتبرز الحجة البالغة لمن كانوا يتألهون في الدنيا ويتجبرون، أطغتهم أموالهم ومناصبهم، حتى ظنوا أنهم في الدنيا خالدون، وعن عذاب الله ممتعون، ومن جزائه آمنون.
ثم عرفنا كيف نتعبد الله باسمه الملك، بجواز تعبيد الأسماء به، وأن نذعن له في السراء والضراء، اعترافا بمُلكه المطلق، وأن ينصرف تعلقنا إليه لا إلى سواه، وأن نتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الله وتمجيده باسمه الملك في الصباح والمساء، وبعد الصلوات.
وموعدنا - اليوم إن شاء الله تعالى - مع اسم آخر من أسماء الله - تعالى - الجليلة، التي يحب أن يرى حُلاها على عباده، حتى جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الاتصاف بمقتضاه جزءا من النبوة، واعتبر العلماء التخلق بمقتضاه سيد الأخلاق وأشرفها.
مَن تمثله صلح دينه، وسما خلقه، وصح بدنه، واستقام حاله، وكان بين الناس محبوبا، وفي حضرتهم مقبولا، وكان دليلا على قوة شكيمته، ومقاومته هوى نفسه، وتغلبه على نزغات قرينه.
إنه اسم الله "الحليم"، الذي ورد في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، تارة مقرونا باسم الله الغفور: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]، وتارة مقرونا باسم الله العليم: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، وتارة مقرونا باسم الله الشكور: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]، وتارة مقرونا باسم الله الغني: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263].
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حَلِيمٌ، حَيِيٌّ، سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ" صحيح سنن النسائي، وبين - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء باسم الله الحليم من أعظم ما يزيل الكرب، ويرفع الهم والغم.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" متفق عليه.
ومعنى الحِلم في اللغة: "الأناة والعقل".
وأما في الاصطلاح، فهو: "ضبط النفس عند الغضب، وكفها عن مقابلة الإساءة بمثلها".
قال الماوردي: "وحدُّ الحِلم: ضبط النفس عند هيجان الغضب".
ثم قال: "والْحِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَقِّهَا بِذَوِي الْأَلْبَابِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ الْعِرْضِ، وَرَاحَةِ الْجَسَدِ، وَاجْتِلَابِ الْحَمْدِ".
أما معناه في حق الله - تعالى - في مثل قوله - تعالى -: "وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ"، فقد قال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "يعني أنه ذو أناة، لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة".
وقال الخطابي - رحمه الله -: هو ذو الصفح والأناة، الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص".
وقال العلامة السعدي - رحمه الله -: هو "الحليم الذي يُدِرُّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلُم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا".
وقال الغزالي - رحمه الله -: "الحليم: هو الذي يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يستفزه غضب، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام - مع غاية الاقتدار - عجلةٌ وطيشٌ، كما قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [النحل: 61].
والله - تعالى - حليم، يمهل ويتجاوز، عسى أن يتوب المذنب، ويؤوب العاصي.
وَهْوَ الحَلِيمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ♦♦♦ بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
والله - تعالى - حليم، يصبر على المعاندين والمكذبين، ولا يعجل لهم العقوبة بظلمهم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" مسلم.
حتى وإن استمر العاصي في معصيته، والجاني في جنايته، والمعتدي في اعتدائه، فإن الله الحليم قد يؤخر عقابه إلى أجل مسمى.
قال الأصبهاني: "حليم عمن عصاه، لأنه لو أراد أخذه في وقته أخذه، فهو يحلم عنه ويؤخره إلى أجله".
والله - تعالى - حليم، لا تستفزه معصية العصاة، ولا يَغيظه إعراض الجفاة.
قال الحليمي: "الحليم: الذي لا يحبس أنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه".
غير أنه سبحانه وإن كان يمهل، فقد تقتضي حكمته أن لا يهمل، فيأخذ على أيدي الظالمين في الدنيا قبل الآخرة.
قال - تعالى -: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".
ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)" متفق عليه.
والعجب أن حِلم ربنا - عز وجل -، وصبرَه على الظالمين والمعتدين، لا يضاهيهما حلم نبي مرسل، ولا صبر ملك مقرب، لأنه نابع عن كامل القدرة على البطش والانتقام، فهو - سبحانه - يلطف بالمذنبين ويصبر عليهم، لأن رحمته سبقت غضبه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهٍ - تعالى -.
إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا، وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ، وَيُعَافِيهِمْ، وَيُعْطِيهِمْ" متفق عليه.
فيا أيها العاصي، لا تعتقدن أن الله لا يراك، وأنك في مأمن من عقابه.
وَكَم تجَرّأتَ عَلى
رَبّ السمَاوَاتِ العُلى
وَلم تراقِبْهُ وَلا
صَدَقتَ فيمَا تدّعِي
وَكم غمَصْتَ برّهُ
وَكم أمِنتَ مَك-رَهُ
وَكم نبَذتَ أمْرَهُ
نبذَ الحِذ َا المُرقعِ
فَاغفِر لعَبدِ مُجترِم
وارحَم بُكاه المُنسَجِم
فَأنتَ أولَى مَن رَحِم
وخَيرُ مَدعُوٍّ دُعِي
ووصف الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمفردات الحِلم، من رأفة، ورحمة، وخفض الجناح للمؤمنين.
قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
- لما كُسِرت رَباعيته - صلى الله عليه وسلم -، وشُجَّ وجهه يوم أُحد، شَقَّ ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله، ادعُ على المشركين.
فأجابهم قائلاً: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً" مسلم.
حِلمُه مثل سَنَا الشمس وهل ♦♦♦ لِسَنَا الشمس يُرى مِن جاحدِ
- ولما قسم غنائم حنين بما تقتضيه حكمته، وما معه من الوحي، قال رجل: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ.
فتغير وجهه - صلى الله عليه وسلم - وقال: "فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ.
رَحِمَ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" متفق عليه.
ما ذا أقول إذا وصفتُ محمداً ♦♦♦ عجز البيان وحِلمه لا يفقد
ولما تمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي سفيان يوم فتح مكة، بعد كل الإيذاء الذي قابل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "ويحك يا أبا سفيانَ، ألم يأنِ لك أن تعلمَ أني رسولُ اللهِ؟".
قال: "بأبي أنت وأمي ما أحلمَك، وما أكرمَكَ وأوْصَلكَ، وأَعْظَمَ عَفْوَكَ" الصحيحة.
لا تضربن به في حِلمه مثلا ♦♦♦ فما له في البرايا يُعرف المثلُ
ولما قصد ثقيفا يبغي الحماية من قريش وما لاقَوه به من الأذى والعنت، طردوه، وسبوه، وأغلظوا له، فجاءه ملَك الجبال وقال: "إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ".
فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" متفق عليه.
ومدح - صلى الله عليه وسلم - أشج عبد القيس لمِا رأى ما فيه من تأن وتؤدة وتلطف فقال: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلم، والأناة" مسلم.
قال النووي: "الحِلم هو العقل، والأناة هي التثبت وترك العجلة".
رحابة الصدر فيه غير خافية ♦♦♦ من أجلها عظمت فيهم مكانتهُ
أما فقه التعبد باسم الله الحليم، والأسباب العشرة للحلم، فذلك ما سيكون موضوعنا في المناسبة القادمة - إن شاء الله -.